تُشكّل قضية تعليم اللّاجئين في لبنان نقطة شائكة، ومشكلة أساسيّة ما زالت حلولها غير واضحة في الأفق القريب، حيث تزداد العقبات التي تمنع اللاجئين من استكمال حقّهم في التعليم، مما يهدّد مستقبلهم القريب والبعيد، إن كان على مستوى حياتهم في لبنان أو عند عودتهم إلى سوريا أو حتى عند انتقالهم لبلد آخر. وظهرت بوضوح في السنوات الأخيرة، محاولات استخدام هذا الملف بطريقة سياسية غير مباشرة، تضغط على اللاجئين السوريين للعودة إلى بلدهم.
تعاطي المنظمات الدولية مع اللاجئين وتقديم خدمات إغاثية من دون الحديث عن إزالة القيود القانونية أدى كذلك إلى حدوث فجوات كبيرة في سير العملية التعليمية. تشير الدكتورة مها شعيب، مديرة مركز الدراسات اللبنانية والمشرفة على العديد من الدراسات البحثية في مجال الوصول إلى التعليم وجودته، إلى أنّ إصرار الدولة اللبنانية على أن يكون تعليم اللاجئين محصوراً بالقطاع الحكومي من دون تأمين إقامات وأوراق نظامية تسمح للطلاب بالتسجيل في امتحانات الشهادات الرسمية، حوّل التعليم إلى قضية ابتزاز للطلاب وكذلك للمنظمات الدولية التي تموّل هذا القطاع، مما جعل بعض السياسيين يتباهى بمسألة السماح للاجئين بالدخول إلى المدارس عوضاً أن يكون ذلك حقاً مشروعاً لكل المقيمين في لبنان!
وكما جرت العادة في أواخر كل سنة دراسية أصدر مجلس الوزراء اللّبناني وقبل أسابيع قليلة من موعد الامتحانات الرسمية قراراً يسمح بموجبه للتلامذة التقدم لامتحانات هذا العام، حتى لو تعذر عليهم تأمين المستندات المطلوبة ومن ضمنها وجوب امتلاك الطالب السوري أو السوري-الفلسطيني وثيقة الإقامة السارية، لكن مخاوف الأهالي والطلاب لا زالت ترتبط بهاجس عدم تجاوب الموظفين في الدوائر التربوية ومدراء المدارس لتنفيذ القرار.
ويُعتَبر شرط الإقامة القانونية المفروضة لاستكمال الطلاب اللاجئين السوريين في لبنان تعليمهم، من أبرز الصعوبات التي يواجهونها منذ سنوات ليصبح عقبة مفصلية تحول بينهم وبين حقّهم في الدراسة للعام الجاري 2021-2022، فـالإقامة باتت مطلوبة للتسجيل في الجامعة اللّبنانية أو لاستلام شهادات النجاح في الامتحانات الرسمية، أو حتى لمعادلة الشهادات السورية.
ظروف اللّجوء والقوانين وتراخي المفوضية
تعود أسباب عدم قدرة الطلاب السوريين على تأمين إقامة صالحة لعدة عوامل، أهمها التكاليف العالية أو الغرامات المالية المتراكمة لتسوية أوضاع المخالفين، بالإضافة إلى ارتباط إقامات الطلاب بنوع إقامة عائلاتهم، فقسم كبير من اللاجئين دخل إلى لبنان بطريقة غير شرعية نتيجة ظروف الحرب، ومن لجأ مع أسرته حين كان في سنّ الطفولة لا يملك اليوم بطاقة شخصية، ولا يستطيع استخراج جواز سفر من السفارة السورية في لبنان بسبب تكاليفه الباهظة جداً والتي تبلغ 325 دولاراً أميركياً للجواز العادي، وَ 800 دولار للجواز المستعجل.
أما عن دور مفوضية الأمم المتحدة لشؤون UNHCR في هذا الملف فقد اشتكى بعض الأهالي والطلاب من عدم قدرتهم على الحصول على الأوراق المطلوبة من المفوضية لتسوية أوضاعهم في الأمن العام اللّبناني مثل إفادة السكن الصادرة عن المفوضية أو ملفات التسجيل، وهو ما يشكل عائقاً إضافياً بوجه الطلاب اللّاجئين.
تشرح أم أحمد مشكلتها في السعي لتأمين إقامة لابنها: “تصرّ مدرسة ابني على الإقامة حتى ترفع طلب ترشيحه لامتحان الشهادة الثانوية، استدنت تكلفة جواز السفر من المعارف لأن ابني لا يملك بطاقة شخصية، وتواصلت مع المفوضية لأحصل على إفادة السكن لتقديمها للأمن العام، ولكن لا ردود … منذ سنة ونصف وأنا أتصل بالمفوضية لأجدد ملف تسجيلنا، وفي كلّ مرّة يرفضون إعطاءنا موعد بحجّة الكورونا.”
الطلاب المسجلون في الجامعة اللبنانية
لم تقتصر تلك التحديات على تلامذة المدارس فحسب؛ بل يواجه طلبة الجامعات أيضاً صعوبات مضاعفة. ففي مطلع شهر شباط الماضي، أعلنت رابطة الطلاب الجامعيين في لبنان AUSL، عن حملة مناصرة الطلاب اللاجئين الذين يواجهون مشاكل في متابعة تعليمهم في لبنان، وتحديداً من لم يتمكّنوا من التسجيل هذا العام بسبب شرط الإقامة.
يقول رائد (اسم مستعار) لموقع اللاجئون=شركاء: “أنا طالب ماجستير سنة ثانية، وضع لي الأمن العام تسفير منذ 2017 ولم يجدد إقامتي ومنعني من ذلك، ولكنني استكملت دراستي في الجامعة اللّبنانية وكنت أسجل كلّ عام بشكل اعتيادي على إخراج القيد والبطاقة الشخصية دون عقبات. في هذه السنة اشترطت إدارة الجامعة استحصالي على الإقامة لاستكمال إجراءات التسجيل، فذهبت إلى الأمن العام وطلبت تقديم استرحام، إلا أنّه تم رفض الطلب، وينبغي عليّ مغادرة لبنان، وأنا لا أستطيع ذلك .. لقد ذهبت سنوات الدراسة كلها سدى”.
انتهى التسجيل في فروع الجامعة اللّبنانية نهاية شهر شباط وانتهى معه أمل التسجيل للكثير من الطلاب اللّاجئين، حيث تمّ إدراج هذا الشرط للعام الأول في تاريخ الجامعة، بعد تجميد قرار وجوب دفعهم القسط بالدولار الأميركي “الفريش”.
تروي رانيا قائلة: “مشكلتي أنّني لم أستطع الحصول على ‘إقامة طالب’، فالأمن العام يطلب مني تقديم ورقة التسجيل من الجامعة، والجامعة بالمقابل لا تعطيني تلك الورقة ما لم يكن لدي إقامة! حاولت الحصول على ‘إقامة كفيل’ لكن الأمن العام رفض ذلك بحجة وجوب أن يكون بيني وبين الكفيل صلة قرابة!”.
كذلك آية (21 عاماً)، التي تدرس في كلية الحقوق في الجامعة اللّبنانية في زحلة، توقفت عن دراستها هذا العام لأنّها لم تستطع تأمين كلفة استخراج جواز سفر يخوّلها تجديد إقامتها. ففي العام الماضي سجّلت آية عبر تقديم نسخة من إخراج القيد، لأنها لا تمتلك هوية شخصية، فقد دخلت لبنان مع أهلها عام 2014 حين كانت طفلة.
ولم ينفع الضغط الإلكتروني والنشر المتواصل الذي كثّفه الطلبة خلال الأسابيع الماضية للتعبير عن قضيتهم وإيصال صوتهم، كما لم تأتِ مراسلة رابطة الطلاب الجامعيين لرئاسة الجامعة اللّبنانية ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللّاجئين بأية نتيجة، في حين كان التفاعل عابراً من قبل بعض الجهات الحقوقية والمنظمات الدولية المهتمة بدعم اللاجئين.
الجدير ذكره، أنّ مجموعة كبيرة من الطلاب المتضررين من هذا القرار، أكّدوا أن بعض فروع الجامعة اللّبنانية تعاونت معهم وتمّ قبول طلبات تسجيلهم بعد إحضارهم ورقة التسجيل في المفوضية، بينما فروع أخرى سجّلت الطلبة تسجيلاً شرطياً ريثما يتم تقديم مستند الإقامة بعد فترة محددة، لذا حاول بعض الطلاب نقل تسجيلهم لفروع الجامعة تلك. منهم من نجح والآخرين تمّ رفضهم بحجّة وجوب التسجيل في الفرع الأساسي ثم الانتقال إلى فرع آخر.
ومن الواضح خلال متابعة الإجراءات التي نفذها قسم شؤون الطلاب في فروع الجامعة اللّبنانية، أنّ ما يحصل ليس تجاوزات بل هي تعليمات إدارية يتداولها ويتعامل بها كلّ فرع على حِدى. أما الطلبة الذين استطاعوا التسجيل بشكل شرطي سيكون أمامهم أقلّ من شهر لتسليم مستند الإقامة مع الإعلان عن بدء الامتحانات الفصلية في الجامعة.
معادلة الشهادات وشروطها
بدأت هذه المشاكل منذ عدّة سنوات وتراكمت، حيث صدرت قرارات تلزم الطلبة الذين يريدون تعديل شهادتهم الثانوية أو الإعدادية الأساسية السوريّة بتوفير التسلسل الدراسي بالإضافة لشرط الإقامة الصالحة وورقة بيان حركة المرور على الحدود.
تقول هديل (30 عاماً): “مشكلتي مع معادلة الثانوية السورية هي عدم قدرتي على تأمين تسلسل دراسي، ولأنّ شهادتي الثانوية كانت حرة لا تعترف وزارة التربية اللّبنانية بها رغم وجود ذات نوع الشهادة في لبنان. كما أنّها تطلب كشف علامات الصف العاشر والحادي عشر الأصلي، وهذه الأوراق لا نستطيع الحصول عليها بعد ما احترقت مدارسنا أثناء الحرب، حالي حال الكثير من الطلبة الذين يتوقف تعليمهم في الجامعات على معادلة الشهادة”.
يُضاف إلى مشاكل القيود التمييزية بحقّ الطلبة اللاجئين مشاكل التنمر والعنصرية التي يتعرضون لها من الموظفين سواء في وزارة التربية أو في الدوائر التربوية، وهدفها دائماً عرقلة سير معاملة الطالب حتى لو كانت بحوزته كلّ الأوراق والمستندات المطلوبة.
تتابع رابطة الطلاب الجامعيين في لبنان AUSL مشاكل الطلاب بمختلف أعمارهم وفئاتهم، واستطاعت من خلال المناصرة الدائمة لقضاياهم تحقيق الاستجابة في بعض الحملات التي قامت بها، وشكّل صوتها وسيلة ضغط للتذكير بحقوق الطلبة اللاجئين وقضاياهم.
ورغمّ أنّ فريق الرابطة لا يتلقى أيّ دعم أو تمويل، إلا أنه استطاع عام 2017 الضغط على وزارة التربية والتعليم من خلال حملة “المعادلة رح تخسرني تعليمي”، وأصدرت الأخيرة قراراً يقضي بتعديل شهادات الطلاب اللّاجئين بموجب وجود ورقة تسجيلهم لدى المفوضية وإلغاء شرط الإقامة، واستمر العمل وفق هذا القرار حتى عام 2019.
وحين امتنعت الدوائر التربوية عن تسليمهم الشهادات الرسمية رغم بدء بالعام الدراسي التالي، بحجة عدم وجود الإقامة، ضغطت الرابطة على مفوضية اللّاجئين وعلى وزارة التربية مجدداً لإصدار قرار جديد عام 2020 بوجوب تسليم الشهادات بعد تقديم إحصائيات لمئات الطلاب تُظهر عدم قدرتهم على تأمين الإقامة رغم تسجيلهم لدى المفوضية كلاجئين.
ولا يقتصر دور رابطة الطلاب الجامعيين على المطالبة بتسهيل استكمال التعليم من الناحية القانونية، بل شجعت المنظمات الداعمة للتعليم على تأمين مساعدات مادية ومنح دراسية لطلاب الجامعات اللّبنانية، أبرزها حملة حقي في التعليم العالي. حيث استجابت لحملتها في هذا الخصوص منظمات سبارك ولايزر والمفوضية التي تدعم منحة دافي، ورغم العدد الضئيل للمنح في السنوات الأخيرة مقارنة بأعداد الطلاب المحتاجين، لكنها استطاعت تغيير حياة هؤلاء الطلاب.
التسرّب من التعليم الرسمي ونتائجه
تعدّ نسبة تسرّب الأطفال اللّاجئين من المدارس في لبنان مرتفعة جداً، نتيجة عدّة أسباب أبرزها العامل الاقتصادي حيث ترتفع تكاليف النقل ومستلزمات الدراسة بالإضافة لعدم القدرة الاستيعابية للمدارس الرسمية، ومشاكل الدوام المسائي داخل المنظومة التعليمية وخارجها، وما يترتب على الأطفال من قطع مسافات طويلة مشياً خلال ساعات اللّيل، أو اضطرارهم للذهاب لقرى وبلدات مجاورة في حال عدم توفر مدارس إعدادية وثانوية حيث يقيمون.
ويؤدي تسرّب الأطفال من التعليم إلى مشاكل أكثر صعوبة منها عمالة الأطفال والتزويج المبّكر، فيما يُضاف للعاملين الاقتصادي والاجتماعي، مشاكل اندماج الطلاب وفهمهم للمنهاج الدراسي، والدعم الخجول الذي تقدّمه المنظمات الدولية في هذا السياق. من جهة أخرى قامت بعض الجمعيات المحلية بافتتاح مراكز تعليمية قريبة من المخيمات لتسدّ هذه الفجوة، ولكن بمعظمها لم تكن تُدّرس المنهاج اللّبناني الرسمي، وبالتالي شهاداتها غير معترف بها ومناهجها غير معتمدة.
في حين ظهرت بعض المراكز التجارية التي تعلّم المنهاج السوري، وتتعاون ضمن اتفاقيات مع الأمن العام السوري واللّبناني لتأمين ذهاب وإياب الطلاب أثناء تقديمهم للامتحانات الرسمية (الإعدادية والثانوية) دون أن يتمّ مساءلتهم أو توقيفهم، وبهذا لا يحصل هؤلاء الطلاب على أوراق تثبت حركة مرورهم عبر الحدود، ما يتسبّب بتبعات عدم معادلة شهاداتهم وعدم اعتراف وزارة التربية والتعليم اللّبنانية بهذه الفئة، فهي تعتبر شهاداتهم مزورّة.
ومن هؤلاء الطلاب ديما 20 عاماً، التي لم تستطع استكمال تعليمها في المدارس الرسمية في لبنان، فلجأت لمركز تجاري يعلّم المنهاج السوري، وتقدمت بطلب للحصول على الشهادات الرسمية السورية فئة “طلاب أحرار”، ولكنّها لم تستطع معادلة شهاداتها في لبنان، مما حرمها من متابعة تعليمها للفصل الدراسي الحالي في الجامعة اللّبنانية الدولية حيث تدرس. تقول ديما: “معادلة شهادتي لم تكتمل لأنها تتطلب حركة مرور عبر الحدود، وكذلك تسلسلاً دراسياً للصف التاسع والثالث الثانوي، لكنني درست بمركز لا تعترف به الحكومة اللّبنانية”.
ترى الدكتورة مها شعيب أنّ الظروف الاقتصادية الصعبة وكذلك المعيقات القانونية أدت إلى تسرّب الكثير من الشبان إلى سوق العمل، بعد إدراكهم بأنه كلما زادت مرتبتهم العلمية كلما قلّت فرصهم بالحصول على عمل جيد. بالتالي، وفي حال كان الشخص لاجئاً فالاستثمار بالتعليم في لبنان هو أمر سيء ومن دون مردود، رغم أن ظروف العمل غير الرسمي لا تقل سوءاً من حيث تدني الأجور وغياب الحقوق الضامنة.
وهكذا يضيع الطلاب اللّاجئون بين التعليم الرسمي والتعليم العالي بسبب الفجوات القانونية والمادية التي تمنعهم من الوصول إلى غايتهم وتحقيق مستقبلهم. وبينما يهدر اللجوء وسنوات الحرب والبحث عن الاستقرار العديد من سنوات حياتهم، يركضون في الوقت المتبقي لتعويض خسارتهم وسنوات الانقطاع، ليقعوا في متاهات جديدة تضغط عليهم نفسياً وتحدّ من قدراتهم في المنفى.
كتابة: مزنة الزهوري
للمزيد زيارة الرابط التالي :
Add Comment