المجتمعات العربية تركيبة هجينة تتحكم فيها أبوية جديدة
جهة النشر: Al Arab
تعتبر السلطة الأبوية في المجتمعات العربية التقليدية الأساس الذي تنبني عليه الأسرة والمجتمع، إذ استمدت هذه السلطة مشروعيتها من الأساطير والدين والعادات والتقاليد التي كانت تعمل دائما على إنعاشها، ما ساهم في استمراريتها داخل المجتمع، إلى حدود الفترة التي ستعرف فيها هذه المجتمعات غزوا من طرف العولمة والحركات الإمبريالية الاستعمارية، التي عملت على تفتيت هذه المجتمعات الأبوية التقليدية؛ مما دعا هذه المجتمعات للتخلي بوعي أو دون وعي عن مجموعة من العادات والتقاليد الراسخة منذ قرون من الزمن، والتي كانت تعمل دائما على ترسيخ السلطة الأبوية في المجتمع، مما نتج عنها أسر ومجتمعات لا هي بحداثية تسير مع عجلة الحداثة ولا هي بتقليدية عتيقة، بل أدى هذا المزج بين الحداثة والتقليد إلى ظهور ما يسمى بالأبوية المستحدثة. ولكن الإشكال الذي يطرح نفسه هو: إلى أيّ حد يمكن اعتبار السلطة الأبوية كباثولوجيا اجتماعية؟
تتمثل مظاهر الأبوية في المجتمعات العربية التقليدية في عدة أشكال مختلفة، مثل السلطة التي تتمثل في (الأب والابن والشيخ والسلطان)، وهناك أشكال أخرى تعمل على ترسيخ هذه السلطة، وهي التي تتمثل في العادات، والتقاليد، واللغة، والرموز التي كانت سائدة في القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، والتي تعمل على دعم سلطة الأب أو الشيخ وتعطيها الشرعية لتستمر فعاليتها في المجتمع. إذ تعتبر سلطة الأب والشيخ من أهم المظاهر التي تجسد النظام الأبوي في المجتمعات القبلية. ولقد استمر وجودها حتى في مجتمعاتنا الحديثة، إلا أن وجودها أصبح يحمل طابعا مختلفا عما كانت عليه في القدم، ولكنها مازالت تشكل مرضا اجتماعيا تعاني منه جل المجتمعات العربية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يتم وصف الهيمنة الأبوية على أنها باثولوجيا اجتماعية؟
مظاهر الأبوية في المجتمعات العربية التقليدية تتمثل في عدة أشكال مختلفة، مثل السلطة التي تتمثل في (الأب والابن والشيخ والسلطان)، وهناك أشكال أخرى تعمل على ترسيخ هذه السلطة، وهي التي تتمثل في العادات، والتقاليد، واللغة، والرموز التي كانت سائدة في القبيلة أو العشيرة أو الأسرة
لعبت العولمة دورا مهما في الحد أو التقليل من حدة الهيمنة الأبوية في المجتمعات العربية، حيث ستعرف مجتمعاتنا بعد الاستعمار والحركة النهضوية التي دعت للانفتاح على الغرب ونقل ثقافته، وكذلك الحركة الرأسمالية التي لعبت دورا مهما في تمزيق وحدة المجتمعات التقليدية، كل هذا كان له الأثر الكبير على ثقافتنا، ومن أهم الجوانب التي عرفت تحولا كبيرا نجد: الجانب التربوي والثقافي وكلا من العادات والتقاليد التي لم تعد قادرة على مسايرة تحولات العصر.
فبعد كل هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها مجتمعاتنا العربية، لا يزال النظام الأبوي قائما ومهيمنا داخل هذه المجتمعات، ولكن بصورة مختلفة عمّا كان عليه في القدم، أي ما يصطلح عليه علي زيعور بالمجتمعات الهجينة، التي تقوم على المزج بين ما هو تقليدي وما هو حداثي، وهي نتاج تربية لا هي بحداثية ولا هي بتقليدية.
يقر هشام شرابي كذلك أن الفرد في ظل هذه المجتمعات التي تطغى عليها الأبوية المستحدثة يعيش حالة من الصراع، حيث “يدعي إخلاصه المطلق للقيم الاجتماعية المتجسدة في الوطن والوحدة والتحرير والعدالة والمساواة، إلا أنه، وفي آن معا يتمسك بالأهداف الخاصة (بالعائلة، والقبيلة…) التي لا تتصل أبدا بتلك القيم، حتى تلك التي قد تتناقض معها” (شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ص 87)، فالشيء الذي يميز الدراسة التي قام بها شرابي حول النظام الأبوي المستحدث، هي أنه انفتح على مجموعة من الدراسات والعلوم المختلفة، الغربية والعربية، كل من علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهذا ما يجعل دراسته تدخل ضمن دراسات الفلسفة الاجتماعية.
فالنظام الأبوي هو عبارة عن باثولوجيا اجتماعية تعاني منها جل المجتمعات العربية، سواء الأبوية في شكلها التقليدي المتعصب أو في شكلها المستحدث المضطرب. ويعمل النظام الأبوي على ترسيخ قيم التسلط والعنف والتخلف والتمييز بين الرجل والمرأة، سواء في العمل أو في الأسرة، وتغييب دور الفرد داخل المجتمع، ما أنتج لنا مجتمعات غير مكتملة، مجتمعات لا تقوم على الأفراد بقدر ما تقوم على الجماعات، أو ما يسميه شرابي “بالأسرة الممتدة، والتي مازالت تسيطر داخل المدن إلى يومنا هذا” (شرابي، مقدمات لدراسات المجتمع العربي ص 35).
وهذا ما يزيد من حدة الطبقية داخل المجتمع، والتميز العرقي وإحياء الأصول العشائرية، وكذلك تلعب الأوضاع الاجتماعية والسياسية دورا مهما في إحياء النظام الأبوي واستمراريته؛ إذ “حين يجد المواطن نفسه معزولا ومعتزلا ومقموعا فإنه يجد نفسه مجبرا على العودة إلى البنى الاجتماعية الأولية، العائلة، الجماعة الإثنية، القبيلة، الطائفة، بحثا عن الأمان وضمانا لبقائه” (شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ص 87)، وهذا ما يساهم دائما في استمرارية وإحياء تلك الهيمنة الأبوية.
لهذا نجد معظم المفكرين العرب الذين درسوا هذا الموضوع أرجعوا طبيعة هذه الهيمنة الأبوية إلى التربية، فالتربية هي التي تجعل الإنسان الحديث الذي يدعي العلم والثقافة والانفتاح يعيش حالة من الانقسام النفسي، لأن التربية هي العمود الذي ينبني عليه الفرد والمجتمع، فالكبت والإجرام والعنف وعدم الثقة في النفس…، كل هذا ناتج عن التربية، فالتحرر من هذه السلطة الأبوية كان لا بد من الرجوع فيه إلى إصلاح التربية، لأن هذه الأخيرة هي التي تُخلف لنا إنسانا متخلفا، يقدس الخرافات ولا يعتمد على نفسه، بقدر ما يعتمد على غيره، مطيعا لا يقدر على النقاش والدفاع على نفسه، ولهذا فزيعور يرى أنه “ضروري من إعادة تربية الأب والأم، والتخطيط لإيجاد الأجواء التي تخلق أو تهيئ لظهور المواطن العصري الذي يجرب ويجدد في التربية والتصرف…، والذي يخطط لا في مجال العائلة فقط بل في كل نشاطاته” (زيعور، التحليل النفسي للذات العربية ص 57).
بينما شرابي يؤكد على دور التربية في التصدي لهذا النظام الأبوي، بل يركز حتى على دور العمل في تحرير المرأة لأن العمل في رأيه هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الديمقراطية داخل الأسرة. لهذا يقر أن ”التحرر الصحيح لا يمكن أن يحصل إلا من خلال عملية تنبثق من قلب المجتمع” (شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي ص 31)، بينما نجد نوال السعداوي تركز بشكل أساس على التربية الجسدية والنفسية التي يجب أن ترافق جميع مراحل نمو المرأة، لأنها ترى أن “السبب في أننا نرى نساء كبيرات ناضجات في أجسامهن في مقابل نفوسهن وعقولهن لا تزال في مرحلة متخلفة من مراحل النمو، فهذا التخلف هو أهم سبب وراء معظم الانحرافات والمشاكل الاجتماعية والنفسية والجنسية” (السعداوي، المرأة والجنس ص 52).
وفي الختام قد نرى أن ما يرسخ لقيم الهيمنة الأبوية داخل مجتمعاتنا العربية، ليس بالضرورة راجعا لمشكلة التربية بالأساس، بل قد يعود لغياب سياسة الاعتراف داخل علاقتنا الاجتماعية، لأنه قبل الدخول في العملية التربوية لا بد من وجود اعتراف، الاعتراف بالمرأة كذات من حقها أن تنال الاحترام والتقدير لا الإقصاء والتهميش، والاعتراف بالطفل ككائن عاقل ومستقل يستطيع أن يحدد توجهاته وطموحاته.
ففي غياب الاعتراف تفقد المساواة والحرية والاستقلالية كل معانيها، وتصبح التربية ما هي إلا وسيلة لإعادة ترسيخ سياسة الجهل والتخلف في المجتمع. والاعتراف هنا لا يجب أن يقتصر على العلاقة الأسرية والعائلية داخل المجتمع، بل يجب أن يتعدى ذلك، أن يكون اعترافا يشمل جل المؤسسات الأسرية والاجتماعية ثم القانونية وحتى الدينية. إذ أن التربية والعمل ما هي إلا مجالات قد تفقد فعاليتها كلما كان الاعتراف كفعل أخلاقي وقيمة تربوية غائبا بداخلها. وهذا ما يضعنا أمام طرح إشكال مركزي: ألا يمكن اعتبار أن الاعتراف هو الوسيلة الأساسية لحل مشكلة الهيمنة الأبوية في مجتمعاتنا العربية؟ وهل السلطة الأبوية مازالت تمارس نفس الهيمنة في ظل هذا التعدد للسلطات داخل المجتمع؟
Add Comment