حدث هذا منذ زمن بعيد. قبل أن يظهر كورونا، و«ينشلش» أهلنا بالفاقد التعليمي.
زمن لم تكن فيه الساعات والدروس الخصوصية قد اخترعت بعد. وقتها كان «اللحم إلك والعظم إلنا»، بهمة عصا مصنوعة من شجرة سنديان عمرها أكبر من عمر أكبر فصعون فينا.
كان حضور لبيبة – الاسم الذي يطلقه معلمنا على عصاه – علامة القيامة الصباحية لنا، فالناجي الوحيد منها هو الواصل أولاً إلى أعتاب تلك الغرفة – المسمّاة زوراً وبهتاناً مدرسة – وأحياناً قد لا ينجو، من باب المحبة، لأنّ «ضرب الحبيب زبيب»، كما نعرف.
كانت مدرستنا – المسمّاة زوراً مدرسة – قبواً ﻷحد البيوت، مؤلّفاً من غرفة هي صفّنا، تجاور غرفة أخرى تحتلها بقرة صاحب البيت معززّة مكرّمة.
لغرفتها شباك يطل على الوادي، أما غرفتنا فكانت بلا شباك، ولكن على جدارها خريطة للوطن العربي.
وضعت في تلك الغرفة مقاعد خشبية، صنعها نجّار نسي أن يطرق مساميرها جيداً، فكانت تمزّق ثيابنا البالية أصلاً، وتترك أصابعنا مرات كثيرة مثقوبة تنقط دماً.
لم تكن قريتنا نائية كما تتوقعون. أبداً، لقد كانت قريبةً من المدينة، وتقع على جبل صغير، فوقه مقام لنبي اسمه غريب «النبي كيكي».
لم أكن أعرف من هو ذلك النبي، وإن كان أصلاً نبياً مرسلاً إلى قريتنا حصرياً. في العام الماضي تبرّع أستاذ يوناني أعرفه وأخبرني بأنه اسم كاهن من زمن فينيقيا الكبرى، وهي نفسها التي يتغنى بها بعض الفنانين والرسامين والسياسيين من عِلية قومنا، من دون أن يعرفوا النبي كيكي.
ما علينا، وقفنا جميعاً في الحاكورة، التي كانت تعلو مغارتنا بخمس درجات من الحجر المحفّر برسومنا وخطوطنا و«اذكريني» و«لن أنساكي»… إلخ.
من داخل تلك المغارة أطل معلمنا يوسف. بإشارة من لبيبة وقفنا مثل الألف، وبنظرته التي تقطع القلوب حدّق بنا، وعدّنا واحداً تلو اﻵخر.
كان ذلك اليوم أوّل أيام العام الدراسي الجديد. رددنا الشعار المقدّس، ووحّدنا العالم العربي، وأطحنا بكل المؤامرات، فيما كانت بقرة صاحب البيت تخور بعالي صوتها، ثم نزلنا إلى غرفة الصف.
رددنا الشعار المقدّس، ووحّدنا العالم العربي، وأطحنا بكل المؤامرات، فيما كانت بقرة صاحب البيت تخور بعالي صوتها، ثم نزلنا إلى غرفة الصف
دخلت لبيبة، ومعها المعلم يوسف وعيناه تمسحان المقاعد بحثاً عن خطيئة. حين لم يجد، سحب جزدان دخانه العربي وبدأ بلف سيجارة، ومع تبليله الورقة بلعابه ظهرت أسنانه الصفراء، وسألنا سؤالاً معتاداً: ولا قرود، ما اشتقتو للمدرسة؟
كان استطلاع الرأي هذا تقليداً سنوياً يحدث مطلع كل أيلول، وكانت نتيجته معروفة: كلنا اشتاق، طواعية أو غصباً، لا فرق.
طبعاً كان كثير منا يكذب، فقلائل من الأطفال قد يفضلون ترك صيد العصافير واللعب في النهر القريب وسرقة التين والمشمش والبيض البلدي، ﻷجل «بابا وماما»، وتشريح ضفدع مسكين، ومبادئ القومية العربية، وحديث عن بلاد لن نزورها في يوم من اﻷيام.
كانت لبيبة هي القائد العام للصف، بإشارة منها وقفت على قدمي. كنت كعادتي أجلس في أول مقعد من الصف، تلعثمت بدايةً، ثم نطقت الجوهرة بالفصحى: نعم يا أستاذ لقد اشتقت للمدرسة.
ـ شو أكتر شي اشتقتيلو؟
ـ حصة العلوم أستاذ.
ـ اندفسي اقعدي.
كانت حصة العلوم من نصيب اﻵنسة روان، اﻷنثى الوحيدة في تلك المغارة المدرسة، وﻷنها رفضت عرض الزواج الذي قدمه يوسف فإن أي ذكر لها كان يصيبه بالنرفزة.
بعدي فوراً وقفت ابنة جيراني وأعادت جواب الشوق نفسه، أما جواب «اﻷكتر شي» فكان: حصة العربي. تنفّس البعبع، وأطلق نفساً من الدخان من منخريه وقال: اقعدي.
تتالت الإجابات، ومعها أسباب الشوق والحنين، إلى أن حان دور أطولنا. كان يجلس في آخر المقاعد.
– شو أكتر شي اشتقتلو؟
– البقرة أستاذ.
وغرقنا في ضحكات لم نفلح في كتمها، إلى أن خبطت لبيبة على أحد المقاعد.
«شو قلت ولاك؟»، سأل الأستاذ وكأنه يريد أن يتأكد من أنه سمع جيداً.
«البقرة أستاذ. اشتقت للبقرة».
هوت لبيبة على كتف الولد الطويل، ثم على قفاه، ثم على كل مكان في جسده، وسط شتائم الأستاذ يوسف وصراخه المستمر، قبل أن يحكم على الطويل بإكمال نهاره المدرسي الأول في الغرفة المجاورة، مع البقرة.
لم تكن الحادثة مضحكة، لكننا ضحكنا كثيراً بعد نهاية الدوام.
حين رويت هذه الذكرى قبل شهرين لإحدى صديقاتي، علّقت بالقول:
– بتعرفي إنو لحتى يحلبو البقرة بدون ما ترفس لازم يخلوها ترفع راسها لفوق؟
– بالله جد؟ وشو بيقولولها؟ اعتزّي بحالك يا حيوانة؟
وضحكنا.
تتمة الحديث يومها اختلط فيها الجد بالمزاح بالـ«تقفيل»، وتمحورت حول الأبقار والقطعان والشعوب والسلطات والتشابهات.
قبل قليل اتصلت بي صديقتي، وذكرتني بتلك المحادثة، ثم قالت:
– مبروك، تشكلت حكومة جديدة وعطوا منصب وزير تربية القطيع للرجل المناسب.
لم أُفاجأ، وأطلقت خواراً طويلا يضجّ بالسعادة، والحنين.
لقراءة المقال كاملاً:
Add Comment