كيف تسلّل العنف إلى الأغنية السوريّة
بقلم: هنادي زرقة
جهة النشر: Awan – أوان
لم تقتصر الحرب السوريّة على وضع المنظومة كلها تحت طائلة السؤال، بل قدمت ما يشبه منظومة بديلة، ومارست في فرضها، أحيانًا، عنفًا رمزيًا تجلّى في وسائط عديدة، منها الأغنية الشعبية وأغاني الحب.
لطالما ارتبطت الأغاني الشعبية بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لكل بلد. وفي سوريا، على وجه الخصوص، وإبان التغييرات السياسية والديمغرافية التي حدثت مع نزوح كثير من الريفيين إلى المدن لدخولهم الجيش أو الوظائف المدنية، بدا أنّ ثمة سعيًا سلطويًا حثيثًا لاستقطاب أصوات ريفية ودعمها على شاشة التلفزيون السوري الوطني، برغم تباين جودة هذه الأصوات. نذكر منها فؤاد غازي وسهام ابراهيم وعيسى نعوس ومعين الحامد. لعلّ هذه الأغاني، أو بعضها، اعتُبرت في حينها هابطة قياسًا على الفن الرفيع، لكن هذه الأغاني لم تحمل بعدًا طائفيًا أو تنطوي على عنف.
ثلاثون عامًا قضيتها على الطريق بين قريتي واللاذقية. كنتُ أستقل في الرحلة الواحدة أربع حافلات، أو “سرافيس” كما ندعوها، عدا عن التي تتنقل داخل المدينة ذاتها. وكنت، طوال تلك الأعوام، شاهدة على تردّي الذائقة الغنائية الموسيقية لدى ما يُسمى “شوفيرية السرافيس”، إلى حدّ أنَّ عبارة “مطرب الكراجات” صارت تُطلق على كلّ مطرب هابط. ولعلّ علي الديك وإخوته خير مثال على صعود التردي في الآونة الأخيرة.
كانت الأغاني العاطفية تميل إلى تشبيه الحبيبة بالعصفورة أو الوردة أو الغزال، بل وتدعوها بالملاك. أمّا الأغاني الوطنية فكانت تشحذ الهمم ضد العدو، وتتغنى بالوطن وقائد الوطن، في محاولة من السلطة لفرض منظومتها الثقافية القيمية من خلال “العنف الرمزي”. وما يعنيه هذا الأخير، بحسب بيير بورديو، هو التمرير القسري لأيديولوجيا السلطة عبر اللغة والإيماءت والرموز، وباستخدام وسائل الإعلام وسواها تحقيقًا لمصالح وأهداف سياسية واجتماعية واقتصادية.
حين انطلقت انتفاضات “الربيع العربي”، وتزامنًا مع التغيير الذي اعترى الثورة السورية وتحوّلها إلى حرب استُخدمت فيها كافة أنواع الأسلحة، تسلّلت مفردات الحرب إلى الأغاني الشعبية، ولاقت رواجًا منقطع النظير في الريف وفي المدن. ويبدو أن ذلك كان انعكاسًا لمزاج شعبي احتل فيه العنف مساحات الحب، وغدا التمييز بين لغة الشارع والأغاني صعبًا نوعًا ما، وصارت مفردة “صاروخ” التي يطلقها الشباب على الفتاة المثيرة، في صلب الأغاني. باختصار، اعتلت سلطة الراهن بتجاذباتها لا لغة البيانات السياسية والعسكرية فحسب، بل المزاج الشعبي في تعبيره عن الحب، والأغنيات العاطفية الرائجة.
هل تعكس الأغنية مزاج فئات قنعت بجميع ضروب الإذلال والتجويع والتهميش؟
يرى بيير بورديو، في نظريته عن الإنتاج الثقافي، أنَّ هذا الأخير مُنتج من منتجات دينامية القوة والطبقة الاجتماعية ورأس المال الاجتماعي، حيث يحاول من هم في السلطة تكريس أفكارهم وقيمهم الفنيّة باعتبارها المعيار. وبذلك يكون الإنتاج الثقافي وسيلة لخلق الهويات الفردية والجماعية والحدود الاجتماعية والحفاظ عليها. وهذه المنظومة، بحدودها، وبمتانة بنائها، اهتزّت برمّتها في الحرب. وراح الصراع على الأرض يمضي أبعد من اقتسام الجغرافيا والنفوذ، إلى إعادة تشكيل المنظومة القيمية التي سبق أن بنتها السلطة وسعت إلى صيانتها عبر ترسانتها الثقافية والفنية وتجلياتها في الإنتاج الفني الشعبي، الذي راحت تداخله تعبيرات ومفردات لم يسبق لها أن وجدت في الأغنية العاطفية قبل الحرب.
لا ينبغي أن يتوقّف رصد هذه الحالة عند اعتبارها تأثرًا عاديًا بالراهن، بقدر ما هي اشتباك معه ودليل على تحدٍّ شعبي للمنظومة السابقة وقيمها الفنيّة “الراسخة”. فالحرب لم تقتصر على وضع المنظومة كلها تحت طائلة السؤال والمساءلة، بل قدمت ما يشبه منظومة بديلة، ومارست في فرضها، في بعض الأحيان، عنفًا رمزيًا تجلّى في وسائط وأدوات عديدة، منها الأغنية الشعبية، وحتى أغاني الحب.
في منتصف عام 2014، رأيت في شارع أربعة أطفال يحملون زميلًا لهم مُسجّى فوق أكتافهم، ويصرخون بصوت واحد “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”. وما هي إلا ثوان قليلة حتى عبرت سيارة مسرعة تنطلق منها أغنية “أنت منّك عادية/ يابا هيك المنطق بيقلّي/ متل الطلقة الروسية/ إذا ما قتلتي بتشلّي”. فرّ الأطفال تاركين صديقهم يقع على الأرض. رأيتُ، واختبرت، في تلك اللحظة تخبّط المشاعر بين الغضب والحزن والضحك. رأيت كيف غدت الحرب في ألعابنا وحياتنا وأغانينا؛ كيف يمكن أن تصبح الحبيبة طلقة بندقية سريعة وخاطفة وقاتلة؛ وكيف يمكن أن يردّد البشر ذلك في الأعراس والأفراح، كأن الموت والشلل حادثان عاديان من حوادث الحادث السوري الرهيب.
الجميع ينتظر نهاية هذه الحرب، ليعود العسكري مدنيًا قادرًا على الالتفاف إلى حياته والرجوع إلى الفتاة التي أحبها
الأغنية الأخرى التي نالت رواجًا لا بأس به هي لوفيق حبيب:
اجرحلي قلبي ولا تداوي
ورشّ علييّ كيماوي
بس لا تقلي وا حَبَيْبي
إنك ع هجري ناوي
حاربني بأيّا سلاح
والله ما قلك هونكف
بس ضلك حدي برتاح
وبقضي عمري ممنونك.
يمتلك الحبيب، إذًا، الأسلحة كافة، بما فيها الكيماوية. وهو قادر على إبادة الطرف الآخر الراضي بدوره والقانع بحالة الاستلاب تجاه الحبيب مهما تفنّن في إذلاله وقتله. هل تعكس هذه الأغنية مزاج فئات قنعت بجميع ضروب الإذلال والتجويع والتهميش؟
كان من المألوف، قبل اندلاع الحرب في سوريا، أن يقوم الأهل بشراء المسدسات والبنادق لأطفالهم الذكور في العيد، لا سيما العائلات الفقيرة في الأحياء المهمّشة، وكثيرًا ما كنت ترى أسرًا تُلبس أطفالها الزيّ العسكري. لكن في أثناء الحرب السورية، غدت السراويل المموّهة موضة لدى الذكور والإناث، ما يدفع إلى التساؤل إن كان ثمة قناعة قد رسخت، ولو في اللاوعي، أن مستقبل الأطفال هو الجندية وربما الشهادة. هذا ما ذهب إليه المطرب بهاء اليوسف في أغنية درجت، يغيّر فيها كلمة “سوريا” بحسب المنطقة التي يغني فيها والجمهور الذي يقصده، كأن يضع مكانها “جبل محسن”، لتغدو الأغنية لصيقة بطرف معين ومصدر قوة واعتزاز له وتهديدًا لطرف الآخر:
شبابك سوريا كلّيتا أسودي
اللا ما معو فرد معو بارودي
وعلى دلالك على دلعونا
تراب اللي تحت إجرك كحل العيونا…
لطالما كان الانتساب إلى الجيش سبيلًا لدى الفقراء قبل الحرب. وحين أتت الحرب سيقوا إليها ليغدوا شهداء، وغدا الخروج من الخدمة الإلزامية حلمًا بعد أن أصبحت سبع سنوات وأكثر. هكذا تبرز أغنية حسام جنيد لتعكس حال هؤلاء:
“يا ريتاني عسكري ع الحاجز تحت بيتك
أسهر ليلي ونهاري بس لآخد هويتك
هويتا يا هويتا قوليلا إني هويتا
بكرا هالأزمة بتخلص
بكره الله بيفرجها
بيفرجها برجع
وبإيدي المحباس
أطلب إيدا ولبسها”
أحيانًا، تشي مفردة “الأزمة” بموقف المطرب السياسي والطرف الذي يقف في صفّه. فمن يقول في وصف الحالة السورية “أزمة” هو إما محايد، أو موالٍ (علمًا بأن مفردة “مؤامرة” شائعة لدى الفئة الموالية)، فيما المعارضون يصفونها بـ”الثورة”. لكنّ الاختلاف في توصيف ما حدث في سوريا خلال الأعوام الماضية، لا يمنع من أنَّ الجميع ينتظرون نهاية هذه الحرب الطويلة، ليعود العسكري مدنيًا قادرًا على الالتفاف إلى حياته والرجوع إلى الفتاة التي أحبها. وكم من فتاة انتظرت حبيبها وعاد مُسجّى في تابوت.
هل هذا هو قاموس الحب الجديد، المثقل بمفردات الحرب؟ وكيف يمكن أن تستجيب الذائقة الشعبية حين يعم السلام؟
لكنّ بعض الأغاني جنحت نحو منحى آخر، فجعلت الحب ساحة معركة بين الطرفين، وكلٌّ منهما لديه أسلحته الفتاكة، كما في أغنية محمود القصير “حرب الحبّ”:
اذا حلاكي دوشكا
وبيقتلني برشاتو
الصاروخ الي بشخصيتك
بتبكيكي ضرباتو
اذا عندك طيارة
بتقصفني بنظراتك
مركّب دفاع جوي
بغمزاتي وحياتك
لا تتدللي عليي
تعي نحلا سلمية
…..
ضلي إرمي قنابل
من الضحكات اللقيمة
سلاحك قدام سلاحي
بضحك ماله قيمة
رصاص الأنوثة ناعم
روحي كبّي قناصك
درع الرجولة عندي
بيكسّر كل رصاصك
لا تدللي عليي
تعي نحلّا سلمية….
لا أعرف، بالضبط، كيف يمكن أن يتحول الحب من حالة تناغم إلى قصف جبهات. تبدو الأغنية كأنها تعكس الحرب السورية الواقعية. فكل من الطرفين يستخدم في هذه الحرب الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، لكنهما تعبا ويريدان حلًا سلميًا بعد أن فشل الحل العسكري في إخماد الحرب. هل هي أغنية فحسب، أم رجاء خلاص؟ هل الحب هو مبعث هذه الحرب الدائرة، أم هي شهوة السلطة والامتلاك؟ ألا يبعث سماع هذه الأغنية على الخوف؟
أمّا أغنية “اللي بحبا بعثية” فقد ذهبت إلى مكان إشكالي، هو علاقة حب تنشأ بين فتاة موالية وشاب معارض هو جواد الحبال الذي يقول:
“اللي بحبا بعثية/ خواتا كلن شبّيحا/ عم تخدم عسكرية/ وأخّرولا تسريحا”
فترد عليه الفتاة:
وحياة الهاون وسمتو والصاروخ ورنتو والكيماوي وشمتو حدك رح كون منيحة”
فيجيبها:
مدفع جهنم قلبي، بعتو عالبلكونة،
هالحصار شو بيلبقلي، لما جنبي بتكوني،
ضربيني بميغ وبرميل وبالرمان والفتيل والسكين
وزتيلي هالشريحة”
فترد الفتاة:
“روحي حاجز نظامي
روسية وخفّ رياضة
وعمري كلو بيرخصلك من الحولة للبياضة”
وبرغم الجو الفكاهي الذي يمكن أن تبعثه مفردات الأغنية، كان الفيديو كليب المرافق لها رسالة واضحة عما يحدث في المعسكرين الموالي والمعارض، وانقسام المجتمع السوري حيال ما يجري فيه. إذ إن الفتاة تتجول في مناطق لم يطلها التدمير والقصف بل في مناطق راقية ومترفة، بينما يتجول الشاب في مناطق مدمرة بالكامل.
عندما تكلم الناقد ثيودور أدورنو عن مفهوم صناعة الثقافة، أشار إلى “أن الجماهير ليسوا معيار الحقيقة لصناعة الثقافة، بل أيدولوجيّتها. فصناعة الثقافة توهم مستهلكيها بأنها تكيّف ذاتها مع ردّ فعل الجماهير، بينما في الواقع هي التي تكوّنه وتمنح الجماهير منتوجات متشابهة عدّة تعمل على ترفيههم بدلًا من صدمهم وزعزعة الوضع الراهن”. هكذا، تتماهى الموسيقى وأغنية الحب مع السلطة أيًا كانت، سلطة الدولة أو سلطة الأمر الواقع.
السؤال هنا، هل هذا هو قاموس الحب الجديد، المثقل بالعنف ومفردات الحرب؟ كيف يمكن أن تستجيب الذائقة الشعبية حين يعمّ السلام والطمأنينة قلوب السوريين؟ أم أن الحرب عششت في تفاصيل حياتنا وإنتاجنا الثقافي والمعرفي؟ ومع التسليم بوجود استثناءات سوريّة، لماذا في أماكن أخرى من العالم أنتجوا موسيقى وفنًّا ورواية وشعرًا عظيمًا في زمن الحرب؟
Add Comment