لتقيت بعمّار ورائد في متجر الأحذية الذي يعملان فيه بسوق صيدا القديمة. المراهقان السوريان هما ابنا عم. ورغم أنهما في العمر نفسه، 16 عاماً، فليسا في الصف المدرسي عينه. ترفّع عمّار إلى الصف الثّامن هذا العام، أما رائد، فيعيد الصف العاشر للمرّة الثانية بسبب عدم تمكنه من الالتزام بالدراسة عن بعد العام الماضي.
يعمل الاثنان في محلّ للأحذية منذ قدومهما إلى لبنان ويكملان دراستهما في الوقت نفسه. وعند سؤالهما عن المدرسة، يجيب عمّار – وهو “اللعوب” بين الصديقين: “ما بتعنيلي، مش عم بفهم شي. عم ينجّحونا عالفاضي”.
بدأ رائد الدراسة في الدوام المسائي المخصّص للاجئين السوريين في المدارس اللبنانية الرسمية عام 2013. عندما انتقل إلى الصف الأوّل الثانوي، أصبح يتابع تعليمه مع الطلاب اللبنانيين في الدوام الصباحي، وظهرت له الفروق بين الدّروس التي كانت تعطى له، وتلك التي تعطى للبنانيين. “كانت تمرّ حصص وسنين وما نحس حالنا تقدّمنا أو تطوّرنا”، يعلّق رائد.
لاحظ رائد خلال مشاركته في الصفوف الصباحية أن للطلّاب اللبنانيين “أفضليّة من ناحية المعلومات التي تقدم” كما يقول. برأيه، كانت هناك فروق واضحة من حيث اللغة والمستوى العلمي بين الطلاب اللبنانيين والسوريين، برغم وجودهم معاً في الصّف ذاته. “لاحظت التلاميذ اللبنانيّين علاماتهم أعلى، عندهم فهم أكبر للدروس بسبب المعلومات الي اكتسبوها بالسنوات السابقة، على عكس الي أخذناه نحن بالبرنامج المخصص للسّوريين”، يقول بشيء من الاستغراب.
يحلم رائد بأن يصبح طبيب أسنان في المستقبل، إلا أنه يعلم أن حلمه لن يتحقّق في لبنان. في ختام الزّيارة، التقيت بوالدته التي تحدثت عن معاناتها مع تدريس أولادها في المنزل: “تلقي المدارس بحمل كبير على عاتق الأهالي من دون أن تأخذ في الاعتبار الاختلاف بالعلم والظّروف التي يمكن أن تعوق هذا الأمر، تحديداً اللغة”، تقول.
ففي المدارس السّورية حيث تعلّمت، كغيرها من بنات جيلها، تعطى المناهج باللغة العربية فقط، على عكس الحال في المناهج اللبنانيّة التي تدرّس معظم المواد العلمية باللغة الفرنسية أو الإنجليزية.
كانت تمرّ حصص وسنين وما نحس حالنا تقدّمنا أو تطوّرنا
مع ازدياد أعداد اللاجئين السوريين في لبنان، عملت الدولة اللبنانية، بدعم دولي، على دمج الطلاب السوريين في التعليم الرسمي. وبدأ عدد كبير من المدارس الرّسميّة العمل بدوامين، وخُصّص الدوام المسائي للطلّاب السّوريين.
ولكن مشروع الدمج الذي انطلق عام 2013، ورصدت له مجموعة من الدول المانحة عام 2016 نحو 350 مليون دولار أمريكي سنوياً لمدة خمس سنوات، لم يتمكن من تحقيق الأهداف المرجوة منه، من ناحية إلحاق العدد الأكبر من الطلاب السوريين بالمدارس، أو من ناحية جودة التعليم الذي يحصل عليه الطلاب.
30% من الأطفال السوريين لم يرتادوا المدرسة قَطّ، بحسب أحدث تقرير صادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في لبنان، يتحمل الطلاب السوريون الجزء الأكبر من أعباء الأزمة، وآثارها الحادة على النظام التعليمي ومستقبل الطلاب بشكل عام.
منهاج غير مُراعٍ
“مدارس رسمية كثيرة غير جديّة في تعاطيها مع الطلاب اللبنانيين. التعليم فيها عبارة عن تسجيل ساعات. فما بالك بالسّوريين، رغم أنهم يتقاضون عليها “فرَش” دولار”. تقول تغريد يحيى، عاملة اجتماعيّة ومعلّمة سابقة في البرنامج المسائي في إحدى المدارس الرسميّة بصيدا.
تشير تغريد هنا إلى التمويل المخصص لتعليم الطلاب السوريين في لبنان، إذ تتقاضى وزارة التربية 363 دولاراً عن كل طالب في الدوام الصباحي، و600 في الدوام المسائي.
مع ذلك، تصرف رواتب المعلمين بالليرة اللبنانية، ومع انهيار قيمة العملة، أصبحت قيمة ما يتقاضاه المعلم عن حصة التدريس لا تتخطى الدولار الواحد، ما ينعكس بشكل مباشر على عمل المعلمين ومدى قدرتهم على الاستمرار.
30% من الأطفال السوريين لم يرتادوا المدرسة قَطّ في لبنان، بحسب أحدث تقرير صادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين
تتحدث تغريد عن مشاكل عدة تشوب المنهاج المخصص لتعليم اللاجئين السوريين، منها ساعات التعليم التي تقل في الدوام المسائي عن ساعات الدوام الصباحي، وعدم مراعاة المنهاج لأوضاع اللاجئين والخلفية التعليمية التي يأتون منها. على سبيل المثال تشير إلى عدم الأخذ في الاعتبار أن الطلاب السوريين لا يتعلمون المواد العلمية كالرياضيات والعلوم باللغات الأجنبية.
تتوقف تغريد أيضاً عند عدم أخذ الظروف النفسية للطلاب وتعرضهم للتهجير القسري نتيجة الحرب في الاعتبار. تقول: “الطلاب السّوريون بحاجة لمناهج دعم نفسي”. وتضيف: “يحتاح المنهاج اللبناني إلى تحديث بشكل عام، وإلى مرونة أيضاً من أجل مراعاة خلفيّات متنوّعة”.
لا يخضع معلمو الدوام المسائي لأي نوع من التدريب النفسي أو الاجتماعي للتأكد من قدرتهم على التعامل مع الظروف النفسية للطلاب. كما أنهم يكونون غالباً من المتعاقدين، وبعضهم لا يمتلك المؤهلات والمهارات التعليمية اللازمة.
يقول أحمد، أحد التلاميذ الذين علّمتهم تغريد، إن برنامجهم لم يتضمّن نشاطات خارجيّة مثل برامج باقي التّلاميذ، كحصص للفنون أو الموسيقى، “حتّى أننا أردنا مرّة إقامة احتفال بمناسبة عيد المعلّم، لكن تم إلغاؤه”، يضيف.
حدّثنا أحمد عن التّروما التي سببتها له الحرب قبل مجيئه إلى لبنان عندما كان في العاشرة من العمر. شهد الفتى القادم من الغوطة الشرقية العديد من المجازر، وحمل رعبه من الأصوات العالية إلى المدرسة. يتذكر: “كان الأساتذة متفهّمين في السنوات الثلاث الأولى. بعد ذلك لم نعد بحاجة لذلك”.
محدودية الوصول إلى التعليم
مع تدهور ظروف اللاجئين السوريين في لبنان، واضطرار أطفال كثر للانقطاع عن الدراسة لأسباب مختلفة، منها التنقل المستمر، وصعوبة الالتزام بمتطلبات التعليم عن بعد، وتردّي الوضع الاقتصادي، عجز طلاب كثر عن العودة إلى مقاعد الدراسة.
لا يحق للتلميذ السّوري الذي لم يتابع تعليمه مدّة تفوق السنتين العودة إلى المدرسة من دون إتمام دورات تقوية في معاهد التسرّب التابعة لوزارة التربية أولاً. إلّا أن هذه المعاهد أغلقت أبوابها في السّنتين الماضيتين من دون أن توفر سبل التعليم عن بعد للطلاب المسجّلين فيها، ومن دون أن تتيح للمؤسسات غير الحكوميّة تعويض غيابها.
بحسب تقرير لهيومن رايتس ووتش، التحق حوالى 190 ألف طفل سوري في لبنان بالمدارس الرسمية في العام الدراسي 2020-2021، بينما لم يلتحق 25 ألفاً آخرين ممن كان من المفترض أن يلتحقوا أو يبدأوا دراستهم في الصف الأول. ويأتي ذلك مع انتقال نحو 40 ألف طفل لبناني من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية بسبب تدهور الأحوال المعيشية، مما ترك مساحات أقل للأطفال السوريين.
حلول جزئية خارج الدولة
في ظل كل هذه المعوقات التي تشوب عمل المؤسّسات التعليمية الرّسمية في لبنان، ولا سيّما تلك المسؤولة عن تعليم الطلّاب السّوريين، نشأت مؤسسات سورية خاصّة ومنظمات إنسانية توفر تعليماً رديفاً.
تراعي هذه المؤسسات أحوال الطلاب، وتساعدهم في الحصول على فرص تعليميّة ثقافيّة واجتماعيّة أفضل، ولكنها لا تستطيع منحهم شهادات.
أسس محمّد الجندي ووالدته عُلا “غرسة” عام 2013 بعد هروبه وعائلته من الحرب في سوريا إلى لبنان. بدأت “غرسة” مبادرةً لتعليم الأطفال في خيمة في أحد مخيّمات جديتا في البقاع اللبناني، بعد تطوّع علا مع فريق منظمة “عيون سوريّة” للإغاثة والتتنمية.
اقتصرت المبادرة أولاً على علا وولديها محمد ومي وبعض أفراد العائلة، ولكنها بدأت بالتوسع بعد الحصول على دعم مادي من مجموعة شبّان سوريين وألمان.
توفر “غرسة” اليوم المساحة اللازمة لتعليم قرابة 300 طالب سوري، ويضم فريقها 22 شخصاً، بالإضافة إلى متطوّعين. تتيح أيضاً المنظمة للمتعلّمين لديها فرصة العمل في البرامج التي تقدمها.
“نحن لسنا مدرسة، بل نهيئ الأطفال للمدارس الرسمية اللبنانية، ولا نعلّمهم سنين طويلة”، تقول علا. عندما ينجز الأولاد سنوات الدراسة مع “غرسة”، تتولى المنظمة تسجيلهم في المدارس الرسمية اللبنانيّة.
عانت “غرسة” بشكل أساسي مع المناهج اللبنانيّة التي لم تناسب الطّلاب لأسباب عدّة، أهمها كثافة استخدام اللغات الأجنبيّة. تقول علا إن المنهج اللبناني كان قبل عام 2015 يُعطى للسّوريين باللغة العربيّة، ولكن المدارس عادت بعده إلى إعطائه باللغات الأجنبية، مما تسبب بتراجع مستوى العديد من الطلاب.
تعلّق علا كذلك على طاقة الأساتذة في الدوام المسائي. “الأساتذة هم أنفسهم أساتذة الدوام الصباحي. وبحلول الدّوام المسائي يكونون قد استنفدوا معظم طاقتهم التعليمية”. وتنتقد غياب الإشراف والدّعم النّفسي في البرامج التعليمية السّوريّة، مما يؤدّي إلى تسرّب دراسي كبير.
الدّعم النّفسي هو إحدى أولويّات “غرسة” منذ دخول الطلاب إلى المدرسة حتّى خروجهم منها. توفّر المنظمة جلسات علاج نفسي جماعي وجلسات علاج فردي، كما تقدم حصصاً في مجال التربية الإيجابية للأهالي.
يقول محمد، الذي نال جائزة السلام الدولية للأطفال عام 2017 مقابل عمله من خلال المنظمة: “نشعر أن العمل الذي تقوم به “غرسة” جزء من الثورة السورية. “غرسة” هي عمل ثوري أكثر منه نشاطاً فقط”.
يصبح عمل المنظمة أكثر أهمية تحت وطأة تدهور الأوضاع في البلاد، وفق تحذيرات من كارثة تربوية تهدد الفئات المهمشة والفقيرة في لبنان، وإحداها اللاجئون الذين يعيش 89% منهم في فقر مدقع. سألت رائد قبل خروجي من مكان لقائنا “بتفكّر ترجع عسوريا؟” فأجاب دون تردد: “لا تعني لي سوريا شيئاً، همّي أن أنهي السنوات الدراسية المتبقية لي في لبنان وأرحل لأكمل دراستي وحياتي في الخارج”.
Add Comment