مور لوران
من اليسير قراءة التاريخ في ورق محبّر ناعم الهيئة، مستلقياً على أريكة مورّدة، في يدك كأسٌ من ماء البرتقال الطازج، قد تكلفك القراءة شيئاً من الجهد وأنت تسبح في مخيالك علّك تصل إلى مقاربةٍ تدنيك حقيقةً مما حصل.
أما غير اليسير فهو وجودك في قلب اللحظة التاريخية، لحظةٍ ممتدة، تقلب في عينيك كلّ ما قرأته مسطوراً، تشهده بقلبك ومجمع حياتك، وتدرك حينها المفقود بين السطور، فالمؤرخ تفوته مراراً كتابة العاديّ لأنه عاديّ (إشارة تعجّب).
عشرة أعوام حربٍ مكتملة لي في دمشق تعاصر اليوم المتخيّل ممّا رواه التاريخ: الجوع.
لوحة أولى:
أزور صديقتي في الصيدلية، وسط البلد.
– رح ساويلك آخر كاسة نسكافه من آخر أوقية رح نشتريها.
أصبحت أوقية النسكافه (100 غرام) بقيمة ربع راتب الموظف العادي في الدولة، الطريقة التناسبية أسهل لدينا من متابعة سعر الدولار المرتفع في كل لحظة.
يدخل المريض الأول: سيتامول، الثاني: سيتامول……. العاشر: سيتامول (إشارة تعجب)
أسأل لماذا لا يطلب الجميع سوى السيتامول؟ تجيبني بضحكة متألمة لأنه أرخص دوا، يقنع المريض نفسه أن السيتامول علاج كل داء حتى ارتفاع الضغط وألم المرارة والالتهاب المعوي.
لوحة ثانية:
سيدة أنيقة في منطقة الروضة (منطقة راقية) تدخل إلى الخضري، تختار أرخص نوع خضار وتطلب الحصول على كمية قليلة مجاناً، يرفض الخضري محاولاتها لوضع كمية إضافية.
– هاد اسمه الفقر الأبيض، ستات ساكنين بأحسن البيوت بس ما في مورد، كلنا لبعض. يقول لي الخضري مختنقاً بدمعه الخفيّ.
لوحة ثالثة:
صديقي يأكل كنافة نابلسية أمام محلٍ في عرنوس، رجلٌ نظيف الملبس يلتقط بقايا الحلوى المرمية في سلة القمامة أمام المحل، يشتري صديقي صحن كنافة ساخن ويمدّه إليه:
– شو رأيك تاكل معي كنافة؟
يرفض الرجل بأدبٍ وكبرياء ويمضي مبتعداً بكيسه الممتلئ بالبقايا.
في العام (ألف وتسعمئة وخمسة عشر) ضربت المجاعة برّ الشام، طال عدد ضحايا الجوع الخمسمئة ألفٍ وفق بعض التقديرات. فاتحة المجاعة كانت حصاراً ضربته سفن “الحلفاء” على موانئ سورية ولبنان وفلسطين لتمنع دخول المؤن إلى القوات العثمانية الموالية للألمان في الحرب العالمية الأولى، تلاه حصارٌ آخر من جمال باشا السفاح الذي خشي تعاون أهل الشام مع الحلفاء. آخر الأسباب كان الجراد، الذي تقول الأدبيات أنه أخفى قرص الشمس.
اليوم يحاصرنا الاسم ذاته “الحلفاء”، أولئك حاصروا الموانئ وهؤلاء يحاصرون حتى الفضاء حولنا، واليوم تعاملنا السلطات بالريبة ذاتها التي عامل بها جمال باشا أهل الشام فتمنع ما شاءت منعه، وتبيح للفساد قضم الباقي من القوت. واليوم تهاجمنا الكورونا جراد العصر لترشدنا إلى أحد طريقين، العمل بلقيماتٍ أو الموت جوعاً في الحذر.
تعجّ القراءات التاريخية والآثار الأدبية لمجاعة الشام منذ مئة عام مضى بصور البطون المنتفخة جوعاً، بحكايا عن جثث قضت جوعاً على قارعة الطريق، وزفرات أصمّ العالم أذنه عنها.
لمّا تسير في شوارع دمشق اليوم، تتساءل هل أغفل التاريخ “العاديّ”؟ العاديّ هنا أن توق الجموع الجائعة إلى رغيف الخبز لم يوقف رواد “الماسة مول” عن هواية شراء بنطالٍ بقيمة راتبٍ سنوي لموظف، ولم يوقف استيراد الكاجو وزبدة الكاكاو والأفوكادو مع كل حاجة البنك المركزي إلى الدولار، ولم يوقف حياة المطاعم والبارات يرتادها اليوم أثرياء الحرب والأغنياء الجدد.
إن سألت يوماً كبار السنّ في دمشق عن أيام مجاعة السفربرلك لأشاح ببصره ثم يقول:
– كنا ناكل برغل ناشف بكف إيدنا إذا لقينا، وكنا نغلي ورق النانرج (النارنج) بدل الشاي. ثم يسهم بنظراته بعيداً بعيون فارغة.
تلك العيون الفارغة أراها اليوم لدى خروجها من متجر مواد غذائية حاملة كيساً صغيراً مقابل كيس يماثله في الحجم من النقد السوريّ.
لا مجاعات في العصر الحديث، كذا يقول المنطق لمّا نلوكه داخل عقولنا المثقفة، أمّا الحقّ على الأرض فيقول أن المجاعة المخفية أشدّ هولاً، تطال الجميع إنما بصمتٍ وأناقة، سوء تغذية يودي إلى أمراض لا طاقة لصاحبها على شراء دواء لنفسه، عيون ترقب المواد الغذائية صارخة الغلاء، كبرياء لدى نظيفي الملبس يمنعهم من الاستجداء. قد تدعى هذه المجاعة يوماً بالجوع الأبيض، تموت جوعاً لكن على سريرك الواسع كما يقتضي التطور البشريّ الأنيق وليس على قارعة الطريق.
المجاعة سائرةٌ حثيثاً، لا ورق منمّق نقرؤها منه، لكنّا لم نزل نراها ونشيح البصر لنصدق كتبنا على الأرائك المورّدة.
المصدر باللغة العربية: https://asostudies.com/node/200
Add Comment