إنشاء سجل Sign In

نزع سلاح الآلهة..

بعد كتابَيه معنى اللاّعنف (1995)، واستراتيجية العمل اللّاعنفي (1999)، أصدر فيلسوف اللاّعنف الأبرز على المستوى العالمي، جان ماري مولر، كتاباً بعنوان «قاموس اللّاعنف» (2007)، وأعقبه بكتاب عن غاندي المتمرّد (2011)، ويأتي كتابه «نزع سلاح الآلهة» تتويجاً لمعرفية حركية دينامية طوال خمسة عقود من الزمان.

يعدّ مولر، يسوع المسيح شهيداً للاّعنف، والشهادة هي للحقّ، ويتوصّل إلى قناعة بإفلاس آلهة العنف، ويعتبر الله «ليس إلاّ» محبّة، والمحبة هي للإله الطيّب، في حين أن المخافة هي من الإله الشرير، ويؤسس على ذلك بقوله: الله ليس محبة فقط، بل إنسانية.

يقول مولر: في البداية خطر في بالي أن أعنون مخطوطي بـ«نزع سلاح الله»، ولكن سرعان ما تبيّن لي أن الأمر سيكون غلطاً، إذْ أن الإله حق، في كل الأحوال، وهو ليس مسلّحاً، ومن قلّة العقل، بالتالي، ادّعاء تجريده من سلاحه. في وسع أي شخص كان أن يشك في وجود الله، لكن لا يجوز لأي أحد أن يتجاهل وجود آلهة مسلحة متعدّدة تخيّلها البشر العنفيون لتبرير عنفهم. وهذه الآلهة الأكذوبة هي التي على الإنسان نزع سلاحها ليقوى على التفكّر بالله.

ويتوقّف مولر عند الحروب الدينية في القرن السادس عشر، فيمتدح التسامح، ويقتبس فقرة من فولتير لربط قضية الدين بالعنف، بقوله: «ولكن عجباً ألأن ديننا دين إلهي يتعيّن عليه أن يسود بالكره، بالسخط، بالنفي، بمصادرة الممتلكات، بالسجون، بالتعذيب، بالقتل، بالتسبيحات المرفوعة إلى الله حمداً على هذه الجرائم؟».

ويسمّي الحرب العالمية الأولى «المذبحة الفظيعة»، كما يتناول مواقف الكنيسة ذات الطبيعة المزدوجة، ويدعو إلى وضع حد لمسألة الأسلحة النوويّة، مثلما يدعو إلى «الحظر المطلق للحرب» ويوضح قوّة العمل اللاّعنفي بوجه العنف.

يقدّم مولر قراءات جديدة للنصّ الديني، بقوله: إنّ الله لا يسمح بانتصار الشّر، وإن حصل ذلك، فإما أنه ليس قديراً، وإما أنه ليس طيباً، والله لا يقحم نفسه في تاريخ البشر ليحل محلّهم، واستناداً إلى ذلك يتوصل إلى قناعة بأن العنف الذي ينوء التاريخ بثقله هو من صنع أيادي البشر حصراً، ومن مسؤوليتهم أن يحطموه، وليس من الضروري التضرّع إلى الله حتى يرضى إبداء رأفته بالعالم، وهو الذي «يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجّار»، ولا يحتاج الله إلى أن يأمر البشر بالصلاة له ليكفّوا عن عنفهم، بل هو الذي يصلي لهم، كيما يصنعوا السلام.

.إن ما يُبهر البشر في العنف هو العنف، ولكي يكف البشر عن العنف، فعليهم أن يغيّروا موقفهم منه، وأن يخضعوا لعملية تطهّر جذرية للانصراف عنه، ولنزع شرعيته، وعند ذاك يمكنهم أن يكتشفوا حكمة اللاّعنف. ويقول مولر: «واللاّعنف هو الرواق الذي يفتح للإنسان طريق الاحترام والرّحمة والطيبة والمحبّة، وفيما يتعداها أيضاً طريق التعالي» (المقصود السموّ).

و يبحث مولر في «الإسلام والإسلامية» ويسأل عن الرابط بينهما، فهناك مسلمون يشجبون «الإسلامية» مؤكّدين أن لا صلة بينها وبين الإسلام، والمقصود بالإسلاميّة تحويل الدين إلى آيديولوجيا، فالإسلام بحسب وجهة النظر الكلاسيكية هو دين، أما الإسلامية فهي آيديولوجيا بمعنى «نسقية» وتسيّدية، في حين أن الإسلام هو دين يعلّم على التسامح والسلام والعدل والرحمة والحب، ولذلك يستغرب مولر أن يؤدي الانتساب إلى الإسلام إلى فرض نظام سياسي قهري وقمعي عليهم، أو اقتراف أفعال تعصّب وعنف، وهو يرى أن هناك إسلامَيْن: إسلام العنف وإسلام اللاّعنف وكلاهما يزعم الرجوع إلى القرآن، ومثلما هناك أصوليّة إسلامية هناك أصولية مسيحية.

ومن واجب «المؤمنين» أن يكشفوا النور عن جوهر الدين والدعوة إلى التسامح واللاّعنف والسلام بدلاً من التمترس بالآيديولوجيا، سواء كانت إسلامية أو غيرها.

ويبحث مولر في فكرة الجهاد، فيركّز فيها على الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس والتغلّب على العنف لدى الإنسان بمجاهدة الأهواء لتحرير نفسه من القيود التي تشدّه، إلى الأعمال الشائنة والشهوات الفاسدة، مقابل الجهاد الأصغر الذي يركّز على مقاتلة العدوّ بالسلاح، في حين أن معنى الجهاد الأكبر هو مقارعة الشرّ بوصفه صراعاً ضد وسوسات الشيطان المسمّى إبليس، «العدوّ» الذي يقبع داخل كل فرد، والذي من شأنه أن يؤدي إلى التهلكة، والمقصود بالجهاد الأكبر كما فهمه مولر هو عن إماتة «الكافر» المقيم في قلب كل مؤمن.ويتوقّف مولر عند المفكر المصري الإسلامي سيد قطب الذي أُعدم العام 1966، وذلك حين يميّز بين ثلاث مراحل في نزول الأوامر الإلهية المتعلقة بالجهاد: مرحلة الخطر والمقصود بها (المرحلة المكية) التي أسميها بالمصطلح الحديث مرحلة بناء الحركة واكتمال أركان الدعوة الإسلامية أي «المرحلة التبشيريّة»، ثمّ مرحلة الإباحة، والمقصود بها “المرحلة المدينية بعد هجرة الرسول إلى يثرب/ المدينة المنوّرة” وامتلاك المسلمين عناصر قوّة الرد (المواجهة)، وهي المرحلة الدفاعية، ثم مرحلة ما بعد تأسيس الدولة (أي بعد دخول مكّة وإقامة الدولة الإسلاميّة)، تلك التي أصبح الإسلام فيها سيّداً، وهي ما نطلق عليه المرحلة الهجومية، ومن هذا المنطق يدعو قطب إلى أن يكون الإسلام المعاصر أشد قوة وبأساً، ولا بدّ له من نضال وجهاد.

والمقصود بذلك استلهام واستعادة المرحلة الهجومية.ويستهدف مولر من إبرازه دور الجهاد في المنظومة الفكرية الإسلاميّة، أوضاع الحاضر حيث يسود العنف والإرهاب باسم الدين وتتجه جماعات متوحشة لِلَويّ عنق النص الديني لكي ينسجم مع تعاليمها، سواء كانت سلفية، أو أصولية، أو راديكالية متطرفة، وباسم القاعدة أو داعش أو غيرها، كما يجري هذه الأيام. وحين يناقش الأمر يعود إلى بعض الأصول التي تساعد على تقديم تفسيرات وتأويلات لتبرير العنف، سواء على يد ابن تيمية أو على يد سيد قطب، أو غيره ما.

يمكن القول إن كتاب الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر هو من أهم الكتب المرجعية التي تبحث في مسألة اللّاعنف، وهو إضافةً إلى غناه وعمقه وجرأته في تناول قضايا العنف واللاّعنف من زاوية الديانتين المسيحية والإسلامية، فإنّه يمتاز بالجدّة والشموليّة والاجتهاد، وخصوصاً أنه يدخل في عمق الإنسان، فلسفةً واجتماعاً وحقوقاً وأخلاقاً وقوانين، ناهيك بطبائعه وأمزجته وسلوكه، لأن العنف مؤسّس في بنية المجتمع وفي فلسفة إداراته وأدوات ارتهانه من داخله ومن خارجه حسب مؤلف الكتاب. ولأن التمييز بجميع أشكاله بات جزءًا من المشهد العام، وأنّ العنف باسم الدين أو بغيره يزداد مأسويّة ويتسبّب بالقتل والتهجير وانتهاك الكرامة والوجود والحقوق، فإن مولر لهذه الأسباب يدعو إلى تعليم اللاّعنف، وكم كان مستبشراً حين عرف أن جامعة له تؤسّس لأول مرّة، وكان قد قال فيها عند إطلاق كتابه: كم هو سعيد لأنّه يحاضر في بلد عربي «لبنان»، عن اللاّعنف، لأنه يدرك المسؤوليّة التربويّة والأكاديميّة والفكريّة والثقافيّة والحقوقيّة للجامعات ومناهجها، لأنها مؤتمنة على قيم الإنسان كإنسان.

المصدر:

https://www.almothaqaf.com/b1a-8/912303-2016-12-08-10-37-29

المقالة السابقة
الحل البَـنَّـاء للنزاع
المقالة التالية
قراءة في كتاب “مبدأ اللاعنف” للفيلسوف الفرنسي جان-ماري مولِّر

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X