تأثير جائحة كوفيد-19 علي الصراعات المسلحة العربية: دراسة مقارنة لحالتي سوريا وليبيا في الفترة من (2020-2021)
اعداد : سهيله احمد- سعيد ابراهيم
جهة النشر: المركز الديمقراطي العربي
المقدمة :
لقد مر علي العالم الكثير من الأمراض المعدية والأوبئة التي هددت العالم وشكلت مخاطر تهدد بقائه واستقراره ، حيث أن هذه الأوبئة لا تؤثر فقط علي صحة الإنسان وحياته ، ولكن يمتد تأثيرها إلي مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية بل والسياسية والأمنية. وقد بدأ منذ الستينيات ظهور مسببات الأمراض المعروفة مرة أخري مثل الملاريا والكوليرا والسل ، ليس ذلك فقط بل وإزداد ظهور العديد من عوامل الأمراض غير المعروفة مسبقاً.
وقد ساعد علي ذلك العديد من العوامل مثل الاضطراب البيئي وإزالة الغابات ، السفر والتجارة العالمية ، تزايد معدلات الهجرة والتنقل البشري ، تغيير الممارسات الزراعية ، النمو السكاني وزيادة الكثافة الحضرية ، وإساءة استخدام الأدوية المضادة للميكروبات ، والفقر ، وغيرها من العوامل التي تساعد مسببات الأمراض علي التفاعل والتحول والانتشار علي مسافات واسعة ، وقد بدأ العالم في الاهتمام بهذه الأوبئة ووضعها علي جدول أعماله نظراً لما تمثله من خطورة وتهديد علي مختلف مجالات الحياة ، وخاصة السياسية والأمنية منها.
وعندما ننظر إلي المجال السياسي العالمي نجد إنه ليس دائماً مستقر ، نظراً لما يحتويه هذا المجال من تعقيدات تنبع من تداخل المصالح والاهتمامات ، مما ينتج عنه وضع يتميز بوجود العديد من الأزمات والشد والجذب بين مختلف أطرافه ، كما يتميز بالعديد من النزاعات والصراعات التي تهدد استقرار العديد من مناطق العالم ، وبالتالي فإن ظهور الأزمات الصحية متمثلة في الأوبئة العالمية والأمراض المعدية علي مر الزمان في عالم يتسم بعدم الاستقرار أساساً وبه أزمات عدة كان له تأثير علي الاستقرار السياسي في العديد من دول العالم ، وإن كان هذا التأثير بشكل غير مباشر أو واضح بعد.[1]
وتتسم المنطقة العربية بكونها من أكثر المناطق التي شهدت العديد من النزاعات والصراعات المسلحة بأشكالها المتعددة علي مر العقود ، وهذه الصراعات المسلحة والخلافات النشطة والكامنة نجدها علي امتداد المنطقة العربية ، وقد إزدادت حدة هذه الصراعات بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة ، كما إنها أصبحت أكثر تعقيداً وتداخلاً نظراً لتعدد الفاعلين أصحاب المصالح بها ، من فاعلين محليين وإقليميين إلي فاعلين دوليين مما كان له أثره الخطير علي استقرار الأوضاع في المنطقة العربية ، هذا إلي جانب آثاره الخطيرة علي كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية وأكثرهم خطورة السياسية والأمنية ، حيث أدت إلي تعميق عدم الاستقرار الإقليمي ، وتهديد الأمن القومي.[2]
وفي ظل أوضاع كهذه تتسم بعدم الاستقرار أساساً كان من الطبيعي أن يكون للأوبئة والأمراض المعدية أثرها الواضح علي المنطقة العربية ، سواء كان هذا الأثر مباشر أو غير مباشر ، إيجابي أو سلبي ، وهذا الأثر يعود إلي ما تعاني منه هذه المنطقة من ضعف ونقص في الإمكانيات وقدرات الدول مما يحد من قدراتها علي مواجهة هذه الأوبئة ، الأمر الذي يزيد من حدة الآثار المترتبة عليها في مختلف المجالات ، ونظراً لما تشهده المنطقة العربية من صراعات مسلحة في العديد من دولها ، فمن الممكن أن تمتد آثار هذه الأوبئة إلي مناطق النزاعات والصراعات المسلحة هذه ، مما قد يؤثر علي مسار هذه الصراعات بالسلب أو الإيجاب.
وفي ديسمبر 2019 بدأ فيروس كورونا المستجد في الظهور بمدينة ووهان الصينية ، وسرعان ما بدأ بالانتقال إلي كافة أنحاء العالم ، إلي أن أعلنت منظمة الصحة العالمية في 11 مارس 2020 تصنيف هذا الوباء علي إنه جائحة عالمية ، وهو ما يوضح خطورة هذا الوباء الذي بات يمثل تهديداً حقيقياً للعالم أجمع ، فقد تسبب في مئات الملايين من الإصابات وملايين الوفيات حول العالم ، وشهد العالم فترة من الإغلاق الكلي والجزئي في سبيل مواجهة هذه الجائحة ، مما أسفر عن العديد من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، كما أن آثاره قد طالت كافة المجالات والأصعدة.[3]
وقد كانت المنطقة العربية في هذه الفترة التي انتشر بها وباء كورونا تشهد العديد من الضغوط والتحديات المختلفة ، وبالتالي فإن انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد في المنطقة علي نطاق واسع سوف يكون له العديد من التداعيات الاقتصادية والسياسية والأمنية ، حيث إنه سوف يساهم في إبراز العديد من المشاكل القائمة بالفعل ، وزيادة التحديات التي تواجهها المنطقة مما يمكن أن يؤدي في النهاية إلي المزيد من زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة التي تعاني من الاضطرابات وعدم الاستقرار من الأساس ، وما يزيد الأمر صعوبة هو احتمالية أن يساهم الوباء في تصعيد وتفاقم الصراعات القائمة بالفعل في العديد من بلدان المنطقة العربية.[4]
وتعد كل من سوريا وليبيا من أكثر البلدان العربية التي تشهد منذ ما يقرُب لعقد من الزمان صراع مسلح حاد ومعقد ، حيث أن الصراع المسلح الذي اندلع في سوريا منذ عام 2011 [5]، وفي ليبيا منذ عام 2014 لا يزال مستمراَ حتي الآن ، وبالتالي فإن تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد ووصوله إلي كلا البلدين ، وتأثيره علي الأطراف الفاعلة في هذه الصراعات القائمة من شأنه أن يكون له تأثير علي الأوضاع بكلا البلدين ، أو حتي سوف يضيف بعداً آخر للديناميات الموجودة مسبقاً في هذه الصراعات ، كما يمكن أن يتم استغلال الجائحة من قبل الأطراف المختلفة المتداخلة في هذه الصراعات مما يزيد من تعقيد الأوضاع. [6]
ولهذا فإن هذا البحث عَني بدراسة تأثير جائحة فيروس كورونا المستجد علي الصراع المسلح القائم في كل من سوريا وليبيا ، والمقارنة بين الحالتين لمعرفة ما إذا كان لهذه الجائحة تأثير علي الأزمة وأطرافها والصراع المسلح القائم في كلا البلدين ، وذلك نظراً لكون كلتا الأزمتين من أهم الأزمات التي تمثل تحدياً وتهديداً ليس لأمن واستقرار الدولتين السورية والليبية فقط بل لأمن واستقرار الوطن العربي ككل ، وسوف نتعرف في النقاط التالية علي المشكلة والسؤال البحثي الذي يسعي هذا البحث للإجابة عنه ، وكذلك توضيح الإطار النظري والمفاهيمي والمنهج الذي يقوم البحث وفقاً لهم ، للانتقال بعد ذلك إلي تقسيم البحث إلي فصول ومباحث سوف يتم من خلالها مناقشة القضية محل الجدل للإجابة علي التساؤل البحثي الرئيسي.
- المشكلة البحثية :-
علي الرغم من أن العلاقة بين الأوبئة والصراعات المسلحة لا يزال هناك الكثير من الجدل والنقاشات حولها ، كما إن هذه العلاقة ليست دائماً واضحة ، إلا أن هناك افتراضات اليوم عن وجود صلة سواء مباشرة أو غير مباشرة بين الأوبئة والصراعات المسلحة من قبل العديد من الباحثين وصناع السياسات ، ولكن هذه العلاقة قد يكون لها تأثير إيجابي أو سلبي ، بل ويمكن أن لا يكون لها أياً منهما علي أرض الواقع ، ولكنها تعمل علي خلق بعد وعامل جديد يضاف إلي الديناميات الراهنة في الصراع المسلح.
حيث إنه وبالنظر إلي جائحة فيروس كورونا المستجد نجد إنه يمكن أن تكون عامل سلبي يعمل علي زيادة تفاقم الأزمات وحدة الصراعات في المنطقة العربية ، حيث إنها قد تُزيد من مخاطر العنف وعدم الاستقرار ، كما أن هشاشة الدولة وعدم قدرتها علي مواجهة الجائحة بالشكل الملائم قد يساهم في خلق الفرص والحوافز لدي المواطنين للمشاركة في العنف الجماعي ضد هذا الوضع القائم ، كما قد يحاول كل طرف استغلال الأزمة الصحية لتحقيق مصالحه مما يزيد من حالة الاستقطاب السياسي واحتمالات العنف ، مما قد يؤدي في النهاية إلي التأثير بشكل سلبي علي الاستقرار السياسي للبلدان الهشة ، وكذلك تصعيد الصراعات العنيفة بداخلها.
كما إنه في ذات الوقت قد تُتيح جائحة فيروس كورونا المستجد الفرصة للتوصل لحلول للنزاعات القائمة ، وإعلاء الإنسانية وصحة الإنسان علي الاعتبارات السياسية ، وبالتالي يُمكن أن تساهم الجائحة في خلق فرصة لزيادة التعاون الإقليمي ، والعمل الجماعي من أجل الوصول إلي الحكم الرشيد ، وتغيير مسار النزاعات المسلحة في اتجاه الحلول السلمية والمفاوضات.
https://googleads.g.doubleclick.net/pagead/ads?client=ca-pub-5221881838831149&output=html&h=280&adk=1592338563&adf=2842264951&pi=t.aa~a.489171089~i.33~rp.4&w=720&fwrn=4&fwrnh=100&lmt=1692688136&num_ads=1&rafmt=1&armr=3&sem=mc&pwprc=5993473712&ad_type=text_image&format=720×280&url=https%3A%2F%2Fdemocraticac.de%2F%3Fp%3D83080&fwr=0&pra=3&rh=180&rw=720&rpe=1&resp_fmts=3&wgl=1&fa=27&uach=WyJXaW5kb3dzIiwiMTAuMC4wIiwieDg2IiwiIiwiMTE2LjAuNTg0NS45NiIsW10sMCxudWxsLCI2NCIsW1siQ2hyb21pdW0iLCIxMTYuMC41ODQ1Ljk2Il0sWyJOb3QpQTtCcmFuZCIsIjI0LjAuMC4wIl0sWyJHb29nbGUgQ2hyb21lIiwiMTE2LjAuNTg0NS45NiJdXSwwXQ..&dt=1692687888686&bpp=4&bdt=2794&idt=4&shv=r20230817&mjsv=m202308210101&ptt=9&saldr=aa&abxe=1&cookie=ID%3D154ed2106260301c-22675bf64ee00024%3AT%3D1692687887%3ART%3D1692687887%3AS%3DALNI_MYHH2bnPbxpu8QKb-7p9lci6oUQQw&gpic=UID%3D00000c8b57a9fc48%3AT%3D1692687887%3ART%3D1692687887%3AS%3DALNI_MatAp_AC6YHLvUpOfiNE3uVaL4diQ&prev_fmts=0x0%2C1200x280%2C720x280%2C720x280%2C1519x747%2C1005x124%2C720x280&nras=8&correlator=1126677266118&frm=20&pv=1&ga_vid=1474150492.1692687887&ga_sid=1692687888&ga_hid=271342960&ga_fc=1&u_tz=180&u_his=1&u_h=864&u_w=1536&u_ah=824&u_aw=1536&u_cd=24&u_sd=1.25&dmc=8&adx=594&ady=4672&biw=1519&bih=747&scr_x=0&scr_y=1687&eid=44759876%2C44759927%2C44759842%2C31077087%2C31077092%2C31077148%2C42531706%2C31077288%2C44800658%2C44799571%2C21065724%2C31067146%2C31067147%2C31067148%2C31068556&oid=2&psts=AOrYGsl_lnheUdUyfqN819XtVY5JW3Zfy_AtWncueHvPenJk-LUfMOAEfXkP8bOcVlZShjcng3yGfagxXZa79pUKUbzd%2CAOrYGsmyXjOzH46ORTctFBuJTI1XN6KDDo9fZ99cf0CJnnivgtqojZVXLquHosqOmyGz_BqNwgega2zlHaodFm7zkigKbgxaRUHuw0PYbLIDJgBj63g%2CAOrYGsmqLWtVJJDRx8o5P93t-Qn2syk3LOQcIIEt0bhZ8YsbsTme00pqXc_AfyKH0t1ZdXmMCGtMflOTrCWYOmitCGnBwMTK&pvsid=110182333277080&tmod=1308764294&uas=3&nvt=1&ref=https%3A%2F%2Fwww.google.com%2F&fc=1408&brdim=0%2C0%2C0%2C0%2C1536%2C0%2C1536%2C824%2C1536%2C747&vis=1&rsz=%7C%7Cs%7C&abl=NS&cms=2&fu=128&bc=31&td=1&nt=1&ifi=7&uci=a!7&btvi=5&fsb=1&xpc=md5V4rkGrX&p=https%3A//democraticac.de&dtd=M
كما إن الجائحة قد لا يكون لها تأثير إيجابي أو سلبي علي أرض الواقع في مناطق الصراعات علي وجه الخصوص ، ويكون تأثيرها هنا في كونها أضافت بُعداً جديداً سوف يتفاعل مع غيره من العوامل والأبعاد القائمة في أرض الصراع ، مما قد يخلق أساليب جديدة لدي الأطراف المعنية لتحقيق مصالحها ، أو حتي يضفي بعض التغيير في الأساليب المستخدمة أساساً ، كأن يُظهر بعض الأساليب أكثر من الأخري ، ولكن لا يُغير في المصالح القائمة للأطراف وخاصة إذا كانت تمثل بعداً استراتيجياً هاماً بالنسبة لهم.
ومن ثم يمكن تحديد المشكلة البحثية بشكل أكثر دقة هنا في دراسة تأثير جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19) علي الصراعات المسلحة في الوطن العربي ، وذلك بالتركيز علي حالتي سوريا وليبيا في فترة انتشار الجائحة ، أي في الفترة من 2020 إلي 2021.
ومن هنا نجد أن السؤال الرئيسي الذي تتمحور حوله الدراسة هو :-
إلي أي مدي تؤثر جائحة كوفيد-19 علي الصراع المسلح القائم في كل من سوريا وليبيا في الفترة من (2020-2021) ؟
ومن ثم فإنه للإجابة علي هذا السؤال الرئيسي ، سوف يتم بلورة مجموعة من الأسئلة الفرعية التي تم اشتقاقها من السؤال الرئيسي علي النحو التالي :-
- ما هو الوباء العالمي ؟ ومتي يتحول الوباء من وباء محلي إلي وباء عالمي ؟
- ما هو تأثير الأوبئة علي الاستقرار السياسي والصراعات المسلحة ؟
- كيف أثرت جائحة كوفيد-19 علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع المسلح في سوريا ؟
- ما هي تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد علي الصراع المسلح في سوريا؟
- كيف أثرت جائحة فيروس كورونا المستجد علي استراتيجات الأطراف الفاعلة في الصراع المسلح في ليبيا ؟
- ما هي تداعيات جائحة كوفيد-19 علي الصراع المسلح في ليبيا ؟
أهمية الدراسة :-
يمكن تلخيص أهمية الدراسة في جانبين أساسيين هما :-
- الأهمية العلمية الأهمية العملية
- الأهمية العلمية :-
تحاول الدراسة التعرف على مدى تأثير جائحة فيروس كورونا المستجد علي الصراع المسلح في كل من سوريا وليبيا ، وبالتالي فإن الدراسة تُضيف للعلم نظراً لحداثة الموضوع حيث أن جائحة فيروس كورونا المستجد لم تظهر وتنتشر في مختلف أنحاء العالم إلا في أوائل عام 2020 ، أي أن الدراسات في هذا الصدد مازالت تتسم بالقلة ، كما إنه عندما نستعرض الأدبيات السابقة التي تناولت تأثير الأوبئة علي الصراعات المسلحة سوف نجد أن هناك ندرة نسبية في هذه الدراسات وخاصة العربية منها ، لذلك تحاول الدراسة توفير إطار مرجعي للبحث في هذا الخصوص يغطى فجوة كبيرة في العلم لوجود نقص بالأدبيات كما ذكرنا ، كما أن الدراسة لم تقف عند الرصد والوصف ولكن تتعداهم إلى مرحلتي التفسير والتحليل ، الأمر الذى يُزيد من الأهمية العلمية للدراسة.
- الأهمية العملية :-
سوف تفيد الدراسة الباحثين وعلماء السياسة وكذلك صناع القرار وهذا من خلال النتائج التى سوف تتوصل لها ، والتى سوف تنبه صانع القرار إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع فى المدى القريب والبعيد لكافة الأطراف المعنية ، وما إذا كان للجائحة أثر كبير علي كل من المدي القريب والبعيد يمكن أن يساهم في تغيير الأوضاع ، كما أنها سوف تقدم بعض التوصيات التي يمكن تطبيقها في حالتي الأزمة السورية والليبية وكذلك في الحالات المشابهة في الوطن العربي ، وبالتالي يمكن لصانع القرار الاستعانة بها فى حالة إن اراد تغيير الأوضاع وإصلاحها لتصب في صالح الدول العربية التي تعاني من الأزمات ، وتعادل من توازن القوي.
- الإطار الزماني :-
تتناول الدراسة الفترة من (2020-2021) ، وذلك نظراً لأن جائحة فيروس كورونا المستجد لم تبدأ في الانتشار في مختلف أنحاء العالم إلا في أوائل عام 2020 ومازالت مستمرة حتي الآن ، وبالتالي فإن تداعياتها علي المديين القريب والبعيد لا تزال قيد التشكيل ، مما يجعلنا نقف عند العام الماضي الذي يعد أحدث فترة يمكننا مناقشتها للتعرف علي تأثير الجائحة علي الأزمة السورية والليبية والصراع المسلح الدائر بكل منهما.
- الإطار المكاني :-
تهتم الدراسة بتناول منطقتي سوريا وليبيا بالتحليل والدراسة ، وذلك نظراً لكون كلا البلدين من أكثر البلدان العربية التي تعاني من أزمة حادة وصراع مسلح لا يهدد أمنهما واستقرارهما فقط بل يهدد أمن واستقرار المنطقة العربية ككل ، كما أن كلا الأزمتين يُعد من أكثر الأزمات التي تتسم بالتعقيد والتشابك وكثرة الأطراف وتضارب المصالح ، وبالتالي نحاول هنا التعرف علي أثر الجائحة علي أزمتين من أكثر الأزمات الهامة في الوطن العربي ، كما أنه يمكن تطبيق النتائج التي يتم التوصل لها علي الأزمات المشابهة في المنطقة.
- الأدبيات السابقة :-
- الاتجاه الأول : دراسات تناولت تأثير الأوبئة علي الصراعات المسلحة في العالم :-
عند مراجعة الدراسات في هذا الاتجاه ظهر أن هناك ندرة نسبية فيها ، حيث أن أغلبية الدراسات تركز علي تأثير الصراعات المسلحة علي الأوبئة والمساهمة في انتشارها ، وكذلك علي حماية الأطفال والمدنيين الذين تزداد فرص إصابتهم بالعدوي في مناطق الصراعات وعدم الاستقرار ، بينما الدراسات التي تناولت دراسة التأثير الذي يمكن أن تتركه هذه الأوبئة علي الصراعات المسلحة القائمة كانت تتسم بالقلة ، هذا علي الرغم من التأثير المتبادل بين المتغيرين كما هو الحال في كافة المتغيرات التي تدخل في نطاق العلوم الاجتماعية عامة والسياسية خاصة.
- وعند مراجعة هذه الدراسات نجد أن البعض منها ركز علي البعد القانوني ، وكيفية تطبيق القانون الدولي الإنساني في حالة تفشي جائحة عالمية ، وعلي وجه الخصوص في المناطق التي تشهد صراعات مسلحة ، نظراً لأهمية إعلاء الطابع الإنساني علي أية اعتبارات أخري ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان “بند مارتنز ، والأوبئة العالمية ، وقانون الصراع المسلح”[7] للباحث باتريك ليجر ، وقد ناقشت هذه الدراسة بند مارتنز من خلال تيارين مختلفين ، يجادل الأول بأن مبدأ مارتنز للإنسانية يساهم في تفسير وفهم مبادئ القانون الدولي الإنساني المعمول بها حالياً ، حيث إنه يُظهر تأثير قانوني هام علي سير الأعمال العدائية في فترات تفشي الأوبئة ، بينما يجادل الثاني بأن بند مارتنز يمكن أن يؤثر في عملية تشكيل قواعد عرفية جديدة للقانون الإنساني في بعض الحالات ، والتي يدخل من ضمنها تنظيم الصراعات المسلحة أثناء تفشي جائحة عالمية ، ويصل إلي إنه يمكن أن يظهر في المستقبل قاعدة جديدة في القانون الإنساني ، وتنص هذه القاعدة علي إنه في حالة تفشي جائحة عالمية في المستقبل يجب وقف إطلاق النار نظراً لهذه الظروف.
- وهناك بعض الدراسات التي ركزت علي ديناميات الصراع خلال فترات تفشي الأوبئة ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان ” ديناميات الصراع أثناء تفشي فيروس إيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية 2018-2019″[8] لمجموعة من الباحثين ، وقد ناقشت هذه الدراسة ديناميات الصراع خلال فترة تفشي وباء الإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية ، وقامت بجمع البيانات حول كل من الصراعات القائمة وتفشي الوباء ، وذلك للمقارنة بين أنماط الصراعات قبل تفشي الوباء وأثناء التفشي ، وقد توصلت الدراسة إلي أن العدد الشهري لأحداث الصراع في المناطق الصحية المتأثرة بالصراع قد أزداد.
- وهناك دراسات أخري لم تركز علي الصراعات المسلحة بل وسعت النطاق في تركيزها علي أثر الأوبئة علي الاستقرار السياسي بشكل عام ، ومن هذه الدراسات أطروحة ماجستير بعنوان “تأثير تفشي الأمراض المعدية على الاستقرار السياسي – فحص أمثلة الإيبولا والسل والأنفلونزا (1996-2014)”[9] للباحثة سيلينا مينزل ، وقد قامت الدراسة بمناقشة أكثر من حالة لتفشي الأوبئة كوباء الإيبولا والسل والإنفلونزا ، ومحاولة التعرف علي تأثير كل منهم علي الاستقرار السياسي في المناطق التي انتشرت بها هذه الأوبئة ، وكذلك معرفة ما إذا كان يختلف هذا التأثير من وباء إلي آخر ، وقد توصلت الدراسة إلي أن الأوبئة الثلاثة تختلف في مدي ارتباطها وتأثيرها علي الاستقرار السياسي في البلدان التي ظهرت فيها ، وإن ذلك يعود إلي أسباب عدة يمكن أن تجعل من الوباء تهديد وخطر خارجي يجب التعامل معه وترك الصراعات جانباً ، ومن هذه الأسباب كيفية تفاعله مع الظروف والروايات السائدة وكذلك خصائصه الفيزيائية.
- الاتجاه الثاني : دراسات تناولت تأثير الكورونا علي الصراعات المسلحة في العالم :-
عند مراجعة الدراسات في هذا الاتجاه ظهر أن هناك بعض الدراسات الحديثة التي تهتم بدراسة تأثير كورونا علي الصراعات المسلحة ، وقد تنوعت هذه الدراسات في تركيزها علي مناطق بعينها أو توسيع نطاقها للتركيز علي العالم أجمع ، وتعد المنطقة العربية من أكثر المناطق التي حظت بالتركيز والاهتمام نظراً لما بها من صراعات هامة ومؤثرة ، وليست المنطقة العربية وحسب بل الشرق الأوسط كله حظي بالتركيز والاهتمام من قبل العديد من الدراسات.
- فهناك بعض الدراسات التي ركزت علي تناول تأثير الجائحة علي الصراعات المسلحة في العالم بشكل عام ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان ” تأثير جائحة كوفيد-19 على الصراع المسلح العالمي : الأدلة المبكرة”[10] للباحثين ماريوس مهرل وبول دبليو ثورنر ، ودراسة أخري بعنوان ” كوفيد-19 ، والحوكمة والصراع: التأثيرات الناشئة واحتياجات الأدلة المستقبلية”[11] للباحثين سيان هربرت و هيذر ماركيت ، وقد تناولت الدراستان العديد من البيانات للتعرف علي تأثير الجائحة علي النزاعات المسلحة في المدي القصير ، حيث أن هناك اتجاهين في هذا الصدد ، الأول يتعلق بأمكانية وقف الصراع المسلح نتيجة لجهود كافة الجهات الفاعلة الدولية ودعواتها لوقف إطلاق النار والحد من الصراع المسلح ، بما في ذلك الأمم المتحدة ، بينما يجادل الثاني بأن تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد من شأنها أن تُكثف من الصراعات المسلحة ، وذلك لعدة أسباب منها ما نتج عن الوباء من عواقب اقتصادية سلبية ، هذا إلي جانب استغلال جماعات المعارضة والجماعات المسلحة الفرصة ومهاجمة الجهات الحكومية الهشة ، وقد تم التوصل إلي أن هناك تباين واضح بين المناطق المختلفة من العالم فيما يخص أثر انتشار الجائحة وما نتج عنها من سياسات إغلاق ، حيث إنه مع تفشي الوباء انخفضت مستويات الصراع في جنوب شرق آسيا والقوقاز ، بينما علي النقيض نجد أن الشرق الأوسط قد شهد زيادة في مستويات الصراعات المسلحة به.
- وهناك دراسات أخري ركزت علي دراسة تأثير الجائحة علي الصراعات المسلحة في المنطقة العربية والشرق الأوسط ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان ” كوفيد -19 والحروب الأهلية في العالم العربي : حالات سوريا وليبيا واليمن”[12] للباحث حسنين علي ، ودراسة أخري بعنوان ” كوفيد -19 ، الصراع والمخاطر في المنطقة العربية إنهاء الأعمال العدائية والاستثمار في السلام”[13] لمجموعة من الباحثين ، ودراسة ثالثة بعنوان ” فيروس كورونا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: تعزيز الاضطرابات أم التخفيف من حدة النزاعات؟”[14] للباحث ماغنوس نوريل ، وتناقش هذه الدراسات الاتجاهين الذي يمكن أن تسير فيهم الأحداث ، والاتجاه الأول يتعلق بالدعوات العالمية لوقف إطلاق النار ، وذلك نظراً لكون فترات تفشي الأوبئة يتزايد فيها النظرة الإنسانية بغض النظر عن السياق السياسي ، والاتجاه الثاني هو المتعلق بتزايد مستويات الصراع في المنطقة العربية والشرق الأوسط ، وقد تم التوصل إلي أن محاولات وقف إطلاق النار لم يكن لها أثر عملي ولم تنجح ، بل ظلت الصراعات المسلحة علي نفس وتيرتها ولم تتاثر ، أو تفاقمت في بعض الحالات ، وذلك نظراً لمحاولة بعض الأطراف استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية علي حساب الأطراف الأخري ، وبالتالي فإن الوباء لم يخلق ديناميكية جديدة لحل الصراعات المسلحة القائمة ، بل ساهم في تفاقمه في بعض الحالات.
- الاتجاه الثالث: دراسات تناولت تأثير الكورونا علي الصراع المسلح في سوريا :-
عند مراجعة الدراسات في هذا الاتجاه ظهر أن هناك بعض الدراسات الحديثة التي تهتم بدراسة تأثير كورونا علي الصراع المسلح في المنطقة العربية بشكل عام وسوريا بشكل خاص ، وقد تنوعت هذه الدراسات في نطاق تركيزها مابين دراسة تأثير الجائحة وتداعياتها في سوريا بشكل عام ، والتركيز علي أثر هذه التداعيات علي الأطراف الدولية واستراتيجياتها تجاه الصراع السوري ، ولكن الدراسات التي تتناول الصراع السوري تتسم بالقلة بعض الشيء ، كما إن التحليلات التي قدمتها تعد قاصرة بعض الشيء نظراً لحداثة الجائحة ما يجعل من تداعياتها قيد التشكيل حتي الوقت الحاضر.
- فهناك بعض الدراسات التي ركزت علي تناول تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد علي ديناميات الصراع المسلح في سوريا ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان “تداعيات كوفيد-١٩ على الصراع في سوريا”[15] للباحثين مكسيم سوشكوف وسيم تاك ، ودراسة أخري بعنوان “جائحة كوفيد-١٩ وديناميكيات الصراع في سوريا”[16] لمجموعة من الباحثين ، وقد ناقشت الدراستان تأثير وتداعيات جائحة فيروس كورونا علي ديناميات الصراع المسلح في سوريا ، وقد توصلتا إلي أن الوباء قد ساهم في منح دمشق الفرصة لتوسيع نفوذها في المناطق السورية التي تخرج عن نطاق سيطرتها المباشرة ، ومع ذلك يمكن القول أن الوباء من غير المرجح أن يصبح نقطة تحول حاسمة في ديناميات الصراع ، بل من المرجح أن تستمر اتجاهات الصراع وانعدام الاستقرار في سوريا كما هي قبل الوباء.
- وهناك دراسات أخري كما ذكرنا ركزت علي تناول تأثير الجائحة وتداعياتها علي الأطراف الدولية واستراتيجياتها فيما يخص الصراع ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان “كوفيد -19 والنزاع السوري : التداعيات على الأطراف الدولية واستراتيجياتها”[17] للدكتور أندريه بنك ، وقد ركزت هذه الدراسة علي روسيا وتركيا وإيران بإعتبارهم الجهات الفاعلة الدولية التي كان لها دور حاسم في تشكيل مسار الحرب في سوريا في الآونة الأخيرة ، كما أن الدول الثلاثة كانت من بين أكثر البلدان تضرراً من الجائحة ، وقد توصلت الدراسة إلي أن الجهات الثلاثة لم يقوموا بتغيير استراتيجياتهم الشاملة تجاه الصراع السوري ، وذلك نظراً لما تمثله الدولة السورية من أهمية يمكن اعتبارها استراتيجية بالنسبة للثلاث جهات ، ولكن علي الرغم من ذلك يظهر بعد التعديلات في سلوك هذه الجهات علي أرض الواقع ، مما يجعل الجائحة عامل لا يساهم في تحسين الوضع أو جعله أسوء ، بل يُضيف بعد جديد يُعزز من الديناميات الموجودة بالفعل في الصراع المسلح القائم في سوريا.
- الاتجاه الرابع: دراسات تناولت تأثير الكورونا علي الصراع المسلح في ليبيا :-
عند مراجعة الدراسات في هذا الاتجاه ظهر أن هناك بعض الدراسات الحديثة التي تهتم بدراسة تأثير كورونا علي الصراع المسلح في المنطقة العربية بشكل عام وليبيا بشكل خاص ، وقد تنوعت هذه الدراسات في نطاق تركيزها ما بين دراسة دراسة تأثير الجائحة وتداعياتها علي الصراع المسلح الداخلي في ليبيا بشكل عام ، وما بين توسيع التركيز للنطاق الخارجي وما يمكن أن يفرضه من رهانات للحرب بالوكالة ، ومن ثم علي أثر هذه التداعيات علي الأطراف الدولية واستراتيجياتها تجاه الصراع الليبي ، ولكن الدراسات التي تتناول الصراع الليبي تتسم بالقلة بعض الشيء ، كما أن التحليلات التي قدمتها تعد قاصرة بعض الشيء نظراً لحداثة الجائحة ما يجعل من تداعياتها قيد التشكيل حتي الوقت الحاضر.
- فهناك بعض الدراسات التي ركزت علي تناول تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد علي ديناميات الصراع المسلح في ليبيا ، وركزت علي الأطراف المحلية الفاعلة في الصراع ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان “تداعيات فيروس كورونا علي مسار النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط : النزاع السوري والليبي نموذجاً”[18] للباحثة وفاء محداب ، وقد ركزت هذه الدراسة علي محاولة التعرف علي تأثير وتداعيات جائحة فيروس كورونا علي ديناميات الصراع المسلح الداخلي في ليبيا ، وإلي أي مدي ساهمت الجائحة في تهدئة أو تصعيد الصراع القائم بها ، وقد توصلت إلي أن الجائحة قد ساهمت في زيادة التصعيد في الأزمة ، وجعلت الأمور أكثر حدة وتعقيداً من ذي قبل ، حيث أنه قد تزامن معها تطور سريع للأحداث وزيادة في وتيرة العنف في البلاد.
- وهناك دراسات أخري كما ذكرنا ركزت علي النطاق الخارجي المحيط بالأزمة ، وما يمكن أن يفرضه من رهانات للحرب بالوكالة ، ومن ثم علي أثر هذه التداعيات علي الأطراف الدولية واستراتيجياتها فيما يخص الصراع الليبي ، ومن هذه الدراسات دراسة بعنوان “النزاع الليبي في ظل جائحة كورونا بين تحديات تنامي العنف الداخلي ورهانات الحرب بالوكالة”[19] للباحث عدنان شبين ، ودراسة أخري بعنوان “مآلات الصراع الليبي في ظل جائحة كورونا : بين التصعيد العسكري والتسوية السياسية”[20] للباحثة أمينة زرداني ، وقد ناقشت الدراستان العديد من الدول التي تعد فواعل هامة ومؤثرة في الصراع الليبي ، والتي تتعدي التسعة دول كان معظمها له دور في تشكيل مسار الصراع في ليبيا في الآونة الأخيرة ، والتي من أهمها مصر وتركيا وروسيا والإمارات العربية المتحدة ، وقد توصلت الدراستان إلي أن كافة هذه الجهات الفاعلة لم تُغير من استراتيجياتها في ليبيا تحت وطأة الوباء ، وذلك نظراً لما تمثله الدولة الليبية من أهمية استراتيجية ، تجعل من أهداف هذه الجهات في ليبيا أهداف هامة وحيوية ، ولكن مع ذلك تم استغلال الأزمة من قبل بعض الأطراف لقلب الموازين لصالحهم ، فما ظهر هو تغير في سلوك بعض هذه الفئات نحو التصعيد مع بداية الأزمة ، وذلك علي نحو يخدم ما لهم من أهداف واستراتيجيات في الصراع الليبي ، مما يجعل من الجائحة عاملاً مُحفزاً للصراع في ليبيا ، ومُساهم كبير في تصعيده ومن ثم تغير وزيادة الأوضاع تعقيداً وسوءاً.
- التعليق العام علي الأدبيات :-
بعدما تم استعراض الأدبيات السابقة ظهر أن هناك ندرة نسبية في الدراسات التي تناولت تأثير الأوبئة علي الصراعات المسلحة وخاصة العربية منها ، كما أن جائحة فيروس كورونا المستجد لم تظهر وتنتشر في مختلف أنحاء العالم إلا في أوائل عام 2020 ، وبالتالي فإنه نظراً لحداثة الموضوع لا تزال الدراسات المقدمة في هذا الصدد قليلة بعض الشيء ، وخاصة تلك التي تتناول تأثير الجائحة علي الصراع المسلح في كل من سوريا وليبيا ، كما إنه ليس هناك في هذا الصدد أطروحات متكاملة تتناول الموضوع وتحلله بتفصيل أكثر وتغطي جميع جزئياته ، لذلك سوف تحاول هذه الدراسة توفير إطار مرجعي للبحث في هذه الخصوص ، في محاولة لسد هذه الفجوة في العلم في هذا الموضوع ، بما يمكن أن يُبني عليه من قبل الباحثين الآخرين فيما بعد ، بما يخدم تراكم البحث العلمي في أحدي الموضوعات الهامة.
- الإطار النظري :-
لقد صاحب انتشار جائحة فيروس كورونا المستجد ظهور بعض الاتجاهات السياسية ، والتي كان بعضها في سياق المسارات السابقة للجائحة ، كما كان البعض الآخر كذلك ناتجاً لطبيعة وأنماط التفاعلات والاستجابات المختلفة للدول تجاه الأزمة ، وبالتالي فإن تلك الاتجاهات والتفاعلات الناجمة عن الأزمة قد خلقت تحدياً يتعلق بكيفية مقاربتها نظرياً ، أي اختبار النظريات الأساسية في العلاقات الدولية من حيث مدي قدرتها التفسيرية وكذلك قدرتها التنبؤية بالاتجاهات المستقبلية ، وفي محاولة للتأصيل النظري للأزمة وإيجاد مدخل لتحليل تأثير الجائحة علي المجال السياسي في ضوء النظريات الأساسية للعلاقات الدولية ، قامت مجموعة من الدراسات بمناقشة هذه النظريات الأساسية في ضوء هذه الأزمة المستجدة[21] ، وفي مقدمتها دراسة بعنوان “المقاربة الواقعية لصراعات الدول في زمن الأوبئة”[22] للدكتور شادي عبد الوهاب منصور قامت بمناقشة النظرية الواقعية في ظل تفاعلات أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد ، وفيما يلي عرض لأهم ما توصلت إليه هذه الدراسة.
إن المدرسة الواقعية هي أحد المدارس الرئيسية في العلاقات الدولية ، والتي تزداد أهميتها وقدرتها التفسيرية في الأوقات التي يتزايد فيها التنافس الدولي وتتصاعد الاضطرابات الإقليمية ، ويتجاهل التيار الغالب في هذه المدرسة اعتبار التهديدات الغير التقليدية أحد المهددات الرئيسية للأمن القومي للدولة ، حيث أن تركيزها ينصب علي التهديدات التقليدية الموجهة لأمن الدول ، والتي تتمتع التهديدات العسكرية فيها بالأولوية القصوي ، وعلي الرغم من ذلك ظهرت بعض المحاولات التي تأخذ مثل هذه التهديدات في الاعتبار وتقوم بمعالجتها ، وبشكل خاص الأوبئة.
https://googleads.g.doubleclick.net/pagead/ads?client=ca-pub-5221881838831149&output=html&h=280&adk=1592338563&adf=4243798040&pi=t.aa~a.489171089~i.93~rp.4&w=720&fwrn=4&fwrnh=100&lmt=1692688181&num_ads=1&rafmt=1&armr=3&sem=mc&pwprc=5993473712&ad_type=text_image&format=720×280&url=https%3A%2F%2Fdemocraticac.de%2F%3Fp%3D83080&fwr=0&pra=3&rh=180&rw=720&rpe=1&resp_fmts=3&wgl=1&fa=27&uach=WyJXaW5kb3dzIiwiMTAuMC4wIiwieDg2IiwiIiwiMTE2LjAuNTg0NS45NiIsW10sMCxudWxsLCI2NCIsW1siQ2hyb21pdW0iLCIxMTYuMC41ODQ1Ljk2Il0sWyJOb3QpQTtCcmFuZCIsIjI0LjAuMC4wIl0sWyJHb29nbGUgQ2hyb21lIiwiMTE2LjAuNTg0NS45NiJdXSwwXQ..&dt=1692687888812&bpp=3&bdt=2921&idt=3&shv=r20230817&mjsv=m202308210101&ptt=9&saldr=aa&abxe=1&cookie=ID%3D154ed2106260301c-22675bf64ee00024%3AT%3D1692687887%3ART%3D1692687887%3AS%3DALNI_MYHH2bnPbxpu8QKb-7p9lci6oUQQw&gpic=UID%3D00000c8b57a9fc48%3AT%3D1692687887%3ART%3D1692687887%3AS%3DALNI_MatAp_AC6YHLvUpOfiNE3uVaL4diQ&prev_fmts=0x0%2C1200x280%2C720x280%2C720x280%2C1519x747%2C1005x124%2C720x280%2C720x280&nras=9&correlator=1126677266118&frm=20&pv=1&ga_vid=1474150492.1692687887&ga_sid=1692687888&ga_hid=271342960&ga_fc=1&u_tz=180&u_his=1&u_h=864&u_w=1536&u_ah=824&u_aw=1536&u_cd=24&u_sd=1.25&dmc=8&adx=594&ady=10065&biw=1519&bih=747&scr_x=0&scr_y=7078&eid=44759876%2C44759927%2C44759842%2C31077087%2C31077092%2C31077148%2C42531706%2C31077288%2C44800658%2C44799571%2C21065724%2C31067146%2C31067147%2C31067148%2C31068556&oid=2&psts=AOrYGsl_lnheUdUyfqN819XtVY5JW3Zfy_AtWncueHvPenJk-LUfMOAEfXkP8bOcVlZShjcng3yGfagxXZa79pUKUbzd%2CAOrYGsmyXjOzH46ORTctFBuJTI1XN6KDDo9fZ99cf0CJnnivgtqojZVXLquHosqOmyGz_BqNwgega2zlHaodFm7zkigKbgxaRUHuw0PYbLIDJgBj63g%2CAOrYGsmqLWtVJJDRx8o5P93t-Qn2syk3LOQcIIEt0bhZ8YsbsTme00pqXc_AfyKH0t1ZdXmMCGtMflOTrCWYOmitCGnBwMTK&pvsid=110182333277080&tmod=1308764294&uas=3&nvt=1&ref=https%3A%2F%2Fwww.google.com%2F&fc=1408&brdim=0%2C0%2C0%2C0%2C1536%2C0%2C1536%2C824%2C1536%2C747&vis=1&rsz=%7C%7Cs%7C&abl=NS&fu=128&bc=31&td=1&nt=1&ifi=8&uci=a!8&btvi=6&fsb=1&xpc=jhVDjjZBOu&p=https%3A//democraticac.de&dtd=M
وبالرغم من أن الأفكار التي تقوم عليها النظرية الواقعية بشكل أساسي هي الأمن ، والمصلحة ، والفوضي الدولية ، وتوازن القوي ، ولم يكن للأوبئة أهمية كبيرة بالنسبة لها نظراً لاعتبارها أحد التهديدات الغير تقليدية لأمن الدولة ، إلا إنه يمكن تفسير سلوكيات الدول وكيفية تصرفها في مواجهة التهديدات الوبائية بالاعتماد علي مقولاتها وفرضياتها الأساسية ، حيث غلبت التفاعلات الصراعية علي التعاونية بين الدول ، كما اعتمدت الدول علي ذاتها ومورادها أكثر من غيرها ، بالإضافة إلي الشكوك المتبادلة بين الدول حول نيات بعضها البعض.
ويعتبر مارك دينين أحد منظرين المدرسة الواقعية القلائل الذين ساهموا بمحاولات محدودة لإدراج الأوبئة ضمن إطار المدرسة الواقعية ، وقد سعي دينين إلي معالجة الأوبئة في إطار نظرية هانز مورجانثو التي ترتكز علي ثنائية “القوة” و”المصلحة” ، والتي عبر عنها مورجانثو في كتابه “السياسة بين الأمم : الصراع من أجل القوة والسلام” ، وتركز هذه النظرية علي زيادة قوة الدولة بإعتبارها الوسيلة الوحيدة لبقائها ، وبالتالي فإنه يمكن تهديد قدرة الدولة علي البقاء من خلال أي عامل يؤثر سلباً علي هذه القوة.
وهذه هي النقطة التي بدأ منها دينين حيث عالج الأوبئة بإعتبارها تهديد يمس قوة الدولة ، وبالتالي يهدد قدرتها علي البقاء ، كما إنه قد يؤثر علي بعض عوامل قوة الدولة الأساسية ، كالموارد الطبيعية في حال اعتماد الدولة علي استيرادها من الخارج ، وكذلك علي الاستعداد العسكري للدولة ، حيث أن الأوبئة تؤثر علي مدي جاهزية أفراد القوات المسلحة في الدفاع عن الدولة ، كما قد تؤثر الأوبئة في حياة القادة العسكريين وكذلك السياسيين ، والتي يمكن أن تؤدي خسارتهم إلي التأثير علي قوة الدوة بالسلب.
ويمكن ترجمة سلوكيات وتصرفات الدول خلال أزمة فيروس كورونا المستجد من خلال مقولات المدرسة الواقعية ، والتي تعد ترجمة فعلية لمقولاتها ، ومن أبرز هذه المقولات :-
- مركزية الدولة كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية : حيث ساهمت أزمة فيروس كورونا المستجد في الكشف عن محورية دور الدولة ، وذلك من خلال الكيفية التي تعاملت بها الدول لمواجهة الأزمة وتداعياتها ، حيث كان اعتماد الدولة الأساسي علي قواتها المسلحة في كافة الإجراءات التي اتخذتها ، وقد صاحب ذلك تراجع ملحوظ في أدوار الفاعلين الآخرين من منظمات دولية ، ومنظمات غير رسمية.
- غلبة التفاعلات الصراعية علي التعاونية : حيث أن الواقعية تري أن هناك عوامل عدة تعيق التعاون بين الدول ، وفي هذا الإطار أورد ميرشايمر عاملين أساسيين لصعوبة التعاون بين الدول ، ألا وهما : عدم الثقة في الأطراف الأخري والشك في إقدامها علي الغش في حالة التعاون ، واعتبارات المكاسب النسبية أي أن الدول لا تقتصر علي النظر إلي مكاسبها الفردية وحسب ، بل تقوم بمقارنتها بما حققته الدول الأخري من مكاسب ، ونجد أن الدول دائماً ما تسعي إلي تعزيز مكاسبها النسبية في مواجهة الدول الأخري نظراً لصعوبة تحقيق المكاسب المطلقة ، وهذه المكاسب النسبية دائماً ما تسعي الدول لتعزيزها علي حساب الدول الأخري مما يزيد من صعوبة التعاون لتحقيق هذه المكاسب.
ولكن قد ذهب ميرشايمر إلي أن هذا لا يعني انعدام التعاون بين الدول واستحالته ، بل نجد أن الدول تتجه إلي التعاون وتأسيس التحالفات مع الدول الصديقة في مواجهة الأعداء ، ويعد هذا التعاون أمر بالغ الصعوبة في حالة التاريخ العدائي بين الدول ، وعند النظر إلي أزمة فيروس كورونا المستجد نجد أن سلوك الدول في مواجهتها ينطبق عليها هذا الوصف ، بل أن الدول في هذه الأزمة تبنت سلوكيات حادة تجاه الدول الصديقة.
- التشكيك في جدوي المنظمات الدولية : حيث تري الواقعية أن أهمية المنظمات الدولية محدودة ، حيث أن الدول القوية هي التي تُنشئ هذه المنظمات من أجل مصالحها ، وبالتالي فإن هذه المنظمات تصاب بالشلل في حالة تداخل وتضارب مصالح هذه الدول ، وهذا ما حدث في ظل أزمة فيروس كورونا المستجد علي الرغم من كونه يفرض تحدياً جماعياً للعالم كله ، فقد أصيبت المنظمات الدولية بالشلل في مواجهته بدلاً من تفعيل دورها ، وذلك بسبب الصراع الناشي بين الولايات المتحدة والصين ، فلم يتمكن مجلس الأمن علي سبيل المثال عند اجتماعه والذي جاء في وقت متأخر من الأزمة علي اتخاذ أي قرار لمواجهتها ، وقد امتد هذا الفشل للمنظمات الدولية ذات الطبيعة الفنية كمنظمة الصحة العالمية ، وكذلك امتد إلي الإتحاد الأوروبي أكثر المنظمات الإقليمية فاعلية ، كما أن كافة الدعوات لوقف التصعيد وإطلاق النار في مناطق الصراعات المسلحة باءت معظمها بالفشل.
- التشكيك في نيات ودوافع الدول الأخري : حيث يذهب ميرشايمر إلي أن الدول الأخري وما لديها من نيات هي مصدر شك وغير مؤكدة ، فلا يمكننا التبؤ بما ستفعله الدول الأخري وخاصة في المستقبل ، وهذه الشكوك تزداد في ظل عدم اليقين الذي تخلقه الأزمات ، وينطبق ذلك الأمر علي أزمة فيروس كورونا المستجد.
- تعزيز التنافس الدولي : حيث إنه علي العكس من المتوقع بأن مواجهة الجائحة سوف يدفع في سبيل التعاون بين الدول الكبري ، نجد أن هذه الأزمة ساهمت في إضافة مستوي وبعد جديد في الصراع بين القوي الكبري ، خاصة مع وجود أزمة اقتصادية كبري نتيجة لهذا الوباء يمكن أن تؤثر علي وضع الولايات المتحدة في النظام العالمي.
وقد قامت دراسة أخري بعنوان “الليبرالية والأوبئة … جدل الفردانية ومأزق العولمة”[23] للدكتور سامي السلامي بمناقشة النظرية الليبرالية في ظل تفاعلات أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد ، وفيما يلي عرض لأهم نقاط هذه الدراسة.
هناك مجموعة من المبادئ والأفكار التي ترتكز عليها النظرية الليبرالية في تفسيرها للعلاقات الدولية ، ومن أهمها مبادئ السلام الديمقراطي ، والأمن الجماعي ، والاعتماد المتبادل ، وبالتالي فإن وحدات التحليل التي تهتم بها هذه النظرية تتسع لتشمل الدول والفواعل من غير الدول ، سواء كانت هذه الفواعل منظمات حكومية ، أو شركات عالمية.
وبالتالي فقد أفسحت هذه النظرية المجال للمنظمات الدولية كأحد وحدات التحليل الهامة ، وسوف نجد أن هذه المنظمات مع تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد قد تنامي دورها بشكل كبير ، وعلي وجه الخصوص منظمة الصحة العالمية ، ومختبرات الأبحاث العالمية ، وشركات صناعة الأدوية ، ولكن في ذات الوقت نجد أن تعامل الدول مع الأزمة وغياب التعاون الدولي بينهم يظهر قصور النظرية الليبرالية ، وعدم فاعلية أحد المفاهيم الأساسية التي ترتكز عليها ألا وهو مفهوم الاعتماد المتبادل.
وهناك ثلاثة إشكاليات رئيسية تظهر عند محاولة مقاربة النظرية الليبرالية مع أزمة فيروس كورونا المستجد ، ألا وهي :-
- الإشكالية الأولي : تتعلق بمدي القدرة علي إيجاد تفسيرات من قبل النظرية الليبرالية لتغليب المصلحة علي الحق في الحياة كحق طبيعي للأفراد ، حيث إنه ظهر ترابط بين سياسات الدول الليبرالية المتقدمة كمناعة القطيع ، وطب الحرب ، ورفع الحجر الصحي ، وعدم تقييد الحركة وزيادة معدلات الوفيات بين الفئات العمرية الأكبر سناً في هذه الدول ، وقد عجزت الليبرالية عن تفسير مثل هذه الإجراءات في ظل تزايد الوفيات ، حيث إن مثل هذه التدابير في ذلك الوضع لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء كونها تدابير براجماتية – مصلحية تساعد في استغلال الأزمة لخفض نفقات المعاشات.
- الإشكالية الثانية : تتعلق بطريقة إدارة الدول الليبرالية لأزمة فيروس كورونا ، وما قد أثارته من جدل فكري بين الفردانية والحق في الحياة ، حيث أن جوهر الفكر الليبرالي قد تأسس علي مبدأ الحق في الحياة كحق طبيعي ، وكذلك فإن الفردانية هو مبدأ ليبرالي يجعل من الفرد أهم من المجموع ، وبالتالي فإن رفع الحجر الصحي ، وتغليب الفردانية علي الحق في الحياة ، ووضع الاقتصاد قبل الإنسان يُظهر قصور النظرية الليبرالية ، وعدم قدرتها علي تفسير ما ساد وطبع إدارة الأزمة من بعد واقعي ، حيث تم استخدام مبادئ الليبرالية ذاتها مثل مبدأ الفردانية كمبرر لتغليب الجانب المصلحي في كل من السياسة الداخلية والخارجية.
- الإشكالية الثالثة : تتعلق بما بعد أزمة فيروس كورونا ، ومآل الليبرالية فيما بعد الأزمة ، حيث إنه منذ الأزمة الاقتصادية العالمية والمجتمعات الليبرالية تعاني من تزايد السخط الشعبي ضد أنظمتها ، وبالتالي فقد تؤدي أزمة كورونا إلي تنامي الحراك السياسي وكذلك الاجتماعي في الدول الغربية ، هذا في ضوء فشل النظرية الليبرالية في التنبؤ بالتغيرات الدولية التي رافقت أزمة فيروس كورونا ، وعدم قدرتها علي تطبيق أفكارها ومبادئها ، وكل هذا سوف يصنع تحدي حقيقي أمام الليبرالية ، وتزامن ذلك مع نمو معارضة أيديولوجية من جيل الألفية الاشتراكية.
كما إننا نجد ثلاثة مستويات من التحليل عند محاولة استشراف عالم ما بعد كورونا ، ألا وهي :-
- المستوي الأول : يتعلق بمدي صحة مقولة إن أزمة كورونا قد ساهمت في إظهار هشاشة العولمة.
- المستوي الثاني : يتعلق بما يمكن أن تقوم به الليبرالية من دور في تجاوز تداعيات الأزمة ، واستعادة دورة الحياة الاقتصادية في العالم ، وما يَخلق بدوره مسؤولية علي الدول المتقدمة ذات الأنظمة الليبرالية تجاه بقية دول العالم ، وذلك من منطلق عقلاني ليبرالي.
- المستوي الثالث : يتعلق بضرورة وضع نظام عالمي جديد ، ومدي قدرة النظرية الليبرالية علي استيعاب ذلك.
كما قامت كذلك دراسة أخري بعنوان “الأوبئة ومآلات التغيير العالمي في النظرية البنائية”[24] للدكتورة رغدة البهي بمناقشة النظرية البنائية في ظل تفاعلات أزمة وباء فيروس كورونا المستجد ، وفيما يلي عرض لأهم نقاط هذه الدراسة.
إن النقلات الكبري في الأنظمة الدولية قد ساهم في فهمها التحليل البنائي ، هذا إلي جانب النظام الحديث وما يشهده من تغيرات راهنة ، بما فيها ما نتج عن فيروس كورونا من تغيرات دولية لم تساهم النظرية البنائية في فهمها وتفسيرها فحسب ، بل تعدت ذلك لاستشراف ما يمكن أن ينتج عن هذه الأزمة من مآلات ، حيث إنه وفقاً لهذه النظرية فإن تداعيات الوباء كانت نتيجة لجملة من التراكمات التي ساهمت في تبلور هذه التداعيات بالشكل الذي جاءت عليه ، كما إن الوباء وفقاً لها هو “محفز للتغير العالمي” وليس مجرد “تهديد غير تقليدي”.
وهناك مجموعة من العمليات الدورية التي تأثرت بجائحة كورونا ، وقد حاولت النظرية البنائية تفسير هذه العمليات وما أصابها من تأثُر علي النحو الآتي :-
- العولمة : لقد تم اتخاذ مجموعة من التدابير في ظل أزمة فيروس كورونا ساهمت في تقويض العولمة ، وقد انقسمت الآراء التي ناقشت العولمة ما بين الانحسار ، والانتهاء ، والموت ، والارتداد ، والتي تأخذ في اعتبارها الوضع الراهن للأزمة دون النظر إلي أبعد من ذلك ، وما قد يصاحب انتهاء الأزمة من موجة ثانية للعولمة أكثر كثافة وانتشاراً ، وفي هذا الصدد جادل Rausch بأن المعتقدات والأفكار السائدة حول العولمة سوف يتم تغييرها وإعادة تشكيلها بواسطة فيروس كورونا.
- تشكيل الهوية : تري النظرية البنائية أن تشكيل الهوية له أهمية خاصة ، حيث إن الهويات تساهم في تحديد مصالح واستراتيجيات الدول ، وبالتالي يمكن تفسير الاختلاف في مصالح الدول في هذه الأزمة نظراً لاختلاف هويات هذه الدول.
- تغير الهوية : إن الهوية ليست معطي ثابت وأبدي ، وقد ساهمت الأزمة في إعادة تعريف بعض الدول لمصالحها ، وبالتالي ساهمت في بروز تغير هوياتي بشكل أو بآخر ، مما يُرجع أنه سوف يتم إعادة النظر في جدوي التكتلات الإقليمية عقب انتهاء الأزمة ، حيث إن فترة الأزمة أوضحت تصدع الهوية الجماعية والتي تعد هي جوهر فكرة التكلات الإقليمية.
- التعاون / التنافس : تري النظرية البنائية في هذه النقطة أن هناك بعض العناصر الحاسمة التي تشكل التفاعلات الدولية ، سواء كانت تعاونية أو صراعية ، وهذه العناصر تتمثل في مركبات التهديد ، والخوف ، وعلاقات العداوة ، والهويات السلبية والإيجابية ، وهو ما يفسر من وجهة نظر هذه النظرية التفاعلات الصينية – الأمريكية في هذه الأزمة ، وما شابها من سلوك تنافسي- صراعي بين الطرفين.
وأخيراً هناك دراسة أخري بعنوان “نظرة النقديين لعلاقة الأوبئة بالتهميش وعدم العدالة”[25] للدكتورة أميرة علي الدين أبو سمرة ، والتي قامت بمناقشة النظريات النقدية ونظرتها في ظل تفاعلات أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد ، وفيما يلي عرض لأهم نقاط هذه الدراسة.
يقوم النقديون بالتمييز فيما يخص قضية الأوبئة العالمية بين كونها قضية أمن قومي ، لا يحكمها سوي الاعتبارات البراجماتية ومصالح الأقوي ، وبين كونها قضية أمن ولكن بمعناه الأخلاقي والإنساني الانعتاقي ، كما إن الأدبيات النقدية تقوم بالرصد والكشف عن المفارقات في التعامل مع الأوبئة والاهتمام بها فقط عندما تصل إلي أعتاب الدول الغربية الكبري في أوروبا وأمريكا الشمالية.
وقد قامت الأدبيات النقدية برصد الأوبئة وما تعرضت له من تهميش في الرواية التاريخية لحقل العلاقات الدولية ، كما إنها عند تحليلها لأزمة فيروس كورونا قامت بمقارنتها بغيرها من الأمراض كالكوليرا والحصبة والملاريا ، والتي لم تلقي اهتمام من الدول الكبري نظراً لإنها لم تطول هذه الدول ، مما يؤكد علي ما تطرحه النظريات النقدية عن “التسعير غير المتساوي للبشر”.
وبالتالي فإن الواقع الدولي لا يزال من وجهة نظر الأدبيات النقدية محمل بعلاقات استعمارية كامنة ، حيث إنه عند تحليل قضية الصحة والأوبئة العالمية يظهر التهميش كسمة أساسية لواقع وتاريخ الأطراف الأضعف في النظام الدولي ، وعند تقاطع مصالح هذه الأطراف مع مصالح الدول الكبري ، فقط في هذه الحالة يتم الالتفات لهم.
وعند التحليل السياسي لظاهرة الأوبئة بشكل عام من قبل النظريات النقدية نجد إنها تأخذ في حسبانها الأبعاد غير المادية ، بدايةً من القيم الإنسانية والثقافة ، وحتي ما تقوم بتسميته “قوي الطبيعة” الخارجة عن السيطرة البشرية.
كما أن الأدبيات النقدية تري أن عدم العدالة هي سمة مميزة لأوضاع الصحة علي مستوي العالم ، وأن معادلة عدم العدالة تلك التي تسكن النظام الدولي تظهر نتيجة لتداخل عدد من العوامل ، كالعرق ، والجغرافيا ، والتعليم ، والنوع ، كما تركز هذه النظريات علي العلاقة بين الأوبئة والفقر ، كما تلفت النظر إلي إن هناك بعض الفئات التي تكون أكثر تهميشاً وبالتالي عرضة للأوبئة وذلك داخل الفئات المهمشة ذاتها ، مثل المرأة وما يقع عليها من تهميش في ظل هيراريكيات القوة الحاكمة لعلاقات النوع الاجتماعي.
وتري النظريات النقدية أن أزمة فيروس كورونا لا تُبشر بعالم أكثر إنسانية مع نهايتها ، بل علي العكس فهي تكشف عن أنانية وعدم عدالة عالم معاصر يدور في فلك مصلحة الأقوي والأغني ، كما تري هذه النظريات إن هذا الكشف يعد نقطة بداية ضرورية لتغيير هذا الواقع.
ومما سبق عرضه من دراسات تحاول تأصيل ومقاربة الأوبئة نظرياً ، بدايةً من النظرية الواقعية ، مروراً بكل من النظرية الليبرالية ، والنظرية البنائية ، والنظريات النقدية ، وعرض الأفكار والمقولات الرئسيسة لكل منهم فيما يخص موضوع الأوبئة ، يمكننا القول أن النظرية الواقعية هي النظرية الأقرب من موضوع الدراسة ، وبالتالي سوف يتم الاعتماد عليها بإعتبارها الإطار النظري الأقرب والأكثر تقاطعاً وتداخلاً مع موضوع الدراسة ، ومن ثم سوف يتم استخدامها في تحليل موضوعنا للتعرف علي تأثير جائحة فيروس كورونا المستجد علي الصراعات المسلحة في كل من سوريا وليبيا ، وهل ساهمت في تغيير نظرة الأطراف المعنية بالصراع في مصالحهم بها أم لا ، وهل كان للجائحة أثر سلبي ساعد في تأجيج الصراعات القائمة بالفعل أم أثر إيجابي ساهم في التخفيف من حدة هذه الصراعات.
- الإطار المفاهيمي :-
- أولاً : التعريف الإسمي :-
- الوباء (Epidemic) :
يُعرف مصطلح الوباء علي إنه : “زيادة مفاجئة وسريعة في عدد حالات المرض علي نحو أعلي من المتوقع في مجتمع معين كما هو الحال مع التفشي ، لكنه يمتد علي رقعة جغرافية أوسع”.[26]
- الجائحة (Pandemic) :
يُعرف مصطلح الجائحة علي إنه : “وباء يحدث وينتشر في جميع أنحاء العالم أو في منطقة واسعة جدًا ، ويعبر حدود العديد من البلدان ، وعادة ما يصيب عددًا كبيرًا من الناس”. أي أن الجائحة ما هي إلا وباء عالمي.[27]
- فيروس كورونا :
تقوم منظمة الصحة العالمية بتعريف فيروسات كورونا علي إنها : “فصيلة كبيرة من الفيروسات التي قد تسبب المرض للحيوان والإنسان ، وقد تسبب لدي البشر عدداً من حالات عدوي الجهاز التنفسي التي تتراوح حدتها من نزلات البرد الشائعة إلي الأمراض الأشد خطورة ، كمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) ، والمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة (سارس) ، وقد ظهر نوع جديد منه وهو الفيروس المنتشر حالياً كوفيد -19”.[28]
- جائحة فيروس كورونا المستجد (Covid-19) :
وقد تم تعريفه علي إنه : “فيروس مستحدث ، وهو سلالة جديدة من الفيروسات التاجية ، وتكمن خطورة الفيروس في إنه يُصيب الجهاز التنفسي للإنسان مع عدم معرفة علاج نهائي له حتي الآن ، وهو أيضاً فيروس كبير الحجم ويبقي علي الأسطح لفترات طويلة ، ونظراً لكبر حجمه فإن بقاءه في الهواء يستمر لمدة لا تتجاوز الثلاث ساعات ، وهذه فترة كافية لإلتقاط الفيروس ما لم يتم إتباع طرق الوقاية والسلامة”.[29]
- الصراع :-
يمكن تعريف الصراع علي إنه : “نتيجة لتعارض المصالح بناء علي ثلاثة عوامل رئيسية هي : قلة الموارد ، وتعارض الأهداف ، والإحباط”.
وكذلك يُعرف الصراع علي إنه : “موقف تنافسي يكون كل من أطرافه عالماً بعدم التوافق في المواقف والمصالح التي يتبناها الطرف الآخر ، كما يكون كل من طرفي الصراع مضطراً لاتخاذ موقف غير متوافق مع المصالح المُدركة للطرف الآخر”.
كما إن هناك تعريف يري الصراع علي إنه : “تصادم إرادات وقوي خصمين أو أكثر حيث يكون لكل طرف من الأطراف رغبة في تحطيم الطرف الآخر كلياً أو جزئياً بحيث تتحكم إرادته في إرادة الخصم ، ومن ثم يمكن أن ينتهي الصراع بما يحققه من أهداف وأغراض”.[30]
- الصراع المسلح المُدول :
يمكن تعريف الصراع المسلح المُدول علي إنه : “الحرب بين جناحين داخليين يحصل كل منهما علي مساندة من دولة مختلفة ، بالإضافة إلي الأعمال العدائية المباشرة بين دولتين أجنبيتين تتدخلان عسكرياً في صراع مسلح داخلي لمساندة أطراف متعارضة بما يخدم مصالحها ، وكذلك الحرب التي تنطوي علي تدخل أجنبي يساند جماعة متمردة تحارب حكومة قائمة وراسخة”.[31]
كما يمكن تعريفه علي إنه : “الأعمال العدائية الداخلية التي أصبحت دولية ، ويتحقق هذا التدويل علي أرض الواقع في الكثير من الظروف والحالات ومنها : الحرب بين فصيلين داخليين تدعمهما دول مختلفة ، والأعمال العدائية المباشرة بين دولتين أجنبيتين تتدخلان عسكرياً في صراع مسلح داخلي لدعم الطرفين المتعارضين ، وكذلك يشمل الحرب الذي تنطوي علي تدخل أجنبي لدعم جماعة متمردة تقاتل ضد حكومة قائمة”[32]
- ثانياً : التعريف الإجرائي :-
- جائحة فيروس كورونا المستجد :
يصعُب إيجاد مؤشرات لقياس هذا المصطلح بشكل كمي يمكن من خلاله التعرف علي مدي تأثيره علي الصراعات المسلحة في كل من سوريا وليبيا ، ولذلك سيتم الأكتفاء بالتحليل الكيفي لأثر جائحة فيروس كورونا المستجد والتعرف علي دوره في المجال السياسي ، وهل يمكن أن يؤثر علي الصراعات المسلحة وبالتالي الاستقرار السياسي لدولة ما ، ثم التطرق بالتحليل للحالتين السورية والليبية لدراسة دور الجائحة في الصراعات المسحة القائمة بها.
- الصراع المسلح :
يمكن تعريف الصراع المسلح تعريف إجرائي من خلال المؤشرات التالية[33] :-
- مدة الاشتباكات المسلحة وخطورتها.
- طبيعة القوات الحكومية المشاركة.
- عدد المقاتلين والقوات المنخرطة في النزاع.
- أنواع الأسلحة المستخدمة.
- عدد الإصابات ومقدار الأضرار الناجمة عن القتال.
- مستوي تنظيم الجماعات المسلحة.
- مدي فاعلية الجماعات المسلحة في شن عمليات عسكرية.
- قدرة الجمعات المسلحة علي استقطاب المقاتلين وتدريبهم.
- عدد الأطراف المعنية بالصراع.
- مستوي التدخل الخارجي بالصراع.
- المنهج :-
سوف يتم الاعتماد علي المنهج المقارن في محاولة للإجابة علي التساؤل البحثي الرئيسي لهذه الدراسة ، وسوف يتم التعريف بهذا المنهج بشكل مبسط فيما يلي.
يُعرف المنهج المقارن علي إنه : “المنهج الذي يقوم علي إجراء مقارنة بين ظاهرتين اجتماعيتين ، أو اقتصاديتين ، أو طبيعيتين ، وذلك بهدف الوصول إلي حكم معين يتعلق بوضع الظاهرة في المجتمع ، والحكم هنا مرتبط بإستخدام عناصر التشابه أو التباين بين الظاهرتين المدروستين أو بين مراحل تطور ظاهرة ما”.
ومن التعريف السابق يمكننا التوصل إلي أهمية المنهج المقارن ، والتي تكمن في :-
- المساهمة في تطوير عدد من المفاهيم ، والمصطلحات ، والمفردات التي لها أهمية في العديد من المجالات العلمية ، وبالتحديد في مجال العلوم السياسية.
- يعمل علي توسيع أفق البحث والدراسة ، حيث إنه من خلال المقارنة يُمكن للباحث أن يكتشف عوامل أخري تؤثر علي المفهوم أو الظاهرة محل الدراسة.
ويعد المنهج المقارن من أقدم مناهج التحليل بشكل عام ، ومن أهم مناهج التحليل السياسي بشكل خاص ، حيث إنه قد تم استخدام هذا المنهج من قبل عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الساسيين ، وعلي رأسهم أرسطو ، وإيميل دوركايم ، وكارل ماركس.[34]
ويوجد للمنهج المقارن عدد من المقولات أو الشروط التي يجب الإلتزام بها عند استخدامه ، وتتمثل هذه المقولات في :-
- يجب أن تستند المقارنة إلي دراسة مختلف أوجه الشبه والإختلاف بين حادثتين أو أكثر ، وهذا يعني إنه يجب العمل علي اختيار عدد من المفاهيم المركزية والتي سوف يتم المقارنة من خلالها.
- يجب علي الباحث أن يجمع معلومات دقيقة ، ويجب أن يعمل الباحث علي وصف وتصنيف هذه المعلومات التي توصل إليها تصنيفاً موضوعياً.
- أن يكون هناك أوجه شبه وأوجه إختلاف منطقية ، ويجب تجنب المقارنة السطحية ، حيث إنه يجب الغوص في الجوانب الأكثر عمقاً لفحص وكشف طبيعة الواقع المدروس ، وعقد المقارنات الجادة والعميقة.
- أن تكون الظاهرة المدروسة مقيدة بعاملي الزمان والمكان ، وذلك حتي يكون من الممكن مقارنتها بحادثة مشابهة في مكان آخر ، أو زمان آخر ، أو زمان ومكان آخرين.
- يجب في النهاية التوصل لنتائج ، ولكن مع مراعاة أن تكون هذه النتائج منطقية ، وموضوعية ، وواقعية.
ويمكننا القول أن هناك عدداً من العقبات التي تواجه الباحث عند الاعتماد علي المنهج المقارن ، وتتمثل هذه العقبات فيما يلي :-
- يكون في كثير من الأحيان هناك صعوبة في تحديد السبب من النتيجة ، خصوصاً إذا ما كان التلازم بينهما هو تلازم قائم علي الصدفة وليس تلازماً سببياً ، كما أن ما يعمق من هذه المشكلة هو التشابك والترابط بين المؤسسات والسلوكيات والمعايير التي يتم علي أساسها القياس.
- قد تحدث ظاهرة ما نتيجة لسبب ما في ظرف معين ، وقد تحدث هذه الظاهرة لسبب آخر يختلف عن السبب الأول في ظرف آخر ، وما يجعل من الصعب الوصول إلي دراسة موضوعية لمثل هذه الظواهر هو الإفتقار لمعلومات صحيحة ودقيقة بشأن هذه الظواهر ، وذك لأسباب مادية ، أو زمنية ، أو سياسية.
- في أغلب العلوم نجد أن النتائج في الأغلب لا ترتبط بعامل واحد ، بل إنها تكون حصيلة لمجموعة من العوامل المتداخلة والمتفاعلة مع بعضها البعض.
- يصعب ضبط المتغيرات المختلفة في حالة المنهج المقارن ، وكذلك يصعب التحكم بها ، وذلك نظراً لتداخل هذه المتغيرات وتشابكها مع بعضها البعض ، مما يجعل من الصعب عزلها والسيطرة عليها ، وبالتالي النتائج لا تكون بنفس الدقة التي يمكن أن يحققها المناهج الأخري كالمنهج التجريبي علي سبيل المثال.[35]
- تقسيم الدراسة :-
لقد تم تقسيم الدراسة الحالية لتأخذ الهيكل الآتي :-
الفصل الأول:- دور الأوبئة في الصراعات المسلحة
- المبحث الأول :- مفهوم الوباء العالمي
- المبحث الثاني :- مفهوم الصراعات المسلحة
- المبحث الثالث :- دور الأوبئة في الصراعات المسلحة والاستقرار السياسي
الفصل الثاني :- الأزمة السورية والصراع المسلح أثناء الجائحة
- المبحث الأول :- تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع
- المبحث الثاني :- تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في سوريا
الفصل الثاني :- الأزمة الليبية والصراع المسلح أثناء الجائحة
- المبحث الأول :- تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع
- المبحث الثاني :- تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في ليبيا
الفصل الأول:- دور الأوبئة في الصراعات المسلحة:-
إن العلاقة بين الأوبئة والصراعات المسلحة ليست دائماً واضحة ، وقد تم مناقشة الصلة بين كل منهما من قبل العديد من الباحثين ، وقد تكون هذه الصلة مباشرة أو غير مباشرة ، كما أن تأثير الأوبئة هنا قد يكون تأثير إيجابي أو سلبي ، كما يمكن أن لا يكون لها أياً منهما علي أرض الواقع ، ولكنها تعمل علي خلق بعد وعامل جديد يضاف إلي الديناميات الراهنة في الصراع المسلح ، ومن ثم سوف نقوم بمناقشة دور الأوبئة في الصراعات المسلحة في ذلك الفصل للتعرف علي ماهية هذا الدور ، وذلك من خلال ثلاثة مباحث ألا وهي :-
- المبحث الأول :- مفهوم الوباء العالمي
- المبحث الثاني :- مفهوم الصراع المسلح
- المبحث الثالث :- دور الأوبئة في الصراعات المسلحة والاستقرار السياسي
المبحث الأول :- مفهوم الوباء العالمي :-
يتم تعريف مصطلح التفشي علي إنه : “زيادة أعداد المصابين بمرض معين في منطقة جغرافية محددة أو مجتمع معين عن العدد المتوقع ، وقد تصنف حالة مرضية واحدة فقط أو عدد قليل من الحالات علي إنها “تفشي” في حال حدثت في مجتمع يتوقع غياب المرض فيه نهائياً ، أو في مجتمع غاب عنه المرض مدة طويلة ، وقد يظهر التفشي في عدة مجتمعات علي نحو متزامن”[36]
بينما يتم تعريف الوباء من قبل مراكز السيطرة علي الأمراض والوقاية منها (CDC) علي إنه: “انتشار مفاجئ وسريع لمرض معين بين عدد كبير من الناس في رقعة جغرافية معينة فوق المعدلات الطبيعية ، ويكون ذلك مع وجود أعراض متشابهة ومضاعفات في نفس الوقت ، ومن أهم صفاته إنه سريع الانتشار ، وعادة ما يكون المرض جديد وخارج عن السيطرة ، كما إنه يظهر بصورة مفاجأة ويكون أكثر شراسة ، بالإضافة إلي احتمالية تفشيه بين أعداد كبيرة في المجتمع”.[37]
بينما يتم تعريف الجائحة علي إنها : “وباء ينتشر في نطاق شديد الاتساع متجاوزاً الحدود الدولية ، وقد يتسع ليضم كافة أنحاء العالم ، ومن ثم فإنه يؤثر علي عدد هائل من الأفراد”.[38]
وتقوم منظمة الصحة العالمية بالتمييز بين كل من الأوبئة والجوائح وفقاً للمعدل الذي ينتشر به المرض ، ومن ثم يمكننا القول إن ما يُميز الجائحة عن الوباء هو درجة انتشار المرض ، وليس شدته، وبالتالي الجائحة ما هي إلا وباء عالمي.[39]
وهناك العديد من الجوائح التي مرت علي البشرية منذ القدم ، ومن هذه الجوائح : الموت الأسود (1346– 1353) ، وجائحة الإنفلونزا (1889– 1890) ، والإنفلونزا الإسبانية (1918- 1920) ، والإنفلونزا الآسيوية (1957- 1958) ، والإيدز (1981- حتي الآن) ، وجائحة إنفلونزا الخنازير (2009) ، وأخيراً سلالة فيروسات كورونا (سارس ، وكوفيد-19).[40]
وإذا نظرنا إلي هذه الأمراض السابق ذكرها والتي تم تصنيفها علي إنها جوائح ، سوف نجد إن هناك بعض أوجه الشبه بينهم ، وبالتالي يمكن القول إن هناك بعض العناصر المشتركة والتي تُميز الجوائح عن غيرها من الأمراض ، ومن هذه العناصر : الانتشار في مناطق جغرافية واسعة ، إلي جانب معدلات مرتفعة للانتقال والهجوم ، كما إنه عادةً ما يكون المصطلح مرتبط بالأمراض الجديدة ، أو علي الأقل بالمتغيرات والمسببات الجديدة للأمراض الموجودة ، بالإضافة إلي أن يكون هذا المرض قابل للانتقال أي معدي ، كما إنه عادةً ما يكون المرض الذي يُوصف بكونه جائحة مميت وشديد الخطورة وليس مرض خفيف أو متوسط الشدة.[41]
وقد قامت منظمة الصحة العالمية في عام 1999 بنشر مقال بعنوان : “منظمة الصحة العالمية : وصف مراحل الجائحة والإجراءات التنفيذية الرئيسية لكل مرحلة” ، وذلك في الكتاب الإرشادي للتأهب للجوائح ، وقد تم تحديثه مرتين ؛ الأولي في عام 2005 ، والثانية في عام 2009 ، وقد قامت منطمة الصحة في هذا المقال بوصف دورة حدوث الجوائح ، وتقسيمها إلي ستة مراحل مع التعرف علي كيفية التعامل مع كل مرحلة ، وما هي الإجراءات المناسبة لها ، وهذه المراحل بإختصار[42] هي :-
- المرحلة الأولي : يكون الفيروس فيها غير مسبب للعدوي للبشر ، ولكنه يُصيب الحيوان.
- المرحلة الثانية : يكون الفيروس فيها يُصيب الحيوان أيضاً ، ولكنه يُسبب العدوي للبشر.
- المرحلة الثالثة : يكون الفيروس فيها مسبب لإصابة جماعات صغيرة ، أو حالات متفرقة بالمرض ، ولكنه في ذات الوقت لا يعتبر كافياً لإحداث تفشي في المجتمع المحلي.
- المرحلة الرابعة : يكون المرض فيها كافياً لإحداث تفشي في المجتمع المحلي ، كما يُصبح خطر التحول إلي وباء قريب ومحتمل.
- المرحلة الخامسة : يكون المرض فيها مُسبب لإصابات في بلدين أو أكثر ، ولكن في داخل الإقليم نفسه ، وذلك حسب التوزيع المعتمد للأقاليم من منظمة الصحة العالمية ، ومن ثم فقد أصبح الوباء واقع وحقيقة يجب التعامل معها.
- المرحلة السادسة : يكون المرض فيها مُسبب لإصابات في إقليمين مختلفين علي الإقل ، وبالتالي في هذه المرحلة فقد بات الوباء عالمياً ، أي تحول إلي جائحة.
المبحث الثاني :- مفهوم الصراعات المسلحة :-
لقد شهد العالم العديد من الصراعات المسلحة علي كافة مستوياتها ، داخلية كانت أو دولية ، وهو ما جعل الاهتمام ينصب علي القانون الدولي الإنساني كأحد فروع القانون الدولي ، وذلك لكونه هو المسؤول عن وضع الأطر القانونية التي يتم الرجوع إليها في حالة الصراعات المسلحة ، وكذلك لحماية ضحايا هذه الصراعات ، والذي يكون أغلبهم من المدنيين.
وفي تعريف الصراع المسلح ، نجد أن دائرة الاستئناف بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة ، قد قامت بتعريف الصراع المسلح علي إنه : “يتم تقدير وجود صراع مسلح ما كلما كان هناك لجوء للقوة المسلحة بين الدول ، أو نزاع مسلح متطاول الأمد بين السلطات الحكومية وجماعات مسلحة منظمة ، أو بين تلك الجماعات داخل تلك الدول”.[43]
وقد ظهر مصطلح الصراع المسلح مع اتفاقيات جنيف الأربعة التي تم عقدها في عام 1949 وبروتوكليها الإضافيين ، والذي تم من خلالهما التمييز بين الصراع المسلح الدولي والصراع المسلح غير الدولي ، حيث تناول البروتوكول الإضافي الأول الصراع المسلح الدولي ، بينما تناول البروتوكول الإضافي الثاني الصراع المسلح غير الدولي ، ولكن مع الوقت ظهر نوع جديد من الصراعات المسلحة يختلف في بعض صفاته مع هذا التصنيف القائم ، وبالتالي يصعُب دمجه مع أحدي النوعين.[44]
وفيما يخص الصراع المسلح الدولي ، فسوف نجد أن هناك العديد من التعريفات المختفلة التي تحاول توضيح ما هو المقصود من وراء الصراع المسلح الدولي ، ومن هذه التعريفات من يتحدث عن أن الصراع المسلح الدولي هو : “صراع مسلح بين دولتين أو مجموعة من الدول ، كل واحدة فيها تعمل علي فرض إرادتها بالقوة علي خصمها”.[45]
كما تم تعريفه من قبل الشافعي علي إنه : “صراع مسلح بين الدول بقصد فرض وجهة نظر سياسية وفقاً للوسائل المنظمة بالقانون الدولي”.
وكذلك قام العوضي بتعريفه علي إنه : “صراع أو نضال باستعمال القوة المسلحة بين الدول بهدف تغلب بعضها علي بعض لتحقيق مصلحة مادية أو معنوية”.[46]
وتم تعريف الصراع المسلح الدولي أيضاً علي إنه : “هو الذي يشتبك فيه دولتان أو أكثر بالأسلحة ، حتي في حالة عدم إعتراف إحداهما بالحرب أو كليهما”.[47]
ويوجد للصراع المسلح الدولي ثلاثة صور أساسية ، ألا وهي :-
- الصراع المسلح البري[48] : وهو الصراع المسلح الذي ينشُب بين القوي المتحاربة علي اليابسة ، ويشمل الأعمال العدائية التي تدور بين كل من الجيوش النظامية من ناحية ، وغيرهم من المحاربين من ناحية أخري.
- الصراع المسلح البحري[49] : وهو الصراع المسلح الذي ينشُب بين القوي المتحاربة علي سطح الماء وتحته ، ويشمل الأعمال العدائية التي تدور بين القوات المسلحة البحرية ، سواء كانت هذه القوات تابعة لجيوش نظامية أو غير نظامية.
- الصراع المسلح الجوي[50] : وهو الصراع المسلح الذي ينشُب بين القوي المتحاربة فوق اليابسة والبحار ، ويشمل الأعمال العدائية التي يتم ممارستها من قبل الطائرات العسكرية ، والتي تُعد هي الوحيدة التي لها الحق في القتال هنا.
وفيما يخص الصراع غير الدولي أو الداخلي فهو أيضاً له العديد من التعريفات المختلفة ، ومن هذه التعريفات تعريف كاثلين لافاند للصراع المسلح غير الدولي علي إنه : “حالة من حالات العنف تنطوي علي مواجهات مسلحة طويلة الأمد بين القوات الحكومية وجماعة أو أكثر من الجماعات المسلحة المنظمة ، وتدور علي أراضي الدولة”.[51]
وهناك العديد من التعريفات الأخري للصراع المسلح غير الدولي ، غير إن مختلف هذه التعريفات تقوم علي معيارين أساسيين ، ألا وهما : نطاق الصراع المسلح ، وصفة الأطراف المتصارعة ، حيث إنه يقوم داخل أراضي الدولة الواحدة ، ويكون الأطراف المتصارعة فيه يحملون صفة الرعايا ، أي إنهم من مواطنين هذه الدولة التي تشهد الصراع المسلح غير الدولي أو الداخلي.[52]
ويوجد للصراع المسلح غير الدولي صورتين أساسيتين ، ألا وهما[53] :-
- الحرب الأهلية : وهي الصراع المسلح الذي ينشُب بين أطراف من داخل الدولة وليس خارجها ، وتشمل الأعمال العدائية والتصادم فيما بين الجماعات المختلفة وبعضها البعض ، أو بين الجماعات المتمردة والحكومة النظامية ، ويحدث ذلك نتيجة سياسية أو أيديولوجية أو دينية أو عرقية.
- الاضطرابات والتوترات الداخلية : حيث تشمل الاضرابات الداخلية الأعمال العدائية والعنف فيما بين الأفراد أو الجماعات المختلفة ، ويحدث ذلك نتيجة لغضبهم أو عدم قبولهم لوضع ما ، وبالتالي فهي تُعبر عن اختلال جزئي في النظام الداخلي ، بينما نجد أن التوترات السياسية تشمل الطرق السلمية التي يتم التعبير بها عن وجود قلق سياسي أو اجتماعي ما.
ولكن مع بداية القرن الواحد والعشرين وجدنا أن الصراعات المسلحة لم تعد تقتصر علي هذا المعني التقليدي ، وبدأ في الظهور نوع جديد من الصراعات يتجاوز هذه المعاني التقليدية ، حيث نجد الآن صراعات تضم دول أجنبية وجماعات مسلحة متصارعة مع بعضها البعض[54] ، أو في حالة قيام دولة ما بالتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في صراع مسلح داخلي قائم في دولة أخري ، وذلك لدعم أحد أطراف هذا الصراع ، ومن ثم تحقيق مصالحها الخاصة والتأثير علي نتائج الصراع[55] ، وبالتالي أصبح هناك عنصر خارجي وأجنبي بجانب العنصر الداخلي ، وهو ما جعل من الصعب أن يتم تسمية هذا النوع من الصراعات علي إنه صراع دولي ، أو حتي صراع غير دولي ، فهو يشكل صراع مسلح مختلط وجامع بين النوعين ، وبالتالي يواجه هذا النوع من الصراعات معضلة كبيرة ، وهي متربطة بشكل كبير بالأطر القانونية التي من المفترض أن تحكمه ، وهذا النوع من الصراعات يتم تسميته حالياً بالصراع المسلح المدول.[56]
ويمكن تعريف الصراع المسلح المدول علي إنه : “الأعمال العدائية الداخلية التي أصبحت دولية ، ويتحقق هذا التدويل علي أرض الواقع في الكثير من الظروف والحالات ومنها: الحرب بين فصيلين داخليين تدعمهما دول مختلفة ، والأعمال العدائية المباشرة بين دولتين أجنبيتين تتدخلان عسكرياً في صراع مسلح داخلي لدعم الطرفين المتعارضين ، وكذلك يشمل الحرب الذي تنطوي علي تدخل أجنبي لدعم جماعة متمردة تقاتل ضد حكومة قائمة”.[57]
المبحث الثالث :- دور الأوبئة في الصراعات المسلحة والاستقرار السياسي :-
إذا نظرنا إلي تاريخ البشرية سوف نجد أن العالم قد واجه الكثير من الأوبئة والجوائح علي مر هذا التاريخ ، ولكن قد شهدت العقود القليلة الماضية تزايد تفشي هذه الأوبئة والجوائح بشكل متكرر وواسع الإنتشار ، ومع هذا التزايد الواضح أصبح من الضروري التركيز علي دور هذه الأوبئة في الصراعات المسلحة والاستقرار السياسي ، حيث إنه قد جري العادة علي التركيز علي أثر عدم الاستقرار السياسي والصراعات المسلحة علي الأوبئة وتفشيها ، ولم يتم إعطاء الاهتمام للتأثير الذي يمكن أن تخلفه هذه الأوبئة علي الصراعات المسلحة القائمة والاستقرار السياسي.
وفي هذا الصدد قامت دراسة بمقارنة تأثير كل من الإيبولا والسل والإنفلونزا علي الاستقرار السياسي ، وقد توصلت إلي أن كل من الأوبئة الثلاثة يختلف في الطريقة التي يرتبط بها بعدم الاستقرار السياسي ، حيث إنه قد ظهر أن وباء الأيبولا يرتبط بالاستقرار السياسي ارتباط إيجابي صغير ، بينما ظهر أن وباء الإنفلونزا يرتبط بالاستقرار السياسي ارتباط سلبي صغير ، في حين أنه فيما يخص السل فلم تظهر علاقة ارتباط ذات دلالة إحصائية بينه وبين الاستقرار السياسي.
ومن ثم يختلف تأثير الأوبئة علي الاستقرار السياسي من وباء لآخر ، وهناك مجموعة من الخصائص التي تجعل من أحد الأوبئة أكثر تأثيراً علي الاستقرار السياسي أكثر من غيره ، ومنها علي سبيل المثال المدي الزمني لتفشي الوباء ، حيث إنه من المرجح أن يكون تأثير الأوبئة التي تنتشر بشكل حاد في مدي زمني قصير أكبر علي الاستقرار السياسي من تلك التي تنتشر بشكل مزمن علي مدي زمني طويل.
كما أن هذه العلاقة بين الأوبئة والاستقرار السياسي لا تقتصر فقط علي هذه الخصائص المادية ، أو قوة انتشار المرض ، ولكنها تمتد لتشمل كذلك العوامل الفكرية ، ونظرة العالم للوباء ، ومدي الإحساس بإلحاحه وخطورته ، حيث أن استجابات صانعي السياسات للأوبئة التي لا تتماشي مع الأفكار السائدة عادةً ما يشوبها عدم الاهتمام الكافي ، وهو ما يمكن أن يسبب آثار كبيرة ، نظراً لعدم التعامل مع الوباء بما يتناسب مع خطورته.[58]
وقد قامت دراسة أخري بمحاولة التعرف علي أثر الأوبئة علي مناطق الصراعات المسلحة ، وذلك بالتركيز علي حالة الكونغو الديمقراطية ، وقد توصلت إلي أن معدل حدوث الصراع للفرد في المناطق التي تعرضت لتفشي وباء الإيبولا كان مرتبط بمعدل الإصابة بالوباء للفرد الواحد ، حيث أنه كان هناك زيادة ملحوظة في العدد الشهري لأحداث الصراع في المناطق التي شهدت نسب عالية من تفشي وباء الإيبولا ، وقد وصلت هذه الزيادة إلي 2.7 مقارنة ب 1.3 في باقي أنجاء جمهورية الكونغو الديمقراطية.[59]
ومع ذلك يمكننا القول أن العلاقة بين الأوبئة والصراعات المسلحة والاستقرار السياسي ليست واضحة بشكل كبير ، ويشوبها الكثير من الغموض في طبيعة هذه العلاقة ، وهل هي علاقة مباشرة أم غير مباشرة ، وهل هي علاقة إيجابية أم سلبية أم ثابتة في بعض الأحيان ، الأمر الذي يتطلب المزيد من الدراسة والتمحيص ، والاعتماد علي الدراسات الإحصائية لتدعيم الوصول إلي بعض الاتجاهات العامة فيما يخص العلاقة بين الأوبئة والصراعات المسلحة والاستقرار السياسي.
الفصل الثاني : الأزمة السورية والصراع المسلح أثناء الجائحة :-
إن الأزمة السورية التي اندلعت منذ عام 2011 ومازالت مستمرة حتي الآن ، تعد من أكثر الأزمات التي يشهدها الوطن العربي تعقيداً وحدة ، حيث إنها تشهد صراع مسلح حاد ومتعدد الأطراف لما يقرب لعقد من الزمان ، ومن ثم فإن هذا الوضع الذي يتسم أساساً بالتعقيد والتضارب وتداخل المصالح والأطراف يُمكن أن يكون لجائحة فيروس كورونا المستجد تأثيرها عليه ، أو حتي التأثير علي الأطراف الفاعلة في هذه الأزمة مما يُمكن أن ينعكس علي دورهم وتدخلهم في الأزمة السورية ، وقد يكون هذا التأثير بشكل مباشر ، سلبي أو إيجابي ، أو حتي يمكن أن يكون التأثير غير مباشر من خلال إضافة بُعد جديد للديناميات الموجودة مسبقاً ، ومن ثم سوف نقوم بمناقشة الأزمة السورية والصراع المسلح القائم بها أثناء جائحة فيروس كورونا المستجد في ذلك الفصل ، وذلك للتعرف علي مدي تأثر الأزمة بالجائحة ، وذلك من خلال مبحثين ألا وهما[60] :-
- المبحث الأول :- تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع
- المبحث الثاني :- تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في سوريا
المبحث الأول : تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع :-
علي مدي الفترة التي قام فيها الصراع المسلح في سوريا كان هناك ثلاثة دول أطراف يمكن اعتبارها هي الفواعل الرئيسية في هذا الصراع ، وحيث أن كل من هذه الدول الثلاثة كان له دوره في رسم المسار الخاص بالصراع حتي الآن ، وذلك علي اختلاف أهداف واستراتيجيات كل منهم ، حيث يمكن القول أن أهداف الأطراف الثلاثة في سوريا تعد أهداف استراتيجية ومحورية بالنسبة لكل منهم ، وهذه الدول الثلاثة تتمثل في روسيا وتركيا وإيران.
وإذا نظرنا إلي هذه الدول خلال جائحة فيروس كورونا المستجد ، سوف نجد إنها كانت من أكثر الدول التي تأثرت بالجائحة ، حيث أن هذه الدول الثلاث – أي روسيا وتركيا وإيران – تضررت بشكل كبير من الجائحة ، وليس ذلك فقط بل تعد هذه الدول من بين أكثر 12 دولة تأثراً في العالم ، ومن ثم يُمكن أن يؤثر ذلك علي استراتيجياتها في سوريا ، ومن هنا سوف نتناول كل دولة من هذه الدول الثلاثة علي حدي ، وذلك للتعرف علي مدي تأثُر استراتيجية كل منهم في الصراع السوري خلال فترة الجائحة.[61]
أولاً: استراتيجية روسيا في الصراع المسلح السوري في فترة الجائحة :-
تعد روسيا القوة العسكرية المهيمنة في الصراع السوري منذ تدخلها في ٢٠١٥ ، وذلك نظراً لما لها من مصالح جيواستراتيجية وجيواقتصادية رئيسية عدة في سوريا ، ومن هذه المصالح: الحفاظ علي نفوذها المباشر في سوريا ، والحفاظ علي بقاء النظام في دمشق ، وبيع السلاح مما يدعم من صناعة الأسلحة في الداخل الروسي ، وكذلك السيطرة علي الموارد الطبيعية ، وإحياء التحالفات القديمة في فترة الإتحاد السوفيتي ، بالإضافة إلي تحدي روسيا لمكانة الولايات المتحدة في المنطقة.[62]
وعلي الرغم من التضرر الشديد لروسيا من الجائحة من حيث عدد الإصابات الذي يعد أعلي ثالث رقم علي مستوي العالم ، وكذلك الإنهيار في أسعار النفط التي انخفضت لأكثر من ٦٥ % وتأثيره الشديد علي الاقتصاد الروسي ، وذلك نظراً لكون الاقتصاد الروسي يعتمد بشكل كبير علي تصدير الطاقة ، نجد أن أهداف روسيا في الحفاظ علي النظام ومنع تغييره ، وكذلك في الحفاظ علي مركزها ووضعها في سوريا لا تزال كما هي ولم تتغير ، وذلك لما لها من مصالح رئيسية وهامة بسوريا.
وبالتالي نجد إنه علي المدي القصير لم تتغير مصالح روسيا وسياساتها في الصراع السوري ، ولكن علي أرض الواقع نجد أن هناك تعديلات طفيفة في السلوك الروسي ، وذلك نظراً للتداعيات الاقتصادية السلبية التي نتجت عن جائحة كورونا ، فقد تم تحديد مصادر جديدة للدخل في سوريا ، إلي جانب خفض التكاليف ، ولكن في المدي المتوسط يمكن أن تنخرط روسيا بشكل أكبر في شمال شرقي سوريا ، وذلك للسيطرة علي موارد النفط السوري بشكل أكبر ، حيث إن هناك احتمالية لتزايد الضغوط المالية علي روسيا في المدي المتوسط مع جائحة كورونا وارتفاع أسعار الطاقة ، أي يمكن القول أن الاستراتيجية الأساسية لروسيا في سوريا لم تتغير في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد.[63]
ثانياً: استراتيجية تركيا في الصراع المسلح السوري في فترة الجائحة :-
لقد تغيرت مصالح تركيا الرئيسية في سوريا بمرور الوقت منذ تدخلها في عام ٢٠١١ ، وظهر ذلك في دعوة تركيا للإطاحة بنظام الأسد وتغيير علاقاتها الودية مع دمشق ، وتحول اهتمامها من اتخاذها لسوريا كبداية لتحقيق طموحاتها في دولة عثمانية جديدة ، إلي التركيز علي علي ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا تتلخص في : تقويض الحكم الذاتي للأكراد في سوريا حتي لا يتبعها تطورات شبيهة في تركيا ، وكسب مقعد لها علي طاولة المفاوضات فيما يخص المستقبل السياسي السوري ، وذلك من خلال تعطيل التقدم العسكري لنظام الأسد وروسيا وإيران ، إلي جانب العمل علي منع وصول المزيد من اللاجئين السوريين إلي أراضيها.[64]
وعند النظر إلي الوضع الاقتصادي التركي سوف نجد إنه يعاني حتي من قبل الجائحة من عجز كبير في الميزانية ، وانخفاض في الإحتياطي الأجنبي ، وهبوط في سعر العملة المحلية بمعدل سريع ، وبالتالي كان من الطبيعي أن تسوء الحالة الاقتصادية للبلاد بشكل أكبر في ظل جائحة كورونا ، ولكن نظراً لكون تركيا تهتم بسوريا ولها العديد من المصالح الحيوية الرئيسية بها لم تغير من استراتيجياتها بشكل كبير فيما يخص الصراع السوري في ظل جائحة كورونا ، حيث إنها لا تزال تهتم بتحقيق أهدافها الثلاثة الرئيسية المذكورة ، وبالتالي هذه الآثار السلبية للجائحة علي الحالة الاقتصادية لتركيا لم تسهم سوي في قيامها بتعديلات طفيفة علي السياسة التركية في سوريا.
وعلي وجه التحديد نجد هذه التعديلات في محاولات تركيا للتفاوض مع كل من روسيا والولايات المتحدة فيما يخص أدلب والشمال الشرقي ، حيث نجد إن في أدلب اهتمت تركيا بالحفاظ علي وقف إطلاق النار مع روسيا ، وذلك للتخفيف من الضغط علي الحدود التركية بسبب النازحون إلي أدلب ، وكذلك نجد أن تركيا ذهبت في الشمال الشرقي إلي الإنفتاح الجزئي علي الدول الشريكة في حلف شمال الأطلسي ، وقد ظهر ذلك في إعلانها لتأخير تفعيل منظومة الصواريخ إس-400 ، وهذه الصواريخ كان قد تم شراؤها من روسيا ضمن صفقة أثارت غضب دول الإتحاد الأوروبي ، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية ، وذلك الإنفتاح سوف يساهم في إعطائها فرصة للتفاوض وإعادة ترتيب أوراقها مع الولايات المتحدة ، وفي ذات الوقت سوف يساهم ذلك في تخفيف مؤقت لما تقوم به من ضغط علي الوحدات الكردية التي هي في الأساس في تحالف مع الولايات المتحدة.[65]
ثالثاً: استراتيجية إيران في الصراع المسلح السوري في فترة الجائحة :-
هناك علاقة خاصة تربط بين سوريا وإيران تعود إلي عام 1979 مع بداية الثورة الإسلامية ، ومن ثم نجد أن إيران كانت تعد الداعم الأكثر أهمية لنظام الأسد علي المستوي الإقليمي في الأزمة السورية ، وهناك عدد من المصالح الاستراتيجية والحيوية لإيران في سوريا ، وتتمثل هذ المصالح في : الحفاظ علي نظام الأسد وحمايته ، وضمان الحفاظ علي امتداد النفوذ السياسي والعسكري من إيران إلي لبنان ، وذلك عبر كل من العراق وسوريا ، كما أن تواجد إيران في سوريا يعد بمثابة دليل علي كونها قادرة علي القيام بدور مباشر في القضية الفلسطينية ، كما إنه يدل في ذات الوقت علي قدرة إيران علي مواجهة إسرائيل وفرض ضغوط عسكرية عليها ، بالإضافة إلي محاولة استغلالها للقطاعات الاقتصادية المربحة في سوريا والحصول علي حصة كبيرة فيها.
وقد كانت إيران تعاني من أزمة اقتصادية خطيرة حتي من قبل جائحة فيروس كورونا المستجد ، وذلك مع تزايد الفساد بين النخب الحاكمة ، وإعادة فرض أمريكا لعقوبات أولية وثانوية علي إيران ، ومع انتشار الجائحة ازدادت حدة هذه الأزمة ، وذلك نظراً لكون إيران أحد أكثر الدول التي تضررت من الجائحة ، حيث أن إيران من الدول التي شهدت أعداد كبيرة من الإصابات ، هذا إلي جانب تأثرها بإنخفاض أسعار النفط والغاز ، نظراً لكونها من الدول الرئيسية المصدرة للطاقة في العالم ، وقد ساهم كل هذا في زيادة حدة الأزمة الاقتصادية التي تتسم بالخطورة من الأساس.[66]
ولكن نظراً لكون مصالح إيران في سوريا مصالح استراتيجية ، لم تقم إيران بتغيير استراتيجيتها وسياستها العامة في سوريا خلال فترة الجائحة ، ولكن الحالة الاقتصادية الخطيرة جداً في إيران تشير إلي احتمالية اضطرار إيران إلي إجراء تغييرات كبيرة في السلوك علي الأرض ، حيث يجب عليها أن تقوم بتخفيض التمويل الكبير الذي كانت تقدمه إلي سوريا في السابق ، كما أن مخططاتها الاقتصادية السابقة في سوريا يمكن أن تكون غير مجدية علي المدي القصير ، مما يُمكن أن يُضعف من مكانة إيران كقوة مهيمنة في الصراع.
كما أن إيران قامت كذلك بتخفيض تمويلها للميليشيات الشيعية التابعة لها في سوريا ، مما يعني أن هذه الميليشيات قد تبحث عن مصادر أخري للدخل ، وقد يؤدي ذلك في المستقبل إلي ردود فعل معادية لإيران ، كما أن إيران كذلك سوف تضطر إلي التركيز علي المجالات الرئيسية فقط ، وذلك بدلاً من شراء ولاء الجهات المحلية المختلفة الفاعلة في الصراع السوري ، وركزت علي المناطق التي تمثل أهمية استراتيجية بالنبسة لها ، ولم تعد تركز علي العمل في مختلف أنحاء سوريا.[67]
وبالتالي يُمكننا القول أن إيران لم تقوم بتغيير سياستها العامة ، أو إعادة تحديد أهدافها ورسم استراتيجيتها فيما يخص سوريا خلال فترة الجائحة ، وذلك نظراً لما لها من مصالح حيوية واستراتيجة رئيسية في الداخل السوري ، ولكن نظراً للوضع الاقتصادي الحاد والخطير الذي تمر به إيران مع جائحة فيروس كورونا المستجد ، قامت بعمل تغييرات كبيرة في سلوكها علي الأرض ، تكمن في تخفيض نفقاتها المالية في سوريا بشكل كبير في المقام الأول ، حيث أن الوضع الاقتصادي الإيراني كان يعاني من مشاكل خطيرة في الأساس قبل الجائحة ، ومن ثم كانت الآثار الاقتصادية للجائحة علي إيران خطيرة جداً وكارثية.
ومن ثم يمكننا القول إن جائحة كورونا لم تُساهم في تغيير قواعد اللعبة وظلت آليات الصراع السوري كما هي ، حيث إنها لم تعمل علي تحسين الوضع علي أرض الواقع ، كما إنها لم تُساهم كذلك في زيادة سوء الأوضاع في سوريا ، وبالتالي يمكننا القول إن جائحة كورونا هنا كانت مساهمتها متمثلة في تشكيل عامل وبعد جديد تم إضافته إلي الديناميات الموجودة مسبقاً ، ويظهر ذلك في استراتيجيات كل من تركيا وروسيا وإيران بإعتبارهم الفاعلين الرئيسيين في الصراع السوري ، فلم تتغير سياسة كل منهم في التعامل مع الصراع بشكل كبير ، علي الرغم من الحالة الاقتصادية السيئة التي خلفتها جائحة فيروس كورونا المستجد في البلدان الثلاثة ، وقد اقتصرت التعديلات في سياسة كل من روسيا وتركيا في سوريا علي تعديلات طفيفة في نشاط كل منهم علي الأرض ، حيث تم الحد من النفقات بشكل بسيط في كلتا الحالتين ، وامتدت هذه التعديلات في حالة إيران إلي قيامها بتعديلات كبيرة في نشاطها علي الأرض ، تتمثل هذه التعديلات كذلك في الحد من النفقات ولكن بشكل كبير في حالة إيران ، وذلك نظراً لما لهم من مصالح استراتيجية هامة ورئيسية في سوريا ، وتحاول كل منهم أن تحافظ علي وضعها ومكانتها في المشهد السوري المعقد.
المبحث الثاني : تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في سوريا :-
تعاني سوريا من صراع مسلح أمتد لأكثر من عشر سنوات ، مما جعل الأوضاع في البلاد تسوء بشكل كبير ، حيث أن البنية التحتية المدنية تعرضت لتدمير هائل ، كما أن الوضع الاقتصادي في البلاد تدهور بشكل كبير ، بالإضافة إلي نقص الخدمات الأساسية للمواطنين وتعرضهم للخطر بشكل دائم ، مما ساهم في نزوح أكثر من نصف السكان[68] ، ومن ثم فإن الوضع في سوريا غير مواتي للتعامل مع جائحة خطيرة مثل جائحة فيروس كورونا المستجد.
وقد تم الإعلان عن ظهور أول حالة إصابة بجائحة فيروس كورونا المستجد في دمشق في يوم 23 مارس ، والذي يعد إعلان متأخر إلي حد ما نظراً لما يجمع سوريا من علاقات سياسية مع إيران في فترة الصراع ، وكما سبق أن ذكرنا أن إيران تعد من أكثر الدول التي تضررت من الجائحة ، وقد تم إتخاذ إجراءات سريعة في ذلك الوقت كالإغلاق وغيره في محاولة لتخفيف الضغط علي القطاع الصحي ، والذي أساساً قد تم تدميره واستهلاكه في صراع مسلح طويل الأمد لا يزال ممتد حتي الآن ، وقد بدأت الحالات في الإزدياد متخذه الاتجاه التصاعدي ذاته كما في كافة بلدان العالم ، وعلي الرغم من ذلك تعد الأرقام التي تم الإفصاح عنها رسمياً هي أرقام منخفضة ، ولكن في ذات الوقت مشكوك بها ، وإن الأرقام الحقيقة كانت أعلي بكثير مما تم الإفصاح عنه من قبل حكومة الأسد.
وكافة الظروف التي تعاني منها سوريا والأوضاع المتردية بها تحد من قدرتها علي مواجهة الوباء أو تقليل الوفيات الناجمة عنه ، كما أنها تمثل تحدٍ جديد للسياسة الداخلية التي تعاني من الاضطراب أساساً ، بالإضافة إلي ما يُمكن أن تُسببه هذه الجائحة من تداعيات علي الصراع المسلح القائم في سوريا منذ عام 2011.[69]
وقد أدي انشغال مختلف الدول والجهات الفاعلة علي المستويين الدولي والإقليمي بمواجهة الجائحة وتداعياتها المختلفة إلي انعكاسات مباشرة علي بنية بعض التنظيمات الإرهابية داخل سوريا ، ويظهر ذلك في تطور أنشطة هذه التنظيمات الإرهابية ، وعلي وجه الخصوص تنظيم داعش الإرهابي ، بالإضافة إلي التراجع النسبي في أداء البعض الآخر من التنظيمات الإرهابية داخل سوريا ، ويظهر ذلك بشكل كبير في هيئة تحرير الشام ، التي تتواجد وتُسيطر علي مناطق واسعة في أدلب.
وفيما يخص تنظيم داعش الإرهابي سوف نجد إنه سعي لاستغلال جائحة فيروس كورونا المستجد والاستفادة منها ، ويظهر ذلك علي سبيل المثال في سعيه لاستعادة السيطرة علي ما سبق وفقده من مناطق في معركة الباغوز في عام ٢٠١٨ ، بالإضافة إلي استغلاله فرصة انشغال العالم عن التنظيم وتراجع اهتمام الدول الغربية به ، ومن ثم عدم القيام بعمليات عسكرية وأمنية ضده ، حيث أدعي التنظيم مع بداية إعلان الدولة السورية لظهور وتفشي الجائحة في البلاد إنه قام بتنفيذ ٥٢ عملية إرهابية داخل سوريا ، وقد قاموا بنشر هذه المزاعم في مجلة النبأ الداعشية ، كما دعا التنظيم أعضاءه لاستغلال الفرصة والقيام بالعديد من العمليات الإرهابية لاستعادة ما قد تم فقده من مناطق ، وكذلك دعا إلي توجيه ضربات إرهابية ضد العديد من الدول الأوروبية داخل وخارج سوريا.[70]
كما تم تعليق التجنيد العسكري من قبل دمشق ، وقوات سوريا الديمقراطية التي قامت كذلك بإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد ، ومع ذلك فإن ندرة الموارد وارتفاع أسعارها بشكل كبير جداً وخاصة الغذاء والدواء قد مثل حافز لزيادة الانخراط في أنشطة التهريب ، وزيادة معدلات العنف كذلك ، كما قامت بعض الأطراف باستغلال كل هذه الأوضاع لتحقيق أهدافها ، كما فعلت إسرائيل التي استمرت في شن غارات جوية ضد إيران ومليشياتها المسلحة في سوريا ، ليس ذلك وحسب ، بل لقد صعدت من هجماتها في هذه الفترة للضغط علي إيران وحلفائها في سوريا ، وذلك نظراً لصعوبة الوضع في إيران في فترة الجائحة كما سبق وذكرنا.[71]
كما أن دمشق ذاتها حاولت الاستفادة من الوضع لتحقيق مصالحها ، والمتمثلة في العودة إلي المجتمع الدولي بعد تفوقها الواضح في الصراع المسلح القائم في سوريا ، بالإضافة رفع العقوبات المفروضة عليها ، وحتي لو تم رفع جزء محدود فقط من هذه العقوبات سوف يكون ذلك بمثابة مكسب وخطوة مهمة للحكومة السورية ، ومن ثم طالبت برفع وإزالة العقوبات المفروضة علي سوريا حتي تسطتيع التعامل مع الجائحة ، وذلك بإعتبار أن الجائحة حالة طوارئ وأزمة تواجه الإنسانية جمعاء.[72]
كما تم الدعوة إلي ضرورة حدوث وقف إطلاق نار فوري في جميع أنحاء سوريا من قبل الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر ، وذلك في إطار “الجهود الشاملة” للنجاح في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد ، والقضاء عليها ، ومنعها من الإضرار بالسكان المحاصرين بشكل عام ، وفي أدلب التي تخضع لسيطرة المليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية بشكل خاص.[73]
ومن ثم يمكننا القول إن جائحة فيروس كورونا المستجد كان لها تأثير طفيف علي الصراع المسلح علي المستوي المحلي في الداخل السوري ، حيث ساهمت في تصاعد العنف بشكل طفيف من جانب بعض التنظيمات الإرهابية ، كما أدت إلي تراجع أداء البعض الآخر بشكل نسبي ، ولكن بشكل عام يمكننا القول أن الجائحة لم تكن نقطة تحول في مسار الصراع ، أو حتي محدد عام لدينامياته علي المدي القصير أو المتوسط ، كما إنها لم تساهم كذلك في دفع الصراع نحو اتجاه محدد ، وبالتالي يُمكننا إعتبار الجائحة قد قامت بإضافة عامل جديد لمجموعة العوامل المتشابكة الموجودة سابقاً ، والتي تؤثر جميعها علي ديناميات الصراع ، وأشكال التعاون ، وتوازنات القوة ، وآفاق الاستقرار ، والقوة العسكرية وغيرها.
الفصل الثالث : الأزمة الليبية والصراع المسلح أثناء الجائحة :-
إن الأزمة الليبية التي اندلعت منذ عام 2011 ولا تزال مستمرة حتي الآن ، تعد من أكثر الأزمات التي يشهدها الوطن العربي تعقيداً وحدة ، حيث أن الأزمة قد نجم عنها تقسيم البلاد سياسياً وعسكرياً وإدارياً وجرافياً في عام 2014 ، محدثة صراع مسلح داخلي حاد استمر لأكثر من ثماني سنوات ، وهذا الصراع لم يتقصر علي الأطراف المحلية فقط ، ولكن تعدد الفاعلين الذين يلعبون دور مهم في الصراع الليبي علي المستويين الإقليمي والدولي ، ومن ثم فإن في هذا الوضع الذي يتسم أساساً بالتعقيد والتضارب وتداخل المصالح والأطراف يُمكن أن يكون لجائحة فيروس كورونا المستجد تأثيرها عليه ، أو حتي التأثير علي الأطراف الفاعلة في هذه الأزمة مما يُمكن أن ينعكس علي دورهم وتدخلهم في الأزمة الليبية ، وقد يكون هذا التأثير بشكل مباشر ، سلبي أو إيجابي ، أو حتي يمكن أن يكون التأثير غير مباشر من خلال إضافة بُعد جديد للديناميات الموجودة مسبقاً ، ومن ثم سوف نقوم بمناقشة الأزمة الليبية والصراع المسلح القائم بها أثناء جائحة فيروس كورونا المستجد في ذلك الفصل ، وذلك للتعرف علي مدي تأثر هذه الأزمة بالجائحة ، وذلك من خلال مبحثين ألا وهما[74] :-
- المبحث الأول :- تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع
- المبحث الثاني :- تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في ليبيا
المبحث الأول : تأثير الجائحة علي استراتيجيات الأطراف الفاعلة في الصراع :-
لقد شهد الصراع الليبي منذ نشأته تدخل عدد كبير من الفاعلين الإقليميين والدولييين علي طول فترة الصراع ، ومن ثم يمكن القول أن هناك ما يصل إلي تسعة دول كان لها دور واضح في رسم مسار الصراع الليبي علي مدي فترة اندلاعه حتي الآن ، تنقسم هذه الدول إلي تحالفات تدعم الطرف المحلي الذي يخدم أهدافها ، ويُحقق ما لديها من استراتيجيات ، وكل دولة من هذه الدول وخاصة الدول الرئيسية في الصراع تعتبر أهدافها في ليبيا أهداف استراتيجية ومحورية يَصعُب التخلي عنها ، وهذه الدول تتمثل في كل من مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ، والإتحاد الأوروبي وبشكل خاص كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، وروسيا ، وتركيا وقطر.
وقد جاءت جائحة فيروس كورونا المستجد لتمثل أزمة علي العالم أجمع ، بما فيه هذه الدول الفاعلة في الأزمة الليبية ، كما أن بعضها قد تأثر بشكل كبير من الجائحة ، ومن ثم يُمكن أن تكون هذه الفترة التي انتشرت فيها جائحة فيروس كورونا المستجد مؤثرة بشكل أو بآخر علي هذه الدول ، وما تقوم به من دور في الأزمة الليبية ، وما لها من أهداف ومصالح واستراتيجيات في الداخل الليبي ، ومن ثم سوف نحاول تناول الدول الأكثر أهمية في الصراع الليبي ، وذلك للتعرف علي مدي تأثر استراتيجية كل منهم في الصراع الليبي خلال فترة الجائحة ، ومن ثم ما قامت به من دور في الأزمة والصراع الليبي في هذه الفترة الخاصة بالجائحة.[75]
أولاً : مصر :-
تعد الأزمة الليبية بالنسبة لمصر مصدر تحدي وتهديد للأمن الداخلي ، ولذلك تولي مصر أهمية كبيرة لهذه الأزمة ، ويظهر ذلك في دعم مصر الواضح لأحد أطراف الصراع المحلي ألا وهو الجنرال خليفة حفتر ، حيث تقوم مصر بتقديم الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي لحفتر بشكل كبير ، بالإضافة إلي إنه يوجد بعض الضباط الكبار من الجيش المصري متواجدين في ليبيا ، ويعملون علي مد قوات حفتر بالدعم اللوجيستي والمعلومات الاستخباراتية التي يحتاجها كما أوضحت بعض التقارير ، هذا إلي جانب قيام مصر بتأييد العملية التي أعلنها حفتر ضد طرابلس علي إنها معركة ضد التطرف الإسلامي.
كما إن هناك دور كبير لمصر في دعم قوات حفتر علي المستوي الدولي ، ويظهر ذلك في عمل مصر للحفاظ علي سمعة حفتر والأنشطة التي يقوم بها علي المستوي الدولي ، إلي جانب عمل مصر علي تقديم حفتر إلي القوي الدولية للتعاون معه ، أو علي الأقل عدم إدانته والتغاضي عما يقوم به من جرائم في ليبيا ، وعلي وجه الخصوص التركيز علي كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ، وقد أتت تلك الجهود بنتائج واضحة مع روسيا التي سمحت لشركات المرتزقة بالتعاون معه ، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي اعترفت في بيان في أبريل 2019 بدور حفتر الكبير في مكافحة الإرهاب ، وكذلك في حماية موارد ليبيا النفطية.[76]
ومع بداية ظهور جائحة فيروس كورونا المستجد وانتشاره في مختلف أنحاء العالم ، نجد أن الأزمة الليبية شهدت تطورات متسارعة في خلال هذه الفترة ، وهذه التطورات نجمت عن التصعيد المتبادل بين أطراف الصراع ومن ضمنها مصر ، والتي لوحت بالتدخل المباشر لمساندة قوات حفتر ، وذلك للدفاع عن أمنها القومي في الاتجاه الاستراتيجي الغربي ، كما قامت مصر كذلك بإصدار إعلان القاهرة في يونيو 2020 كمحاولة للتوسط في حل الأزمة الليبية ، والذي تم من خلاله التأكيد علي مخرجات مؤتمر برلين 2020 ، وعلي الرغم من ذلك لم ينجم هذا الإعلان عن حل للأزمة بعدما رفضته حكومة الوفاق الوطني بدعم حلفؤها.[77]
ثانياً : الإمارات العربية المتحدة :-
إن الإمارات تهتم بالأزمة الليبية بشكل خاص لما لها من أهداف ومصالح استراتيجية بها ، تتمثل أهمها في التخلص من الإسلام السياسي الذي يعد العدو الرئيسي لها في المنطقة ، وفي سبيل ذلك تعتبر الإمارات حفتر حليف استراتيجي وسياسي لها في مواجهة عدوها الرئيسي ، كما إن ذلك ليس الهدف والدافع الوحيد لدعم الإمارات لحفتر ، حيث أن ليبيا هي أحد الدول الغنية بالنفط في شمال إفريقيا ، ومن ثم تهدُف الإمارات لمنع تشكيل حكومة مستقرة ومستقلة فيها ، وفي سبيل تحقيق أهدافها تقوم بتقديم الدعم العسكري ، واللوجستي ، والسياسي ، والدبلوماسي ، والمالي لقوات حفتر.[78]
وفي خلال فترة الجائحة استمرت الإمارات علي استراتيجيتها في دعم قوات حفتر ، وقد ظهر ذلك علي سبيل المثال في قيامها بإرسال ثلاث طائرات شحن عسكرية في شهر مارس 2020 إلي أحدي القواعد الخاضعة لسيطرة قوات حفتر في مدينة المرج ، وغيرها من التحركات التي ساهمت في تصعيد حدة الصراع.[79]
ثاثاً : المملكة العربية السعودية :-
يمكن القول أن الموقف السعودي كان في البداية موقف هادئ نسبياً ، ويدعو إلي إقامة حوار وطني حقيقي في محاولة للوصول إلي سلام شامل بين الفرقاء الليبيين[80] ، ومن ثم تحول هذا الموقف في أعقاب زيارة حفتر للرياض إلي داعم أكثر نشاطاً له ، وكان ذلك يسبق الهجوم الذي شنه حفتر ضد طرابلس بأسبوع ، وكان ذلك في ضوء استراتيجيتها التي تحاول المواءمة مع حلفؤها مصر والإمارات لتشكيل نظام إقليمي جديد ، بالإضافة إلي كون ليبيا تمتلك إمكانات كبيرة في قطاع الغاز ، التفتت له السعودية في إطار استراتيجيتها للتنويع الاقتصادي وبشكل خاص في هذا القطاع.
وقد ركزت المملكة العربية السعودية في دعمها لقوات حفتر علي تقديم الدعم المالي بالأساس ، هذا بالإضافة إلي بالتركيز بشكل كبير علي آلية الدعاية ، والعمل علي التعبئة الإعلامية لما تقوم به قوات حفتر من أنشطة ، من خلال شبكة من المدونات ، والدخول التدريجي لمواقع التواصل الاجتماعي الفرنسية والإنجليزية ، وكذلك السيطرة علي المشهد الإعلامي في ليبيا ، وبالفعل قد نجحت في ذلك ، حيث أن النسبة الأكبر من المحتوي الإعلامي الخاص بليبيا في الفترة الأخيرة تأتي من المملكة العربية السعودية ، متخطية بذلك ليبيا نفسها.
وفي خلال فترة الجائحة كانت المملكة العربية السعودية ثابتة علي هذا الموقف المؤيد لقوات خليفة حفتر ، ولم تعمل علي التغيير من استراتيجيتها نظراً لما لها من أهداف استراتيجة في الداخل الليبي ، ولكن في ذات الوقت لم يكن هناك تصعيد أو حتي تراجع واضح من الجانب السعودي خلال فترة الجائحة.[81]
رابعاً : قطر :-
إن قطر تسعي من خلال تواجدها في الصراع الليبي أن تعمل علي الوقوف بين خصومها الإقليميين وبين السيطرة في ليبيا ، أو الحصول علي سلطة سواء في ليبيا أو في المنطقة بشكل عام ، ومن ثم تقف قطر في الطرف المقابل بجانب تركيا التي تمثل حليف لها في هذا الصراع ، ويرتكز الدعم القطري في الأساس علي الدعم المالي لحكومة الوفاق الوطني ، والتي تعد الخصم الأساسي لقوات خليفة حفتر.[82]
وتؤكد قطر علي دعمها لحكومة الوفاق الوطني مبررة ذلك بكونها الحكومة الشرعية المعترف بها ، كما تدعو إلي ضرورة الإلتزام بتنفيذ كل من قرارات مجلس الأمن واتفاق الصخيرات ، وكذلك ما تمخض عنه مؤتمر برلين من نتائج ، وفي سبيل ذلك قامت بالإعلان عن استعدادها لتقديم الدعم العسكري واللوجستي التي تحتاجه حكومة الوفاق ، وهذا الدور القطري والموقف المعلن قد زادت أهميته في الفترة الأخيرة مع تفشي الجائحة ، وما تلاها من أزمة اقتصادية كبيرة في تركيا ، بالإضافة إلي كون المليشيات التي تقاتل في جانب حكومة الوفاق تتسم بالتصدع ، مما يعكس دور أكبر لدولة قطر في الداخل الليبي أثناء الجائحة.[83]
خامساً : تركيا :-
إن تركيا تعد من أكثر الدول أهمية في الصراع الليبي ، حيث أنها تعد أحد الفاعلين المهمين الذين يتحكمون في رسم مسار هذا الصراع منذ تورطها فيه ، وذك نظراً لما لها من أهداف ومصالح استراتيجية من وجهة نظرها في الداخل الليبي ، ومن هذه المصالح هو عدم إعطاء الفرصة لمنافسيها الإقليميين كمصر والمملكة العربية السعودية أو غيرها بالتقدم في ليبيا علي حسابها ، هذا إلي جانب ما لها من مصالح اقتصادية كبيرة في ليبيا ، حيث أن تركيا لديها في ليبيا ما يصل إلي 15 مليار دولار من الالتزامات التعاقدية غير المدفوعة.[84]
ومن ثم بدأ يظهر الدعم التركي في الآونة الأخيرة بوضوح لحكومة الوفاق الوطني ، وقد إزداد هذا الاهتمام التركي بالوضع في ليبيا مع تدهوره وزيادة عدم الاستقرار في البلاد ، كما بدأت تركيا مؤخراً في إرسال مرتزقة سوريين من المليشيات السورية الموالية لتركيا للقتال بجانب حكومة الوفاق الوطني ، ومع تفشي الجائحة والتصعيد من بعض الأطراف الفاعلة في الصراع ، كان هناك تصعيد كذلك من الطرف التركي ، بل تعد تركيا أحد الأطراف الرئيسية التي ساهمت في التطورات والتصعيدات في هذه الفترة.[85]
وقد وصل هذا التصعيد إلي التدخل العسكري المباشر لدعم الأطراف المتصارعة في الداخل الليبي ، حيث قامت تركيا بالتدخل وإرسال قوات برية لدعم حكومة الوفاق الوطني ، في مواجهة قوات خليفة حفتر ، حيث أن تركيا قامت بتقديم الدعم العسكري واللوجيستي لحكومة الوفاق الوطني ، ويظهر ذلك في إرسالها لمجموعة من الطائرات المسيرة من الطراز “بيرقدار” ، وقد ساهم هذا التدخل التركي والدعم الذي قامت بتقديمه لحليفتها حكومة الوفاق الوطني في قلب موازين القوة ، بالإضافة إلي مساهمتها في إنقاذ مصيرها بعد وصول قوات حفتر إلي ضواحي العاصمة طرابس ، هذا وقد جاء ذلك كله في إطار ما تم توقيعه مع حكومة الوفاق الوطني من اتفاقية عسكرية وبحرية.[86]
ومن ثم نجد أن تركيا تعد فاعل رئيسي في كل من الصراع السوري والليبي ، وتتميز طبيعة تدخلها في كلا الصراعين بكونه تدخل عسكري مباشر ، ولكن هذا التدخل التركي في سوريا يتميز بكثافة أكبر من نظيره في ليبيا ، كما أن تركيا قامت بالاستعانة بمرتزقة سوريين من المليشيات السورية الموالية لها للقتال بجانب حكومة الوفاق الوطني في ليبيا ، وفي خلال فترة الجائحة كان سلوك تركيا علي الأرض في كل من ليبيا وسوريا مختلف ، علي الرغم من أن استراتيجية تركيا في كلا الصراعين لم تتغير بشكل عام ، حيث كانت تركيا في الحالة الليبية من أكثر الأطراف التي ساهمت في التصعيد العسكري للصراع ، وكان لها دور كبير فيما وقع من تطورات متسارعة ، بينما نجد إنه في الحالة السورية لجئت تركيا للقيام ببعض التعديلات الطفيفة في سلوكها ، وعلي وجه التحديد نجد هذه التعديلات في محاولات تركيا للتفاوض مع كل من روسيا والولايات المتحدة فيما يخص أدلب والشمال الشرقي ، مما ساهم في جعل الوضع في ليبيا يتجه نحو التصعيد ، في الوقت الذي لم يتأثر فيه الوضع في سوريا بشكل كبير.
سادساً : روسيا :-
تعد روسيا أحد الفاعلين الرئيسين في الصراع الليبي ، ولها دور كبير في رسم مسار الصراع منذ تدخلها فيه ، وقد تدخلت روسيا في هذا الصراع نظراً لما لها من مصالح حيوية بها ، تتمثل في دعمها لقوات خليفة حفتر بإعتبارها حليف رئيسي ومحوري لها في الشمال الإفريقي والشرق الأوسط ، كما إنها تعمل علي استخدام نفوذه في الشمال الإفريقي كورقة تفاوضية مع كل من الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.[87]
وفي سبيل دعم حليفها في ليبيا اللواء خليفة حفتر قامت روسيا بإرسال مقاتلين روسيين إلي ليبيا للقتال في صفه ، وهؤلاء المقاتلين الروسيين هم مرتزقة تابعين لمؤسسات وشركات الأمن الخاصة ومن أهمها شركة “فاغنر” الروسية للأمن ، وقد وصل عدد المقاتلين الروس في ليبيا إلي 2500 مقاتل ، وخلال فترة تفشي الجائحة كانت روسيا من الدول التي ساهمت في تصعيد الصراع وما لحقه من تطورات سريعة ، حيث قامت بالتدخل العسكري بشكل غير مباشر من خلال إرسال مقاتلين جدد إلي ليبيا ، وكذلك قامت بالاستعانة بمرتزقة سوريين كما تفعل تركيا للقتال في ليبيا في صفوف قوات خليفة حفتر.[88]
ومن ثم نجد أن روسيا تعد فاعل رئيسي في كل من الصراع السوري والليبي ، ولكن التواجد الروسي في سوريا يتميز بكثافة أكبر من نظيره في ليبيا ، هذا إلي جانب الاختلاف في طبيعة هذا التدخل من تدخل عسكري مباشر في سوريا ، وغير مباشر في ليبيا عن طريق الاعتماد علي قوات فاغنر الروسية وغيرها ، وكذلك الاستعانة بالمرتزقة السوريين للقتال في ليبيا ، وفي خلال فترة الجائحة كان سلوك روسيا علي الأرض في كل من ليبيا وسوريا مختلف ، علي الرغم من أن استراتيجية روسيا في كلا الصراعين لم تتغير بشكل عام ، حيث كانت روسيا في الحالة الليبية من الأطراف التي ساهمت في تصعيد الصراع وما وقع من تطورات متسارعة ، بينما نجد إنه في الحالة السورية لجئت روسيا إلي البحث عن مصادر جديدة للدخل ، وكذلك تخفيض تكاليف الصراع ، مما ساهم في جعل الوضع في ليبيا يتجه نحو التصعيد ، في الوقت الذي لم يتأثر فيه الوضع في سوريا بشكل كبير.
سابعاً : الموقف الأوروبي :-
الموقف الأوروبي في الصراع الليبي يتسم بكونه غير موحد ، حيث هناك مواقف مختلفة تصل إلي حد التضارب النسبي وخاصة فيما يخص كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا ، وهؤلاء الثلاثة يمكن إعتبارهم الفواعل الأوروبية الظاهرة بشكل واضح في الصراع الليبي ، حيث نجد إنه في الفترة الأخيرة سعت ألمانيا إلي محاولة التوصل إلي أرضية مناسبة للحل في الملف الليبي ، في الوقت الذي سعت فيه فرنسا إلي فرض حلولها الخاصة دون النظر لأي توافق مع الدول الأوروبية ، بينما كانت إيطاليا تتسم بموقف غامض ومتردد وغير محدد.
وفيما يخص فرنسا يتضح أن تدخلها في الصراع الليبي نابع من مصالح حيوية بالنسبة لها في المنطقة ، تتمثل هذه المصالح في منافسة الشركات الدولية الكبري بشكل عام والإيطالية بشكل خاص في الحصول علي النصيب الأكبر من النفط والغاز الليبي ، بالإضافة إلي أن ليبيا تمثل بالنسبة لدول الساحل والصحراء “تشاد والنيجر” أحدي البوابات الرئيسية ، ومن ثم يصبح الحفاظ علي تواجد عسكري فرنسي دائم في ليبيا أحد المصالح الحيوية الفرنسية.
ومن ثم في سبيل تحقيق أهدافها سعت إلي تقديم دعمها السياسي والعسكري لقوات خليفة حفتر ، علي الرغم مما تدعيه من حياد ودعم للشرعية في الداخل الليبي ، وفي خلال الفترة الأخيرة ومع تفشي الجائحة لم يظهر تأثير واضح علي إيطاليا التي ظل موقفها كما هو يتسم بالتردد ، في الوقت الذي سعت فيه ألمانيا للتوصل إلي حل لإنهاء الصراع الليبي ، وكانت فرنسا ثابتة علي موقفها بل ومع التصعيد التركي الأخير بدأ يتخذ التدخل الفرنسي أبعاداً جديدة.[89]
ومن ثم يمكننا القول في النهاية أن جائحة فيروس كورونا المستجد لم تجعل أي من الفاعلين يغير استراتيجياته في الصراع الليبي ، حيث أن كافة الاطراف أحتفظت بما لها من أهداف واستراتيجيات في الداخل الليبي ، ولكن ما يمكن أن تكون قامت به الأزمة هو تغيير في سلوكيات بعض الأطراف في هذا الصراع ، ما بين التصعيد من قبل بعض الأطراف بشكل خاص مصر وتركيا ، ومحاولات البعض الآخر العمل علي حل هذا الصراع في ظل الأزمة كما في حالة ألمانيا.
كما أن الجائحة هنا يمكن أعتبارها تمثل فرصة وتحدي في ذات الوقت ، سواء بالنسبة للفاعلين المحليين أو الفاعلين الإقليميين والدوليين ، حيث أن الجائحة من الممكن أن تساهم في ترجيح كفة طرف ما علي حساب الطرف الآخر ، كما أن الجائحة تمثل فرصة يمكن أن يقوم أحد أطراف الصراع بمحاولة استغلالها ومفاجأة الطرف الآخر ، ومن ثم فإن الجائحة جعلت من خيارات التهدئة والتي من المفترض أن تعلو في ظل هذه الظروف الاستثنائية ، ولكن ما حدث هو أنه مع كل هذه الظروف والتطورات السريعة للأحداث ، وكذلك كل هذه الإحتمالات يمكن أن تجعل فرص تصعيد الصراع عالية.
المبحث الثاني : تداعيات الجائحة علي الصراع المسلح في ليبيا :-
تزامن بداية ظهور أول حالات الإصابة بجائحة فيروس كورنا المستجد في ليبيا مع زيادة في التصعيد العسكري بين طرفي الصراع ، حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في الغرب ، وقوات خليفة حفتر في الشرق ، وذلك علي الرغم من الدعوات المتكررة لوقف إطلاق النار ، والتي كان من أهمها دعوة الأمين العام للأمم المتحدة في شهر مارس 2020 لوقف إطلاق نار شامل في مناطق الصراعات ، والعمل علي تكثيف الجهود لمواجهة الجائحة والتعاون معاً بدلاً من الصراع.
حيث أن كلا الطرفين المباشرين في الصراع قد راهن علي حسم الحرب عسكرياً ، والذي بات احتمال أقرب في وجهة نظرهم مع تفشي الجائحة ، ولذلك شهدت الأوضاع في ليبيا تصعيداً في الصراع المسلح القائم بين الأطراف المختلفة بغض النظر عن الجائحة وما تفرضه من التزامات إنسانية ، كما أن طرفي الصراع كذلك سعيا إلي محاولة استغلال الأزمة بما يعود بالنفع عليه ، حيث تم توظيف المساعدات الطبية كأداة لمكافئة الأطراف والمجتمعات التابعة لهم ، ومن ثم تحولت المساعدات إلي مورد آخر يحفز علي إثارة الصراع.
بالإضافة إلي محاولة استغلال هذه الأزمة لفرض وتعزيز النفوذ السياسي والاجتماعي ، مبررين ذلك بمحاولة تطبيق إجراءات الصحة والنظافة العامة في ظل هذه الأزمة الصحية ، ليس ذلك وحسب بل تم استغلال الجائحة لفرض مزيد من عسكرة الحكم في المناطق الخاضعة لهم ، ويظهر ذلك في سلوك اللواء حفتر وقواته ، ومن ثم فإن الجائحة ساهمت في تصعيد الصراع وتطور الأحداث بشكل سريع ومعقد.
كما يمكننا القول أن الجائحة قد سامت في تصعيد هذا الصراع من خلال نقطتين أساسيتين ، ألا وهما : إنه مع وجود ضغط كبير نتيجة للهجمات العسكرية المستمرة مع تفشي الجائحة ، أصبح هناك اعتقاد سائد لدي كل طرف من الطرفين بأن الطرف الآخر قد قارب علي الإنهيار ، هذا بالإضافة إلي إنه تم تجاهل كافة الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في مؤتمر برلين 2020 من قبل طرفي الصراع ، ومع ذلك فقد ساهمت الجائحة في صرف نظر العالم وانتباهه عن هذا الإختراق للمؤتمر وما نتج عنه من اتفاقيات.
هذا بالإضافة إلي أن الدول التي تعاني أساساً من صراعات وعدم استقرار يمكن أن يكون تأثير الأمراض عليها أكبر بكثير ، لما يخلقه من ضغوط علي أنظمتها السياسية والتي تعاني من هشاشة مُسبقة ، إلي جانب التأثير الاقتصادي السلبي المتزايد ، مما يمكن أن يتسبب في ظهور واندلاع أعمال عنف جديدة ، وهذا ما حدث فعلاً في الحالة الليبية ، حيث بدأت المدن الليبية تشهد تنامي لموجات سخط شعبي ، وذلك نظراً لزيادة الأوضاع المتردية من الأساس سوءاً ، وتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد والذي بدأ يتجه نحو الإفلاس.[90]
ويظهر ذلك التصعيد في الصراع من قبل طرفي الصراع في العديد من الأحداث ، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر : قيام قوات خليفة حفتر بمحاصرة محطات النفط في يناير 2020 ، كما تم تسجيل 11 حادث مرتبط بالصراع في شهر أبريل فقط يمس القطاع الطبي والعاملين فيه والمستشفيات الميدانية ، بالإضافة إلي وقوع هجومين في عام 2020 علي مشروع النهر الصناعي ، والذي يعمل علي توفير ما يصل إلي 60 في المائة مما يوجد من مياة عذبة في البلاد.[91]
ومن الجدير بالذكر أنه مع مؤتمر برلين الذي تم عقده في يناير 2020 كانت هناك استجابة مبدئية من طرفي الصراع للتهدئة ، وذلك في سبيل الجهود المبذولة والدعوات الأممية لإقرار هدنة مؤقتة وتهدئة الأوضاع ، وحتي يتم توجيه هذه الجهود لمكافحة تفشي الجائحة ، ولكن سرعان ما تم الانتهاك لهذه الهدنة في البداية من طرف قوات خليفة حفتر ، والذي تلاها تجاهل تام لطرفي النزاع لما نتج من اتفاقيات في مؤتمر برلين ، وكذلك تجاهل لكافة النداءات والدعوات بوقف إطلاق النار ، ويمكننا الجزم أن ذلك الإنتهاك تزامن مع ظور أول حالات الإصابة بالجائحة في ليبيا في شهر مارس.
ويمكننا القول إنه في خلال فترة الجائحة ومع تزايد الدعم التركي لحكومة الوفاق الوطني ، أصبح الميزان يميل إلي صالح حكومة الوفاق ، والتي تمكنت من السيطرة علي كافة معاقل حفتر في الغرب ، ونظراً لما كانت تمثله هذه المناطق من عمق استراتيجي بالنسبة لقوات حفتر ، فتعد هذه الضربة ضربة قوية لقوات حفتر وكذلك داعميه وحلفاؤه ، كما ساهم ذلك في إنقلاب المعادلة بطريقة غير متوفعة لصالح حكومة الوفاق الوطني ، ويعود الفضل في ذلك إلي الدعم التركي المتنامي ، والذي لم يقتصر فقط علي الدعم اللوجيستي وإنما تطور إلي دعم عسكري مباشر.[92]
ومن ثم يمكننا القول في النهاية أنه علي عكس معظم الصراعات في العالم ، وعلي عكس المفترض من تهدئة الأوضاع في فترات الأزمات والجوائح ، نجد أن الصراع في ليبيا هو من الصراعات التي لم تتأثر بالجائحة بشكل إيجابي ، كما إنه لم يتأثر كذلك بالنداءات والمبادرات التي تنادي بوقف إطلاق النار وتكثيف الجهود لمواجهة الجائحة ، ومن ثم لم يتأثر الصراع الليبي بنداء الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة حدوث وقف إطلاق نار شامل.
بل ما حدث هو أن الوضع قد إزداد سوءاً في المشهد الليبي ، حيث أن الصراع الليبي قد أصبح أكثر تعقيداً وتداخلاً وزادت حدته ، حيث أن الصراع الليبي لا يشمل فقط علي أطراف الصراع المحلي التي تتنافس علي السلطة ، ولكن كذلك يتسم الصراع بكثرة الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين يؤثرون في هذا الصراع ، ولهم دور فيه يكاد أن يصل إلي تواجد مباشر وعلني في سبيل حماية ما يعنيهم من مصالح استراتيجية في ليبيا ، ومن ثم كان من الطبيعي مع تفشي الجائحة وكثرة الأطراف من تطور الأوضاع بشكل سريع نحو التصعيد ، حيث يعمل الطرف الذي يشعر بالتهديد لمصالحه بالعمل علي تزكية الصراعات بشكل أكبر ، مما يزيد من حدة الصراع بشكل كبير.
وعلي الرغم من هذه التغيرات والتطورات التي صاحبت فترة تفشي الجائحة ، والتي كانت بشكل مفاجئ في صالح حكومة الوفاق الوطني علي حساب قوات حفتر ، يَصعُب القول بأن الصراع الليبي علي وشك الإنتهاء ، أو إنه يمكن حسمه في صالح طرف علي حساب الآخر ، حيث أن الوضع والصراع في ليبيا أكثر تعقيداً من ذلك ، نظراً لكثرة الفاعلين وتضارب المصالح وتداخلها ، مع تفشي الجائحة كذلك لتزيد من الظروف المعقدة أساساً التي تحيط بالصراع ، والتي يُمكن أن تُمثل فرصة أو تحدي لكافة الأطراف الفاعلة في الصراع الليبي.
فيمكن أن تُساهم الجائحة في ترجيح كفة طرف علي حساب طرف آخر ، كما حدث مع حكومة الوفاق الوطني في ضربتها الأخيرة ، كما إنها في ذات الوقت يُمكن أن تسمح بفرصة لطرف أن يقوم بمفاجئة طرف آخر ، مما يعني أن الموازين يُمكن أن تنقلب من جديد ، ومن ثم يُمكننا القول أن التهدئة في حالة الصراع الليبي لم تكن هي النتيجة المصاحبة لتفشي الجائحة ، ولكن تصعيد الصراع وترسيخه وزيادة حدته وتعقيده كان هو النتيجة الواضحة لتفشي الجائحة في الحالة الليبية.
الخاتمة :-
إن العالم قد مر بالكثير من الأزمات والكوارث الطبيعية ، وكذلك الأوبئة والأمراض التي هددت بقاءه واستقراره ، ولم يكن العالم دائماً مكاناً آمناً مستقراً خالي من الصراعات ، بل إن أكثر ما يميز هذا العالم وخاصة الجانب السياسي منه هو عدم الاستقرار والتعقيد ، وتضارب المصالح والاهتمامات وتداخلها ، ومن ثم كثرة الصراعات في مختلف مناطقه مما يهدد أمن واستقرار هذه المناطق.
ومن ثم شكلت هذه الجوائح والأوبئة دائماً مصدر آخر للتهديد يُمكن أن يزيد من سوء الأوضاع التي تتسم من الأساس بعدم الاستقرار ، وتعد المنطقة العربية مثالاً واضحاً علي ذلك ، لما تتسم به هذه المنطقة علي الدوام من صراعات وعدم استقرار ، وقد إزدادت هذ الصراعات في الآونة الأخيرة وأصبحت أكثر تعقيداً وحدة من ذي قبل ، كما إزداد عدد الفاعلين بها سواء علي المستوي المحلي أو الإقليمي أو الدولي ، مما ساهم في تعميق حالة عدم الاستقرار الإقليمي السائدة في المنطقة.
وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون للأوبئة والجوائح تأثير كبير واضح علي المنطقة العربية التي تعاني من عدم الاستقرار أساساً ، وبشكل خاص في المناطق التي تشهد صراعات مسلحة منها ، حيث أن الأوبئة يُمكن أن تمثل إشكالية بالنسبة لمسار هذه الصراعات ، وكل ذلك ينطبق علي جائحة فيروس كورونا المستجد التي بدأت بالتفشي مؤخراً في كافة أنحاء العالم ، والذي باتت نُمثل تهديد خطير وأزمة يعاني منها العالم أجمع.
وفيما يخص المنطقة العربية ، وعلي وجه التحديد حالتي سوريا وليبيا اللتان تعانيان من صراع مسلح طويل الأمد مازال مستمر حتي الآن ، كان لظهور الجائحة تأثير واضح أختلف في مداه بين حالتي ليبيا وسوريا ، ففيما يخص سوريا يتضح أن الجائحة لم تُساهم في تغيير قواعد اللعبة وظلت آليات الصراع السوري كما هي ، حيث إنها لم تعمل علي تحسين الوضع علي أرض الواقع ، كما إنها لم تُساهم كذلك في زيادة سوء الأوضاع في سوريا ، وبالتالي يمكننا القول إن جائحة كورونا هنا كانت مساهمتها متمثلة في تشكيل عامل وبعد جديد تم إضافته إلي الديناميات الموجودة مسبقاً.
حيث أن استراتيجيات الأطراف الفاعلة الرئيسية في الصراع السوري – تركيا وروسيا وإيران – لم تتغير في فترة الجائحة ، واقتصر الأمر علي تعديلات طفيفة في نشاط هؤلاء الأطراف علي أرض الواقع ، وذلك نظراً لما لهم من مصالح حيوية وهامة في سوريا ، كما إنه علي المستوي الداخلي كان للجائحة تأثير طفيف في تصاعد العنف من قبل بعض التظيمات الإرهابية ، وفي ذات الوقت تراجع أداء البعض الآخر بشكل نسبي ، ولكن بشكل عام يمكننا القول أن الجائحة لم تكن نقطة تحول في مسار الصراع.
بينما نجد أنه في حالة ليبيا قد ساهمت الجائحة في زيادة تعقيد الأوضاع ، حيث اتجه الصراع بالتزامن مع بداية تفشي الجائحة نحو التصعيد ، وصاحبت فترة الجائحة الكثير من التطورات وأعمال العنف التي لم تكترث لمبادرات وقف إطلاق النار ، كما تجاهلت كذلك نتائج مؤتر برلين الذي تم في شهر يناير 2020 ، وقد ساهمت الجائحة في تقديم فرصة وتحدي في ذات الوقت لكافة الأطراف ، حيث أنها يُمكن أن تُساهم في قلب الموازين بشكل مفاجئ لصالح طرف علي حساب الآخر ، وهو ما حدث مع حكومة الوفاق الوطني الذي تغيرت موازين القوة لصالحها علي حساب قوات حفتر ، ولكن في ذات الوقت تُعطي الجائحة فرصة لترجيح كافة علي أخري ، أو تغيير النتائج بشكل مفاجئ مرة أخري ، مما يُطيل من أمد الصراع ولا يُبشر بإنتهاءه في وقت قريب.
كما أن الفاعلين الرئيسين في الصراع الليبي لم تتغير استراتيجياتهم كذلك مع تفشي الجائحة ، حيث ظل جميع الفاعلين متمسكين بما لهم من أهداف وما يتبعوه من استراتيجات في الصراع الليبي ، ولكن ما يمكن أن تكون قامت به الأزمة هو تغيير في سلوكيات بعض الأطراف في هذا الصراع ، ما بين التصعيد من قبل بعض الأطراف بشكل خاص مصر وتركيا ، ومحاولات البعض الآخر العمل علي حل هذا الصراع في ظل الأزمة كما في حالة ألمانيا.
ومن ثم يُمكننا في النهاية القول أن جائحة فيروس كورونا المستجد لها تأثير واضح علي الصراعات المسلحة في الوطن العربي ، وقد أتضح ذلك في حالتي سوريا وليبيا وما بهم من صراعات مسلحة قائمة ، ولكن هذا التأثير لا يتخذ اتجاه واحد أو شكل محدد ، حيث يُمكن أن يكون مباشر في بعض الحالات وغير مباشر في حالات أخري ، كما يُمكن أن يكون هذا التأثير سلبي يُساهم في تصعيد الصراع القائم كما أتضح في حالة ليبيا ، أو حتي يقتصر ذلك التأثير علي إضافة بعد وعامل جديد يتفاعل مع غيره من العوامل والأبعاد القائمة في أرض الصراع كما أتضح في حالة سوريا.
ويتوقف تأثير الجائحة علي الصراعات المسلحة علي عوامل عدة تختلف من حالة لأخري ، وذلك يعود لخصوصية كل حالة وما يحيط بها من ظروف استثنائية ، وكذلك يُمكن أن يعود الأمر إلي جذور تاريخية خاصة ، أو أيديولوجيات ، أو مصالح متضاربة ، وكذلك المقومات التي تتمتع بها كل حالة ، إلي آخره من الظروف والعناصر التي تتكامل معاً لتخلق حالة من الخصوصية ، والتي تجعل تأثير أي أزمة أو ظرف يختلف من حالة لأخري ، كذلك الحال بالنسبة لجائحة فيروس كورونا المستجد وما يُمكن أن تُخلفه من تداعيات وآثار علي الصراعات المسلحة في الوطن العربي.
النتائج :-
ومن خلال ما تم تقديمه في هذا البحث من دراسة لعلاقة الأوبئة والجوائح بالصراعات المسلحة ، ثم التركيز علي تأثير جائحة كورونا علي الصراعات المسلحة في كل من سوريا وليبيا ، تم التوصل إلي مجموعة من النتائج يُمكن تلخيصها فيما يلي :-
- هناك مجموعة من الخصائص المادية والعوامل الفكرية التي تؤثر علي العلاقة بين الأوبئة والاستقرار السياسي ، والتي تجعل من أحد الأوبئة أكثر تأثيراً علي الاستقرار السياسي أكثر من غيره ، مثل قوة انتشار المرض ، ونظرة العالم للوباء ، ومدي الإحساس بإلحاحه وخطورته ، وكيفية استجابة صانعي السياسات لهذه الأوبئة ، وغيرها من الظروف والخصائص التي ترتبط ببيئة ظهور الوباء وإمكانياتها إلي آخره.
- لم تعمل جائحة كورونا علي تحسين الوضع علي أرض الواقع في الحالة السورية ، كما كما إنها لم تُساهم كذلك في زيادة سوء الأوضاع في سوريا ، وبالتالي يمكننا القول إن جائحة كورونا هنا كانت مساهمتها متمثلة في تشكيل عامل وبعد جديد تم إضافته إلي الديناميات الموجودة مسبقاً.
- لم تقم كل من تركيا وروسيا وإيران بإعتبارهم الفاعلين الرئيسيين في الصراع السوري بتغيير سياستهم في التعامل مع الصراع بشكل كبير ، علي الرغم من الحالة الاقتصادية السيئة التي خلفتها جائحة فيروس كورونا المستجد في البلدان الثلاثة ، حيث اقتصرت التعديلات في سياسة كل منهم علي تعديلات طفيفة في نشاط كل منهم علي الأرض ، وقد كانت هذه التعديلات تتركز حول النفقات بشكل أساسي والعمل تخفيضها ، وذلك نظراً لما لهم من مصالح استراتيجية هامة ورئيسية في سوريا.
- لم تجعل جائحة كورونا أي من الفاعلين في الصراع الليبي يقوم بتغيير استراتيجياته ، وأحتفظت كافة الأطراف بما لها من أهداف واستراتيجيات في الداخل الليبي ، ولكن ما يمكن أن تكون قامت به الأزمة هو تغيير في سلوكيات بعض الأطراف في هذا الصراع ، ما بين التصعيد من قبل بعض الأطراف بشكل خاص مصر وتركيا ، ومحاولات البعض الآخر للعمل علي حل هذا الصراع في ظل الأزمة كما في حالة ألمانيا.
- لم يتأثر الصراع في ليبيا بالجائحة بشكل إيجابي ، كما إنه لم يتأثر كذلك بالنداءات والمبادرات التي تنادي بوقف إطلاق النار ، بل ما حدث هو أن الوضع قد إزداد سوءاً في المشهد الليبي ، حيث أن الصراع الليبي قد تم تصعيده ، وأصبح أكثر تعقيداً وتداخلاً وزادت حدته.
- يصعُب القول بأن الصراع الليبي علي وشك الإنتهاء ، وذلك علي الرغم من هذه التغيرات والتطورات التي صاحبت فترة تفشي الجائحة ، والتي كانت بشكل مفاجئ في صالح حكومة الوفاق الوطني علي حساب قوات حفتر ، حيث أن الوضع والصراع في ليبيا أكثر تعقيداً من ذلك ، نظراً لكثرة الفاعلين وتضارب المصالح وتداخلها ، مع تفشي الجائحة كذلك لتزيد من الظروف المعقدة أساساً التي تحيط بالصراع ، والتي يُمكن أن تُمثل فرصة أو تحدي لكافة الأطراف الفاعلة في الصراع الليبي ، مما يعني أن الموازين يُمكن أن تنقلب من جديد.
- أن جائحة فيروس كورونا المستجد لها تأثير واضح علي الصراعات المسلحة في الوطن العربي ، ولكن هذا التأثير لا يتخذ اتجاه واحد أو شكل محدد ، حيث يُمكن أن يكون مباشر في بعض الحالات وغير مباشر في حالات أخري ، كما يُمكن أن يكون هذا التأثير سلبي يُساهم في تصعيد الصراع القائم ، أو حتي يقتصر ذلك التأثير علي إضافة بعد وعامل جديد يتفاعل مع غيره من العوامل والأبعاد القائمة في أرض الصراع.
- يتوقف تأثير الجائحة علي الصراعات المسلحة علي عوامل عدة تختلف من حالة لأخري ، وذلك يعود لخصوصية كل حالة وما يحيط بها من ظروف استثنائية ، كذلك الحال بالنسبة لجائحة فيروس كورونا المستجد وما يُمكن أن تُخلفه من تداعيات وآثار علي الصراعات المسلحة في الوطن العربي.
التوصيات :-
وبناء علي ما تم تقديمه في هذا البحث ، وما تم التوصل له من نتائج ، يُمكننا تقديم مجموعة من التوصيات لمُساعدة صُناع القرار فيما يخُص هذه القضية ، ويُمكن تلخيص هذه التوصيات في النقاط التالية :-
- العمل علي تفعيل دور جامعة الدول العربية في حل الأزمات والصراعات التي تقع في الوطن العربي ، بما فيها الأزمة السورية والأزمة الليبية.
- العمل علي تفعيل دور الإتحاد الإفريقي في حل الأزمات والصراعات التي تقع في نطاق القارة الإفريقية ، بما فيها الأزمة الليبية.
- ضرورة توقف الأطراف الإقليمية والدولية عن التدخل المباشر والغير مباشر في هذه الصراعات ، ووقف كافة أنواع الدعم لكافة أطراف الصراع وعلي وجه الخصوص الدعم العسكري واللوجيستي ، والتزام هذه الأطراف كافة بحل هذه الأزمة من خلال الاتفاق السياسي الداخلي بين الأطراف المحلية في الصراع.
- ضرورة التعاون والاتصالات المباشرة بين كافة الدول علي المستوي الإقليمي والدولي للتوصل لحل لهذه الأزمات ، ومحاولة التوصل لحل سلمي من خلال تقديم مقترحات للتوصل إلي نقطة إلتقاء بين أطراف الصراع المحلي ، والعمل علي طرح مبادرات للتسوية والتهدئة.
- فرض وقف إطلاق نار عالمي شامل خلال فترة الجائحة ، والعمل علي إجبار الأطراف كافة علي احترامه وعدم اختراقه ، من خلال العمل علي تعليق مبيعات الأسلحة ومنع وصولها للأطراف التي لا تلتزم بوقف إطلاق النار في الصراع.
- العمل علي إعلاء المعايير الإنسانية في فترة الجائحة علي أية اعتبارات أخري ، وذلك من خلال الاحترام والالتزام بالقانون الدولي الإنساني ، وكافة القوانين والاتفاقيات الخاصة بحقوق الإنسان في العالم ، والحرص علي اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للاستجابة بشكل فعال لمكافحة جائحة كورونا ، والعمل علي التخفيف من حدة آثارها السلبية ، وذلك من خلال الحرص علي تقديم المساعدات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية اللازمة للفئات المتضررة ، سواء من الصراع المسلح أو الجائحة أو كلاهما ، وكذلك التأكد من منع استهداف المناطق المتضررة من الهجمات العسكرية.
- القيام بالمزيد من الدراسات والأبحاث عن العلاقة بين الأوبئة والصراعات المسلحة والاستقرار السياسي ، وهو أمر أصبح ضروري مع تنامي عدد الأوبئة في الآونة الأخيرة ، والتركيز علي تقديم دراسات أكثر عن جائحة كورونا كحالة دراسة هامة ، وأن يتم الاعتماد علي الدراسات الإحصائية لتدعيم الوصول إلي بعض الاتجاهات العامة فيما يخص العلاقة بين الأوبئة والصراعات المسلحة والاستقرار السياسي.
Add Comment