هذه هي المقالة الثانية التي تنشرها الجمهورية.نت ضمن سلسلة المقالات المُنتَجة بالتعاون مع مؤسسة أتاسي المختصة بالفن السوري على مستويات الأرشفة وإنتاج المعرفة، وتسعى مقالات السلسلة إلى تقديم محتوى متخصص يركّز على سوريا ونشاطها الفني ماضياً ومستقبلاً، في سوريا أو خارجها، وعبر صيغ عدة تتنوع بين المقابلات والدراسات والمقالات المعمقة بما يشمل النصوص الأدبية المتفاعلة مع أعمال فنية. تُنشر مقالات السلسلة في يوم الأربعاء الأخير من كل شهر.
المهد
تفوح شجرة تين وسط صخور سوداء. الجفاف عابق بالعافية. الشقوق غائرة في أديم الأرض. شمس الصيف اللافحة أفرغت الدروب والأزقة من السابلة. ساعة القيلولة. ساعة القسوة والسراب. أمواج صغيرة كذروات اللهب الشفافة تغلّف كلَّ شيء. يظهر ولدٌ وحيد متّقد بالطيش واليقظة. المكان كلُّه ملعبه الفارغُ الساكن. التراب تحت قدميه خشن ساخن كقشرة الخفّان تحت يديه. للتوّ سمع حنشين يتزاوجان. يتلوّيان ويفحّان في العتمة وراء الجدار الخشبي لمخزن القمح ذي اللون الزهري. أصحابه يتباهون بصيد الثعابين ولا يقتلونها. يُحصون كم ثقباً حفرت أنيابها في جلود أحزمتهم. لا يطلقون سراحها حتى تستنفد العضّةُ سيلانَ السمّ. عيناه تجوبان مدى البازلت. ترمشان في الضياء. القشّ كالذهب. بقعة واسعة هي حقل فاحم كان قد أُحرق يباسه بالمفرقعات. كتم السرَّ وخوفَه من السرّ. تحمله خطواته إلى المقبرة الملاصقة لبيوت القريّا. يدخل قبراً هدمه الزمن. الظلّ داكن. يمسك جمجمة بين يديه. يسكت الزيز بغتة. في جدار الحفرة كوّةٌ يقطعها طيفٌ عابر قد يكون أيّ شيء في رابعة النهار. الوهم والحقيقة سيّان هنا. تلك لحظة لا تنقضي أبداً.
الضوء في المرآة
يُضعف الزمن سطوةَ التعاويذ. سجنَ الإمبراطور الأصفر شعوبَ المرايا وراء سورٍ فضّي لانهائي. جرّدهم من وجوههم بعدما استباحوا الأرض بغزوات دموية تحت جنح الليل. كان الناس يدخلون المرايا ويغادرونها في سلام. لم يجدْ أحد منهم في تلك المملكة نقطةَ شبه واحدة تجمعها ببلدانهم. كان عالم المرآة أجملَ وأرحب. كانت ألوانه أغنى وأحرّ. ثم انتهت الحرب. عُوقب الغزاة على جبروتهم. كان جزاؤهم العبودية. صيّرتهم الفنون السحرية للإمبراطور الأصفر انعكاساتٍ محضة. لم يتبقّ لهم من الفعل إلا التمثيل والمُطابقات. أمسَت حياتهم محض تكرار لما يفعله السجّانون أمامهم. لكن السجناء يتململون ضدّ هذه المحاكاة منذ وقت طويل. إنهم يتأهّبون ليحطّموا حواجز الزجاج والمعادن. هيهات أن يُهزموا هذه المرة. مَن يضَعْ أذنه على سطح المرآة يسمعْ صليل الأسلحة.
المدرَّع
أين الأنا حين يصمت اللسان؟ كيف سيرتّب العقل خزينه من خرائب المعاني وأنقاض الصور؟
تَوارى الخوف بعدما أخلى للأسى حيزاً متواضعاً. ما مِن قطرة دم أُريقت في الهدأة بين خطرٍ مضى وخطرٍ سيأتي. الهواء ألطف بعد عنفٍ لا شاهدَ على وقوعه. لقطات صافية للفداحة. خشخشة وسط الحطام. اختفت الكلمات فأخفت المقاصد معها. وئيداً يعبر مخلوقٌ درعهُ من شظايا مرآة. الأفكار متأخرةً تولَد أثناء العبور. هذه هي يد علي اليسرى تحت الكاميرا في ضوء الربيع. يُسراه تتحرّى مرآةً هشّمتها يمناه فوق طاولة مرسمه. تحتفنُ الهشيم. تفلته ولا تنزف. كان قد انتقى بضع شظايا. ثم ثبّتتها يمناه بمسدس السيليكون إلى ظهر يسراه. خمَد حرقٌ خفيف فاح به شياط الشعر على السلاميات. وجعٌ طفيف لذيذ. وجيزٌ كالشمعة إذا تقطّرت على الجلد. اليسرى يد الرحمة والإيمان. جارة القلب. تجوس الكسور على مهل. تيه بطيء في العمى. مراوحة في الضيق. تحذر اللمسةُ ما تحطّم. مثلما تحترس العين من وفرة الصور وهيمنتها. الحميم جارح. الرقيق مؤذٍ.
يدٌ لا تبني ولا تهدم. لا تلعن ولا تبارك. إذا سارعتْ إلى الاختباء شُلّتْ. إذا جازفت بالخروج والتطاول قُطعتْ. ربما. لن يحزّ الموت شريانها. تتردّد في الزحف والحومان. متمهّلة بمحاذاة قليل من الخراب. التردّد فاضحُ الأوهام وكاشفُ الطرقات. تكاد اليد تمسّ الحافاتِ المثلّمة القاطعة. تتنمّل البنان المضمّدة باللصاقات كقارعي الطبول. إذا زاغت النظرة صعدتْ لمسةٌ أخرى من ظلمات الجسد إلى العين فتغشاها بفراغ القسوة. أو بنداوة الحنوّ كبخار الشهوة في صعودها إلى العقل عند انهيار المحبّين. عذابٌ عَذْب. تنثني الأصابع هَوْناً عند همودها. ثم تنتفض قليلاً. وانيةً كالنبضةِ في رقّة المعصم. إلى الحياة لراجِعون.
الحيوان الافتراضي
تخيّل رودولف هرمان لوتز «حيواناً افتراضياً» في منتهى الوحدة ومنتهى البطء. حاسّتهُ الأولى اللمس. في جلده نقطة وحيدة حسّاسة ومتحرّكة هي طرفُ قرن استشعار. لا يتيح هذا الحرمان إلا إدراكاً واحداً في اللحظة. ساقَ لوتز حججاً عديدة ليدحض مقولات كانط حول الزمان والمكان. فهذا الحيوان يحرّك قرنَ استشعاره بين مدٍّ وقبْض. يمكّنه هذا التحريك من إدراك العالم الخارجي مثل التمييز بين الساكن والمتحرّك.
المسافر ومرآتاه المكسورتان في إشبيلية
ألصقَ علي شظية مرآة إلى طرف عصا قصيرة. وسعى بين أشجار الأندلس من الصباح إلى المساء. رأى هناك كيف تنعكس قطعٌ من صور الشجرة الميتة وراءه بين أوراق الشجرة اليانعة أمامه. ظلّ أسبوعاً بأكمله يطارد الطبيعة تنعكس وتتشذّر بين يده وعينه. يسعى فيلقى. ثم يلقى فيسعى. ثم يسعى فلا يلقى شيئاً.
الوِقاء
تبلبل علي الخطورةُ الآنيّة للأشياء العادية. الأيام مزدحمة بالتجريد والغموض. دهمه البريق أثناء إحدى زياراته إلى ريبيكا هورن. كان جالساً في حديقتها. في قريتها قرب فرانكفورت. سطحُ مرسمها سيراميك أزرق كلّه. لازورد متناغم وصفاء السماء. والعشب. والصنوبرة المتوسطية الوحيدة في «أرض المساء». لزم علي السكون حين حطّت الشمس بغتة على مربّع سيراميك. شعّت زرقته بياضاً باهرَ النصوع. مثلَ وميضٍ تجمّد خارج الزمن. قال لمعلمته: «إنّ انعكاس الضوء بهذه القوة على السطح يُبطِل اللون. هذا هو جنون المادة».
وجهُ الطفل على سطح ملعقة
المقاربات عرجاء غالباً. قاس شعراء الحداثة حياتهم بملاعق القهوة. شعراء ما بعد الحداثة شربوا الوقت من عقارب كالملاعق في ساعات المحطّات.
هنا شكلان بيضويان من معدن. ملعقتان مخدَّشتان تتحاكّان. تتحابّان. ترنّان. صليلٌ مقلق كصريف الأسنان. يتزعزع المعنى. يتلاشى كالصدى. يقفل اللمعان أيّ سرد محتمل. لا جوع ليُسَدّ. لا دواء ليُشفي. بل رفضٌ ورَقْص. مرآتان محدّبتان متقابلتان. كالموت والحبّ. مثل لا و نعم. ترتجفان في يدَيْ علي لطول جلوسه وحده ممسكاً بهما أمام العدسة. متوارياً عن عينها. لم يفلتهما حتى هدّه العياء. كتب إ. إ. كامِنغز أن «وجه الله الرهيب المشرق أكثر من ملعقة/ يلتقط صورةَ كلمةٍ واحدة مهلِكة؛/ هكذا حياتي ’عاشقة الشمس والقمر‘/تشبه شيئاً لم يحدث».
هَمْپتي دَمْپتي
مَن لا يشوب الماضي كلُّه حاضرَه؟ ما التفكير إنْ لم يكن حواراً بين الأطياف والأوهام؟ يبرز علي انكسارَ الأشياء. مثل ندبة توشك أن تنزف وتوشك أن تلتئم في آن واحد. تمزّقُ الكائن جزءٌ من الكائن. ندوبه جزءٌ من خريطة روحه. ينكسر شيء عادي أثير فيتعذّر ترميمه. يحزّ في النفس أن تتخلّص منه. تحار بين استحالة التصليح وفظاعته. لأنّ المصلحين مشوّهون غالباً. القطعة المفقودة اندثرت. صارت فتاتاً أو بخاراً. غباراً أو رماداً. سيسكب الوقت في ثلم الكسر بعضاً مِن روح مَن يتأمّله. الفراغ جسدُ الخسارة اللامرئي.
*
معظم الناس رعاةُ جِراح. ورثةُ جِراح. كلٌّ بطريقته يغطّي بالصمت جرحاً. أو يتوغّل فيه. يُشهِره ليتخطّاه. يرأبه بالتروّي. يتولاه بالعناية والمحبة. أسفار شاقّة لا تسفر عن أيّ وصول إلى النقطة الأبعد داخل النفس.
*
ثمة تصنيف علميّ أغرب من هَرَم «الهو-الأنا-الأنا العليا». افترض رودولف شتاينر أن الإنسان جسدٌ فيزيقي وجسد أثيري وجسد نجميّ و«أنا». مرّ كوكب الأرض بطورٍ شمسي سبقه طور زحليّ. كان الإنسان جسداً فيزيقياً لا يُرى ولا يُلْمَس في مطلع الطور الزحلي. لأن الأرض وقتذاك كانت تخلو من الأجسام الصلبة والسوائل والغازات. كانت مادة كلّ مخلوق هي الحرارة «الأرقّ من الغاز». حَرٌّ حُرّ خلال الطور الزحلي. كان البشر فيه حشداً أصمّ. أعمى. عديم الحسّ. مادته الحرارة والبرودة. كانت أشكالهم دائمة التحوّل. ثم أتت أرواحُ النار لتنفخ الحياة في هؤلاء «البشر» إبّان الطور الشمسي. بدأوا يلمعون كنقاطٍ مشعّة سرعان ما تخبو في سواد الكون اللانهائي.
*
استهلّ علي دراسة منحوتاته الزجاجية بأشكال أولى. نحتها بالسكين من النباتات في كراج بكاليفورنيا. خوذاً تسعاً. حناجر فيروزية وبيضاء مذهّبة الأجواف. مشرشرة الحافات. معلّقة في الهواء بالأسلاك. «وشوماً». بيضوية الأشكال كالصبار. كالقنافذ. فضّضَ أجسادها باللهيب. خشّنَ ملاستها ولم يلوّنها. هذه كلها ألحانه الناشزة بعدما انصهرت. ثم سالت وتجمّدت. الزجاج نبيلٌ مضنٍ. صلب وهشّ. جسد بارد لا يتفسّخ. ذاكرتهُ النار.
وضع نافخ الزجاج خوذةً من الزجاج في مَشغله بموكيلتيو. خوذة سوداء ثقيلة. طرية في تشكّلها الأوّل. قصقصها علي. ذرّ سطحها بلصاقات من بلور. قد تتراءى مثل فرْج ممزَّق إثرَ مخاض مهلِك. صِيغت منحوتات «الوشم» بالمنفاخ والمقصّ أيضاً. بقضيبٍ محمّى وخزَ علي السطحَ اللاهب المنفوخ فورَ خروجه من الأتون. تلى كلَّ وخزة قصٌّ فوري لاستطالة الزجاج بين السطح والقضيب. يستوجب التنفيذ الدقةَ والسرعة والقوّة. هكذا تنتأ نقاطُ التلامس. هكذا وُلِدتْ بيضةٌ شفيفة القشرة. إذا غمرها الضوء عامَتْ فوق بياض ظلّها داخل نفسها. سيرتها اتزانٌ على الحافة. فوق عمود مائل. اللعب على الحدّ مرة أخرى. الأسفل يتوعّد الأعلى. ذكريات السقوط. مخاطر التهشّم.
للمنحوتة سرّةٌ كالثمرة. من هذا الثلم نفخ الزجَّاجُ أنفاسه.
مستقبَل الصُّوَر
ينفخ عازف ناي لحناً رتيباً. داخل مبنى لقوالب الجليد من بداية القرن العشرين في برلين. طوابق البرّاد ثلاثة. أروقته وأدراجه تحيط ببهوٍ مربع. كلّها مبطّنة بثلاثة آلاف متر مربع من قماش أسود كستائر المسرح. يفتح المتفرّجون باباً حديدياً ويدخلون. الموسيقا إياها في كلّ الأنحاء. يتلمّسون الدرابزين إلى أن تتكيّف الحدقات مع هذه العتمة. المباغتة المطبقة. يصعدون داخل غرفة تحميض عملاقة في رأس المكان. ضوء وحيد يسقط من القمة كشعاع مصباح في بئر. يلوح القعر. تضيئه شاشةٌ. مثل تمثال لا تُرى منه إلا قاعدته. يدور مشهد مجهريّ مضخّم بالأبيض والأسود. لا يتجزّأ. لا يبدأ ولا ينتهي. البداية تُضمِر النهاية. كلتاهما تتفانيان. تنطبقان. تذوبان. إذا انطفأ جهاز الإسقاط اختفى هذا التجهيز المسمّى «صندوق الألم».
*
الاختناق يستوقف علي. مرة سمّى مرسمه «مختبر الخيميائي». أعدّ بيديه مستنقعاً في مكان مغلق. سكب ماء محلّى في حوض. ثم سلّط عليه مصباحاً وانتظر. القاع مغطّى بصورٍ من لوحاته وصوره الفوتوغرافية. وجوهٌ أخفاها أصيص. أو أخفاها حذاء. أو أيّ شيء تطاله اليد في مفاجآت العار. قصّها. قلَبها. صفّفها. أعماله تترحّل داخل أعماله بحثاً عن مكان آخر. كأنه مخرج زاهد أمام الوفرة. يضمّن ماضيَه حاضرَه. ينقّل ممثليه القليلين أنفسَهم بين مشاهد قليلة. الواحد متعدّد. قليلٌ ما سوف يُقال. يستلزم قوله وقتاً وفراغاً كبيرين.
*
الآن تلوحُ في قاع الثلاجة القديمة الهائلة سطوحُ لوحات علي المقتلعة من أعماق نفسه. العمق سطحٌ آخر. صورٌ قديمة محجوبة جزئياً بصور أخرى على السطح. عبر الشوائب يلوح الماضي في مكانٍ متخيّل صنعه بيديه. لأنّ هذا ما يحتاج إليه. ضرورة تأنف الشروح. مرورُ الوقت كثّفَ السائل كالهلام الشفيف داخل العين. اللزوجة تحرّف ما ينعكس فوقها. ثمة مِسبارٌ يحاول الولوج كأنه سيمزّق غشاء بويضة. كأنّه إبرة تترنّح مثل عقرب ساعة نفدت بطاريتها. وبِرٌ كساق نحلة. ضربةٌ نزقة تشقّ الفراغ وتُكبَح قبل التمادي. خطوط متقطّعة. قصيرة كشحطة تلخّص الحياة المحذوفة بين رقمين على شاهدة قبر.
*
رأى مستكشف جدولاً سريعاً في سهوب القطب الجنوبي. ألوانه النقية تترقرق كالحرير. ماؤه كثيف كالصمغ العربي. لا يصلح للشرب. لا يعكس شيئاً واضحاً. يحسبه الجاهل ملوّثاً. يملأ المستكشف إناء منه ليمعن النظر فيه. يرى السائل مؤلّفاً من عروقٍ عديدة. لكلّ عِرق لونٌ لا يختلط بِجاره. يُعمل المستكشف سكينه في أحد العروق ويُخرجها. يلتئم السطح على الفور. ثم يغرز النصل بين عرقين متجاورين وينتزعه. طويلاً يلبثُ أثرُ الطعنة.
*
غالباً ما تتعدّد المستويات عند تنفيذ علي أعمالَه. نفسه وعمله الفنيّ مكاناه الخياليان. تتجوّل الحواسُّ فيهما وتتهاوى الذاكرة. ينقّب طبقاتهما. ييأس منهما. يعترضه فيهما راحلون من سلالات شتّى. حيوات غابرة لا يعرف عنها شيئاً. محاريب. هباء مجرات. فتات من عظام الأنباط. بقايا بازلت. طلاسم في صناديق. مرسمه المحترق في غسق جرمانا. ليل بيروت. منعطفات برلين. جيولوجيون يحفرون سفحاً في جبال وهران مكانِ ميلاده. بينهم أبوه العالمُ بالصخور… قد يغتبط علي باللقى. يصعد أدراجاً تلتفّ ولا تتداعى. متمهّلاً عبر ركام اللحظات. عبر طبقات الزمن. يهبط أدراجاً مقلقة. متفاوتةَ العتمة. متفاوتةَ الارتفاعات. يتعثّر بالحُفر والنتوءات. تلمع فكرةٌ ونقيضها وراء ظهرها كالسكين. طنين لا مصدرَ محدّداً له. في أساسات المبنى ينبوعان يضخّان التناقضات. يغذّيانه ولا يهدمانه.
مَن ينجز عملاً فنياً قد يرغب في إتلافه أيضاً. الصانع يبتكر أثراً يمحوه. أثرُه ظهورهُ واختفاؤه في آن معاً. نظرته في ارتطامٍ دائم بالعراقيل. يشحّ الضوء حتى ينعدم. لكن لا بدّ من الاستمرار.
مستقبل الكلمة
عنونَ علي أحد معارضه: بين نعمٍ ولا تطيرُ الأرواح. هذه العبارة جوابٌ من أجوبة الشابّ محي الدين بن عربي على القاضي ابن رشد في الأندلس. ربما استضاء علي بأستاذه مروان قصاب باشي في قراءاته للتراث العربي القديم. غير أنّ الطالب فارق عالم الأستاذ. فارقه باكراً. قبل ليلة وصوله إلى برلين للمرة الأولى مطلع القرن الحادي والعشرين. لدى مروان ركام مهيب من الوجوه يختنق مَن فيه. ربما يختنق مَن يراه. جلال فجائعي مثقل بطبقات من التراب والأقمشة والألوان. المعلّم الراحل أغنى من أغنى بالنصح والرِّفق. لأَم ما لأم. طالبه السابق تقشّف أمام أعباء التفاصيل. لا يريد علي ثراء التعبير بل فقره الفقير. مسعاه أن يحدّد جنون النظرة ويضيّق مضمارها. دأبه توجيه الفراغ عبر الزمن. حيرته الدفعُ بالصمت إلى لغة أخرى. قد تغيّر الكوارثُ المجازاتِ القليلة على كل حال. ما عادت اللوحة صورة. أو مرآة. أو نافذة. أو جداراً… أمست مكاناً ثم جسداً. قد تصير ظلاً أو ضوء عابراً… الواقع فادح وكثير دوماً. مبذول ومؤجَّل. مُتاح ومحجوب. احتلّت الصور جلّ فضاءاته. الحميمة والمشاعة على السواء. احتلال مفتوح للرؤوس في دورات لا تنتهي من التهديد والابتزاز والإخضاع. ليست الصورة مستقبل الكلمة. «الصورة كلمةٌ حيث لا تعود الأنا أنا».
ضوء آخر
ملصقات معرض تيرنر واللون تتوزّع ساحاتِ إِكس أُنْ پروڤانس الخالية بعد ليلة مطيرة. ألوان الملصق نارية الوهج ضبابية التخوم. هوى علي في مطارح أخرى. اجتنب مشاهدَ الحيوانات المتحلّلة لدى التعبيريين الألمان. الغابات الپروسية في لوحات كاسبر دافيد فريدريك أجدى لدروس الاندماج. الندى والدم رازحان بثقلهما على الفنون. لامعان يعفّنان الأفكارَ والصمت أيضاً. ثقيلٌ ما يندى. ثقيلٌ ما يتعفّن. وجهةُ علي الضوء. ضوء آخر في مشغل سيزان. المحفوف بالصنوبرات. وسط الصرير المعدني لأجنحة الزيز. حيث عنفوان الحذف وضرورة الزحزحة. ضياء الظهيرة المتوسطية. المبهر طامس الألوان. يرجرج السطوح. يكسّرها. يخدّد الفراغ. يجفّفه. يلطّخه كالكلس. كل فنان يرسم الصمت بطريقته. رأى سيزان «الوجه كصحن فواكه». حلم برسم الروائح على دروب سانت فكتوار. عاد إلى جبل هذه القديسة مراراً. لا تكرار في أيّ رجوع لأن الوقت يمضي. هذا ما يدركه الحيارى والقلقون. يطمئنون أنفسهم بالترديد: «لا تكرار في أيّ رجوع» فلا يطمئنون.
كتب سيزان أنّ «اللون هو المكان حيث يلتقي الكونُ وعقلنا». ليست درّاقاته كأعناب زيوكسيس لتنخدع العصافير فتتهافت على أكلها. دراقاته صلاتٌ بين المرسوم وعين الناظر. بين أنا متخيّلة وأثرٍ مشبع ببصمات العالم المحسوس.
الخلل
المساحات البينيّة تستغرق علي. الفجوة بين كلمتين. بين نظرتين. لا بد من التجاسر على دسّ ثغرة هناك. لا بد من الحفر هناك حتى ينسلخ العمل الفني عن نفسه. تتداعى إليه الفراغات بين سيقان السنابل في حقول القمح. كأنّه انتبه إلى وجودها للمرة الأولى أثناء رحلة إلى شيكاغو. يودُّ لو تُشطَب فكرة الغياب. الفراغ هو الحضور الحقّ.
يلتقط علي وشاحاً ضائعاً من تحت طاولة مقهى في ساحة ميرابو في إكس. وشاح أسود. رخيص ومثقوب. ربما بجمرة سيجارة. يقول: «لا أريد الدهشة في بحثي عن الوحدة». مستحيل الوحدة في مستحيل المكان. حيث تتّحد المتباعدات والنقائض. يقول: «حركة خفيفة ليدٍ من وراء باب ضخم. قماشة ترفرف ولا تطير. امرأة تحكي معك فيطيّر الهواء شالها فجأة ليغطّي بعض وجهها. أليست هذه معجزة؟» المعجزة منبثَقُها العاديّ. قاتمٌ وخصبٌ ما يدور في اللحظات الفارغة من الأحداث. الأبقى هو المهمَل.
السائل
«وما الوجه إلا واحد غير أنه/ إذا أنت عدّدتَ المرايا تعدّدا». تتبعثر مقتبسات المتصوفة على الجدار الحديدي في مرسم علي. اصطفاها وكتبها بالأزرق بخط يده. ليس بينها ما قاله ابن عربي: «الزمان مكان سائل. المكان زمان متجمّد». المكان يترنّح كالغبار في شعاع الشمس. الزمان يسيل ويسأل ويتسوّل. لا يكون الجواب جواباً ما لم ينطوِ على بذرة سؤال آخر. لأن أيّ سؤال يُطرح يشرع باب الأسئلة إلى الأبد. ثم تُغطَّى الحيرة بستائر ممزّقة من الصور والكلمات.
الهفهفة
يستفزّ الكمالُ الرغبةَ في الانتهاك. صوّرَ علي تيجان الأعمدة في آيا صوفيا أثناء رحلاته العديدة إلى إسطنبول. انقضت أعوام قبل أن يعود إليها في سلسلة «الزاوية البيزنطية». مقتطعاً بالسكين قصاصاتٍ من تلك الصور مكلفة الطباعة. كلّ ضربة ماضية لا تقبل أيّ تصويب. يده بالمشرط فوق الصورة الكبيرة. تقتفي عروقَ الأوراق في زخارف الأعمدة. تكدّ حتى تكاد تحتذي بأيدي الحجّارين القدامى وأزاميلهم. تتراكم المقصوصات عشوائياً في أدراج مرسمه. يقول معلّقاً: «يجب أن تنبت الأشكال من ضرورةٍ ما. دون أن تصير شروحاً. قد يبقى عملٌ ما معلقاً كالذبيحة. أخبئه لأتحاشى أن أراه. كالدوّامةِ استعصاءُ الانفصال عنه. كالعيش مع ميّت. محظوظون بأنّ الصور لا تتفسّخ». يعنيه حُطام الصور الجميلة لا صورُ الجمال المحطّم. ينتقي بضعاً من بقايا ذاك الماضي المترامي ذي الأوصال المبتورة. منتقيات خفيفة كأرياش كبيرة. ثم يثبّتها بالمغناطيس إلى خلفية معدنية مؤطّرة بخشب إسمنتيّ اللون. في زاوية الإطار شريطٌ كثنية الجلد في مخطوطات القرون الوسطى.
يستأنف علي الحديث المتقطّع: «توحّشْ في العمل لكن صُنْ هشاشته. ليست هذه عُلب جوزف بويز. ولا صناديق جوزف كورنل. كلا. لا أرى هنا أجنحة مقطوعة في دُرج شاقولي. لمَ لا تكون طرف ثوب داخل إطار نافذة في بيت طيني اختفى من الوجود؟ أو أي شيء آخر؟ أسطوانات المغناطيس الصغيرة هذه أقوى من البراغي في التثبيت. أزِلْها تسقطِ المعلّقات. ثم يسقط معها الأول والآخر. يتشوّش السابق واللاحق. الأعلى والأدنى. هكذا لا يكتمل العمل أبداً. فوضى هائلة بعناصر شحيحة. في وسعك أن تفكّ المحتوى المقلقل لتعيد تركيبه كما تشاء. لو غُطّي بالزجاج صار منحوتة تستطيع أن تطبع فوقها ما تريد. أودّ لو يُقُتَل السرد. يهمّني العمل الفني بوصفه شيئاً. لا بدّ أن يشير إلى أشياء أخرى حتى أنا قد لا أعرفها. أهذه حذلقة؟» يتساءل علي. ليس هذا سؤالاً ولا تجاهلاً. هذا ردٌّ من ردوده على أساتذة الماضي. وجوب الرفض القاطع. ما عاد الفنان خالقاً لا يجوز المساس بقداسة صنيعه. هذا ولّى منذ عقودٍ طويلة. هنا حرية أخرى مفتوحة على يأس النقصان. مفتوحة على الانعتاق مما أخفق في الحصول. المنتهي لا يكتمل. اليأس مشعّ بالحيوية. يتخبّط العقل بين أرَقِ النهاية ولزومها والعجز عن بلوغها. المعنى ابنٌ لقيطٌ للنهايات. لا يحضر إلا والموت معه. يردف علي: «لا أعود إلى ما أنهيه. العمل إذا انتهى ’انبصق‘. كالسعلة الناشفة». كبصقة الوداع في ختام النقاهة.
صندوق جلجامش
جزيرة المتاحف في برلين. صباح شباطيّ عَصْفُ رياحه ألجأ العصافير إلى سقوف المحطات فملأتها بصيحاتٍ حادّة الأصداء. علي ذاهب إلى متحف برغامون. المبنى كانزُ رُقُمِ الطين الأقدم. ألواح صغيرة نبشها المنقّبون الألمان من تراب ميزوبوتاميا. مُصانة في خزائن من بلور. مثلّمة أو مكسورة أو دارسة الرموز. الأرجح أنّ أولى الكلمات المكتوبة كانت فاتورة لتجارة المواشي. ربما استلهم السومريون تلك الرموز الأولى من نقوش مخالب الطير على طمي الرافدين. اخترعوها قبل تهجير الآلهة من الطبيعة إلى خفايا الخيال.
آوى هذا المتحف بوابة عشتار الشاهقة. ما تبقّى من سور بابل الأزرق حائطُ مبكى المشرذمين في المنافي الراهنة. في استهلال جلجامش صندوقٌ من خشب الأرْز قابعٌ فوق سور أوروك. مشبكه برونزي. فيه تتوارى ألواحُ الملحمة اللازورديةُ. مكنونةٌ فيه سيرةُ جلجامش خاسر الخلود. الحكاية احتوت نفسها. انتهتْ منذ البدء. لعل هذا هو المثال الأقدم على مضاعفة المعاني إلى ما لا نهاية. هاوية الدّوار حين يتبدّى الشيء نفسه داخل نفسه.
أجزاء الملحمة المقروءة حالياً ململمةٌ من مبعثرات الألواح في مدن شتى. ثغرات السطور المفقودة سُدَّتْ بالمتوقّع من لازمات التكرار في أسلوب الأناشيد. ربما استجلى علي في هذه العملية جوانب من أسلوبه. الكسور في أعماله تتمادى والكسور في رُقم الصلصال. يصعد إلى الطابق الأول حيث متحف الفن الإسلامي. مصاحف عتيقة وراء الزجاج مساندها كأجنحة من خشب. القرآن أمُّ الكتب. أزليّ أقدمُ من اللغة العربية. أقدمُ من الخلق. لأنه صفة من صفات الله. مصاحف الأرض كلُّها نسخ. الأصل قرآنٌ أحَد لم يرَه أحد.
السور والهرم
القطعة الأضخم في متحف الفن الإسلامي كتلةٌ صمّاء انصهرت فيها عقائد وأحقاب وأمكنة. بقيةٌ من سور متهدّم لم يكتمل تشييده في قصر المشتى الأمويّ شمال الأردن. طولها 33 متراً. ارتفاعها 5 أمتار. تتماوج المثلثات. متواليةً في رتابة زخارفها كالتطاريز. لعب علي في طفولته بين شبيهات هذه الأوابد جنوب سوريا. إنها جزء من الطبيعة في ذاكرته ومكانه القديمين.
نصب علي عمله المعنون «أنا غريبُ الغربتين» أمام هذا السور الناقص المُقْتَلع من بلاد الشام. كأنّه نبتة مجهولة ظهرت في الجرود بعد عاصفة. لاذ بشكل الهرم الناقص. رسمه في البداية بخيطان مشدودة. تأمّله في الليل. مثل خيمة لا تصلح للسكنى بل للتفكير بالانتقال. مساحتها لا تتعدّى مساحة عتبة. بابها خلفي. لا يكاد ارتفاعها يسمح بالدخول إلا للأطفال. تُوهمهم بأنها من كرتون. يكابد طفل زائر لتطييرها بنفخاته. لكن الهرم المعدني يزن أكثر من نصف طن. جامعٌ بين الرسم والفوتوغراف والكولاج والنحت والعمارة. واجهته من خشب رقيق طبع علي فوقها بعضاً من صوره القديمة الملتقطة لتيجان الأعمدة البيزنطية. الواجهة مرشوقة بقطرات اللحام لا بالرصاص. مثغّرة كالمشربيات. ظلال فراغاتها لا ترقص إلا في الداخل.
المجسّم الرمادي كابٍ وأملسُ أمام خشونة الحجر المتخمة بغبار الزمن. بخسٌ قدام ما لا يُقدّر بثمن. آنيٌّ قبالة التاريخي. أهذا تهكّمٌ بالوقوف على الأطلال؟ أهي الفكاهة إزاء مهابة الجدية؟ أهكذا تتقوّض النسخة والأصل فتتقوّض معهما المحاكاة والأسبقية؟ «أنا غريب الغربتين» مؤقّت. أعزل. مكشوف. مُباحٌ للأصابع. لا شيء يثبّته في موضعه غير وزنه. السور راسخ. مسيّج بحبل يمنع اللمس والاقتراب. كلاهما «غريبُ الغربتين». ناشزٌ. في غير محلّه. على أهبة المغادرة.
*
أيدي الحجّارين الساسانيين حفرت وروداً وطيوراً في سور المشتّى. بينها طير حجري قد يرمز إلى سِيْمَرغ الربوبية. هذا الطير الإلهي ساكنُ جبل قاف. الجبل المحيط بالأرض كالطوق. ثمة طيور تتوارى خلف الدانتيل الحجري لتيجان الأعمدة البيزنطية في آيا صوفيا. المعبد حيث انصهرت عقائد وأحقاب وأمكنة. تراسلٌ عبر السكون. عبر حياد الصمت في قاعة المقتَلعِين. بين الخفيّ في حجارة القصر الأمويّ والخفيّ في «أنا غريب الغربتين». لكن ثمة طير آخر لازم أهراماتٍ أخرى. اندثر مع البائدين من الأميركيين الأصليين. كان ذاك «الطير الغريب» يبني عشه على منحدرات «هرَم الأربعين» شمال أميركا. اضطرره التعشيش الجديد إلى التأقلم حتى تكعّبت بيوضه. ما عادت تتدحرج إلى مأساة مصيرها فور خروجها إلى العالم. باتت مطمع الحطّابين. إذا طالتها أيديهم سلقوها حتى تقسى ليلعبوا بها النرد.
خيانات
المتاحف مُستَقرّ المخلّدين. اصطنعها الأباطرة والغزاة المنتصرون كبغية الطامحين القصوى أمام العبور المريع للزمن. هي معاقل الناجين من الأصلاء والسبّاقين والأوائل والروّاد وفرائد القرون. لكنها كذلك حصونُ الصفوة. مصانعُ التلفيق. تتكافأ في أبّهة صروحها أمجادُ القوّة وعارها. ما يُخلّد هنا بين جدرانها. ما يُرمى إلى النسيان خارجها. وَهْمان سيّان. عتاة المتخصصين بقفازاتهم وعدساتهم يحرسون قدس أقداس العالم المعاصر. خبراء الإمضاءات كخبراء البصمات يفْتُون في البتّ بين العمل الأصيل ومزوّريه. ثمة استثناءات. لم يكن رونيه ماغريت وحده مَن آثر اللوحاتِ المنسوخة على الأصلية. لم يكن يهجو أصحاب السطوة والأثرياء المجهولين. كان يداعب الحقيقة أولاً. الأصل بدوره يخون الترجمة. الواقع يخون الصورة. اللغة تخون الأحاسيس.
سؤال الديمومة مقلوب لدى علي. خافتٌ تشكيكه في الأصالة. انكبابه على اللحظة الآنية. هذا مستحيل. لكن لا محيد عن التوغّل في «الآن». أبعد فأبعد. أو أقرب فأقرب. لا يكفي البطء وحده. لا مناصّ من المبالغة في البطء. الحاضر عنده بشرة الزمن. هنا مَحطُّه. مِحكُّه النظرةُ الأخيرة لا النظرة الأولى. الماضي والمستقبل حاضران آخران متحوّلان. لا يستدعي مَن سيتذكّر عمله في المستقبل. يحاول التفكير بحشود مهولة من الموتى سبقوه إلى الماضي دون أن يسمعوا به قطّ. ما يزول صنوُ ما يدوم. المهدور سندُ القائم. المستباح ظلّ المحروس. كلاهما جزء من الجسد المريض نفسه. جسد السيّد والتابع. الآمر الناهي والمنصاع. البتر نوعٌ من الحلّ.
عين الزمان
توازنات علي قلقة دوماً. ليس لشظاياه صلة بزوايا جوزف بويز. أو بزاوية لوكوربوزييه القائمةِ المتّسمة بالرزانة والهدوء والاتزان. يزحزح علي فكرة المثلث عن ظلّ الجبل وظلّ الهرم. ظلّ الرسوخ والأبدية. هذا الشكل ماثل على نحوٍ آخر في سلسلته محراب. كرأس السهم المشير إلى القِبلة في سجادة صلاة صغيرة. كانت أولى المسكوكات الإسلامية «درهم المحراب» الأمويّ. نقشه الساسانيون بمحراب ساساني الطراز. شاقولي كجسد الإنسان. رصّعوه بالآرامية. سمّى الفرسُ القمرَ «عين الزمان». أي مرآة الزمان. الدرهم والمرآة والحدقة والقمر… كلمة فوق كلمة في فخاخ اللغة. وهمٌ في وهم. أفلتتها كلَّها يدُ علي. المرسوم في النهاية دائرة واحدة. كامدة فوق خشب مخدّشٍ يشفّ كستارة. انفرجتْ قليلاً فانشقّتْ عن سكينة السواد.
مثقال الذرّ
متأنّياً يفتح علي لفافةً في مكتبة بكوبنهاغن. الورق مادتهُ الأحَبّ. يلمَح الناظرون على الطاولة خطّاً محترقاً متكسّراً في فراغٍ أهليلجي مذرور بالفلزّات كسديم مجرّة. كالذرات الراقصة في غمامة انهيار. يتساءل أحد الواقفين أمام الشقّ: «أليس الأفق رتْقَ الفتْق بين السماوات والأرض في القرآن؟» إلى أيّ وجه يسعى كلُّ فنّان ما دامت وحدته حدّه؟ عمله مسقطُ رأسه الأخير. شيئاً فشيئاً تتكشّف اللوحة عن شكل بيضويّ. شقّقه اللهب وأكل بعضاً من خاصرته. الشفير حيث يتعاضّ الداخلُ والخارج. رماد على الجُرف حيث الماضي والحاضر كلاهما يحرِقُ الآخر.
يقول علي إن الداخل في لوحات «الحرف» مقلوبٌ إلى الخارج ككمّ القميص. لوحته مثقوبة كالجيب. معلّقة على الحدّ بين الرسم واللا-رسم. ليس الوجه فيها نائبَ الجسد. إنه مفارقٌ الرأسَ. ساقطٌ كالظلّ المطبوع على كفن أو ستارة. لا معجزات هنا. لا عنقاء. لا قيامات. هذا هو اللا-وجه. الضوءُ فيه ظلُّ الله. لأن الوجه بصمةُ الخالق يدوخُ السائر في انحناءات متاهتها.
يريد علي تعطيل الفنّ. يريد تفريغ اللوحة من نفسها. نأياً عن الغواية ومبدئها التزييني. كمَن ينقش جسداً مادته برودةُ الظلّ وحرارةُ الصمت. يُرمّد هذا الجسد. يُسوّده بالأناة والصبر. ورقة «آرش» تتنقّط بفرشاة من ذنب السمّور. كلُّ نقطة تُفقَد من بياض هذا المجهول تضيع. أيّ قطرة حبر تقع خارج الحدّ تلغي اللوحة. على مهل يكبر شكلٌ مبهم كمُضغة الجنين. هذا الشكل البيضوي بعيد عن هندسة مالڤيتش. كالحمم يُولَد من ذاته دون أن يغادرها. الاضطراب فيه عارمُ الهدوء. الكتمان حافل بالانضباط واللِّين والعشوائية. فيه يتجلّى اكتنازُ الأمومة الأولى. جسدٌ مُغلَق مثل ميم المرآة والموت والمادة والمحبة. يعانق المحدودَ واللامتناهي.
الألوان ثرثرات. الأبيض والأسود رأفة الذاكرة. هُما هجاء الصمت لبطش الوجود. بهما اكتفى علي ومضى في طرقٍ أقرب إلى «الفن الفقير». استغنى ونأى. الأجفّ الأخفّ.
*
العبث ينقذ المعاني من محنتها. يُعدّدها حتى تمّحي. يتعطّل الكلام. علي ماضٍ إلى شفير المحسوسات. من جلاء الجزء إلى خفاء الكل. أو آتٍ من سعة الشتات إلى كثافة البؤرة كمحرق المكبّرة. مصبُّ الضوء كلّه نقطةٌ سوداء محترقة. النقطة أسُّ المكان الهندسي. منتهاه ومنطلقه إلى اللانهاية. قد يرى الناظر من بعيد إلى أعمال «الحرف» ثقوبَ مستحاثّات. ذراتِ عناصر تزوبع في خبايا الجسد. ذوبانَ نواة الثمرة في خشونة قشرتها. سبورةً نقرتها أصابعُ طباشير. رأسَ مِبرد. ترساً عركتْهُ السنوات محاربهُ الرسّام. حلمَ نائمٍ أمام شاشة الماضي الخرساء. المتوقّفة عن البثّ. حيث تتلاطم الإلكترونات مثل بحر متناهي الصغر من الحصى والرماد… قد يرى المقترب نقطةً سوداء وحيدة لطّختِ البياض. النقطة سيرةٌ انتهتْ قبل أن تبدأ. تبدأ حين تنتهي.
لقراءة المقال كاملاً:
Add Comment