مرت بي سابقاً مقالات تتحدث عن هرب النحل من سوريا. لا أعتقد أن الأمر مستبعد، فمن لا يريد الهرب من بلادٍ كهذه؟
بحثت في أسباب النحل، فأنا أعرف أسباب هربنا مسبقاً. ربما الافتقار إلى الديمقراطية هو سببنا الوجيه، لكن لماذا قد يهرب النحل، ومجتمعه كما نعلم ديمقراطي إلى حد كبير، وأفراده يعملون جماعياً إلى الدرجة التي يطلق عليهم مصطلح Super organism، أي كائن واحد مكوّن من أفراد عديدين؟ لعله يهرب من بلادنا لأنه أدرك أنه من الأسهل بعد كل هذه الحروب أن نذهب للقتال ونشتري العسل بدلاً من العمل المستمر المرهق لإنتاجه!
أما نحن معشر البشر، فنود لو نستعير مفاهيم عالمنا من عالم النحل: «الملكة» في مفهومنا تختلف عنها في مفهوم النحل، فهي لا تحكم الخلية منفردة! والوصف الأنسب لها هو «أم الخلية» لأنها تُنجب كل من داخلها. أما العاملات فلديهن صلاحيات في إدارة الجماعة-الجمهور أوسع من صلاحيات الملكة ذاتها! الأخيرة لديها قرار وضع البيض ونوعه، فيما توجهها العاملات قليلاً بتجهيز العيون السداسية. حتى الحضنة (أطفال النحل) العديمة الأرجل والأجنحة لها دور في اتخاذ القرار رغم قلة حيلتها! فهؤلاء يشاركون في قرار جمع الغذاء عبر تحفيز العاملات على جمع الرحيق وحبوب اللقاح. أما الذكور البالغون، فهم على عكس ذكور البشر: لا أدوار لهم في اتخاذ القرار مطلقاً، وقد يفسر ذلك ميل عالم النحل إلى العمل لا الحرب.
نقابات أكثر من النحل!
لدينا في سوريا جمعيات لتربية النحل ترتبط بمكتب الثروة الحيوانية في اتحاد الفلاحين، ولجان لمربي النحل تتبع غرف الزراعة، ولجنة للنحالين السوريين تتبع نقابة المهندسين الزراعيين، وهناك فرعٌ سوري لاتحاد النحالين العرب، وإذا استمر تشكيل اللجان المتعلقة بالنحل، فقد يصبح عددها أكثر من خلايا النحل!
لكن هذه الجهود «الحثيثة» لم تستطع حماية إنتاج النحل من التدهور، فبحسب رئيس فرع اتحاد النحالين العرب في سوريا كانت البلاد تنتج 3150 طناً من العسل سنوياً، فيما كانت حاجة السوق تراوح بين 1500- 1800 طن، ليبلغ حجم التصدير ما بين 500-700 والباقي يخزن للعام الذي يليه.
كان قطاع النحل السوري ينتج قبل الحرب 3150 طناً بما يتجاوز حاجة السوق المحلية
أثرت الحرب في مناطق الأرياف التي تتركز فيها تربية النحل، ووفق رئيس اتحاد النحالين، تعرض قطاع تربية النحل لعدد من التغيرات الطارئة. وبناءً عليه من الممكن تقسيم مراحل تربية النحل في سوريا إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى ما قبل 2010 والمرحلة الثانية في 2017 والثالثة من 2017 حتى 2021. وبحسب المصدر نفسه كانت سوريا في المرحلة الأولى «تمتلك بين 630- 632 ألف خلية نحل ولديها 30 ألف نحال وعامل في تربية النحل وصناعة ملحقاتها ومستلزماتها من خلايا خشبية وألبسة خاصة بالنحالين وغيرها».
تركزت تربية النحل حسب معلومات الوزارة في العام 2010 في ريف دمشق بواقع 87 ألف خلية، وإدلب 78 ألفاً، واللاذقية 60 ألفاً، وحماة 51 ألفاً. ومع تباعد نيران المدافع خلال السنوات الأخيرة، تحسن الواقع قليلاً، إذ يقول رئيس اتحاد النحالين: «بعد وصول عدد خلايا النحل إلى أقل من 200 ألف خلية بدأ الوضع يتحسن تدريجياً من 2017 وبدأنا في العام الماضي نقطف ثمار الجهود المبذولة في السنوات الماضية من خلال كمية الإنتاج الوفيرة التي تحققت وتراوحت بين 1700- 2000 طن، وهو ما يغطي احتياجات السوق السورية ويفيض قليلاً للتصدير… أتصور أن عدد خلايا النحل في سوريا ارتفع إلى نحو 350 ألفاً».
غير أن ما سبق يبدو كلاماً معسولاً، إذ يؤكد لنا أحمد (اسم مستعار لمسؤول في وزارة الزراعة منذ العام 2004) رأياً آخر، هو أن الأرقام الصادرة عن وزارة الزراعة يجب أن تؤخذ على أنها مؤشر وليست إحصاءات دقيقة، «لأن الأرقام فيها الكثير من التضخيم، بالإضافة إلى نقص في مواكبة الواقع على الأرض».
النحل في الشمال السوري
تتضاعف الصعوبات في ريف حلب الشمالي، كما في إدلب. يقول محمد وهو أحد مربي النحل في جرجناز (ريف إدلب الجنوبي): «مع قدوم الربيع نستنفر لتجهيز الخلايا لكن يفوتنا الكثير من المواسم الزراعية، من الحمضيات إلى اليانسون وحبة البركة وغيرها بسبب انقسام مناطق السيطرة في البلاد، كنا في السابق ننقل النحل أكثر من عشرين مرة في السنة وفق المحاصيل، ولكن الآن لا نتمكن من نقله إلا مرات قليلة»، ويضيف: «انخفضت إنتاجية الخلايا كثيراً، لكن تمكنا من تجاوز بعض الصعوبات عبر جلب ملكات من سلالات أوروبية ذات إنتاجية عالية وذلك بسبب سهولة الاستيراد عبر تركيا».
لا يتعدى استهلاك الفرد السوري من العسل 100 غرام سنوياً، مقابل 2 كيلو غرام في تركيا مثلاً
أما في مناطق غرب الفرات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، فيلقي المناخ الحار بثقله على المزارعين، فيما تتركز حقول خلايا النحل حول مدينة القامشلي بسبب اعتدال مناخها قياساً بمحيطها، وينشط النحل فيها في الربيع بسبب مساحات الزراعة الواسعة، فيما يقتصر إنتاجها على أطنان من العسل.
يلخص حسام (اسم مستعار) الحاصل على الدكتوراه في الهندسة الزراعية، وينشط في تربية النحل في مناطق سيطرة دمشق، الصعوبات التي تعترض هذا القطاع بتكلفة الخلايا المرتفعة، إلى جانب التغذية السكرية في الشتاء، فضلاً عن التكاليف المرتفعة لنقل الخلايا بين المحافظات. فتكلفة نقل مئة خلية من اللاذقية إلى سهل الغاب مثلاً تتجاوز 750 ألف ليرة ما بين أجور النقل والإتاوات التي تدفع على الحواجز.
يذكر أن سعر العسل في مناطق سيطرة دمشق يراوح بين 23-30 ألف ليرة، وهو أقل من ثمن كيلو شكولاتة! أي أنّه سعر غير مجدٍ اقتصادياً، فيما لا يتعدى استهلاك الفرد السنوي من العسل 100غرام مقارنة بـ 2 كيلو غرام للفرد في تركيا، إذ لا تسمح القدرة الشرائية للمواطن السوري بإنفاق المال على ما يصنف بالرفاهيات. لذا، لا يجد عسل البلاد من يشتريه، فيترك في «جراره» ليُقدم النحل وصغاره على «اجتراره»!
لقراءة المقال كاملاً:
Add Comment