Add Listing Sign In

ما بعد الزلزال: المسارات المحتملة من أجل تحقيق مكاسب إنسانية في سورية

Carnegie Middle East

ما بعد الزلزال: المسارات المحتملة من أجل تحقيق مكاسب إنسانية في سورية

جهة النشر: Carnegie Middle East

في فجر يوم السادس من شباط/فبراير 2023، ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر المناطق الواقعة في جنوب تركيا وشمال سورية، فأسفر مع الهزات ارتدادية التي تلته، عن وقوع أكثر من 50,000 قتيل و100,000 جريح، وتسبّب بتشريد مئات الآلاف من الأشخاص في البلدَين، وخلّف أضرارًا قُدّرت بنحو 5.1 مليارات دولار أميركي في سورية وحدها. يُعدّ مسار التعافي من مثل هذه الكوارث دائمًا محفوفًا بالتحديات، لكن في حين أن حشد الدعم وإرسال أموال المساعدات سيكون سهلًا ومباشرًا نسبيًا في تركيا، فإن المشهد في سورية أشدّ تعقيدًا بسبب النزاع الذي يدخل عامه الثالث عشر في البلاد. أثّر هذا الوضع على الاستجابة الإنسانية للزلزال منذ اليوم الأول، فيما تهدّد الأوضاع السياسية المتقلّبة في سورية بمفاقمة أسوأ ديناميكيات النزاع.

شهدت عملية السلام المتعثّرة في سورية تقرّب القوى الإقليمية من دمشق في محاولةٍ لمعالجة المخاوف الإقليمية. وأدّى الزلزال إلى تسريع هذا المنحى، إذ أطلق جولة من المحادثات الدبلوماسية ومساعٍ للانخراط مع الرئيس السوري بشار الأسد. لكن هذا النهج لا يعطي الأولوية لحقوق الإنسان أو يُعالج دوافع نشوب النزاع. ونظرًا إلى غياب القيادة الغربية وأي خطوة فعّالة حول مستقبل سورية في الأمم المتحدة في جنيف، سيكون الابتعاد عن هذا المسار صعبًا. وفي حين قد تظل الطموحات الأوسع بعيدة المنال في سورية، يجب على صنّاع القرار الغربيين النظر إلى مرحلة ما بعد الزلزال على أنها فرصة حاسمة، إنما تتبدّد تدريجيًا، لتحقيق نتائج سياسية قصيرة الأمد من شأنها المساهمة في تحسين نوعية حياة ملايين السوريين، من ضمنهم أولئك المتضرّرين من الكارثة. ينبغي أن تصل المساعدات إلى كل من يحتاجها بشكل مبدئي، فيما يجب أن يضمن أي توسيع لنطاق المساعدات حدوث تغيّر في سلوكيات النظام السوري. ويجب أن ينصبّ التركيز على تطبيق وقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلاد وتدفّق المساعدات الإنسانية على المدى الطويل إلى شمال غربي سورية، ومعالجة المخاوف بشأن سيطرة النظام على المساعدات الخارجية التي تمرّ عبر دمشق، فضلًا عن تعديل سلوك الأجهزة الأمنية السورية.

تضع هذه الأهداف النتائج الإنسانية في صُلب الأولويات، لكنها ستتطلب إبرام صفقات سياسية. وسيكون من الضروري أن تتّبع مختلف الجهات الغربية والإقليمية والإنسانية نهجًا متّسقًا. وسيؤدي الفشل في تحقيق ذلك إلى تدهور الظروف الإنسانية بشكل أكبر، وإدامة حالة النزاع الخارج عن السيطرة، ومواصلة الأجهزة الأمنية ممارسات العنف والاضطهاد، إضافةً إلى تشجيع النظام على الاستمرار في سلوكه الراهن.

سورية بعد زلزال 6 شباط/فبراير

تنقسم سورية اليوم إلى ثلاث مناطق: الأولى يُسيطر عليها النظام وحلفاؤه، والثانية ترزح تحت قبضة مجموعات المعارضة المسلحة والقوات التركية في الشمال الغربي، والثالثة تخضع لسيطرة المجموعات الكردية والجيش الأميركي في الشمال الشرقي، على الرغم من وجود اختلافات إضافية في السيطرة على الأراضي. الجدير بالذكر أن عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254 متعثّرة. يدعو القرار إلى حدوث عملية انتقال سياسي في سورية، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، من بين جملة أمور أخرى. تمّ تطبيق مجموعة من اتفاقات الهدنة الرسمية وغير الرسمية على مدى ثلاث سنوات، على الرغم من أن أعمال العنف كانت ازدادت قبل الزلزال وتواصلت من بعده. وبقيت القضايا المتعلقة بوصول المساعدات الإنسانية وتسيير عملياتها من دون حل في جميع المناطق، على وقع تدهورت الظروف الإنسانية بشكل حاد نتيجة الدمار الذي تسبّب به النزاع، إضافةً إلى النزوح الجماعي، وتفشّي الفساد، وتضاؤل الموارد الاقتصادية في جميع أنحاء سورية والدول المجاورة. في هذا السياق، ازداد شعور الدول المجاورة بالاستياء من استضافة اللاجئين السوريين، ومارست جميعها ضغوطًا من أجل إعادتهم إلى بلادهم. لكن عدد اللاجئين العائدين إلى وطنهم لا يزال ضئيلًا، نظرًا إلى ممارسات النظام السوري والقطاع الأمني، وتعرّض عدد من العائدين للاعتقال وسوء المعاملة بشكل روتيني.

تضرّر شمال غرب سورية الخاضع لسيطرة المتمردين بشدة جرّاء الزلزال، تمامًا كحال المناطق الشمالية في عدد من المحافظات التي تسيطر عليها الدولة السورية. يتجاوز عدد سكان مناطق الشمال الغربي 4 ملايين نسمة، من بينهم حوالى مليونَي نازح داخليًا، يعيش 1.8 مليون منهم في مخيمات وملاجئ مؤقتة منذ كانون الثاني/يناير 2023. ويمكن للمنظمات الإنسانية العاملة عبر الحدود مع تركيا الوصول إلى المنطقة، في خطوة سُمح بها بدايةً في العام 2014 بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2165، الذي أُقرّ بسبب عرقلة النظام وصول المساعدات. منذ ذلك الحين، يُجدَّد القرار كل فترة ستة أشهر إلى سنة بعد مفاوضات مشحونة مع روسيا التي تنتزع تنازلات باهظة مقابل الموافقة على ذلك.

بعد الزلزال، كانت الاستجابة الإنسانية في الشمال الغربي بطيئة. ففرق الإغاثة الدولية التي وصلت إلى تركيا لم تدخل إلى سورية، بل وحدهم عمال الإغاثة المحليون ساعدوا السكان على الصمود مستعينين بإمدادات إغاثة معدّة ومخطط لها مسبقًا، إلى أن بدأت المساعدات بالوصول بعد أسبوع تقريبًا. وهذا يعني أن عددًا كبيرًا من الناس قضوا تحت الأنقاض بسبب نقص عدد المسعفين ومعدات الإغاثة الثقيلة. أخيرًا، أعلن نظام الأسد فتح معبَرَين حدوديَين إضافيَين بينتركيا وشمال غرب سورية، ما أثار حنق السكان الذين شعروا أن أحباءهم ماتوا بسبب القيود المفروضة على الدخول وأن النظام يتحكّم بمصائرهم. وكشف هذا الوضع عن الطبيعة الهشّة لهيكل المساعدات في الشمال الغربي، وبدّد الآمال بأن تؤدي هذه المأساة إلى تقريب أطراف النزاع من بعضها البعض.

في غضون ذلك، بدأت المساعدات بالتدفق إلى دمشق فورًا. فأرسلت الجزائر ومصر وإيران والعراق وروسيا والإمارات العربية المتحدة معونات في اليوم الذي أعقب الزلزال. وبحلول 9 شباط/فبراير، وصلت طائرات محمّلة بآلاف الأطنان من المساعدات، وبدأت فرق الإغاثة بدعم جهود النظام في المناطق المتضرّرة. وعلى الفور، دعت سورية إلى تخفيف العقوبات، وردّدت هذه الدعوة دول عربية ووكالات الأمم المتحدة خلف الأبواب المغلقة. وفي 9 شباط/فبراير، سمحت واشنطن، التي كانت فرضت عقوبات على سورية، بإجراء العمليات المتعلّقة بالإغاثة. عندئذٍ، طلب النظام مساعدات إنسانية من الاتحاد الأوروبي، الذي استجاب لهذا الطلب، كما فعلت دول أوروبية عدّة بشكل ثنائي.

لم يذهب الأسد لتفقد الأضرار الناجمة عن الزلزال إلا بعد مرور ستة أيام على وقوعه. ومنذ ذلك الحين، ركّز على الاستفادة سياسيًا من الوضع، واستقبل شخصيًا مسؤولين بارزين من الأمم المتحدة ودبلوماسيين إقليميين وشرع في إجراء زيارات رسميةوطلب خلالها من العالم المساعدة في إصلاح الأضرار التي تسبب بها الزلزال، والدمار الذي لحق بالبلاد جرّاء النزاع، وعمد إلى الجمع بين الاثنَين في محاولة لتجاوز القيود على عمليات إعادة الإعمار المشروطة بإحراز تقدّم في عملية السلام. وسارعت إلى تبنّي هذه السردية دول المنطقة ومسؤولون في الأمم المتحدة، حرصًا منهم على إيجاد طرق للالتفاف على الخطوط الحمراء التي رسمتها الدول الغربية حول عملية إعادة الإعمار. وأحجمت الدول الغربية عن معارضة ردود الفعل هذه خوفًا من أن تبدو غير متعاطفة مع المأساة.

مع ذلك، تواصلت عمليات القتال، واستؤنفت الهجمات، التي شُنّت بمعظمها من مناطق النظام إلى الشمال الغربي، في وقت مبكر من يوم 7 شباط/فبراير، ما أسفر عن موجات نزوح جديدة وإصابة السكان المتضرّرين بصدمات نفسية، ولأن تاريخ القوات المسلحة السورية حافل باستهداف البنية التحتية الإنسانية، كان لذلك تأثير مثبط على جهود التعافي وإعادة التأهيل.

بموازاة ذلك، اتّسع نطاق القبضة الحديدية لقوات أمن النظام. وسجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 221 حالة اعتقال تعسفي نفّذتها قوات الأمن بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس. وأدّت الشكاوى المحلية بشأن تحويل المساعدات في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة إلى اعتقالات أيضًا. لقد طال نفوذ النظام وأذرعه الأمنية عملية الاستجابة للزلزال من خلال “غرف عمليات” تدير الاستجابة في كل منطقة متضرّرة وتستخدم جهات ليست في المجال الإنساني في جهود الإغاثة، على غرار أفراد مرتبطين بالميليشيات، وتحصل على الدعم المالي من خلال رجال أعمال خاضعين لعقوبات. وتشير الحاجة إلى تصاريح أمنية للدخول إلى الممتلكات والحجم الكبير لعمليات الهدم الفورية في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة سابقًا إلى أن عملية إعادة الإعمار قد تؤثر سلبًا على أولئك الذين يعتبرهم نظام الأسد معارضين له. وتُظهر هذه الاتجاهات أن ما من تغيير طرأ على الدافع الأساسي للنزاع، أي السلوك القمعي والتمييزي والسلطوي للنظام.

صحيحٌ أن الدول الغربية والإقليمية كانت متّحدة في رغبتها في مساعدة السوريين بعد الزلزال، إلا أن مقاربتهما اختلفت. فقد عمد كلٌّ من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى تخفيف العقوبات وتقديم المساعدات الإنسانية، وتعهّدت بتوفير معونات إضافية في مؤتمر المانحين في منتصف آذار/مارس، إضافةً إلى مؤتمر آخر من المقرّر عقده في حزيران/يونيو. ومن الناحية السياسية، أعادت التأكيد على الحاجة إلى عملية سلام بقيادة الأمم المتحدة وكرّرت الدعوة إلى عزل النظام ومحاسبته على الجرائم التي ارتكبها. أما الدول العربية من جهتها، فقد أرسلت مساعدات، لكن في الكثير من الحالات أعقبها تواصل دبلوماسي وتصريحات تعبّر عن الاستياء من عزل النظام، على الرغم من عدم تطبيق الأسد أي من الإصلاحات التي سبق أن اشترطتها لضمان تغيير سلوكه. ولا تزال مواقف الدول الأعضاء في الجامعة العربية متباينة حول مسألة إعادة سورية إلى كنفها. لكن الخطوات المبكرة التي اتّخذتها بعض الدول العربية أضفت الشرعية جزئيًا على نظام الأسد، ما قد يؤدي إلى تسريع وتيرة تبدّل الديناميكيات في المنطقة. علاوةً على ذلك، قرّر البرلمان العربي في شباط/فبراير تأييد مقترحات الأردن لإنشاء صندوق إقليمي لدعم تعافي سورية.

تسعى القوى الإقليمية إلى تحقيق مصالحها في سورية، ومن المستبعد أن تغير الدول الغربية حساباتها بشكل جذري، من دون إطلاق مسار دبلوماسي متجدّد رفيع المستوى من جانبها. مع ذلك، لا يزال من الممكن وضع نهج تعاوني بين الدول الغربية والإقليمية من شـأنه التركيز على استيفاء الشروط التي تضمن رفاه السوريين وأمنهم وتمتّعهم بحقوق الإنسان.

ثلاثة مسارات للتحسين المحتمل قبل انسداد الأفق

لا يمكن التوصّل إلى تسوية فعلية للنزاع السوري من دون استيفاء عدد من الشروط المسبقة، التي تشمل إحقاق العدالة في الجرائم التي ارتكبها النظام السوري، والإفراج عن المفقودين أو الكشف عن مصيرهم، والتوصّل إلى حل سياسي يقود إلى التنفيذ الكامل للقرار 2254. ينبغي على الدول الغربية أن تواصل العمل على تحقيق هذه الأهداف، حتى لو كانت اليوم بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى.

في ظل عدم إحراز تقدّم على هذه الجبهة، يجب على الدول الغربية عدم القبول بتدهور الوضع القائم، وعدم السماح بحدوث انعطافة إقليمية نحو دمشق من دون انتزاع تنازلات في المقابل. إذا عملت هذه الدول مع نظيراتها العربية ومع الجهات السياسية والإنسانية، قد يكون ممكنًا تحقيق عدد من أهداف السياسات التي من شأنها أن تركّز على تحسين الأوضاع الإنسانية والأمنية وعلى الحؤول دون أن تؤدّي الاستجابة للزلزال إلى تهديد بقاء السكان في الشمال الغربي، وإلى انتفاع النظام منها، وتبديد النفوذ من خلال العجز عن دفع دمشق إلى تغيير سلوكها.

يجب أن يكون الهدف الأول من هذه الأهداف القصيرة الأمد تنظيم وقفٍ لإطلاق النار في مختلف أنحاء البلاد. تنعم سورية بهدوء نسبي منذ ثلاث سنوات، ولكن ذلك لم يحل دون حدوث أعمال عسكرية. ومن شأن التوصل إلى وقف فعلي لإطلاق النار أن يتيح الشروع في العمل الإنساني وجهود التعافي، ويوفّر الحماية لموظّفي الأمم المتحدة والعمّال الإنسانيين والسكان المتضررين، ويطمئن المانحين إلى أن استثماراتهم لن يكون مصيرها الدمار. وتشغل الولايات المتحدة، بحكم وجودها العسكري في الشمال الشرقي للبلاد، موقعًا يخوّلها أداء دور قيادي في هذا المجال، ما قد يشجّع الجهات الأخرى على الامتثال، مع استخدام مجموعة العمل المعنية بشؤون وقف إطلاق النار التابعة للأمم المتحدة في جنيف بمثابة منتدى لرصد التنفيذ. وينبغي التشديد على أن وقف إطلاق النار هو شرط مسبق واضح يجب توافره من أجل توسيع مجهود التعافي أو إعادة التأهيل نحو مناطق النظام.

يرتكز الهدف القصير الأمد الثاني على توسيع نطاق تأمين المساعدات لسورية، الأمر الذي ينطوي على بُعدَين اثنَين: الوصول في المدى الطويل إلى الشمال الغربي عن طريق الحدود التركية ومعالجة الهواجس المستمرة بشأن عمليات المساعدات التي تُدار انطلاقًا من دمشق. في الشمال الغربي، كان للقيود والطلبات على الموارد التي نتجت عن تجديد الآلية العابرة للحدود لفترات تتراوح من ستة إلى اثنَي عشر شهرًا أثرٌ سلبي على القدرة على تنفيذ برامج مساعدات ملائمة في ظل الموازنات المتناقصة. وفي الأيام التي أعقبت الزلزال، ظهرت التداعيات القاتلة للنهج الحذر الذي اتُّبِع في منح تصاريح الوصول إلى المساعدات. علاوةً على ذلك، ونظرًا إلى انعدام الاتفاق السياسي، ما من سبب يدفع إلى الاعتقاد بأن النظام غيّر سياسته القائمة على الحرمان من المساعدات وإنزال العقاب الجماعي بسكان الشمال الغربي.

يجب أن يُدرَج على قائمة الأولويات الوصول إلى الشمال الغربي في المدى الطويل، من دون الحصول على إذن من السلطات السورية إذا اقتضى الأمر. وينبغي أن يتيح ذلك العبور إلى الشمال الغربي بالقدر الكافي الذي يتطلبه مجهود التعافي، وكذلك الموافقة على الحضور الشخصي لموظفين دوليين مختصين أو خبراء تقنيين. ليس باستطاعة سكان المنطقة المصابين بصدمات نفسية الانتظار إلى اللحظة الأخيرة كي يُصار إلى تجديد قرار مجلس الأمن الذي يجيز نقل المساعدات الإنسانية عبر الحدود. يجب أن يبدأ العمل فورًا للتفاوض على تمديد القرار سنة على الأقل بعد انتهاء مدّته الحالية في تموز/يوليو. وينبغي أن يتحقق ذلك من خلال سياسة محددة بوضوح تتيح وصول الجميع إلى المساعدات باعتباره شرطًا مسبقًا لتعزيز مجهود التعافي أو إعادة التأهيل في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. يجب على تركيا والأمم المتحدة والدول العربية أن تطلب ذلك من روسيا ونظام الأسد، وأن تعمل إلى جانب أعضاء مجلس الأمن الذين قاموا بإعداد القرار. وفي حال تعذّر التوصل إلى حل، لن يؤدّي ذلك إلى حرمان سكان الشمال الغربي من المساعدات فحسب، إنما أيضًا إلى زعزعة الاستقرار بصورة إضافية في المناطق الحدودية التركية المتضررة من النزاع والزلزال. وتجنّبًا لهذه النتيجة، يتعيّن على الأفرقاء المعنيين العمل معًا للتوصّل إلى حل يتيح توفير المساعدات بصورة أُحادية، إضافةً إلى إدانة النظام السوري لعرقلته تنفيذ قرار الأمم المتحدة.

ينبغي على الجهات المانحة أيضًا اعتماد استراتيجية واضحة لتوسيع مجهود التعافي في الشمال الغربي من أجل معالجة أزمة الإيواء ونقص الخدمات الأساسية وسبل العيش في المنطقة. ويجب أن يشتمل ذلك على استنباط طرق للالتفاف على هيئة تحرير الشام التي يعرقل وجودها في المنطقة جهود إعادة التأهيل والمساعدات لتأمين المأوى في المدى الطويل.

إلى جانب توسيع نطاق المساعدات إلى الشمال الغربي في سورية، يجب على الجهات المانحة الأساسية أيضًا الضغط على الأمم المتحدة لمعالجة المشكلات المتجذّرة التي أرخت بثقلها على جهود الاستجابة التي تقودها الأمم المتحدة عن طريق دمشق منذ بداية الحرب. فالنظام يُواصل اليوم إحكام سيطرته على جهود الاستجابة للزلزال، فيما لا تزال الأمم المتحدة تُعاني من نقص في فهم السياق، ويستمر فرض القيود على جمع البيانات وعلى اختيار الموظفين والشركاء، وتتواصل ممارسات الشراء الإشكالية، هذا فضلًا عن استمرار النزعة الأممية في عدم التصدّي لمناورات النظام أو سياساته التي عطّلت أعمال الإغاثة، وذلك بما ينسجم مع المبادئ الإنسانية والوصول إلى المساعدات الإنسانية. وقد ازدادت هذه المخاوف بعد الزلزال.

يجب أن يُصبح المانحون أكثر إلمامًا بالتحدّيات وأن يدفعوا الأمم المتحدة إلى عرض احتياجاتها العملاتية وقيودها على نحوٍ أكثر شفافية. وينبغي عليهم أيضًا استخدام منتديات على غرار مؤتمرات الجهات المانحة لتحديد المعايير والتوقعات في مجال العمليات، إلى جانب التعهدات التي لن تتبلور إلا عند تحقيق هذه المعايير والتوقعات. يُمكن استخدام نقاط اتصال إقليمية بين الجهات المانحة والأمم المتحدة – مثل آلية الحوار الإقليمي القائمة، حيث تجتمع الأمم المتحدة والجهات المانحة لمعالجة المسائل المتشابكة، أو هيئة إشرافية جديدة للإغاثة من الزلزال – من أجل رصد التقدّم استنادًا إلى هذه المعايير. ويمكن لنقاط الاتصال هذه أن تؤمّن إشرافًا وثيقًا على البرامج حرصًا على وصول المساعدات إلى مَن هم في حاجة إليها، لا إلى النظام، وعلى عدم تسبّب الاستجابة بحد ذاتها في وقوع مزيد من الأذى. من شأن إنشاء آلية دعم لهذه الاستجابة يكون مقرّها خارج سورية وتديرها جهة مستقلّة أن يساعد على إجراء تحليلات استنادًا إلى مصادر وأساليب متعددة، وعلى معالجة مسائل السياسات المعقّدة. بإمكان هذه الآلية أيضًا الدعوة إلى اجتماعات لأصحاب المصلحة، بما يشمل شخصيات من المجتمع المدني السوري ولاجئين سوريين، لإشراكهم في جهود التعافي أو إعادة التأهيل، والمساهمة في ضمان مراعاة حقوقهم وصونها.

الهدف الثالث والأخير من الأهداف القصيرة الأمد هو قيام الدول العربية التي تفتح حاليًا قنوات اتصال مع دمشق بمعالجة قضايا أمنية جوهرية. حتى تاريخه، فشلت الجهود الآيلة إلى إصلاح النظام ودولته الأمنية الهمجية. وليس مضمونًا أنه يمكن تحقيق تغييرات أساسية على هذه الجبهة. ولكن في هذه اللحظة التي تشهد تواصلًا دبلوماسيًا واسعًا مع دمشق وزيادة في تمويلها مقابل إحراز تقدّم في عدد محدود من القضايا الإقليمية، مثلوضع حدٍّ لإنتاج الكبتاغون وتجارته، من الضروري بذل جهود أيضًا لانتزاع تنازلات من السلطات السورية على جبهة الأمن وحقوق الإنسان. الفرصة المتاحة لتحقيق ذلك بعد الزلزال ضيّقة جدًّا، إذ لا يمكن أن تحدث التغييرات إلا إذا ربطتها جميع الجهات الخارجية بانخراط دبلوماسي أكبر مع دمشق، أو بزيادة التمويل المقدّم لها. فعندما يتجدّد الانخراط الدبلوماسي ويتحقق مستوى معيّن من إعادة الإعمار، سيصبح من المستحيل إحداث تغيير في سلوكيات الأسد.

بغية تحقيق أيٍّ من هذه النتائج في الهامش السياسي الآخذ في التقلّص، ينبغي على الدول الغربية ومفاوضي الأمم المتحدة العمل مع الدول العربية لتحديد مجموعة من الطلبات المهمة المتعلقة بالقطاع الأمني في سورية والحقوق الأساسية للمواطنين السوريين. من شأن وضع نهج تعاوني لصياغة هذه الطلبات أن يضمن وحدة الموقف في ما يُطلَب من السوريين من خلال مختلف أشكال الانخراط معهم، سواء كانت سرّية أو علنية، رسمية أو غير رسمية، إقليمية أو ثنائية، وكذلك من خلال عمليات الأمم المتحدة والمفاوضات السياسية. وتشمل هذه المطالب الإفراج عن المعتقلين والمفقودين، أو الكشف عن مصيرهم، وتحقيق تحسينات ملموسة في سيادة القانون بما يحدّ من الاعتقالات التعسفية، وحالات الاختفاء والقبضة الشديدة للدولة الأمنية على مختلف جوانب الحياة اليومية، بما في ذلك فرض الحصول على الموافقة الأمنية على نطاق واسع لإنجاز المعاملات الإدارية العادية. ويعني ذلك أيضًا معالجة مسألة التجنيد العسكري الإجباري والمظالم المتعلقة بالسكن والأرض والأملاك.

يجب أيضًا على الجهات المانحة الغربية والأمم المتحدة ضمان إدراك دمشق والدول العربية أن حدوث هذه التغييرات في سلوكيات النظام السوري هو شرطٌ لعودة اللاجئين والنازحين داخليًا. ومن شأن ذلك أن يُبيّن بوضوح أن هذه العودة، وهي من الهواجس المعلنة التي تُحرّك الانخراط العربي مع الأسد، لا يمكن تحقيقها من خلال “ضمانات” واهية من نظامٍ يسعى إلى الحصول على تمويل إضافي. ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون مستعدّة للجوء إلى العقوبات الثانوية أو أدوات أخرى لثني الدول عن الانفتاح أكثر على دمشق من دون توافر هذه الشروط، علمًا بأن الأميركيين، والدول الغربية بصورة عامة، يجب أن يكونوا على استعداد لتقديم تنازلات إيجابية في حال نفّذت السلطات السورية هذه الشروط بطريقة يمكن التحقق منها ولا رجعة فيها. قد لا يُؤدّي التركيز على الشروط ووضعها في صدارة الأولويات إلى القبول بها، لكن من شأن ذلك أن يُعيد على الأقل عملية التطبيع إلى إطارٍ يمكن بموجبه تعليقها في حال استمر النظام في تعنّته وتمنّعه عن الإصلاح.

خاتمة

إذا لم تبادر الدول الغربية والإقليمية إلى الاستفادة من الفرصة الضيّقة التي أتاحها زلزال 6 شباط/فبراير، غالب الظن أن سورية ستواصل مسارها الحالي. سيُرسّخ النظام قبضته على السكّان الخاضعين لسلطته، فيما يزيد من تهميش ملايين السوريين الذين يعيشون خارج المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة في الشمال الغربي للبلاد وفي مختلف أنحاء المنطقة. فالدول التي تنشد الاستقرار في سورية ستحصل في الأغلب على النقيض تمامًا، أي استمرار أوضاع اللجوء والنزوح الداخلي التي تطال ملايين السوريين. ولن يؤدّي ذلك سوى إلى تفاقم النزاع وانعدام الاستقرار، مخلّفًا تداعيات تلقي بظلالها على الدول المجاورة لسورية، والمنطقة الأوسع، وربما أبعد من ذلك وصولًا إلى أوروبا.

المصدر.

Prev Post
برنامج هيلموت شميدت (منح ماجستير للسياسة العامة والحكم الرشيد)
Next Post
تمكين: رؤى نقدية حول حقوق الإنسان

Add Comment

Your email is safe with us.

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

Application for registration on Rawabet

X