بقلم: حنين مطر
جهة النشر: صدى الجنوب
اعتراف صغير
لم أتعرض لأي نوع من أنواع التعنيف المباشر كالضرب أو أي عقاب جسدي في أسرتي. كنت مطيعة إلى أقصى حدود الطاعة. لم أكن كذلك فقط بل كنت مكشوفة أمامهم كليّة، أشارك والدتي في كل صغيرة وكبيرة. ليس ذلك من باب الصدق والثقة والمشاركة، فطالما كنت أشعر بأنني مراقبة وليس عليّ سوى الاعتراف. كان إخفاء أي شيء مهما كان متعلقاً بخصوصيتي أفكاري تخيلاتي، كل ما يحدث معي أو مع أصدقائي. عبء ثقيل يوتر استقراري الداخلي، ولا يمكن لهذا الاستقرار أن يعود إلا في حالة كشفت عن هذا الخاص وأفصحت عنه. ولذلك لم أمتلك يوماً عالمي الخاص. كنت معترفة صغيرة تمشي على قدمين وتتعلم العزف على البيانو.
فوكو..
طرح ميشيل فوكو في كتابه (المراقبة و العقاب 1975)، آليات السلطة الحديثة في العقاب، مميزاً بينها وبين الطرق القديمة، العقاب التقليدي القديم “الملكي” المتمثل بالقسوة والعنف الفيزيائي المباشر والواضح أمام الحشد (عمليات الإعدام والتعذيب الوحشية) بقصد الضبط والاخضاع. تم استبدال ذلك من خلال آليات المراقبة والضبط ــ بحسب فوكو ــ بعقاب يستهدف الفكر والحرية والإرادة، حيث لم يعد إنسان العصر الحديث وتحت مسوغات السلطة الانضباطية حراً في عيشه وتصرفاته ولا في آرائه ومعتقداته، لم يعد سيد نفسه بل أصبح آلة تعمل ضمن المسار السلطوي بمختلف اشكاله ومذاهبه. ويشير فوكو إلى أن نظام التحكم والسيطرة يقوم على (السلطة والمعرفة)، وهما مصطلحان متصلان ببعضهما بشكل جذري. “بالمعرفة نحن نتحكم وبالتحكم نحن نعرف”. وفي هذا المجتمع يسري شعور دائم بالرقابة، فينتقل العقاب من حالته المرئية إلى حالة غير مرئية، من الحالة العلنية إلى سياسات التخفي وعدم الظهور بالعلن. تعمل الرقابة إذن بشكل مجهري من مختلف الأماكن والمؤسسات، وعلى كافة الأصعدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتستهدف المجتمع بشكل عام.
كانط..لا يعرف الكذب
حين قرأت كتاب فوكو المراقبة والعقاب، تبادر إلى ذهني سؤالين، الأول كيف حدث وأننا لم ننجُ في مجتمعنا بعدُ من الشكل التقليدي للسلطة ونظام المعاقبة، ومع هذا دخلنا العصر الجديد للمراقبة والعقاب دون خجل. يا لنا من مخضرمين! أما السؤال الثاني فكان أكثر براءة رغم أنه أقسى وأكبر أثراً في نفسي. هل دخل فوكو إلى بيتنا؟! أم أن تحليله لنظام المراقبة والعقاب كان عابراً لكل أشكال وحدود السلطة، من المجتمع الحديث الواسع، إلى أسرتنا الصغيرة الوادعة على أطراف المدينة؟! يا لنا من كونيين!!
ــــــ يسأل سقراط: متى يفقد الصدق معناه؟
ــــ عندما لا يخرج عن إرادة حرة.. يجيب نيتشه
يذكرني كانط دائماً بالواجب ولذا بتُّ لا أحبهما – أقصد الواجب وكانط – فتجربتي مع الواجب سخيفة وقاسية، الطاعة والامتثال محكومة بالضرورة، وكأنها الخيار الوحيد أما خيار المخالفة أو العصيان فغير موجود أصلاً ضمن الخيارات. كان سلوكي يندرج تحت عنوان القيام بالواجب المقدس الذي تفرضه العلاقة المقدسة أي علاقة الطفل بالأبوين. وكان هذا الواجب متعلقاً بكياني كاملاً لا شيء خاص بي، لست كاذبة ولست صادقة، لا أعرف معنيهما، لا شيء خارج أسرتي، وداخلي… أنا فقط.
الكذب، والخصوصية
يبدأ الكذب عندما يعي الطفل أن له عالمه الخاص، عالم صغير لا يستطيع أحد دخوله أو السيطرة عليه، ولذلك فغالباً ما يكون لكذب الأطفال علاقة باللعب وبإدراك هذا الجانب الخاص القصي عن الآخرين والمغلق عليهم، مثل ذلك يلعب الخيال عند الطفل دوراً فيما قد نسميه نحن الكبار ــ بكل غباء ــ كذب.
إذن قد يبدأ (الكذب) من الخصوصية، غير أن الخصوصية لا تبدأ من الكذب، بل تبدأ من الجسد، وتنتقل إلى الحيز الخاص للطفل، ولا تنتهي عند رغباته واختلافه، حقِّه بالحديث وحقِّه بالصمت، احترام قراراته الصغيرة. كل هذا من شأنه أن ينمي ويعزز شخصيته المتفردة. يبدأ الطفل بالتفاعل مع المحيط والأشخاص والأشياء من حوله، ويشكل علاقاته الفريدة معها، ويتشكل إدراكه لبيئته من خلال هذه العلاقات. ينمو ويتطور هذا العالم الصغير مع مختلف مراحل تطور الفرد، حيث تنشأ علاقة مهمة ومحورية بينه وبين هذا الجزء الخاص، لتشكل أساس التفرد ومنبع شعور الفرد بحريته (أو عبوديته)، ومهما كان للإنسان من تعريفات ــ اجتماعي ــ ميتافيزيقي ـــ ناطق أو عاقل، إلا أنه لا يعيش معنى وجوده، مصيره، إلا من خلال ذلك الحيز الخاص، ومن علاقته الخاصة مع ذاته.
>> يتحدثنّ صديقاتي عن مغامرات الطفولة، وتجاربها ودهشتها الفريدة،
عن المآزق التي وقعن بها.. لا أجد ما أقوله <<
أولادكم ليسوا لكم..
شعور الأهل أن الطفل امتداد لذواتهم، يكثف معنى حياتهم ووجودهم من خلال هذا الكائن، ورعاية الطفل وتوجيهه تصبح بشكل أو بآخر رعاية للذات، وتعويضاً لطموحاتها، وهذا النوع من التملك للأبناء يُقدَّم على شكل بذلٍ وتفانٍ وتضحية، وتستوجب بالمقابل طاعة الأبناء والمثول للأوامر كنوع من التقدير، وهنا نرى الفرد ينمو سالكاً الطرق التي تم رسمها من قبل الأبوين. تحددت خياراته بما يتوافق مع رؤيتهم وآرائهم الشخصية التي يراد لها أن تظهر دوماً بصورة مثالية، كما لو أنها عملية إعادة صياغة لذواتهم الخاصة وتعويض ما فات. فيُختزل معنى وجود الطفل في المحافظة على هذه الصورة، وبالتالي فالأولوية هي تحقيق آمال وطموحات الأهل والتماهي مع أسلوب عيشهم وأنماط تفكيرهم وأحكامهم التمييزية. باختصار تصبح حياة الفرد هي صورة لرغبة الأهل وكأن هذا الكائن هو جزء من الملكيات الخاصة التي يمتلكونها. وحتى لو أدرك الفرد فيما بعد هذا الاستلاب سيعاني من صراعات وصعوبات في تحقيق توازنه النفسي بين حصوله على خصوصيتة واستقلاله، وبين ما نشأ عليه من تبعية.
عمري الآن ستة وعشرون عاماً، أعيد تقييم خياراتي، أخطائي، هواياتي، دراستي الجامعية، لا أجد ما أتحمل مسؤوليته بشكل حر. هل ما أنا عليه حقيقتي ورغبتي؟ ربما الجميع يسأل هذا السؤال بأكثر من طريقة. لكنني أدرك أن الصدق، الواجب، الإرادة والحياة، تدفعني كي لا أقف عند السؤال بل أن أحاول، فما زلت أمتلك الوقت لكي أخطئ، وبتُ أحب التعلم من أخطائي. وأعيش قدري الخاص.
Add Comment