إنشاء سجل Sign In

قراءة في كتاب “مبدأ اللاعنف” للفيلسوف الفرنسي جان-ماري مولِّر

في هذا الكِتاب، يُحلِّـــلُ المؤلِّفُ ما يسمِّيه بـــ”ثقافة اللاعنف” و”إيديولوجيا اللاعنف” ويقدِّم نقدًا جذريًا لهذه الثقافة وتلك الإيديولوجيا. ثم يفتحُ آفاقَ فلسفةٍ وثقافةٍ لاعُـــنْـــفِـــيـتَينِ، ساعيًا من خلال هذا الكِتاب إلى تحديد أسس اللاعنف ومبادئه. إذْ يقوم المبدأ الأساسي للاعنف، بحسب مولِّـــر، على رفض أية شرعنة للعنف. ويرى أنَّ إيديولوجيا العنف تمحو الاختلافاتِ وتُـظهِرُ التشابهاتِ. وبالتالي، لكي نعيشَ بسلام مع بعضنا البعض، ليس الموضوعُ قَبولَ اختلافاتِنا بقدر ما هو رَفْضُ تشابهاتِنا.

تمجِّد الثقافةُ العنفَ وتحيطه بالهيبة ولكنها هيبةٌ تنطوي على الوهم. إذْ إنَّ الأصل الاشتقاقي اللاتيني للصفة يشير إلى ما هو وهمي، مضلِّل، خادع. فالعنف يخدع مَن يستسلم لسحره وهيبته.

ومن أهم مظاهر العنف في ثقافتنا هي موافقتنا على تصنيع الأسلحة بهدف القتل الجماعي لإخوتنا. حتى إنَّ تصنيع الأسلحة لم يعد يخزينا ولا يصدمنا، بل لم يعد يفاجئنا. لا بل وصلَ بنا الأمرُ إلى اختلاق كمٍّ هائل من الذرائع لتبريره. إنَّ إيديولوجيا العنف هي البناء العقلاني الذي يبرر العنفَ ويَـــحُوْلُ دُونَ رؤيتِه على حقيقته كفِعلٍ لاإنساني مخزٍ. هدفُ إيديولوجيا العنف هي أنْ تُــقــلِّــلَ من شأن العنف، أنْ تجعلَه أمرًا عاديًا، شائعًا، أيْ أنْ تجعله مطابقًا للقانون، بدلًا من أنْ تنبذَه، أيْ بدلًا من أنْ تجعلَه خارجَ القانون. وبالتالي ينبغي التشكيك بمعارفنا ومعتقداتنا والطعن بها من أجل استعادة وعينا.

لقد تعوَّدنا أنْ نلقيَ أعمالَ العنف التي ندينها على عاتق الحركات المتطرِّفة. لكنَّ هذه الحركاتِ المتطرِّفةَ التي نرفضُها لم تكنْ ممكنةً إلَّا من خلال الأرثوذكسيات [المعتقدات التقليدية، المستقيمة، الراشدة] التي نَقبلها. فالمتطرِّف ليس سوى مُناصرٍ لعقيدة دُفِعَتْ إلى أقصى حدودها. أيْ أنَّ هناك صلةً بين هذه العقيدة وبين مبرِّرات المتطرفين. وبالتالي فإنَّ المعتقداتِ التقليديةَ (الأرثوذكسيات) التي يستندون إليها ليست بريئةً من الإساءات والجرائم التي يرتكبونها. فالحركاتُ المتطرُّفةُ التي نرى آثارَها المدمِّرةَ في كل مكان ما كانت لتوجَدَ لولا وجودُ الأرثوذكسيات التي يستقون منها حُجَجَهم. صحيحٌ أنَّ المتطرفين يبالغون، ولكنَّ ما يبالغون به ويضخِّمونه هو في الحقيقة المبادئ التي تقوم عليها هذه الأرثوذكسياتُ “المستقيمة”. فهذه المعتقداتُ هي التي تقدِّم المادةَ الأوليةَ لمبالغة المتطرفين وتزوِّدُهم بالأعذار التي يستخدمونها لتبرير تجاوزاتِهم.

إنَّ الأرثوذكسياتِ تَحمِل في داخلها بذورَ التطرف، إذْ بتبريرها “الاستخدامَ المعقول للعنف” تبرِّر أصلًا تعسُّفَ المتطرفين. لأنَّ العنف ليس معقولًا بالأساس ويمثِّل بحد ذاته تعسُّفًا. يجب إذًا، لمكافحة عنف المتطرفين، تعقُّبُ هذا العنف وإخراجُه من مَـكْمنِه الذي يختبئ فيه داخل هذه الأرثوذكسيات. فجذورُ الأصوليات الدينية تنغرس عميقًا في عقائد الأديان التي تشرِّع العنفَ. ولكي نكسر منطقَ عنفِ المتطرفين يجب علينا أنْ نبدأَ بإحداث قطيعة في ثقافتنا مع كل ما يشرِّع العنفَ ويبجِّله معتبرًا إياه فضيلةَ الإنسان القوي. هذه القطيعةُ ستكون مؤلمةً لأنه يجب أنْ تحصلَ في العمق. من الصعب طبعًا أنْ نطعنَ في تقاليدَ أورثونا إياها كتراث مقدَّس. فالذين يدافعون عما يسمونه “العقيدة السليمة” سيندِّدون بأية قطيعة كهذه باعتبارها بدعةً وهرطقة ولن تفوتهم فرصةُ صبِّ اللعنات على الكافرين الذين يقومون بالقطيعة.

يؤكد مولِّـر على أنَّ التقاليدَ التي وَرِثْناها مِن معتقداتٍ وثقافاتٍ تُخصِّصُ مكانةً كبيرةً ومهمةً للعنف بينما لا تعطي عمليًا أيةَ مكانة للاعنف حتى إنها تجهل أو تتجاهل اسمه. بالمقابل، تحتوي هذه التقاليد على مرتكزات يمكننا أنْ نؤسِّسَ عليها حكمةَ اللاعنف. كما تحمل في داخلها “قِـــيَـــمًا” تعطي كلَّ إنسانٍ كرامةً ورفعةً وشرفًا.

وبالتالي، يجب على كل فرد منا، إذا أراد أنْ يَخرُجَ من منطق العنف ويَدخُــلَ في دينامية اللاعنف أنْ يواجهَ فريضةً مزدوجة داخلَ ثقافتِه: فريضة القطيعة (مع إيديولوجيا العنف) وفريضة الوفاء (للقيم الإنسانية).

انطلاقًا من المنظور الذي تفتحه هذه الفريضةُ المزدوجة (المتعلقة بالقطيعة والوفاء) ورغبةً في القيام بعمل كشفي مزدوج عبر بعض النصوص التي تؤسس ثقافتَنا، أراد جان-ماري مولِّــر أنْ يكتبَ هذا الكتاب.

المصدر:

http://maaber.50megs.com/issue_july14/books_and_readings3.htm

المقالة السابقة
نزع سلاح الآلهة..
المقالة التالية
دورة الرسم الاحترافي والتصوير

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X