Add Listing Sign In

قوة المجتمع المدني وتحوّلاتها

مؤمنون بلا حدود

قوة المجتمع المدني وتحوّلاتها

بقلم: جاد الكريم جباعي

جهة النشر: مؤمنون بلا حدود

المصائر الكارثية، التي انتهت إليها الثورة السلمية أو الحركة الاجتماعية في سوريا، بوجه خاص، تكشف بجلاء عن طبيعة نظام الحكم، وطبيعة السلطة الحاكمة، وطبيعة علاقتها بالمجتمع. سنغامر باعتبار ما كانت عليه حال المجتمع السوري، قبل عام 2011، وما آلت إليه انتكاساً إلى “حالة الطبيعة”، و”حرب الكل على الكل”، التي افترضها فلاسفة العقد الاجتماعي. ونزعم أن سبب هذا الانتكاس هو السيطرة التامة على مقدرات المجتمع المدني؛ أي على مصادر القوة، التي هي ذاتها مصادر السلطة ومصادر الثروة. لذلك يحسن النظر إلى المجتمع المدني نظرة كلية شاملة وتكاملية، لا تستثني الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية من تنظيماته، ولا تستثني المؤسسات الإنتاجية والتجارية والخدمية والثقافية…إلخ من هذه التنظيمات.

النظرة الكلية التكاملية هي التي تأخذ العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في حسبانها، وتنظر إلى مؤسسات الدولة من حيث وظائفها الاجتماعية. فمن شأن منظمات المجتمع المدني، بهذه الحيثية، أن تستعيد من الدولة تباعاً جميع الوظائف الاجتماعية، التي تستطيع القيام بها. هذا مما جعل كارل ماركس يفكر في إمكان اضمحلال المجتمع المدني والدولة السياسية معاً، حيث يصير المجتمع المدني مجتمعاً سياسياً، والمجتمع السياسي مجتمعاً مدنياً. بخلاف التصور الساذج لدى معظم الأحزاب الشيوعية التقليدية، التي تناهض الدولة، جرياً وراء لينينية عصابية، جعلت “تحطيم الدولة” غايتها الأساسية، إذ اعتبرتها مجرد “أداة قهر طبقية”. فليس غريباً تقاطع مواقف هذه الأحزاب مع مواقف الميليشيات المناهضة للدولة، تحت شعارات المقاومة والممانعة ومناهضة الإمبريالية والصهيونية.

قوة المجتمع المدني قوة معنوية، ناعمة؛ العدد، وديناميات الانتظام، والتبادل، والتشارك الحر والمبدع، تُحوِّلها إلى قوة قانونية – أخلاقية، تتركز في السلطتين التشريعية والقضائية، وقوة مادية، إجرائية تتركز في السلطة التنفيذية، وفي معارضتها أيضاً. بهذه الطريقة؛ أي بقوة العدد والتنظيم والتبادل والتشارك، يشرِّع المجتمع المدني لنفسه، ويدير شؤونه بنفسه، عن طريق من ينتخبهم/ـن ويفوضهم/ـن بالتشريع والقضاء والإدارة وحفظ الأمن و”الدفاع”.

قوة المجتمع المدني تنبع من الحق، الذي عبرت عنه الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، بالنص على أن “لكل فرد (الفرد أنثى وذكر) الحق في المشاركة في إدارة شؤون بلده مباشرة أو بوساطة ممثلين منتخبين انتخاباً حرّاً”. هذا مختلف جذرياً عن جميع أشكال “الحق” الناتجة من القوة، والتي تتعين بالغلبة والقهر (لكل من الحق بقدر ما له من القوة). القوة النابعة من الحق هي وحدها التي تتفق مع الحرية والمساواة والعدالة، وتفتح إمكانات تحقيقها. يقصد بالحق، هنا، الوجود العيني، وكل ما لا يسوغ إنكاره في مجتمع معين وزمن معين، ومعنى العدل في المعاملات والمبادلات والعقود (العدل هو أن تعطي بحق وتأخذ بحق)، ومعنى الصدق (مطابقة القول للواقع)، ومطابقة الحكم للواقع، ومطابقة الدال للمدلول، والتصور السالم من التناقض[1]. إضافة إلى منظومة الحقوق التي تشمل: الحق في الحياة والأمن، الحق في التملك، الحق في المساواة والحرية، الحق في الخصوصية، الحق في السمعة الحسنة، الحق في الكرامة، الحق في الإجراءات القانونية المنصفة، والحق في الزواج وتكوين أسرة، والحق في السكن اللائق والتنقل الآمن، والحق في المعرفة والعمل والتفكير والتعبير والاعتقاد، والحق في الحماية القانونية والاجتماعية والحق في بيئة نظيفة… يفترض أن منظومة الحقوق مفتوحة على ممكنات التطور.

والحق، بصفته العامة والمجردة، هو موضوع القانون، لا موضوع الأعراف الاجتماعية ولا موضوع الشرائع الدينية. فحين توصف الدولة الحديثة اختصاراً بأنها دولة حق وقانون، يعني أنها ليست دولة تقليدية، أرستقراطية أو أوليغارشية أو مستبدة، وليست دولة دينية بالتساوي، بل دولة مؤسسات عامة تشاركية. فإن قوة المجتمع المدني المعنوية، العامة، الناعمة، السلمية، والخلاقة أو المنتجة للثروة المادية والروحية، هي مضمون الحداثة السياسية، بل مضمون المدنية، وشرط إمكان الديمقراطية، وشرط إمكان الأمن والسلام، على الصعيدين: الوطني والعالمي.

وفق منطق “تحوُّل القوة” أو تحول الطاقة، المعروف في الفيزياء والبيولوجيا، يمكن القول إن قوة المجتمع المدني الناتجة من العدد والتنظيم والتبادل والتشارك الحر، تتحول من قوة معنوية إلى قوة مادية: اجتماعية – اقتصادية وسياسية، ومعرفية وثقافية وأخلاقية. ويجب أن نضيف إلى ذلك القوة الحركية، التي تتجلى في “الحركات الاجتماعية”، أو “الثورات السلمية”، التي يبدو أنها الظاهرة الأبرز في هذا القرن، والتي قوامها العدد والتنظيم والتبادل والتشارك الحر.

انبثاق سلطتين مختلفتين، ناعمة وخشنة، عن المجتمع نفسه، وبفعل العوامل نفسها هو ترجمة لاختلاف التفكير عن التدبير والنظر عن العمل، لدى الفرد، غير أن التدبير والعمل يحتاجان إلى أدوات ووسائل مادية. هذا ما يؤكد أن المجتمع “إنسان مموضع”. المجتمع، على العموم، والمجتمع المدني على الخصوص، مثل الإنسان؛ منظومة حية، ذاتية التشكل وذاتية الانتظام وذاتية الحركة، وذاتية النمو وذاتية الترميم والإصلاح …

لقد أبدع ميشيل فوكو بتعريف السلطة بأنها علاقات قوة، تتشكل من نقاط أو بؤر مبثوثة في الجسم الاجتماعي كله؛ يجب أن نضيف: إن السلطة المدنية هي الإرادة العامة، إرادة المجتمع المدني، كما وصفها روسو أو الحكومة المدنية، Civil government، كما وصفها جون لوك، هي قوة المجتمع المدني، التي وصفناها. كل ما يلابس هذه القوة الناعمة من أشكال القوة الفظة أو الخشنة، المدمرة في كثير من الأحيان، هو من رسابات ماض سحيق، لم تقو المدنية بعد على التخلص منها، ولا سيما أن السلطة الفظة أو سلطة العنف، قل سلطة “الحق” النابع من القوة، والذي طالما وصف بـ “الحق الإلهي”، كانت السمة الأساسية المشتركة بين جميع الحضارات. (نفرق بين الحضارة والمدنية)

تحاول هذه المقاربة أن تبين قوة المجتمع المدني، كما تتجلى في الانتظامات والمنظمات والمؤسسات، التي توصف اختزالاً بأنها “غير حكومية”، أو التي “لا تبتغي الربح”، و”تسترخي خارج السياسة”، بتعبير عزمي بشارة، في حين هي “الهيكل الأساسي للمجتمع”، الذي ينتج السياسة. وتستدل على أهميتها ودورها في وضع الدستور أو العقد الاجتماعي وتطبيقه، من خلال الآثار الواقعية التي نجمت عن السيطرة التامة على هذه المنظمات في سوريا، منذ عام 1963 وإخضاعها بجميع وسائل الإخضاع والإكراه، وتحويلها إلى أدوات للتعبئة الأيديولوجية.

من أبرز هذه الآثار:

1 – البنية التسلطية، التي انتهى إليها النظام السياسي، والتي بدأت إرهاصاتها الأولى بحظر الأحزاب السياسية، وتسييس النقابات (1958)، وعدم السماح بتشكيل منظمات جديدة، والتي قادت إلى الأوضاع القائمة اليوم، في سوريا والشتات السوري، (بالإذن من الفلسطينيين)، حتى ليمكن تعريف النظام التسلطي بأنه نظام السيطرة التامة على المجتمع المدني.

2 – “الظاهرة الجماهيرية” القطيعية، (ظاهرة بالروح بالدم) هي التعبير العملي عن تذرير المجتمع، وتحويله إلى سديم غير منسوج سوى بخيوط أيديولوجية واهية وأوهام.

3 – السلطة الشخصية، وهي سمة النظم البطركية، بوجه عام، وعبادة الفرد بوجه خاص تتأسسان على ما سماه خلدون حسن النقيب الاحتكار الفعال للثروة والسلطة ومصادر القوة، من جانب، وعلى الامتيازات وتسلسل الولاءات، من الجانب المقابل. ومصادر القوة، بالتعريف، هي انتظامات المجتمع المدني ومنظماته ومؤسساته والعلاقات المتبادلة بين أفراده.

4 – نشوء “رأسمالية المحاسيب”، التي وصفها حنا بطاطو أدق وصف[2]، وتنامي الفساد والهدر والنهب، وما انجر عنها من إفقار وتهميش؛ لأن المجتمع المدني، من أحد وجوهه، هو “أعمال خاصة وقوانين عامة”. لذلك، كانت السيطرة التامة على المجتمع هي ذاتها احتكار مصادر الثروة وقوة عمل المجتمع، وتغييب الدستور والقانون، والسيطرة على القضاء.

5 – اختراق أجهزة الأمن للمجتمع كله، حتى أصغر خلاياه، وجمهرته؛ أي تحويله إلى جماهير، وتدمير بنيته الأخلاقية، بالوشاية والفساد، واختراق مؤسسات الدولة أيضاً. ولولا ذلك لم يكن ممكناً أن يتنثَّر المجتمع، وتنتعش العصبيات العشائرية والمذهبية والإثنية، بصفتها ملاذات وهمية لأفراد هلعين.

6 – انتشار العنف والإرهاب في جسم المجتمع كله نتيجة تفكيك الروابط الاجتماعية والإنسانية والوطنية، واقتصار وظيفة المنظمات الشعبية والأحزاب السياسية على التعبئة الأيديولوجية، الإثنية والدينية والمذهبية.

7 – هدر المنفعة العامة مفهومياً وقيمياً وعملياً، والمنفعة هي الركيزة الأخلاقية للمجتمع الحديث[3]، لأنها غاية التبادل، ولأنها وثيقة الارتباط بالحرية ونشدان السعادة (لذلك نميل إلى التفريق بين العمل النافع والعمل الصالح؛ النافع يمكث في الأرض والصالح يذهب على السماء).المنفعة العامة هي جملة المنافع الفردية المتشارطة، والمقبولة أو المعترف بها من قبل الجميع، لا مجموعالمنافع الفردية، لأن المجتمع ليس مجموع أفراده. ومن تحصيل الحاصل أن المنافع المتشارطة هي منافع مُتبادَلة؛ التبادل هو ما يجعل المنافع المتشارطة منافع عامة. التبادل هو التحقق العملي للتشارط النظري. بهذا تكون المنفعة الفردية هي الصورة الفردية للمنفعة العامة، والمنفعة العامة هي الصورة العامة للمنفعة الفردية.

8 – تآكل الدولة وضمور قوتها أو تلاشيها، وتغول السلطة بتآكل المجتمع المدني وضمور قوته أو تلاشيها، بحكم العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة.

9 – تآكل المواطنة مفهومياً وقيمياً وعملياً، وضمورها وتلاشيها بتآكل الدولة وضمور قوتها أو تلاشيها؛ إذ ليس من مجال لممارسة المواطنة المتساوية إلا في الأطر المدنية ومؤسسات الدولة؛ فالمواطنة، تعبير سياسي عن المشاركة الحرة والمبدعة في إنتاج الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية، وفي إنتاج الوطن والوطنية.

أخيراً، تحتاج الأحزاب السياسية إلى دراسة خاصة، لأنها تقع على الحد الفاصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ولأنها الأدوات، التي تترجم الحياة الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية إلى حياة سياسية وأخلاقية. الأحزاب السياسية وثيقة الصلة، من حيث نشوؤها، بالنظم الدستورية، والحياة البرلمانية والانتخابات. وعلى الرغم من تراجع دورها إلى هذا الحد أو ذاك، في البلدان الديمقراطية، بسبب تآكل الديمقراطية وتنامي الميول الشعبوية.

المصائر الكارثية، التي انتهت إليها الثورة السلمية أو الحركة الاجتماعية في سوريا، بوجه خاص، تكشف بجلاء عن طبيعة نظام الحكم، وطبيعة السلطة الحاكمة، وطبيعة علاقتها بالمجتمع. سنغامر باعتبار ما كانت عليه حال المجتمع السوري، قبل عام 2011، وما آلت إليه انتكاساً إلى “حالة الطبيعة”، و”حرب الكل على الكل”، التي افترضها فلاسفة العقد الاجتماعي. ونزعم أن سبب هذا الانتكاس هو السيطرة التامة على مقدرات المجتمع المدني؛ أي على مصادر القوة، التي هي ذاتها مصادر السلطة ومصادر الثروة. لذلك يحسن النظر إلى المجتمع المدني نظرة كلية شاملة وتكاملية، لا تستثني الأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية من تنظيماته، ولا تستثني المؤسسات الإنتاجية والتجارية والخدمية والثقافية…إلخ من هذه التنظيمات.

النظرة الكلية التكاملية هي التي تأخذ العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في حسبانها، وتنظر إلى مؤسسات الدولة من حيث وظائفها الاجتماعية. فمن شأن منظمات المجتمع المدني، بهذه الحيثية، أن تستعيد من الدولة تباعاً جميع الوظائف الاجتماعية، التي تستطيع القيام بها. هذا مما جعل كارل ماركس يفكر في إمكان اضمحلال المجتمع المدني والدولة السياسية معاً، حيث يصير المجتمع المدني مجتمعاً سياسياً، والمجتمع السياسي مجتمعاً مدنياً. بخلاف التصور الساذج لدى معظم الأحزاب الشيوعية التقليدية، التي تناهض الدولة، جرياً وراء لينينية عصابية، جعلت “تحطيم الدولة” غايتها الأساسية، إذ اعتبرتها مجرد “أداة قهر طبقية”. فليس غريباً تقاطع مواقف هذه الأحزاب مع مواقف الميليشيات المناهضة للدولة، تحت شعارات المقاومة والممانعة ومناهضة الإمبريالية والصهيونية.

قوة المجتمع المدني قوة معنوية، ناعمة؛ العدد، وديناميات الانتظام، والتبادل، والتشارك الحر والمبدع، تُحوِّلها إلى قوة قانونية – أخلاقية، تتركز في السلطتين التشريعية والقضائية، وقوة مادية، إجرائية تتركز في السلطة التنفيذية، وفي معارضتها أيضاً. بهذه الطريقة؛ أي بقوة العدد والتنظيم والتبادل والتشارك، يشرِّع المجتمع المدني لنفسه، ويدير شؤونه بنفسه، عن طريق من ينتخبهم/ـن ويفوضهم/ـن بالتشريع والقضاء والإدارة وحفظ الأمن و”الدفاع”.

قوة المجتمع المدني تنبع من الحق، الذي عبرت عنه الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، بالنص على أن “لكل فرد (الفرد أنثى وذكر) الحق في المشاركة في إدارة شؤون بلده مباشرة أو بوساطة ممثلين منتخبين انتخاباً حرّاً”. هذا مختلف جذرياً عن جميع أشكال “الحق” الناتجة من القوة، والتي تتعين بالغلبة والقهر (لكل من الحق بقدر ما له من القوة). القوة النابعة من الحق هي وحدها التي تتفق مع الحرية والمساواة والعدالة، وتفتح إمكانات تحقيقها. يقصد بالحق، هنا، الوجود العيني، وكل ما لا يسوغ إنكاره في مجتمع معين وزمن معين، ومعنى العدل في المعاملات والمبادلات والعقود (العدل هو أن تعطي بحق وتأخذ بحق)، ومعنى الصدق (مطابقة القول للواقع)، ومطابقة الحكم للواقع، ومطابقة الدال للمدلول، والتصور السالم من التناقض[1]. إضافة إلى منظومة الحقوق التي تشمل: الحق في الحياة والأمن، الحق في التملك، الحق في المساواة والحرية، الحق في الخصوصية، الحق في السمعة الحسنة، الحق في الكرامة، الحق في الإجراءات القانونية المنصفة، والحق في الزواج وتكوين أسرة، والحق في السكن اللائق والتنقل الآمن، والحق في المعرفة والعمل والتفكير والتعبير والاعتقاد، والحق في الحماية القانونية والاجتماعية والحق في بيئة نظيفة… يفترض أن منظومة الحقوق مفتوحة على ممكنات التطور.

والحق، بصفته العامة والمجردة، هو موضوع القانون، لا موضوع الأعراف الاجتماعية ولا موضوع الشرائع الدينية. فحين توصف الدولة الحديثة اختصاراً بأنها دولة حق وقانون، يعني أنها ليست دولة تقليدية، أرستقراطية أو أوليغارشية أو مستبدة، وليست دولة دينية بالتساوي، بل دولة مؤسسات عامة تشاركية. فإن قوة المجتمع المدني المعنوية، العامة، الناعمة، السلمية، والخلاقة أو المنتجة للثروة المادية والروحية، هي مضمون الحداثة السياسية، بل مضمون المدنية، وشرط إمكان الديمقراطية، وشرط إمكان الأمن والسلام، على الصعيدين: الوطني والعالمي.

وفق منطق “تحوُّل القوة” أو تحول الطاقة، المعروف في الفيزياء والبيولوجيا، يمكن القول إن قوة المجتمع المدني الناتجة من العدد والتنظيم والتبادل والتشارك الحر، تتحول من قوة معنوية إلى قوة مادية: اجتماعية – اقتصادية وسياسية، ومعرفية وثقافية وأخلاقية. ويجب أن نضيف إلى ذلك القوة الحركية، التي تتجلى في “الحركات الاجتماعية”، أو “الثورات السلمية”، التي يبدو أنها الظاهرة الأبرز في هذا القرن، والتي قوامها العدد والتنظيم والتبادل والتشارك الحر.

انبثاق سلطتين مختلفتين، ناعمة وخشنة، عن المجتمع نفسه، وبفعل العوامل نفسها هو ترجمة لاختلاف التفكير عن التدبير والنظر عن العمل، لدى الفرد، غير أن التدبير والعمل يحتاجان إلى أدوات ووسائل مادية. هذا ما يؤكد أن المجتمع “إنسان مموضع”. المجتمع، على العموم، والمجتمع المدني على الخصوص، مثل الإنسان؛ منظومة حية، ذاتية التشكل وذاتية الانتظام وذاتية الحركة، وذاتية النمو وذاتية الترميم والإصلاح …

لقد أبدع ميشيل فوكو بتعريف السلطة بأنها علاقات قوة، تتشكل من نقاط أو بؤر مبثوثة في الجسم الاجتماعي كله؛ يجب أن نضيف: إن السلطة المدنية هي الإرادة العامة، إرادة المجتمع المدني، كما وصفها روسو أو الحكومة المدنية، Civil government، كما وصفها جون لوك، هي قوة المجتمع المدني، التي وصفناها. كل ما يلابس هذه القوة الناعمة من أشكال القوة الفظة أو الخشنة، المدمرة في كثير من الأحيان، هو من رسابات ماض سحيق، لم تقو المدنية بعد على التخلص منها، ولا سيما أن السلطة الفظة أو سلطة العنف، قل سلطة “الحق” النابع من القوة، والذي طالما وصف بـ “الحق الإلهي”، كانت السمة الأساسية المشتركة بين جميع الحضارات. (نفرق بين الحضارة والمدنية)

تحاول هذه المقاربة أن تبين قوة المجتمع المدني، كما تتجلى في الانتظامات والمنظمات والمؤسسات، التي توصف اختزالاً بأنها “غير حكومية”، أو التي “لا تبتغي الربح”، و”تسترخي خارج السياسة”، بتعبير عزمي بشارة، في حين هي “الهيكل الأساسي للمجتمع”، الذي ينتج السياسة. وتستدل على أهميتها ودورها في وضع الدستور أو العقد الاجتماعي وتطبيقه، من خلال الآثار الواقعية التي نجمت عن السيطرة التامة على هذه المنظمات في سوريا، منذ عام 1963 وإخضاعها بجميع وسائل الإخضاع والإكراه، وتحويلها إلى أدوات للتعبئة الأيديولوجية.

من أبرز هذه الآثار:

1 – البنية التسلطية، التي انتهى إليها النظام السياسي، والتي بدأت إرهاصاتها الأولى بحظر الأحزاب السياسية، وتسييس النقابات (1958)، وعدم السماح بتشكيل منظمات جديدة، والتي قادت إلى الأوضاع القائمة اليوم، في سوريا والشتات السوري، (بالإذن من الفلسطينيين)، حتى ليمكن تعريف النظام التسلطي بأنه نظام السيطرة التامة على المجتمع المدني.

2 – “الظاهرة الجماهيرية” القطيعية، (ظاهرة بالروح بالدم) هي التعبير العملي عن تذرير المجتمع، وتحويله إلى سديم غير منسوج سوى بخيوط أيديولوجية واهية وأوهام.

3 – السلطة الشخصية، وهي سمة النظم البطركية، بوجه عام، وعبادة الفرد بوجه خاص تتأسسان على ما سماه خلدون حسن النقيب الاحتكار الفعال للثروة والسلطة ومصادر القوة، من جانب، وعلى الامتيازات وتسلسل الولاءات، من الجانب المقابل. ومصادر القوة، بالتعريف، هي انتظامات المجتمع المدني ومنظماته ومؤسساته والعلاقات المتبادلة بين أفراده.

4 – نشوء “رأسمالية المحاسيب”، التي وصفها حنا بطاطو أدق وصف[2]، وتنامي الفساد والهدر والنهب، وما انجر عنها من إفقار وتهميش؛ لأن المجتمع المدني، من أحد وجوهه، هو “أعمال خاصة وقوانين عامة”. لذلك، كانت السيطرة التامة على المجتمع هي ذاتها احتكار مصادر الثروة وقوة عمل المجتمع، وتغييب الدستور والقانون، والسيطرة على القضاء.

5 – اختراق أجهزة الأمن للمجتمع كله، حتى أصغر خلاياه، وجمهرته؛ أي تحويله إلى جماهير، وتدمير بنيته الأخلاقية، بالوشاية والفساد، واختراق مؤسسات الدولة أيضاً. ولولا ذلك لم يكن ممكناً أن يتنثَّر المجتمع، وتنتعش العصبيات العشائرية والمذهبية والإثنية، بصفتها ملاذات وهمية لأفراد هلعين.

6 – انتشار العنف والإرهاب في جسم المجتمع كله نتيجة تفكيك الروابط الاجتماعية والإنسانية والوطنية، واقتصار وظيفة المنظمات الشعبية والأحزاب السياسية على التعبئة الأيديولوجية، الإثنية والدينية والمذهبية.

7 – هدر المنفعة العامة مفهومياً وقيمياً وعملياً، والمنفعة هي الركيزة الأخلاقية للمجتمع الحديث[3]، لأنها غاية التبادل، ولأنها وثيقة الارتباط بالحرية ونشدان السعادة (لذلك نميل إلى التفريق بين العمل النافع والعمل الصالح؛ النافع يمكث في الأرض والصالح يذهب على السماء).المنفعة العامة هي جملة المنافع الفردية المتشارطة، والمقبولة أو المعترف بها من قبل الجميع، لا مجموعالمنافع الفردية، لأن المجتمع ليس مجموع أفراده. ومن تحصيل الحاصل أن المنافع المتشارطة هي منافع مُتبادَلة؛ التبادل هو ما يجعل المنافع المتشارطة منافع عامة. التبادل هو التحقق العملي للتشارط النظري. بهذا تكون المنفعة الفردية هي الصورة الفردية للمنفعة العامة، والمنفعة العامة هي الصورة العامة للمنفعة الفردية.

8 – تآكل الدولة وضمور قوتها أو تلاشيها، وتغول السلطة بتآكل المجتمع المدني وضمور قوته أو تلاشيها، بحكم العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والدولة.

9 – تآكل المواطنة مفهومياً وقيمياً وعملياً، وضمورها وتلاشيها بتآكل الدولة وضمور قوتها أو تلاشيها؛ إذ ليس من مجال لممارسة المواطنة المتساوية إلا في الأطر المدنية ومؤسسات الدولة؛ فالمواطنة، تعبير سياسي عن المشاركة الحرة والمبدعة في إنتاج الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية، وفي إنتاج الوطن والوطنية.

أخيراً، تحتاج الأحزاب السياسية إلى دراسة خاصة، لأنها تقع على الحد الفاصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ولأنها الأدوات، التي تترجم الحياة الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية إلى حياة سياسية وأخلاقية. الأحزاب السياسية وثيقة الصلة، من حيث نشوؤها، بالنظم الدستورية، والحياة البرلمانية والانتخابات. وعلى الرغم من تراجع دورها إلى هذا الحد أو ذاك، في البلدان الديمقراطية، بسبب تآكل الديمقراطية وتنامي الميول الشعبوية.

المصدر.

Prev Post
الولاية القضائية العالمية تحت المجهر تحليل كمي لأكثر من 250 قضية سورية
Next Post
صناعة الطوائف.. رسم الحدود وتطييف الانتفاضة السورية (2011-2013)

Add Comment

Your email is safe with us.

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

Application for registration on Rawabet

X