جهة النشر: The A Project مشروع الألف
كتابة: نيرا يوفال-ديفيس
سنة: 1996
الرابط: https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/0277539595000755
ترجمة: ريما الخطيب
تحرير: سعود المولى
المرأة وإعادة الإنتاج البيولوجي للأمة
تؤثر المرأة في سير العمليات القومية والعرقية كما تتأثر بها بعدة طرق مختلفة. يركز هذا الفصل على البُعد الخاص بهذه العلاقة والذي يتوافق بشكل وثيق مع ما يسمى الدور “الطبيعي” للمرأة -إنجاب الأطفال- وعلى انعكاساته على كل من بناء الدول والمواقف الاجتماعية للمرأة. تعتبر باولا تابت Paola Tabet (1996) أنه لا يمكن الفصل بين إعادة الإنتاج “الطبيعي” وإعادة الإنتاج “الخاضع للرقابة”: فكل ما يسمى “إعادة الإنتاج البيولوجي الطبيعي” يحدث في السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحددة التي تشكله. تُستخدم مجموعة متنوعة من الخطابات الثقافية والقانونية والسياسية في بناء حدود الأمم، كما سنرى في مناقشتنا لها في الفصول التالية. ومع ذلك، تُنشأ هذه الحدود التي تمتد من جيلٍ إلى جيل من أجل تصنيف الناس إلى خانتيْ “نحن” و “هم”. وباعتبارهن “منتِجات” بيولوجيات للأطفال/ الأشخاص، فإن النساء أيضًا، بالتالي، “حاملات للجماعة” داخل هذه الحدود (Yuval-Davis, 1980).
غالبًا ما يحصل تجاهل هذا الأمر في الأدب النسوي. على سبيل المثال، تذكر افتتاحية العدد الخاص حول السكان والحقوق الإنجابية لمجلة أوكسفام: التركيز على النوع الاجتماعي، والتي نُشرت قبل مؤتمر الأمم المتحدة حول هذه المسألة في القاهرة، على أن “البيولوجيا والعلاقات الزوجية والتزامات القرابة يمكن أن تتجاوز حرية المرأة في اتخاذ القرارات المتعلقة بخصوبتهن (1994: 4). يعتبر هذا الفصل أن مواقع النساء والتزاماتهن تجاه جماعاتهن العرقية والقومية، وكذلك تجاه وفي الدول التي يقيمون فيها و/ أو هم/هن مواطنات فيها، تؤثر أحيانًا على حقوقهن الإنجابية، كما أنها يمكن أن تؤدي إلى تجاوز هذه الحقوق.
قبل مناقشة الطرق المحددة التي تُستخدم عادةً في الخطابات القومية المختلفة لتكوين النساء بوصفهن “حاملات للجماعة”، يبحث هذا الفصل في التقاطعات بين الأدوار الإنجابية للمرأة وبناء الأمم.
الدم والانتماء
تتضح الأهمية المركزية للأدوار الإنجابية للمرأة في الخطابات العرقية والوطنية عندما يأخذ المرء في الاعتبار أنه عادة ما ينضم المرء إلى الجماعة بالولادة فيها، وذلك نظرًا للدور المركزي الذي تلعبه أسطورة (أو واقع) “الأصل المشترك” في بناء معظم الجماعات العرقية والوطنية. في بعض الحالات، وخصوصًا عندما تكون الأيديولوجيات القومية والعنصرية متشابكة بشدّة، قد تكون هذه هي الطريقة الوحيدة للانضمام إلى الجماعة، حيث يُستبعد أولئك الذين لم يولدوا فيها. الطريقة الوحيدة التي يمكن أن ينضم بها “الغرباء” إلى الجماعة القومية في مثل هذه الحالات قد تكون عن طريق التزاوج. ولكن حتى ذلك الحين، وكما كان الحال في القانون النازي على سبيل المثال، يمكن لدماء الآخرين (كاليهود والسود) “تلويث” دم الجماعة “النقي”، وإن كانت نسبة هذه الدماء الثُمن أو واحد من ستة عشر. يصف جيمس ديفيس James Davisفي كتابه Who Is Black? One Nation’s Definition (1993) قاعدة “القطرة الواحدة” التي عملت في بناء تعريف “من هو أسود” في الولايات المتحدة الأمريكية.
من هذ المنطلق، ليس من قبيل المصادفة إذًا أن أولئك الذين ينشغلون بـ “نقاء” العرق سيكونون أيضًا منشغلين بالعلاقات الجنسية بين أعضاء الجماعات المختلفة. بطبيعة الحال، كان الاقتراح التشريعي الأول (والوحيد) الذي قدمه الحاخام مئير كاهانا زعيم الحزب الفاشي الإسرائيلي كاخ عندما كان عضوًا في البرلمان الإسرائيلي هو منع العلاقات الجنسية بين اليهود والعرب. كان منح الإذن القانوني للأشخاص من “الأعراق” المختلفة لممارسة الجنس والزواج، من أولى الخطوات المهمة التي اتخذتها حكومة جنوب أفريقيا في رحلتها نحو إلغاء الفصل العنصري.
إن إدراج طفل جديد في مجموعة قومية بعيد كل البعد عن أن يكون، بالطبع، قضية بيولوجية بحتة. في مختلف القوانين الدينية والعرفية، قد تعتمد عضوية الطفل حصريًا على عضوية الأب (كما في الإسلام) أو عضوية الأم (كما هو الحال في اليهودية)، أو قد تكون مفتوحة لعضوية اختيارية أو مزدوجة. هناك مجموعة متنوعة من القواعد واللوائح التي تحكم الوضع عندما يصبح الأطفال المولودين من “نسب مختلط” جزءًا من الجماعة، وكذلك عندما لا يصبحون جزءًا من المجموعة. يمكن اعتباره هؤلاء فئة اجتماعية منفصلة، بحيث يُعتبر الطفل جزءًا من جماعة “أدنى”، كما كان الحال في مرحلة الرق في جنوب أفريقيا، أو – على الرغم من أن هذا نادر – جزءًا من الجماعة “أعلى شأنًا”، كما كان الحال في الزيجات بين المستوطنين الإسبان والهنود الأرستقراطيين في المكسيك (Gutierrez, 1995). وتحمل الأعراف والمُواضعات الاجتماعية والقانونية أهمية حاسمة هنا. لقد حاول رجل من غانا في سبعينيات القرن العشرين الادعاء بأن أصله بريطاني، مشيرًا إلى شرط النسب عن طريق الأب، للحصول على الحق في الإقامة في قانون الهجرة البريطاني، وجادل بأن جدته الأفريقية كانت متزوجة قانونيًا من جده البريطاني. رفض القاضي ادعائه، بحجة أنه في تلك الفترة لم يكن أي رجل بريطاني سيتزوج بالفعل امرأة أفريقية (WING, 1985).
تختلف أهمية “الأصل المشترك” كمبدأ تنظيمي للأمم/الدول من بلد إلى آخر.. هناك بعض الدول، مثل سويسرا وبلجيكا، تشكل فيها عدة مجموعات عرقية محددة، “الأمة”. في مجتمعات المستوطنين، مثل الولايات المتحدة أو أستراليا، قد يكون “المصير المشترك” بدلاً من “الأصل المشترك” هو العامل الحاسم في تكوين “الأمة”، ولكن مع ذلك هناك تسلسل هرمي ضمني، إن لم يكن صريحًا، لمرغوبية “الأصل” والثقافة التي من شأنها أن تكون أساس عملية بناء الأمة، بما في ذلك سياسات الهجرة والولادة (Stasiulis and Yuval-Davis, 1995). في حين أن وضع النساء كمهاجرات ولاجئات يمكن أن يتأثر بشدة بعملية البناء القومي للحدود، وأن السياسات الوطنية التمايُزية حول الولادة يمكن أن تؤثر على حياة جميع النساء في “الأمة”.
حتى عندما لا يكون “الأصل المشترك” هو البعد الأكثر أهمية لمشاريع قومية محددة، فإن معرفة الأصل “الحقيقي” للفرد يمكن أن تؤثر بعمق على هوية الفرد وتماهيه مع جماعات عرقية وقومية معينة. تدعي مارلين ستراثرن (1996a; 1996b) أن هذا التكوين الثقافي هو أوروبي أمريكي تحديدًا، كما هو الحال بالنسبة إلى فكرة أن الحبل بطفل هو نتيجة فعل جنسي مفرد (وليس كعملية إلتزام تشاركي مستمر). البحث الدارج في هذا الزمن والذي يقوم به أطفال التبني والذين ولدوا من خلال التلقيح الاصطناعي، عن آبائهم “الحقيقيين” – بدلاً من قبول الوالدين اللذين قاما برعايتهم باستمرار أثناء مرحلة نموهم – يجب أن يُنظر إليه في ضوء هذا السياق الغربي لبناء الهوية. في عام ١٩٩٥، ذكرت الصحافة البريطانية حالة متطرفة عن قصة رجل، تبنته أسرة يهودية عندما كان طفلًا، ادّعى أنه اكتشف بأنه “عربي” وليس “يهوديًا” ، وذلك عندما تمكّن من الاطّلاع على أوراق التبني المتعلقة به، وأنه وُلد نتيجة علاقة غرامية بين امرأة إنجليزية ورجل كويتي عندما كانا طالبين في لندن. وعلى الرغم من أن هذا الرجل أدرك أن والده “البيولوجي” لا يريد بناء أي علاقة معه، فقد خاض معركة قانونية (على الأرجح غير مجدية) للحصول على الجنسية الكويتية. كان الهدف من هذا البحث عن الأصل هو الحصول على عضوية في جماعة عرقية وقومية وكذلك في عائلة معينة. من أجل عدم السماح بحصول أي التباس أو إبهام في هذا الصدد، ينص القانون في إسرائيل بشأن الأمومة البديلة على أن الأم البديلة والأم “الحقيقية” يجب أن تكونا من نفس الأصل الديني ( صحيفة معاريف، ١٠ يوليو ١٩٩٦). محاولة العديد من السلطات المحلية في بريطانيا خلال الثمانينيات من القرن الماضي عدم السماح بالرعاية والتبني بين الأعراق المختلفة افترضت أيضًا وجود علاقة خطية أساسية بين كل من الهوية الفردية، والعضوية الأسرية وحدود الجماعة التي لا يمكن عبورها.
التطورات الجديدة في الهندسة الوراثية، وتعيين العديد من الجينات التي من المفترض أن تحدد كفاءتنا الأخلاقية والاجتماعية، وكذلك فرصنا في الإصابة بالمرض بطرق معينة، أبرزت إلى الواجهة، أسبابًا طبية جديدة للحاجة إلى معرفة الأصل البيولوجي. ومع ذلك، فإن الاهتمام المتجدد بالنظريات الجينية للذكاء (Herrnstein and Murray, 1994) يُظهر مرة أخرى العلاقة الوثيقة بين هذه الاهتمامات العلمية المزعومة والتأسيسات العنصرية للجماعات.
من المضحك نوعًا ما، أن تكون حاجة الناس إلى اكتشاف أصلهم البيولوجي “الحقيقي”، والتأثيرات المباشرة لذلك على عملية تأسيسهم لهوياتهم الذاتية، تحدث في نفس الوقت الذي أصبحت فيه تطورات أخرى في الهندسة الطبية والوراثية تسمح بعمليات زرع أجزاء من جسم الإنسان – والحيوان مؤخرًا (الخنزير) -. لا يبدو أن هذا التطور الأخير يؤثر على تصورات الناس حول هوياتهم وهويات الآخرين، حتى عندما يتعلق الأمر بأعضاء حيوية وذات أهمية رمزية في هذا، مثل القلب. يبدو أنه في خطاب البيولوجيا/ الهوية هذا، ترتبط بعض أجزاء الجسم بالهوية ارتباطا مباشرًا أكثر من غيرها. تثبت النقاشات الأخلاقية والقانونية حول قضايا الإخصاب في المختبر و”الأمومة البديلة”، الأهمية المركزية في هذا النقاش لمسألة “النساء بوصفهن أرحام”، وتسليع القوى الإنجابية للمرأة، خصوصًا النساء من ذوات المواقع الاقتصادية والعرقية الأدنى (Raymond, 1993).
ثمة بعد دولي لهذا التسليع أيضًا يتمثل في الاتجار بالنساء والأطفال للتبني، والتجارة المروعة بأعضاء الأجنة والأطفال لأغراض البحث والزرع (1993: 187). على هذا النحو، فإن العلاقة هنا ليست فقط بين الأفراد، اليائسين للحصول على موارد اقتصادية أو على أطفال، والذين يبيعون ويشترون “المنتجات” الإنجابية، ولكن أيضًا بين الجماعات الوطنية الأقل قوة وتلك الأكثر قوة، بين التي تحمل معدلات إنجاب وطنية أعلى، وتلك الأدنى.
بغض النظر عن تأجير الأرحام والتبني، فإن تشجيع النساء أو تثبيطهن أو إجبارهن في بعض الأحيان على إنجاب الأطفال أو عدم إنجابهم، أو –على إنجاب أطفال من جنس معين – خصوصًا منذ تطوير اختبارات ما قبل الولادة المناسبة – يعتمد على الخطابات المهيمنة التي تبني مشاريع قومية في لحظات تاريخية محددة. عادة ما يميل خطاب واحد أو أكثر من ثلاث خطابات رئيسية إلى الهيمنة على السياسات القومية للسيطرة على السكان: الخطاب الذي أسميه “الناس بوصفهم قوة”؛ وخطاب تحسين النسل؛ والخطاب المالثوسي. سنعمل على وصف هذه الخطابات في الأقسام التالية من هذا الفصل، على الرغم من أن فحص كيفية تنفيذ هذه السياسات واستجابات النساء لها عن كثب يبقى خارج نطاق الكتاب.
الناس بوصفهم قوة
في هذا الخطاب، يُنظر إلى مستقبل “الأمة” على أنه يعتمد على نموها المستمر. في بعض الأحيان يمكن أن يعتمد هذا النمو أيضًا على الهجرة. في أوقات أخرى، يعتمد هذا النمو بشكل حصري تقريبًا على القوى الإنجابية للمرأة التي تُدعى لإنجاب المزيد من الأطفال. يمكن أن تكون الحاجة إلى المزيد من الناس – غالبًا إلى رجال في المقام الأول – تهدف لخدمة مجموعة متنوعة من الأغراض القومية والمدنية والعسكرية. قد تكون الحاجة إليهم كعمال ومستوطنين وجنود. في اليابان على سبيل المثال، تقدم الحكومة حاليًا مكافأة قدرها ٥٠٠٠ ين (٣٨ دولار) شهريًا لكل طفل دون سن المدرسة، وضعفيْ هذا المبلغ عن كل ثالث طفل في العائلة. إنهم قلقون لأن معدل المواليد في اليابان هو الآن الأدنى في تاريخها. (هناك حديث عن أن النساء اليابانيات قد دخلن في “إضراب عن الولادة” لأن ظروف تربية الأطفال سيئة للغاية.) الإعلانات التلفزيونية تحث الناس على “إحضار أخ (أو أخت) لطفلك”. السبب الرسمي لهذه الحملة هو رعاية “الأمة”: إذا انخفض عدد سكان اليابان، فسوف يتسبب ذلك في “نقص العمالة وتباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة الأعباء الضريبية لدعم الخدمات الاجتماعية لكبار السن”. ومع ذلك، فقد أثارت هذه الحملة أصداء الحملة القسرية في الثلاثينيات من القرن الماضي التي عُرفت بِ “التناسل والتكاثر” من أجل خير الإمبراطورية اليابانية (WGNRR, 1991).
في مجتمعات المستوطنين، مثل أستراليا، كانت الدعوة هي “التكاثر أو الهلاك” (deLepervanche, 1989). كان يُنظر إلى “كتلة حرجة” من الناس على أنها ضرورية لاستمرار عملية “بناء الأمة” هناك. على الرغم من تشجيع الهجرة كوسيلة سريعة لتحقيق هذا الهدف، جرى اتخاذ تدابير لإبعاد “العناصر غير المرغوب فيها”، من قبيل ما يُترجم على أنه الخطر الأصفر الآسيوي. في إسرائيل أيضًا، جرى تشجيع الهجرة بشدة لزيادة عدد المستوطنين في البلاد. لكن في هذه الحالة كانت الهجرة المرغوبة أكثر حصرية، أي يهودية، على الرغم من أنها شملت مجتمعات يهودية “مرغوبة” أكثر كالأشكنازيين (يهود غربيون)، ومرغوبة أقل كالمزراحيين (يهود شرقيون). ومع ذلك، وعلى العكس من السكان الأصليين المتناثرين في أستراليا، قاوم السكان الفلسطينيون الأصليون مشروع الاستيطان اليهودي الصهيوني بشدة، وكان الجانب العسكري لعملية “بناء الأمة ” هو السائد (Abdo and Yuval-Davis, 1995; Ehrlich, 1987). من أجل تشجيع النساء اليهوديات على إنجاب المزيد من الأطفال، طُوِّرت مجموعة متنوعة من السياسات، بما في ذلك نفقة الأطفال وإجازة الأمومة، وإعلان جائزة “الأمهات البطلات” اللوائي لديهن عشرة أطفال أو أكثر (اتباعًا لسياسة مماثلة في الاتحاد السوفيتي)، والتي دامت لعدة سنوات بعد إنشاء الكيان.
كان “السباق الديموغرافي” مع الفلسطينيين بارزًا في تاريخ إسرائيل (Portuguese, 1996; Yuval-Davis, 1989). فهذا شمعون بيريز، حين كان وزيرًا للخارجية الإسرائيلية، يقول، كما ورد في الصحافة الإسرائيلية (أكتوبر ١٩٩٣): إن “السياسة هي مسألة ديموغرافية وليست جغرافية” ، وذلك عندما شرح استعداده لانسحاب إسرائيلي (جزئي للغاية) من الأراضي المحتلة (تلك المحتلة منذ حرب ١٩٦٧). في المجتمعات الأخرى التي يوجد فيها صراع وطني بين مجموعتين قوميتين تتنافسان على نفس الأرض، أعطيت أهمية مماثلة لـ “التوازن الديموغرافي” – كما هو الحال في لبنان وقبرص ويوغوسلافيا السابقة. في ١٩٩١ في سلوفينيا، على سبيل المثال، نص برنامج الحزب الديمقراطي الرئيسي (ديموس) صراحةً على أنه “لا ينبغي أن يكون للمرأة الحق في إجهاض الذين سيكونون المدافعين عن الأمة في المستقبل.” وفي ١٩٨٩ في بولندا، أشارت إحدى الحجج لتجريم الإجهاض إلى انتصار بولندا على الجيش الأحمر في ١٩٢٠ كدليل على الحاجة إلى عدد كبير من السكان (Fuszara, 1993). هناك أيضًا ادعاءات بأن الضغط من أجل إيجاد حل لمشكلة إيرلندا الشمالية يتزايد حاليًا، إلى حد كبير، بسبب أن الكاثوليك سيصبحون غالبية السكان هناك.
قد يحدث “السباق الديموغرافي” ليس فقط حيث يوجد صراع وطني على أرض متنازع عليها ولكن أيضًا حيث يُنظر إلى الأغلبية العرقية على أنها حاسمة من أجل الحفاظ على هيمنة المجموعة المهيمنة. تصف أنجيلا ديفيس كيف عاتب الرئيس روزفلت في عام ١٩٠٦ “النساء البيض اللواتي ينخرطن في عقم متعمد -الخطيئة الوحيدة التي يعاقب عليها بالموت القومي، الانتحار العرقي” (1993: 351, quoted in Portuguese, 1996: 33–4). مؤخراً في بلغاريا، ومع وجود مخاوف مماثلة، نفذت الحكومة تدابير لتشجيع النساء البلغاريات على إنجاب المزيد من الأطفال في “سباقهم الديموغرافي” مع الأقليات التركية والرومانية الذين لديهم معدل مواليد أعلى (Petrova, 1993).
يمكن أن يكون الضغط على النساء لإنجاب المزيد من الأطفال استراتيجية وطنية للتغلب على كارثة قومية. في روسيا على سبيل المثال، كانت السياسات المؤيدة للإنجاب استجابة مباشرة لاستنزاف السكان بعد الثورة والحرب الأهلية (Riley,1981b: 193, in Portuguese, 1996: 48). وبالمثل في إسرائيل، جرى ربط الأيديولوجيات المؤيدة للإنجاب ليس فقط بمشروع الاستيطان الصهيوني ولكن أيضًا بآثار المحرقة النازية التي مات فيها ٦ ملايين يهودي. يُنظر إلى عدم إنجاب الأطفال – أو حتى الزواج وإنجاب أطفال “خارج” المجتمع اليهودي – على أنه يساهم في “الهولوكوست الديموغرافي”. في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حاول موظف حكومي كبير بوزارة الشؤون الداخلية (لكنه فشل لحسن الحظ) إجبار النساء اليهوديات اللائي يفكرن في إجراء عمليات إجهاض قانونية على مشاهدة مقطع فيديو لا يظهر فيه فقط الصور المعتادة للحركة “المؤيدة للحياة” عن الأجنة بوصفهم أطفالًا مقتولين، ولكن وكذلك صور أطفال يهود في معسكرات الاعتقال النازية (Yuval-Davis, 1989: 99).
بالطبع، حدثت ذروة إكراه النساء على تربية الأطفال من أجل الأمة في عهد ألمانيا النازية مع برنامج نبع الحياة (Lebensborn) عندما تم تشجيع رجال قوات الأمن الخاصة على إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال مع النساء الآريات من “المخزون النقي”. لم يكن مطلوبًا أن يتزوج الرجال من النساء حيث كانت ستقوم الدولة بتربية الأطفال Koontz, 1986: 398–402)). لكن النازيين لم يجبروا بعض النساء الألمانيات على إنجاب الأطفال فحسب، بل أجبروا أخريات على عدم إنجابهم. كان هذا جزءًا من خطابهم المتعلق بالتكاثر القومي المحسن نسله طبيعيًا: يمنح نضال الذكور من أجل الأنثى الحق أو الفرصة بالتكاثرفقط لمن تكون صحتهم هي الأفضل (Hitler, Mein Kampf, quoted in Koontz, 1986: 402).
الخطاب العلموي حول تحسين النسل
علم تحسين النسل، علم زائف لا يهتم بحجم الأمة ولكن بـ “جودتها”. شاركت دوائر أوسع بكثير من علماء تحسين النسل المخاوف بشأن “جودة” “الأمة”. كان القلق بشأن “العرق البريطاني” الذي وصفه بيفريدج Beveridge في تقريره الشهير هو الدافع لتأسيس نظام الرعاية البريطاني (Beveridge, 1942). جرى ترويج تحسين الصحة والتعليم والإسكان للفقراء على أنه ضروري لتحسين فضائل وميزات دول الرعاية. غير أن علم تحسين النسل لم يهتم بتربية الأطفال بشكل أفضل، إنما حاول تحديد خصيصة الأمة مسبقًا عبر “الطبيعة” من خلال طريقة التناسل الانتقائية.
قال علماء العرق إن القوانين الوراثية ستحدد مستقبل الجنس البشري؛ وكان الخيار الوحيد أمام صانعي السياسة هو استخدام المعرفة الجينية لتقدم البشرية أو رفض السماح للانحلال العرقي بتدمير أمة الشعبالفولك. (Koontz. 1986: 150)
وفي حين جرى تحفيز “الآريين الأنقياء” على التكاثر من خلال مجموعة متنوعة من المحفزات الاقتصادية والاجتماعية، نُفذ برنامج تعقيم قسري (إلى أن حصلت مقاومته بنجاح) لـ “ذوي العقلية الضعيفة” أو ممن اعتُبروا أنهم لا يستحقون الحياة. لكن هذا النوع من البرامج لم يكن اختراعًا نازيًا. في عام ١٩٢٧ على سبيل المثال، أيدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة دستورية قانون التعقيم غير الطوعي المماثل في فرجينيا؛ وقد مورست مثل هذه البرامج في بعض الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة رسميًا حتى السبعينيات. وقد وصفت الشهادات في منتدى المنظمات غير الحكومية لمؤتمر الأمم المتحدة حول السكان والتنمية في سبتمبر ١٩٩٤ في القاهرة، ممارسات معاصرة (وإن لم تكن سياسات رسمية) ذات طبيعة مماثلة تستهدف الأشخاص ذوي الإعاقة في العديد من البلدان في كل من الشمال والجنوب؛ ومن المحتمل أن تشجع الهندسة الوراثية هذا الاتجاه بشكل أكبر في المستقبل.
لكن تركيبات تحسين النسل في إعادة الإنتاج القومي تتعلق أكثر بكثير من مجرد “الصحة” الجسدية للجيل القادم؛ فهي تتعلق بمفاهيم “المخزون الوطني” وبإضفاء الطابع البيولوجي على السمات الثقافية. أعلنت الهيئة الملكية للسكان في بريطانيا في تقريرها لعام ١٩٤٩:
يجب الحرص على التقاليد والأخلاق والأفكار البريطانية في العالم. وبالتالي، فإن الهجرة ليست وسيلة مرغوبة لإبقاء السكان عند مستوى التعويض، لأنها ستؤدي في الواقع إلى تقليل نسبة الولادات المحلية بين السكان (quoted in Riley, 1981a)
يمكن للمرء هنا أن يرى الأصول الباولية/ الثاتشرية[1] للـ “العنصرية الجديدة” (Barker, 1981) التي أصبحت فيها “الثقافة” و “التقليد” جوهرية وحيوية في مفاهيم “اختلاف” الأنساب والتي كانت في صميم خطاب “الخوف من الإغراق بالمهاجرين” التي فازت به مارجريت ثاتشر بأولى حملاتها الانتخابية في المملكة المتحدة (انظر المناقشة في الفصل ٣).
البلد الذي تُصاغ فيه السياسات السكانية اليوم بأقوى ما يكون من مصطلحات تحسين النسل هو سنغافورة، حيث طالب رئيس الوزراء لي كوان يو[2] Lee Kuan Yew النساء المتعلمات تعليماً عالياً أن ينجبن أطفالاً متفوقين وراثياً كواجب وطني، بينما حصلت الأمهات الفقيرات غير المتعلمات على جائزة نقدية بقيمة ١٠،٠٠٠ دولار إن وافقن على التعقيم بدلاً من الاستمرار في إنجاب أطفالهن الأدنى وراثياً (Heng and Devan, 1992). السياسات التفاضلية للتشجيع والتثبيط لإنجاب الأطفال تجاه شرائح مختلفة من السكان (على أساس الطبقة والعرق والأصل، وغالبًا ما تكون جميعها) موجودة في العديد من البلدان وإن لم يكن ذلك واضحًا دائمًا.
تستشهد تامار لوين Tamar Lewinعلى سبيل المثال (WGNRR, 1991) بخطة في كنساس لدفع مبلغ ٥٠٠ دولار أمريكي بالإضافة إلى ٥٠ دولارًا سنويًا للأمهات اللواتي يستفدن من الرعاية الاجتماعية (العديد منهن من السود) مقابل زرع لصقات نوربلانت Norplant التي تحتوي على موانع حمل كيميائية بطيئة الإطلاق طويلة المدى. البرنامج الذي اقترحه ممثل “الحق في الحياة” اليميني، حظي بدعم افتتاحي في الصحيفة المحلية “بسبب الفقر المتزايد بين أمهات الرعاية الاجتماعية من السود”. كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في الشمال التي شاركت في التجارب على نطاق واسع في نوربلانت – لكنها استهدفت مجموعات محددة من النساء اللواتي أعطيت لهن. من المعروف على نطاق واسع أن العديد من الدول الغربية، من بريطانيا إلى أستراليا، تستخدم وسائل منع حمل غير آمنة مثل حُقن Depo-Provera سيئة السمعة (موانع حمل طويلة الأمد ذات آثار جانبية مهددة للحياة ومحظورة في العديد من البلدان) ، والتعقيم (بما في ذلك التعقيم غير الجراحي غير المصرح به مثل Quinacrine: Berer, 1995). من المهم هنا التنويه بأن هذه الوسائل أُعطيت بشكل حصري تقريبًا للنساء الفقيرات أو نساء الأقليات (Reproductive Rights Campaign newsletters, 1981–3).
الخطاب المالثوسي
تختلف القصة إلى حد ما في العديد من البلدان النامية (أو كما يطلق عليها أحيانًا بلدان LACAAP: أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأفريقيا وآسيا والمحيط الهادئ) حيث يوجد خوف من النمو المستمر غير المنضبط (“الانفجار”) للسكان قد يجلب كارثة قومية (أو دولية) (Hartman, 1987). تهدف سياسات تحديد النسل في هذه البلدان في المقام الأول إلى خفض معدل النمو بشكل عام. غالبًا ما تكون النساء الفئة “الأسيرة” المستهدفة بمثل هذه السياسات. في البرازيل على سبيل المثال، جرى الإبلاغ عن أن ٤٥ في المائة من النساء اللائي خضعن لعملية قيصرية ينتهي بهن الأمر إلى التعقيم (Bradiotti et al., 1994: 144) وهذه القصص شائعة في أماكن أخرى. خلال “فترة الطوارئ” في السبعينيات في الهند، كانت سياسات التعقيم تستهدف الرجال في المقام الأول. يعتبر هذا أحد الأسباب الرئيسية للهزيمة اللاحقة لحزب المؤتمر في معاقله في الانتخابات القادمة، ونتيجة لذلك أصبحت النساء فعليًا الهدف الوحيد لسياسات تحديد النسل. وفي حين أن هناك أرقامًا سنوية محددة للمستهدفات بالتعقيم النسائي، خصوصًا أثناء تواجدهن في المستشفيات أثناء الولادة، فقد اختفت إجراءات قطع القناة الدافقة من الذكور تقريبًا (تقرير شفوي في مؤتمر الأمم المتحدة بالقاهرة عام ١٩٩٤).
تنبأ توماس مالثوس، رجل الدين البريطاني الذي تحول إلى اقتصادي، قبل عام ١٨٠٠ أن الكوكب لن يكون قادرًا على أن يدعم لفترة طويلة السكان البشريين الذين ينمون بشكل أسرع بكثير من الموارد الغذائية العالمية. كان تفسيره لذلك هو أن عدد السكان ينمو كل جيل بمعدل هندسي، بينما ينمو الإمداد الغذائي فقط بمعدل حسابي. البؤس البشري فقط – الناجم عن الفقر والمجاعات والأوبئة وكذلك الحروب والمذابح – هو الذي سيُبقي حجم السكان تحت السيطرة. وقد علق هارتمان Hartman (1987: 13–14)بأن مالثوس كان مع ذلك مخطئًا في حسابين أساسيين. أولاً، يمكن إبطاء النمو السكاني وجعله مستقرًا في النهاية من خلال الاختيارات الطوعية للأفراد وليس فقط بسبب الكوارث “الطبيعية”. ثانيًا، استخف مالثوس إلى حد كبير بقدرة الكوكب على إطعام سكانه البشريين المتزايدين وما يترتب على ذلك من علاقات مختلفة تمامًا بين معدلات الإنتاج البشري والتكاثر.
ومع ذلك، استُمِر سماع نبوءات من النوع المالثوسي بشكل دوري، على الرغم من أنها أصبحت أكثر تركيزًا بشكل متزايد على دول العالم الثالث. كان الكتاب المؤثر للغاية في هذا الصدد هو “القنبلة السكانية” الذي صدر في عام ١٩٦٨ الذي كتبه عالم الأحياء بجامعة ستانفورد بول إيرليش Paul Ehrlich. جمع التركيز على معدل النمو السكاني في العالم الثالث بين خوف عنصري من “الغرق” في بحر “الآخرين” غير الغربيين، وبين تبرير سهل لأصحاب الضمائر الليبرالية الغربية المذنبة لاستمرار الفقر وتدني مستوى الحياة في دول العالم الثالث في فترة ما بعد الاستعمار. والأهم من ذلك، أن الخطاب المالثوسي لم يكن مجرد خطاب أيديولوجي فحسب، بل أصبح حجر الزاوية في السياسات السكانية في العديد من دول العالم الثالث نفسها كاستراتيجية رئيسية لمحاولة حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لتلك البلدان. هناك خوف من زعزعة استقرار النظام الاقتصادي والسياسي إذا كان التوازن بين العرض والطلب على قوة العمل مهدَّدًا بشكل خطير نتيجة للنمو “الذي لا يمكن السيطرة عليه” في عدد السكان.
الدولة التي قطعت شوطا أبعد في هذا الصدد هي الصين. وفي حين رأى ماو تسي تونغ خلال الخمسينيات من القرن الماضي أن الناس جزء من السلطة والموارد الوطنية، حدث انعكاس كامل للسياسات في السبعينيات. اتُخذت تدابير صارمة كي لا تنجب معظم العائلات الصينية أكثر من طفل واحد (سُمح لبعض الأقليات والأسر الريفية بطفلين إذا كان الطفل الأول فتاة). في شكلها المتطرف، تضمنت عقوبات التهرب من هذه التدابير: بطالة الوالدين واستبعاد الطفل من التعليم. بيد أن تأثيرات هذه السياسات كانت متفاوتة تمامًا. يرجع ذلك جزئيًا إلى السياسات التفاضلية، وجزئيًا لأن سيطرة الدولة كانت أكثر فاعلية في المدن وفي المناطق الوسطى من البلاد. وقد أدى ذلك إلى تحول ديموغرافي انحرف سلبًا نحو المناطق الريفية المتخلفة ومجموعات الأقليات. وهناك دلائل على أن الصين تتجه الآن كرد فعل إلى سياسات تحسين النسل للسيطرة على السكان، حيث ستستخدم الصين عمليات الإجهاض والتعقيم وحظر الزواج “لتجنب الولادات الجديدة ذات الجودة الرديئة ورفع معايير جميع السكان[3] “(اقتباس من official New China News Agency, Washington Post, 22 December 1993). كانت هناك أيضًا تقارير عن اتخاذ تدابير صارمة للسيطرة على السكان ضد مجتمعات مثل التبيتيين (Lentin، سننتاوله فيما يلي).
غالبًا ما يكون تأثير السياسات المالثوسية شديد التمييز بين الجنسين. عندما يكون هناك ضغط قوي للحد من عدد الأطفال، وحيث يكون الأطفال الذكور أكثر قيمة لأسباب اجتماعية واقتصادية، فإن ممارسات الإجهاض وقتل الأطفال تكون موجهة بشكل أساسي إلى الفتيات الصغيرات. هناك شائعات حول قرى في الصين والهند حيث تكون بعض الفئات العمرية، المولودة بعد السياسات المالوثيسية، هي من فئة الذكور بنسبة مئة في المئة. غالبًا ما تكون الإناث أيضًا هن الأكثر سهولة في التبني الدولي. مع ذلك، فإن “المصلحة الوطنية” الكامنة وراء تدابير صارمة للسيطرة على السكان في بلدان الجنوب، غالبًا لا تكون نتيجة لمبادرة حكومية داخلية ولكن يتم تحفيزها من الخارج بسبب تصور بلدان الشمال (وخصوصًا الولايات المتحدة) لـ “مصلحتها الوطنية”. وصف تقرير لوكالة المخابرات المركزية جرى تسريبه قبل بضع سنوات آثار ارتفاع معدلات المواليد على أنها تؤدي إلى “عدم الاستقرار السياسي في العالم الثالث والذي بدوره سيؤدي إلى مشاكل أمنية للولايات المتحدة” (WGNRR, 1991). وهكذا، أعطت إدارة ريغان ٣ مليارات دولار للسيطرة على السكان كجزء من مساعداتها “التنموية” – أي ثلاثة أضعاف المبلغ الإجمالي الذي أنفق لهذا الغرض في عهد جونسون ونيكسون وفورد وكارتر (على الرغم من حظرهم لأي مساعدة كانت ستدعم خدمات الإجهاض بسبب ضغوط اليمين المسيحي). قدمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) أموالًا لأغراض تنظيم الأسرة إلى ٩٥ دولة – بما في ذلك جميع الدول الـ ٤٥ في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، وكذلك بشكل خاص المكسيك والفلبين، على الرغم من أن الكثافة السكانية للأفراد في أفريقيا هي عُشر مثيلتها في أوروبا، بحسب ما أوضحت إليزابيث سوبو Elizabeth Sobo (WGNRR, 1991).
في النظام العالمي الجديد، يلعب البنك الدولي دورًا رئيسيًا في تشكيل السياسة السكانية بحكم نفوذه على الأشكال الأخرى في تمويل التنمية. وبالتالي يمكن أن تصبح تدابير تحديد النسل جزءًا من حزمة “التكيف الهيكلي”. هناك ضغط متزايد على النساء (وغالبًا ما يكون الضغط فقط على النساء – فهن فئة أسيرة مستهدفة سهلة، ويكون ذلك عادةً بعد التوليد خصوصًا إن كانت الولادة قيصرية) ، الضغط لتعقيمهن أو استخدام موانع الحمل طويلة الأمد الأخرى من اللولب إلى حُقنَة من ع الحمل Depo-Provera إلى عقارا نوربلانت وكويناكرين. في بعض الأحيان تكون الوسائل المستخدمة أكثر دهاء ومكرًا. منحت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ٣٥٠ ألف دولار لأحد كبار الموسيقيين في نيجيريا كينغ صني أيد King Sunny Aid للغناء عن تنظيم الأسرة وإنجاب عدد أقل من الأطفال (بينما لديه هو اثنا عشر طفلاً). هذا جزء من برنامج الخمس سنوات الذي تبلغ قيمته ٣٥.٤ مليون دولار لمركز خدمات التواصل السكاني في جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins لتحسين الاستجابة “للطرق المناسبة ثقافيًا للتأثير على تقبل تنظيم الأسرة واستخدامه” (WGNRR, 1991). لا بد أن صانعي السياسة قد فهموا أنهم بطريقة ما كانوا مخطئين بتعاطيهم مع الأمر، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما زرت مصر عام ١٩٨٠ ورأيت القاهرة مغطاة بملصقات ضخمة لتنظيم الأسرة تظهر عائلة مكونة من رجل وامرأة وصبي وفتاة وراديو ترانزستور، رداً على ذلك علق سائق التاكسي قائلاً: الحمقى المساكين – من سيرعاهم عندما يتقدمون في السن؟”
السياق الاجتماعي
هذه الملاحظة لسائق التاكسي مهمة لأنها تلفت انتباهنا إلى السياق الاجتماعي الذي تحدث فيه هذه السياسات. من المهم ملاحظة أنه غالبًا ما يكون هناك صراع خطير بين المصالح الجماعية القومية والمصالح الفردية، من حيث عدد الأطفال الذين ينجبهم المرء. عندما لا توجد هياكل رعاية لرعاية المسنين والمرضى فمن الضروري أن يكون لدى الناس ما يكفي من الأطفال الأصحاء لإعالتهم. علاوة على ذلك، في حال عدم وجود خدمات صحية عامة متطورة وارتفاع معدل وفيات الرضع، يكون هناك اهتمام حقيقي بأن تحمل المرأة أكبر عدد ممكن من المرات. وكما أوضح هارتمان Hartman (1987: 8)، فإنه لم تكن هناك أبدًا حالة انخفض فيها معدل النمو السكاني ولم ينخفض معه معدل وفيات الأطفال أيضًا. من المهم بشكل خاص تذكر هذا حينما تُصاغ سياسات التكيف الهيكلي، لأنها في نفس الوقت الذي تضغط فيه لخفض معدل النمو السكاني، فإنها تقطع أيضًا الأموال المخصصة للرعاية الصحية العامة والدعم المطلوب للمرأة لإنجاب أطفال أصحاء وتنشئتهم. وكما ذكرت سونيا كورّيا Sonia Correa (1994: 7)، فقد نجحت حملة دولية واسعة النطاق من قبل حركة الصحة والحقوق الإنجابية في تغيير جدول الأعمال السياسي لمؤتمر الأمم المتحدة حول السكان والتنمية في القاهرة (September 1994)، بحيث لم تعد قراراتها تتكلم فقط عن خدمات تنظيم الأسرة ومنع الحمل ولكن عن الصحة الإنجابية أيضًا. سيشمل ذلك أيضًا رعاية الأم والطفل والوقاية من السرطان والالتهابات المنقولة جنسياً. وعلى الرغم من وجود مسافة كبيرة بين إعلانات الأمم المتحدة الرسمية وتنفيذها، فإن هذا التحول في الخطاب السياسي العام جيد على العموم.
إلا أن غياب البنية التحتية للصحة العامة والرعاية الاجتماعية ليس العامل الاجتماعي الوحيد الذي يجب أخذه بعين الاعتبار؛ وتشهد على ذلك المقاومة الشرسة للحقوق الإنجابية للمرأة من قبل التحالف الأصولي للفاتيكان/ إيران خلال مؤتمر القاهرة. بالنسبة لهم ولغيرهم من القادة الدينيين، يُنظر إلى قدرة النساء على التحكم في أجسادهن على أنها تهديد مباشر لسلطتهم، وقد يتردد عدد كبير جدًا من النساء في اتخاذ أي إجراء يمكن تفسيره على أنه خيانة للقوانين الدينية والعرفية المقدسة. من المهم التأكيد في هذا السياق (كما سيتم توضيحه في الفصل ٣)، أنه بدلاً من أن تكون المواقف الدينية نتيجة لمقتضيات دينية “جوهرية” و “أساسية”، فإن التذرع بالسلطة الدينية يكون من أجل إضفاء شرعية على المواقف المعارضة فيما يتعلق بالمرأة وخياراتها الإنجابية (Makhlouf Obermeyer, 1994).
علاوة على ذلك، في الأنظمة الاجتماعية والثقافية حيث تعتمد القيمة الاجتماعية للمرأة (وعادةً، قدرتها على ممارسة بعض القوة الاجتماعية خصوصًا عندما تكون كبيرة في السن) على ما إذا كان لديها أبناء أم لا، يمكن أن يعتمد عدد الأطفال الذكور الذين تحمل بهن النساء على عمليات من التحول الاجتماعي أكثر عمقًا وشمولًا ، لاسيما فيما يتعلق بما وصفته سونيا كورّيا وروز بيتشسكي Ros Petchesky (1994) بالحقوق الاجتماعية للمرأة. كما أن عمليات العولمة – الاقتصادية والسياسية والاجتماعية – تخلق ضغوطًا مُتَعَارِضة على خصوبة المرأة. فمن ناحية، هناك ضغط أكبر على النساء للخروج للعمل، وغالبًا ما يتوفر المزيد من وسائل منع الحمل من خلال منظمات الإغاثة الدولية. ومن ناحية أخرى، فإن الهوية الأصولية العرقية والدينية المتصاعدة والحركات السياسية تشدد السيطرة على المرأة وتزيد من معارضة أي حقوق إنجابية باسم “العادات والتقاليد”.
بالإضافة إلى السياق العام، نحتاج إلى النظر أيضًا، كما يوضح Rani Bang and Abhay Bang راني بانغ وأبهاي بانغ (1992)، إلى الآثار المباشرة التي يمكن أن تُحدثها وسائل منع الحمل عالية التقنية على حياة النساء. في المجتمعات التي تعاني فيها الكثير من النساء من أمراض نسائية بطبيعة الحال – والتي لا يتم الاعتناء بها عندما يحصل تعقيمهن أو زرع ارحامهن بنوربلانت – تزداد عوارضهن الجسدية بشكل غير مريح. وفي الثقافات التي تُمنع فيها المرأة التي تنزف (مثلًا النوربلانت غالبًا ما يسبب نزيفًا متكررًا) من القيام بمهام شعائرية أو طقوسية، ويُمنع رجالهن من ممارسة الجنس معهن، يؤدّي الأمر إلى تداعيات خطيرة على حياة النساء، بما في ذلك الهجر أو الطلاق من قبل أزواجهن، كما جاء في العديد من الشهادات التي قدمت في منتدى المنظمات غير الحكومية في مؤتمر القاهرة للأمم المتحدة. تضمنت هذه الشهادات أيضًا حالات لنساء تركهن أزواجهن بسبب الآثار اللاحقة لانقطاع الطمث المبكر بمجرد توقف استخدام نوربلانت. إذًا يمكن أن تكون الآثار الجانبية الجسدية طويلة المدى وقصيرة المدى.
من المهم أن نتذكر أنه قد تكون أيضًا التجمعات غير الحكومية الرسمية وغير الرسمية، الدينية (مثل الكنيسة الكاثوليكية) والوطنية، هي التي تمارس الضغط على النساء وتجبرهن أحيانًا على إنجاب الأطفال أو عدمه. على سبيل المثال، كان هناك ضغط قوي على النساء الفلسطينيات لإنجاب المزيد من الأطفال من أجل النضال الوطني كما أخبرتني امرأة فلسطينية: “نحن بحاجة إلى ابن للنضال والشهادة وابن للأسر وابن يذهب إلى بلدان النفط لكسب المال وابن واحد يعتني بنا عندما نتقدم في السن”. كما نقل البعض عن ياسر عرفات قوله
بأن المرأة الفلسطينية التي تحمل فلسطينيًا كل عشرة أشهر… هي قنبلة بيولوجية موقوتة تهدد بتفجير إسرائيل من الداخل (Portuguese, 1996: 311.)[4]
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الأطفال المولودين خارج إطار الزواج أو خارج الحدود الدينية والوطنية بمثابة عار على الأسرة، وقد تُعاقب النساء المشتبه في “معاشرتهن” العدو بقسوة. مثل آخر على ذلك هو التقارير المتعلقة بالأطفال البوسنيين المولودين من خلال جرائم الاغتصاب أثناء الحرب والذين جرى التخلي عنهم في مستشفيات ودور للأيتام بسبب العار الذي لحق بالعائلة والجماعة العرقية (انظر للمناقشة حول عمليات اغتصاب الحرب في الفصل ٥).
ملاحظة ختامية: الحقوق الإنجابية وإعادة الإنتاج القومي والسياسات النسوية
كما سبق ونوقش في المقدمة، فإن عضوية المرأة في مجموعاتها القومية والعرقية هي عضوية ذات طبيعة مزدوجة. فمن ناحية، النساء كالرجال أعضاء في الجماعة. ومن ناحية أخرى، هناك دائمًا قواعد وأنظمة محددة تتعلق بالنساء كنساء. من المهم أن نتذكر هذا بشكل خاص عندما نفكر في التداعيات السياسية للطرق التي يتم بها بناء النساء على أنهن يعدن إنتاج “الأمة” بيولوجيًا. على الرغم من حقيقة هيمنة الرجال عادة، إن لم يكن دائمًا، في أنظمة الجنس/ النوع الاجتماعي، في مجتمعاتهم، فإن النساء لسن مجرد ضحايا أو كائنات غير فعالة بإزاء الأيديولوجيات والسياسات التي تهدف إلى تحديد نسلهن. على العكس من ذلك، غالبًا ما تكون النساء، وخصوصًا النساء الأكبر سنًا، هن من يُمنحن دور المنتجين الثقافيين لـ “الأمة”، ويحصل تمكينهن من الحكم على السلوك والمظهر “المناسبين” ، وما إلى ذلك من ممارسات للسيطرة على النساء الأخريات اللواتي يمكن اعتبارهن “منحرفات”. قد تنخرط المرأة في هذا الدور بشكل كامل كونه المصدر الوحيد للسلطة الاجتماعية المتاح لها في الكثير من الأحيان.
تميل معظم الخطابات النسوية المتعلقة بالحقوق الإنجابية للمرأة إلى التعامل مع المرأة من منظور فردي، كما يظهر في شعار “حقوق المرأة بوصفها حقوق إنسان”. وكما تذكر كورّيا وبيتشسكي (1994: 109–10)، فقد أشار منتقدو خطاب “الحقوق” إلى أن قيمة ومعنى الحقوق مرهونان دائمًا بالسياق السياسي والاجتماعي، وغير مُعَرَّفين، ويعتمدان على الفئات الاجتماعية والجماعات التي ينتمي إليها الناس. وفيما يتعلق بالحقوق الإنجابية للمرأة على وجه التحديد، كان هناك قلق متزايد خلال السنوات القليلة الماضية بين “النساء ذوات البشرة الملونة” من أن التبني المشترك لمثل هذه الشعارات من قبل الوكالات الدولية واليمين هو جزء من “الحرب الديموغرافية” التي، وإن لم تعني تمامًا الإبادة، إلا أنها تهدف إلى إعاقة نمو وقوة السود وسكان العالم الثالث (للحصول على ملخص للمناقشات انظر Petchesky and Weiner, 1990). لم تكن هاته النسوة الوحيدات في تفكيرهن هذا. فكما تجادل روزا تساغاروسيانو Roza Tsagarousianou (1995) فإنّ حظر الإجهاض (بالإضافة إلى التحكم في الحقوق الإنجابية الأخرى للمرأة) يشير إلى معاملة النساء كممتلكات للدولة. من ناحية أخرى، يمكن أن يتم الاستيلاء على هذه الأفكار والمخاوف المعادية للخطاب الفرداني من قبل الأصوليين القوميين والدينيين الذين يعترضون – كما كان الحال في مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام ١٩٩٤ في فيينا – على أي ضمانات دستورية دولية للحقوق الإنجابية للمرأة، ويعتبرونها تدخلًا في حقوق الإنسان الجماعية لدولهم والتي تشمل الحق في اتباع “ثقافتهم وتقاليدهم”.
سنستطرد في الآثار المترتبة على بعض النقاط المذكورة أعلاه بمزيد من التفصيل في فصول لاحقة.
لا توجد مساحة هنا لتطوير إطار عمل للسياسات النسوية بشكل كامل حول الحقوق الإنجابية والذي قد يأخذ في الاعتبار المخاوف المذكورة أعلاه. ومع ذلك، فإن مثل هذا الإطار يأخذ في الاعتبار حقيقة أن النساء لسن مجرد “أفراد” ولكنهن أيضًا أعضاء في جماعات قومية وعرقية، بالإضافة إلى مواقعهن المحددة في الطبقة والجنس ودورة الحياة. النساء لسن مجرد أفراد، كما أنهن لسن مجرد ممثلات لجماعاتهن. يجب أن تأخذ حملات “الحقوق الإنجابية” في الحسبان تعددية وتعقيد أبعاد الهويات داخل المجتمع المعاصر من دون غض النظر عن حجم القوة المتباينة للجماعات والتجمعات المختلفة داخلها (انظر الفصل ٤).
ينبغي على مثل هذه الحملات أن تدرك أيضًا أن “الثقافة” ليست أبدًا مجموعة جوهرية ومتجانسة من العادات والتقاليد، ولكنها مصدر غني، عادة ما يكون مليئًا بالتناقضات الداخلية، ومورد يستخدم دائمًا بشكل انتقائي في العديد من المشاريع الثقافية الدينية والعرقية ضمن علاقات قوة محددة وخطاب سياسي معيّن (انظر الفصل ٣).
باختصار، يتوجب النظر إلى “الحقوق الإنجابية” على أنها جزء أساسي من النضال الأكبر من أجل تحرير المرأة. ينبغي أن يُنظر إلى هذا النضال بدوره على أنه جزء أساسي من النضال الأكبر من أجل دمقرطة المجتمع، والذي يجب أن يأخذ في الاعتبار المواقع المختلفة للناس في المجتمع (انظر الفصل ٦).
- حقوق إنجابية
- سياسات سكانية
- المالثوسية
- سياسات تحديد النسل
- تحديد النسل
- التعقيم
- وسائل منع الحمل
الهوامش:
[1] نسبة إلى كل من إينوخ باول John Enoch Powell (1912- 1998) ومارغريت ثاتشر Margaret Hilda Thatcher(1925- 2003) وقد كانا من المسؤولين البريطانيين المحافظين وتبنيا سياسات متشددة معادية للهجرة. (المراجع)
[2] Lee Kuan Yew(1923- 2015) أول رئيس وزراء لسنغافورة منذ العام 1959 وحتى 1990 ويعرف لذلك بالأب المؤسس. رئيس الوزراء الحالي هو Lee Hsien Loong لي هسين لونغ وقد أعيد انتخابه عام 2020 لولاية خامسة. (المراجع)
[3] تنبغي الإشارة هنا إلى حصول تغير في السياسة السكانية الصينية منذ ذلك الوقت . ففي عام 2013، سمحت الصين للأسرة بإنجاب طفل ثانٍ إذا كان أحد الزوجين فقط وحيداً. وفي تشرن الأول/أكتوبر 2015 أعلنت الصين سماحها لجميع الأسر بإنجاب طفلين، وذلك تداركاً لتعميق اختلالات ديموغرافية تهدد النمو الاقتصادي للبلاد. وفي أواخر أيار/مايو 2021 قررت الصين السماح لمواطنيها المتزوجين بإنجاب طفل ثالث. ومن المتوقع أن ترفع القيود على الإنجاب بشكل كامل خلال ما بين ثلاث وخمس سنوات (المراجع)
[4] Portuguese, Jackie (1996) ‘The gendered politics of fertility policies in Israel’. Unpublished PhD dissertation draft, University of Exeter.
Add Comment