يَحضر مصطلحا «الأقلية» و«الأكثرية» بشكل كثيف – وإنْ غير مباشر في أحيان عديدة – في الخطاب السياسي السوري؛ سواء في أوساط السلطة أو المعارضة، أو غيرهما.
يمكننا أن نميز بين معانٍ عدة، أو استخدامات متباينة لهذين المصطلحين. وربما كان الأدق أن نقول: إنّ هناك حقولاً دلالية متباينة لهاتين المفردتين ضمن الواقع السوري.
الاستخدام الأقرب إلى الأذهان – نتيجة للاستثمار السياسي الغزير والواضح من أطراف داخلية وخارجية – هو استخدام المصطلحين ضمن دلالة طائفية/ دينية/ قومية؛ حتى إنّ مجرد ذكرهما بات أشبه بـ«شيفرة» يستخدمها الخطاب السياسي «المؤدب»، بديلاً من الذكر الصريح لأسماء الطوائف والقوميات والأديان.
ضمن هذا الاستخدام، يجري تقديم الشعب السوري بوصفه مجموعة «مكونات»، هي مرة أقليات وأكثرية طائفية، وتارة أقليات وأكثرية دينية، وطوراً أقليات وأكثرية قومية. وقد نجد في بعض الأحيان تركيبات دلالية قومية/ طائفية محددة، يجري اختيارها بحيث تخدم الغرض السياسي للقائل بها.
ثمّة استخدامٌ ثانٍ، أقلّ شيوعاً، نراه يوظّف الكلمتين بوصفهما مرادفين أو صفتين لاصطفاف يوزّع السوريين بين «علمانيين» و«متدينين»؛ فتكون «الأقلية» مكافئة لـ«العلمانيين»، و«الأكثرية» مكافئة لـ«المتدينين». الطريف في هذا التوظيف وسابقه، أنّ الطرائق التي يجري استخدامهما بها، تكاد لا تختلف في جوهرها بين السلطة والمعارضة!
ليست هناك حياة ديمقراطية في سوريا، ليستطيع المرء على أساسها القول بأكثرية وأقلية برلمانية على غرار الديمقراطيات العريقة
يترّكز الاختلاف فقط في التنقل ما بين طرفي الثنائية بما يخدم الهدف السياسي الآني. ولكي أوضح ما أقصده أكثر بالاستناد إلى الاستخدام الثاني، فإنّ من يتابع السياسات الرسمية والثقافية للسلطة، يمكنه أن ينزلق إلى توصيفها تارة بأنها «علمانية» وأخرى بأنها «دينية». (نتذكر مثلاً النقاش البيزنطي حول قانون وزارة الأوقاف من جهة، وحول بعض الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي يرعاها الطرف نفسه من الجهة الأخرى).
على الضفة المقابلة – أي في أوساط المعارضة – يمكننا أيضاً أن نجد أمثلة عديدة على إيحاءات «علمانية» مرة و«دينية» مرة، وفقاً للظروف وللحاجات الآنية.
الاستخدام الثالث هو ذاك الذي يحاول تجاوز المفاعيل التقسيمية للاستخدامين السابقين، بأن يعيد تأصيل المصطلحين بوصفهما مصطلحين سياسيين من حيث الأساس؛ فالقول بأكثرية وأقلية، ينبغي – وفقاً لوجهة النظر هذه – أن يكون اشتقاقاً من المواطنة المتساوية، ونتاجاً لعملية ديمقراطية انتخابية هي وحدها المعنية بفرز الناس بين أقليات وأكثريات (سياسية)، على أساس نتائج الانتخابات؛ فأولئك الذين يناصرون الحزب أو التحالف السياسي الذي حاز عدد المقاعد الأكبر هم «الأكثرية» والآخرون هم «الأقليات».
برغم ما لهذا الاستخدام من أفضلية واضحة على سابقيه، في سعيه إلى تحييد الانتماءات تحت الوطنية (القومية والطائفية والدينية والعشائرية، وإلخ) لمصلحة انتماءات وطنية – سياسية، فإنّ عيبه الأكبر أنّه استخدام افتراضي بحت؛ إذ ليست هناك حياة ديمقراطية في سوريا، ليستطيع المرء على أساسها القولَ بأكثرية وأقلية برلمانية على غرار ما هو قائم في التجارب الديمقراطية العريقة.
لكن حتى تلك التجارب العريقة، ليست – برأيي – من النضج بما يكفي للتعبير عن حقيقة الصراع القائم في المجتمع.
قد يكفي النظر إلى الحراكات الشعبية الواسعة خلال السنوات الماضية في الدول الغربية لتكون مؤشراً على أنّ «الحياة البرلمانية» في تلك الدول لم تعد قادرة على التعبير عن النبض الفعلي للناس.
المظلومية!
يشترك مستخدمو الدلالتين الأولى والثانية لمفردتي الأقلية والأكثرية في بناء استخدامهم على أساس فكرة المظلومية؛ فتارة تكون الأقلية «الطائفية/ القومية/ الدينية/ العلمانية» أقلية مظلومة من جانب الأكثرية الظالمة «الطائفية/ القومية/ الدينية/ المتدينة»، وتارة تكون الأكثرية هي المظلومة من جانب الأقلية. وخلافاً للاستخدام الثالث (أكثرية/ أقلية برلمانية)، فإنّ لهذين الاستخدامين أساساً واقعياً، ما يجعلهما أكثر قدرة على التأثير.
هل يمكن أن نجمع من السوريين في صف واحد، أكثر مما يمكننا جمعه على أساس أنّ ما يصل إلى 90% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر؟
الأساس الواقعي الذي نقصده، هو أنّ الظلم واقع بلا ريب، وواقع بمعانيه السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والصحية، وإلخ، على عدد كبير من السوريين، إلى حد يمكن معه وصف أغلبية السوريين بأنها مظلومة! والأغلبية في كلامنا هذا هي أغلبية مطلقة من السوريين المنتمين إلى شتى أنواع «المكونات». لذا يصبح من السهل نسبياً، لمن يرغب باستثمار مظلومية قسم من المظلومين في وجه الآخرين، أنْ يردّ المظلومية (الواقعة فعلاً) إلى غير أسبابها، وأن ينسب الظلم إلى «مكون» بعينه.
الأكثرية والأقلية مرة أخرى
ضمن هذا الفهم، أظنّ أنّ محاولات القفز فوق فكرة الأكثرية والأقلية هرباً من التوظيفات الهدّامة لهما، هي محاولات لن يُكتب لها النجاح؛ فربما ليس هناك مفرٌّ من القول بأكثرية وأقلية، لأنّ وجود الصراع يفترض وجودهما. ما يمكن فعله، هو أن نعيد تعريفهما انطلاقاً من فكرة الظلم نفسها، ولكن بشكل موضوعي وإنساني ينظر إلى كل سوري مظلوم بوصفه سوريّاً مظلوماً، وفقط، من دون اعتبار للهويات الثانوية. وينظر كذلك إلى كل سوري ظالم بوصفه سوريّاً ظالماً، وفقط، من دون اعتبار للهويات الثانوية.
الآن؛ إذا أردنا أن نستخدم ورقة عباد شمس (على طريقة الكيمائيين)، لنفرز السوريين إلى ظالمين ومظلومين، فهل يمكن أن تكون الورقة الاقتصادية هي تلك الورقة؟ هل يمكن أن نجمع من السوريين في صف واحد، وفقاً لأي تصنيف آخر، أكثر مما يمكننا جمعه على أساس أنّ ما يصل إلى 90% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر؟
لقراءة المقال كاملا :
Add Comment