حرية المرأة بين الخصوصية الثقافية والآفاق الإنسانية
بقلم: ميادة كيالي
جهة النشر: مؤمنون بلا حدود
في البداية، أتقدم بالشكر على فسح المجال لي بالمداخلة بين أساتذة كبار، وهذا شرفٌ كبيرٌ حقيقة، ولابد من أن أحيي من هذا المقام بتحية خاصة المشاركات العزيزات المتميزات، وأن أقول لهن بأنني فخورة بكل إنجازاتهن، وبأن أي نجاح تحققه المرأة العربية هو نجاح أفرح وأعتز به، ويزيدني تفاؤلاً…
اسمحوا لي، أن أنطلق من أرض الواقع من حوادث أسوقها بدايةً كمدخل، أما الحادثة الأولى، فقد حدثت مع صديق من الناشرين في معرض الرياض الدولي للكتاب، حيث روى لي كيف أنه كان يقف في الجناح الخاص بكتبه، حين دخلت سيدة سعودية تتلحف السواد من رأسها لأخمص قدميها، وكان من الطبيعي أن ترفع عن وجهها الخمار، لتستطيع قراءة وتصفح العناوين، وما هي إلا لحظات قليلة، حتى مرّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ليسقط عليها جام غضبه ويقول: “تستري يا حرمة يا اللي ما تخافين الله، تستري يا اللي راح تروحين النار، يا اللي راح تكونين حطبة من حطبات جنهم….” طبعاً إلى آخر السلسلة غير المنتهية من أنواع العقوبات التي تفنن هو وأمثاله بترديدها على مسامع السيدات، وهنا المرأة سارعت كما روى الصديق لكي تغطي وجهها، وهو يقف هناك من غير أن ينبث ببنت شفة، إلى أن رحل الآمر بالمعروف إلى فريسة أخرى يتصيدها، فما كان من الصديق العزيز إلا أن نطق ببعض الكلمات تعبيراً عن انزعاجه وتأثره للموقف المخزي الذي تعرضت له المرأة، فقال:”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل“، ولكن المرأة حين سماعها لتلك الكلمات ردت عليه بقساوة أكبر من تلك التي تجرعتها قبله فقالت: “ولماذا تتعوذ بالله، وتتنكر لما فعله هذا الإمام، الحق علي، فأنا خالفت شرع الله والحمد لله أنه جاء في الوقت المناسب ونبهني، هو يخاف علي من نار جهنم ومعه كل الحق بردعي …” ولم تعد تسكت دفاعاً عن سجنها وسجانها.
والحادثة الثانية حصلت معي شخصياً، فقد كنت الشاهدة على اتفاقية أبرمت في مجال عملي، وكان من المفترض أن تُصدّق هذه الاتفاقية من قبل كاتب العدل، وكما يقول المنطق القانوني فإن مهمته تكون فقط بالشهادة على أن من وقع هو نفس الشخص ويحمل نفس الاسم، مع حضور الشهود، ومنهم أنا!!. ولكني تفاجأت بأن كاتب العدل شطب اسمي ودون أن يسألني، وطلب من رجل آخر موجود في القاعة أن يضع جواز سفره ويشهد، نظرت إليه واستغربت وصمتت، لأنني في حضرة ممثل الإله على الأرض، وكانت صدمة بالنسبة إلي، فأنا مهندسة وسبق لي أن أقسمت قسم الهندسة، لأنال شهادة البكالوريوس عليها وبذاك القسم أتحمل مسؤولية توقيعي على كل المشاريع، والتي فيها حياة الناس وأمنهم، وأنا مديرة في عملي أوقع آلاف الأوراق الرسمية وأتحمل مسؤوليات ضخمة، وأي عمل أحاسب عليه من خلال توقيعي، وأنا أم وأربي أولادي وأوقع آلاف التعهدات عنهم أمام المدارس والدوائر الرسمية كوني المسؤولة والكافلة لهم، ثم بعد كل هذا، يشطب توقيعي الرسمي على أوراق كنت الشاهدة بكل ما فيها من أولها إلى آخرها…فقط لأنني امرأة…!
سؤال طرحته من خلال حائط الفيس بوك… “هل المرأة ضحية مجتمع، أم فقه، أم ذكورة، أم ضحية نفسها؟“.
وتنوعت الأجوبة عليه من تعقيب على أنها والرجل في المحنة سيان، وآخرون قالوا بأنها ضحية كل ما ذكرت، ولكن وبلا شك فقد اتفق الجميع على أن اللاعب الأساسي في قضية المرأة هو الموروث الديني من جهة، ومدى تمكنه من الدخول في عقلية المرأة المعاصرة وسيطرته عليها بمقابل ترويج الرجل له لمزيد من المكاسب الذكورية من جهةٍ أخرى…!!
عقدة المنشار في أية عملية إصلاح ديني ستكون المرأة بالتأكيد، ومشكلتنا تبدأ أولاً من المرأة ذاتها ومدى إيمانها بضرورة تحررها؛ فللأسف أصعب المواجهات في التغيير تصطدم بما اعتادته من خنوع وما استهوته روحها من حياة التبعية، أضف إلى ذلك تآلفها مع صورتها النمطية في عالمنا الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً، والذي لا زال يرزح تحت هيمنة الذكورية في التفكير ولا تزال المرأة فيه بمرتبة أقل إنسانية من الرجل، وفي حين أنها قطعت أشواطاً في مجال التعليم والعمل، إلا أنها لا تزال تعيش ضمن شرنقة من العادات والتقاليد والتشريعات، حيث لا يمكنها إلا أن تبقى تزحف دون أن يُفسح المجال لأجنحتها لتطير، وإن حصلت معجزة وطارت، ستتلقفها ألسنة اللهب وتحرق أجنحتها من جديد .
هناك إذا مشوارٌ طويل من العمل، والكثير من العقبات، فإلى الآن إن نجح المجتمع في زرع بذور التغيير ستقتلها المرأة، عندما لا تعي بأنها بحاجة لأن ترعى هذه البذور اليوم لتحصد ثمارها غداً، وعلى النقيض عندما تنجح المرأة في استنبات تلك البذور في مجتمع لا يتفهم، ستجد نفسها في ظروف صعبة من القحط لا يسمح مخزونها الجوفي لتحمي بذورها وتتابعها حتى تثمر .
إن طرح أية مسألة إصلاح وتجديد إسلامي، لا بد وأن يبدأ بقضايا المرأة وبحقوقها، ولكن وحتى تكون البداية واضحة يجب أن ننطلق من مبدأ واضح، وهو بأن ما نحتاجه في مجتمعاتنا على تنوع ثقافاتها هو إعادة موضعة وتوصيف للعامل الأكثر تعقيداً، وهو موضوع الجنس، حيث الهاجس الجنسي كان ولا يزال حاضراً بقوة في كل ما يتصل بعلاقة الرجل بالمرأة في الموروث الديني تحت عناوين شتى، منها: سد الذرائع، إلى الفتنة والفساد بلغة الأصوليين، أو الحفاظ على قيم وهوية المجتمع بلغة الإسلاميين المعاصرين.
لابد من تصحيح نظرة المجتمع للجنس ونظرته لعلاقة المرأة بالرجل، لنتكلم بعدها عن حقوق وواجبات، منذ شهر أو أكثر سمعنا جميعاً عن حادثة الانتحار التي أقدمت عليها فتاة مغربية بعمر الـ16 عاماً، بعد أن أُرغمت على الزواج من مغتصبها، وبغض النظر عن ظروف هكذا زواج والعرف المتبع أو وكما ما قيل لي: بأن هناك من تدعي على الرجل بأنه اغتصبها لتجبره على الزواج منها، ولكن القانون موجود، وهو يسكت عن جرم اغتصاب، ويقبل بزواج الجاني من الضحية، أطلقتُ صرخة يومها وطالبت أصحاب الدراسات الإسلامية بأن ينظروا إلى آيات الزنا، ويعيدوا دراستها، فليس من العدل أن يضع الله عز وجل عقوبة على زانٍ فعل ما فعل بمحض الإرادة ويُترك المغتصب الذي استلب الضحية وشوه انسانيتها بحيوانيته.
نحن لليوم مثلاً، لا نعترف بأن الرجل الذي يمارس العلاقة الجنسية مع زوجته دون إرادتها يعتبر مغتصبا، فإن كنا لا نبدأ من هنا فلن يكون لأي طرح إصلاحي لحقوق المرأة معنى، فمن لا يعترف بحق المرأة في امتلاك جسدها ومشاعرها لن يعطيها أياً من حقوقها الإنسانية.
قوانين الزواج والطلاق، تحتاج إلى إعادة نظر من عدة نواحٍ، ونعود أيضاً إلى موضوعة الجنس التي تفرض نفسها؛ فالزواج بكل أشكاله إلى الآن يعتبر من صلاحيات الرجل وامتيازاً له، والطلاق كذلك، وإن صادفت الرجل أية مشكلة عاطفية في حياته، فعنده الحلول واسعة من خزينة مجتمع لا تخلو من حلول ترضي ذكوريته” مثنى وثلاث ورباع، وملك اليمين، والمسيار، والمتعة، و….. “، وهو محمي بغطاء واسع من الفتاوى. أما الطلاق، فهو امتياز وورقة رابحة في يده يرفعها متى يشاء ويتوعد بها متى يشاء، والمرأة فرحت بعد سنين من الجهاد بأنها صار من حقها أن تخلعه… جميل، ولكن هل الطلاق يشكل عبئا على الرجل أو يكسر من رجولته أو يحمله ما لا طاقة له به، الجواب على الأغلب لا. أما المرأة المطلقة، فمصيبتها متعددة الوجوه والجوانب، وأين الحفاظ على مفهوم الأسرة في عرفنا، ومن قال بأن انفصال الزوجين عن بعضهما عاطفياً وجسدياً، يعني تنصل أحدهما من رعايته لأبنائه كما لو أن الزواج لا يزال قائماً، لماذا لم نشرع حتى الآن قوانين تحمي أبناءنا، فلا يكونوا ضحايا الزواج الفاشل؟ ولأننا لا ننظر للزواج أو الطلاق إلا من زاوية الجنس فقط، نرى أن اسم العقد في بعض البلدان العربية هو عقد نكاح، أو إذن نام …!!!
إلى اليوم المرأة تعيش تحت وصاية الرجل، مهما كبر وعلا شأنها إلا ما ندر، وهنا يصبح السؤال عن جدوى السؤال عن كيفية الإصلاح، ولا زلنا نتكلم بنَفَسْ السلملك والحرملك وباب الحارة…
رجل سعودي اتصل ببرنامج بانوراما منذ أسبوع، ليسأل الشيخ المفتي عن حل لمشكلته، وهي أن زوجته أرادت السفر من جدة للرياض أو العكس لزيارة أهلها، ولكنه رفض فذهبت من دون إذنه، وتركت له رسالة تقول له فيها: “سامحني وادع لي فأنا على سفر“، وسأل الشيخ ما هو بفاعل، فكان الجواب كما يلي: “لو كنتُ مكانك لطلقتها طلقةً أولى تأديبية“، فما كان من الرجل إلا وطلق زوجته على الهواء مباشرة…؟
في مصر، سادت شائعة بأن أحد أعضاء مجلس الشعب السلفيين يريد شرعنة ما يسمى بمضاجعة الميتة، فإن توفيت للرجل زوجته، فيمكن له أن يودِّعها بست ساعات من المضاجعة… إنه لأمر تقشعرُّ منه الأبدان؛ فبعض الحيوانات لا تقترب من الجثث ولا تأكلها وتعافها، فأي رقي يملكه هذا الحيوان عن بعض ما يجول في عقولنا؟
ومن خلال متابعتي لبعض المنتديات على النت، أتلمس عمق الهوة بين المجتمع المدني والفكر الديني السائد، نحن اليوم نعيش في عالم ويعيش الفقه والتشريع في عالم آخر، والسؤال إلى متى نبقى نعود في أمور حياتنا اليومية إلى الفتاوى؟ هل بالإمكان أن نخرج من تحت عباءة الفقه، لنلتقي تحت مظلة قوانين وضعت بناء على دراسات وإحصاء وتجريب؟، وهل ممكن أن نقبل بأن تتحفنا باحثة بالشؤون الأسرية كأمثال الإماراتية “وداد لوتاه” بكتاب عن سر السعادة الزوجية تعتمد فيه على أحاديث ومرويات وتجارب الصحابة والتابعين في حياتهم الجنسية لتقول لنا ما يصح وما لا يصح؟ مع أني أشجع فيها شجاعتها وجرأتها ونداءها للحديث عن موضوع جوهري كهذا بشكل مفتوح على الإعلام، وحثها على ضرورة التوعية في المدارس وموضوع الشذوذ والعلاقات غير السليمة، وقد يكون تغطيتها لوجهها وظهور عينيها فقط، قد ساعداها على مواجهة المذيع تركي الدخيل الذي لم يستطع إخفاء حمرة وجهه عن الجمهور، وهو الرجل والإعلامي، وأكرر أن ما طرحته هو موضوع في غاية الأهمية، ولكن أن تعتمد في دعم موقفها على الأحاديث والسنة، هذا ما لا يمكن تقبله وبيننا وبينهم قرون من حياة تطورت بكافة أشكالها ومفاهيمها، وتطور معها الإنسان في أحاسيسه ومشاعره. طبعاً، قالت: بأنها اعتمدت على كتاب الله، ولكن لم أجد في كتاب الله عز وجل ما هو مسموح وممنوع في العلاقة الجنسية باستثناء موضوع المحيض…
لابد من إعادة تصحيح تصورنا عن مؤسسة الزواج ودورها وأدوار كل فرد فيها؛ فهي مجتمع صغير يصح فيه ما يصح في المجتمع الأكبر، فمثلاً كيف أتصور سيدة تخرج تنادي بإسقاط النظام في الثورات العربية، وهي غير قادرة على إسقاط الذكورة المتمكنة من زوجها، والذي زادها تمكيناً استجابتها هي ورضوخها، ساءني جداً مشاهد الثورة في اليمن والسيدات لا يظهر منهن إلا عيونهن، ويقلن بأن الثورات الحالية ربيعاً عربياً أي ربيعٍ هذا؟ والمرأة لم تنضج بعد حد الإثمار، ولا تزال في سباتها الشتوي، تتربع ملكة على عرش الرجل الذي يتغنى ويفرح بنفسه “نحنا ما عنا بنات تتوظف بشهادتها، عنا البنت بتدلل وكلشي بيجي لخدمتها“… فإذا كان سقف طموح المرأة أن يأتي كل شيء لخدمتها، فلن يفيد منبرنا هذا في أي شيء، وأنا أقولها لكم جميعاً، ما لم تتحرر المرأة ويكتمل نضوجها الفكري وتحس بنفسها مساوية بالشكل الكامل للرجل في الحقوق على اختلافها، فلن تكون هناك فائدة من أية عملية إصلاح، ولا تغيير ولا ثورة حقيقية.
احتراق البوعزيزي شكل فتيلاً لحرائق لم تنطفئ حتى الآن، واليوم لا نريد إشعال حرائق تأتي على الأخضر واليابس، نحن نريد بُعداً آخر لحياتنا قائماً على الشعور بالأمان؛ فتحرر المرأة من التبعية وشعورها بالاستقلالية ووعيها لذاتها ولدورها، سيكون ملح الحياة الاجتماعية يعطيها طعما افتقدته منذ أن أصبحت جارية والرجل سيداً.
العمل أولاً وأخيرا، يجب أن ينطلق من المرأة ويجب أن تعي ذاتها وتعي مكانتها، من خلال برامج تغذي فيها الاستقلالية وتغذي فيها الثقة بالنفس وبالقدرة، وتنزع من عقليتها مفاهيم الشرف والعرض والعادات والتقاليد البالية التي تحكم حياتها تحت مظلة دينية. ولا بد من أن يكون التحرك على مسارين؛ ففي رحلة الإصلاح الديني يجب أن نبدأ بكل ما يخص المرأة من فقه يكبل حريتها ويمنع تحررها ويكرس تبعيتها، وفي رحلة الإصلاح الاجتماعي يجب ألا يكون هناك دائماً حلان في التشريع حل ديني وحل اجتماعي، قوانين الطلاق والزواج وكل ما يتعلق بالأسرة، يجب أن تسحب من يد المؤسسة الدينية، لتكون في عهدة المؤسسات المجتمعية وتخضع لمحاكم مدنية تضع في اعتبارها الظروف الحياتية كلها، حيث لا يكون التشريع في عالم والحياة الحقيقية في عالم آخر.
أتمنى أن يكون منبرنا هذا سراجاً لطريق العمل على تحررنا نساءً ورجال، وأنا عندي إيمان لا محدود بالمرأة، وبأنها قادرة على صنع التغيير وقادرة على المواجهة وقادرة على الصمود، وعندي إيمان أكبر بالرجل رفيق الدرب، لأني على يقين بأنه عاف دور سي السيد، ولا يريد جارية يمارس عليها غطرسته، بل هو بحاجة لصديقة ورفيقة وبحاجة لملح طعام ينكه حياته، وإن كان أحياناً يتسبب في رفع الضغط…