ما وراء التمييز: الفصل العنصري مشروع استعماري
بقلم: نورا عريقات
ترجمة: حاتم بشر
جهة النشر: موقع صفر
- نجح إلغاء القرار 3379، الذي يدين الصهيونية ويعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، في حجب بنية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والتفوق اليهودي. خلق إطار عملية السلام تكافؤاً زائفاً بين دولة تمتلك الطاقة النووية وشعب عديم الجنسية.
- إن الاضطلاع بالمسؤولية الدولية من أجل تفكيك الأبارتهايد الإسرائيلي إنما يعني ممارسة الضغوط اللازمة لتفكيكه. وفي غضون ذلك، سوف يواصل الفلسطينيون النضال الساعي إلى نيل الحرية كما فعلوا لأكثر من قرن.
على مدى الأعوام الثمانية والعشرين من عملية «أوسلو» للسلام، نسفت إسرائيل احتمالات إقامة دولة فلسطينية، الأمر الذي وفّر لها مساراً مصدّقاً عليه دولياً للحفاظ على سيادتها الاستيطانية الصهيونية. ومن خلال القيام بذلك، تُظهِر إسرائيل أمام العالم ما عرفه الفلسطينيون منذ زمن طويل. فهي ترغب في أرضٍ بلا شعب، وتسعى إلى البقاء كمصدرٍ وحيد للسلطة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. يمثل تقرير «هيومن رايتس ووتش»، الذي خلص إلى أن إسرائيل تحكم عبر نظام الأبارتهايد، اعترافاً بالواقع أكثر منه اكتشافاً للواقع. ويستند التقرير إلى مجموعة غنية من المصادر الفاعلة تضمّ من بين ما تضم «مركز بديل»، ومؤسّسة الحق، وعدالة، ومجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جنوب أفريقيا، واللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل، مؤتمر ديربان، ومحكمة راسل المعنية بفلسطين، ولجنة القضاء على التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة، والإِسكوا التابعة للأمم المتحدة، و«يش دين»، وبتسيلم، بالإضافة إلى عقودٍ من العمل الفكري والتضامني الفلسطيني. ويدل عنوان تقرير الصادر هيومن رايتس ووتش، «تجاوز العتبة»، على أن إسرائيل لم تعد تخفي نيّتها في أن تَبقى المالك الأوحد للسيادة وأن تمنح الفلسطينيين – في أفضل الأحوال – الفرصة لحكم أنفسهم في مناطق للحكم الذاتي، على غرار الوضع في محميات أميركا الشمالية والجنوبية، ومَواطن السُّود في جنوب أفريقيا، وقد أُدينت هذه الأخيرة في العام 1976 باعتبارها وسيلة للحفاظ على «هيمنة الأقلية البيضاء وحرمان الشعب الأفريقي في جنوب أفريقيا من حقوقه الراسخة».
وعلى الرغم من هذا التماثل التحليلي الظاهري، لا يزال ثمة خلاف كبير بين الأفراد والمنظّمات الذين يتفقون على أن إسرائيل تدير نظاماً للفصل العنصري. فمن ناحية، قد تعزو منظّمات مثل «هيومن رايتس ووتش» نظام الأبارتهايد الإسرائيلي إلى امتناع إسرائيل عن الانسحاب إلى حدود 1967 مع تعديلات طفيفة على الحدود، وعن الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة. وبنظر هذه القراءة، تطوّرت إسرائيل بما لا يتفق مع الرؤية الحقيقية للصهيونية إلى وحشٍ مشوّه يشبه فرانكنشتاين إلى حد كبير. وأنه بفعل التقلّبات التاريخية، تدير إسرائيل الآن نظاماً تمييزياً يرقى إلى مستوى الأبارتهايد. ومن ناحية أخرى، هناك تقليد سائد بين المثقفين والمنظّمات الفلسطينية الذين فهموا الصهيونية على أنها مشروع استعماري استيطاني يقوم على إقصاء الفلسطينيين، أي فهمة كبنية عنصرية منذ بدايتها. وفي إطار هذا التقليد، فإن إقامة دولة فلسطينية لم يكن لينفي الطابع العنصري عن الصهيونية، وإنما قد شقّ للفلسطينيين سبيلاً صوب شكل مخفّف من تقرير المصير كان من شأنه أن يحدّ من التهجير الفلسطيني المستمر ونزع الملكية. إن الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية لا يشكّل نهاية الحلم الوطني بقدر ما يمثل استمراراً للنضال الوطني.
يعد الفصل العنصري نتيجة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يسهّل اقتلاع الفلسطينيين وزرع المستوطنين، فضلاً عن النظام القانوني النموذجي لتعزيز استيلائه على الأرض
في هذا المقال، سوف نستكشف التقليد الفلسطيني السائد أولاً من خلال تسليط الضوء على الفكر الفلسطيني المتعلّق بالصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. كما سأقوم بمراجعة التحليل القانوني الذي يعتمد عليه الأبارتهايد الإسرائيلي، والذي يعد انعكاساً للأيديولوجية الصهيونية وليس نتيجة إخفاق المشروع السياسي لإقامة دولة فلسطينية. وسوف يوضح المقال بعد ذلك كيف يمكن فهم الصهيونية على نحو أفضل باعتبارها معادلاً سياسياً وفكرياً للأبارتهايد بغرض التشديد على أن إسرائيل لم تغدو نظاماً تمييزياً وإنما هي تُعرّف بهذا التمييز. وسأختم حديثي بأفكار عن المسؤولية الدولية في تصفية الفصل العنصري في عصرنا.
التنظير لعنصرية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني
في العام 1965، طوّر الباحث الفلسطيني فايز الصايغ نظرية عن عنصرية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. تبيّن أنه من اللازم فهم الاستعمار الصهيوني، بوصفه وسيلة ترتكز على إلغاء الشعب الفلسطيني ومحوه قانونياً بهدف تشكيل الأمة، على أنه «إقصاء عنصري»، ومن ثم فهو يختلف عن غيره من المشاريع الاستعمارية الأوروبية التي تعد الهيمنة العنصرية سمتها الأساسية. ويستطرد الصايغ مبيناً أن القناعة الصهيونية بكون اليهود يمثلون عرقاً وشعباً واحداً، بغض النظر عن المنزع الديني أو الهوية، تقود إلى ثلاث نتائج طبيعية: العزلة الذاتية العنصرية؛ والخصوصية العنصرية؛ والتفوّق العنصري. ويعلّق قائلاً إن «المستوطن الصهيوني تعلّم كل الدروس التي يمكن أن تعلّمه إياها الأنظمة التمييزية المختلفة لدول المستوطنين البيض في آسيا وأفريقيا»، على نحو ينمّ عن قدرته على التفوّق حتى على معلّميه». فبينما يعترف مثلاً أنصار الفصل العنصري بجنوب أفريقيا في قحة بخطيئتهم، يحاجج ممارسو الفصل العنصري الصهاينة في فلسطين بطرق ملتوية لإثبات براءتهم! على امتداد عقد من الزمن، قاد الصايغ جهود الأمم المتحدة الهادفة إلى تعديل «عقد مكافحة العنصرية» عبر إدراج كلمة «الصهيونية» حيثما ظهرت كلمات الأبارتهايد والاستعمار والتمييز العنصري في النص. وتُوِّجت جهوده بتمرير قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 الذي يدين الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري في العام 1975. وفي العام 1991، وافقت منظّمة التحرير الفلسطينية على عملية داخل الجمعية العامة لإلغاء القرار كشرط للدخول في محادثات السلام في مدريد وأوسلو. ومن الأصح أن نرى اتفاقية «أوسلو» التي نتجت عن ذلك، باعتبارها نموذجاً للغيتو المعزول الذي يدعم المساعي العنصرية الإسرائيلية المعاصرة، لا كخارطة طريق لإقامة الدولة الفلسطينية.
لقد نجح إلغاء القرار 3379 مع عملية «أوسلو» في حجب بنية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والتفوّق اليهودي. وخلق إطار عملية السلام تكافؤاً زائفلً بين دولة تمتلك الطاقة النووية وشعب عديم الجنسية بلا جيش رسمي ولا يمتلك حتى مطار، يُضطر رئيسه الاسمي أن يحصل على إذن من الحكومة الإسرائيلية للسفر إلى الخارج. وعلى حين أوضح القرار 3379 أن الترياق المناسب للصراع الاستعماري ينحصر في تفكيك الأبارتهايد الإسرائيلي عبر تكتيكات العزل والعقوبات والضغط الذي تمارسه دول الأطراف الثالثة، بحث إطار «أوسلو» عن تسوية تُماثل بين طرفين لا تماثل بينهما، وتجنّب العنصر الجوهري المتمثل في السلطة وسوء توزيعها. علاوة على ذلك، أضفت «أوسلو» طابعاً رسمياً على الانقسامات الجغرافية والقانونية التي قسّمت الأمة الفلسطينية إلى كيانات متباينة، مدنيين محاصرين ومُعرّضين للقصف في قطاع غزة، وشعب محتل في الضفّة الغربية، ومواطنين من الدرجة الثانية في أراضي الـ48، ولاجئين في المنفى القسري عبر الشتات العالمي. لقد تغلّبت انتفاضة الوحدة التي اندلعت مؤخراً على الانقسامات التي فرضتها إسرائيل، وكشفت مرة أخرى عن الطبيعة الجامعة للنضال الوطني الفلسطيني من أجل التحرير.
كما أدّى هذا التشرذم إلى حجب الولاية القضائية الحصرية لإسرائيل على جميع الأراضي والشعوب الواقعة بين البحر الأبيض المتوسّط ونهر الأردن، مما يدل على إدارتها لنظامٍ قانوني واحد يرقى إلى الأبارتهايد. تُنفِّذ إسرائيل مشروعاً استعمارياً استيطانياً في هذه الجغرافيا وعلى حياة الفلسطينيين كافة بغض النظر عن وضعهم القانوني. والغرض منه هو الحصول على أكبر حيّز من الأرض مع أقل عدد من الفلسطينيين، وتركيز أكبر عدد من الفلسطينيين على أقل حيّز من الأرض. تحقّق إسرائيل طموحاتها الاستعمارية الاستيطانية من خلال القانون المدني في إسرائيل، والقانون العسكري في الضفّة الغربية، والقانون الإداري في القدس الشرقية، والحرب المنهجية ضدّ غزّة. وينطبق هذا على صحراء النقب، حيث تسعى الدولة إلى اقتلاع حوالى 70,000 مواطن بدوي فلسطيني ونقلهم قسراً إلى مجموعة من البلدات الحضرية المجزأة، على غرار ما جرى في الضفّة الغربية حيث تم إقصاء الفلسطينيين شيئاً فشيئاً من المنطقة (ج) وتركيزهم في المنطقة (أ)، وهي الفئات القضائية التي حدّدتها «أوسلو» الثانية في العام 1995 (وهذا تذكير عام بأن «أوسلو» جزء من المشكلة). وعلى الرغم من تنوّع الأطر القانونية في مجموعها، فإن إسرائيل ترتكب «أفعالاً لا إنسانية بغرض فرض سيطرة اليهود على الفلسطينيين وإدامة هذه السيطرة، وقمعهم بصورة منهجية» باسم إقامة سيادة استيطانية صهيونية مكانية وزمانية دائمة. يعد الفصل العنصري نتيجة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي يسهّل اقتلاع الفلسطينيين وزرع المستوطنين، فضلاً عن النظام القانوني النموذجي لتعزيز استيلائه على الأرض.
التشريح القانوني للأبارتهايد الإسرائيلي
يقوم نظام الأبارتهايد الإسرائيلي على التمييز بين الجنسية اليهودية والمواطنة الإسرائيلية؛ لا يوجد شيء اسمه مواطن إسرائيلي. يُعرِّف قانون العودة (1950) المواطن اليهودي بأنه الشخص الذي وُلد لأمٍ يهودية أو الذي تحوّل إلى اليهودية ولا ينتمي لأي دين آخر. ويمنح قانون العودة الجنسية اليهودية خارج الإقليم، ويمنح اليهود حقوقاً حصرية لدخول إسرائيل والحصول على الجنسية والاستقرار في أي مكان داخل الولاية القضائية لإسرائيل، بما في ذلك مستوطنات الضفّة الغربية. إن الإطار القانوني للجنسية اليهودية يمنح الأشخاص اليهود في أي مكان في العالم حقوقاً أكثر من تلك التي يتمتع بها الفلسطينيون الذين يعود وجودهم إلى ما قبل قيام إسرائيل، بما في ذلك أولئك الذين لم يتعرّضوا للنفي وأصبحوا مواطنين في الدولة. إن قانون الجنسية (1952)، أو بالأحرى قانون المواطنة، على اعتبار أن القانون يمنح المواطنة التلقائية لليهود بينما يحرم الفلسطينيين الذين طردوا من حقوق المواطنة والإقامة، قد ألغى قانون المواطنة الفلسطينية (1925) وقَادَ بالفعل إلى تجريد السكان الفلسطينيين كافة من الجنسية. وهو ما أفضى بدوره إلى تحويل اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من منازلهم في حرب 1948 إلى عديمي الجنسية، وكذلك الحال بالقياس إلى المقيمين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة.
الإطار القانوني للجنسية اليهودية يمنح الأشخاص اليهود في أي مكان في العالم حقوقاً أكثر من تلك التي يتمتع بها الفلسطينيون الذين يعود وجودهم إلى ما قبل قيام إسرائيل
إن قانون العودة إلى جانب قانون الجنسية دشّنا معاً نظاماً متدرجاً يميز بين السكان اليهود في إسرائيل باعتبارهم «مواطنين وحاملي جنسية» وبين السكان الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين باعتبارهم «مواطنين لا غير». وقد عمل هذا التمييز على تدفق الامتيازات حصرياً إلى حاملي الجنسية اليهودية المتمركزين في منطقة جغرافية بعينها في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، وقد شملت هذه الامتيازات الإقامة، والمواطنة، وملكية الأراضي، وحرية الحركة، والحق في مغادرة البلد والعودة إليه. يحتفظ المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل «عدالة»، بقاعدة بيانات ثابتة للقوانين، التي يبلغ مجموعها حالياً نحو 65 قانوناً، تتسم بالتمييز ضد الفلسطينيين على أساس الانتماء القومي. والنظام الثنائي في إسرائيل يمكّن الدولة من تحقيق هدفها المعلن المتمثل في الحفاظ على غالبية يهودية كبيرة، حتى في مواجهة النمو السكاني الطبيعي. وعلى وجه الخصوص، تسهّل الازدواجية سياسة الترحيل القسري للسكان. وتتمثل الركيزة الأكثر وضوحاً لهذه السياسة في اتجاه إسرائيل إلى حرمان اللاجئين الفلسطينيين، الذين يبلغ عددهم نحو 5.7 مليون نسمة، من حقهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم، وهو ما تعتبره الدولة تهديداً وجودياً للبلاد. وتشمل القوانين الأخرى حظر لم شمل العوائل (2003)، وقانُون لجان القبول (2011)، وتعديل 2010 لهيئة تطوير النقب، وقانون إدارة أراضي إسرائيل لعام 2009. وينتهك النقل القسري للسكان وغيره من السياسات التمييزية، التي تستند إلى الحق الحصري في الجنسية اليهودية، المادتين الثانية (ج) والثانية (د) من اتفاقية الفصل العنصري.
في العام 2012، قدّم مركز بديل لحقوق المواطنة واللاجئين الفلسطينيين هذا التحليل القانوني إلى لجنة القضاء على أشكال التمييز العنصري كافة. وخلصت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز العنصري إلى أن إسرائيل تنتهك المادة 3 من الاتفاقية الدولية للقضاء على كل أشكال التمييز العنصري التي تجرّم «الفصل العنصري والتمييز العنصري»، على الرغم من أنها لم تصفه بالفصل العنصري، وهو ما يعبّر عن موقف وسط بين المدافعين عن القانون الفلسطيني والمؤسسات السائدة المتعاطفة ولكن المترددة.
الصهيونية والأبارتهايد: ليس تماثلاً
لا تمثل نزعة التفوّق اليهودي سمة فطرية يتفرّد بها الصقور من السياسيين، بل هي سمة جوهرية للمشروع الصهيوني تشمل الطيف السياسي الإسرائيلي بأسره. وأكمل تعبير عنها قدّمه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عندما شدّد على أن إسرائيل هي «دولة قومية، ليس لكل مواطنيها، بل للشعب اليهودي فحسب» لا يوجد قانون إسرائيلي يضمن المساواة، وفي العام 2018، أوضح الكنيست الإسرائيلي ذلك من خلال إقراره قانون الدولة القومية الذي أعلن أن لليهود دون سواهم الحق في تقرير المصير، كما أعلن عن أن الاستيطان اليهودي لكل الأراضي يعد التزاماً دستورياً. ومع ذلك، فإن المعارضين ينكرون استشراء الفصل العنصري الإسرائيلي وذلك عبر التأكيد على اختلافه عن نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. وهم يشيرون بالذات إلى غياب الطبقة الحاكمة البيضاء فضلاً عن الفهم الاستثنائي للتفوّق اليهودي في إسرائيل باعتباره مظهراً للنضال التحرّري الوطني الناجح. وبصرف النظر عن حقيقة أن أي مقارنة من هذا القبيل لا تمس إمكانية تطبيق اتفاقية الفصل العنصري، فقد خلصت لجنة القضاء على التمييز العنصري إلى هذا الأمر في العام 1995 عندما وجدت أن الفصل العنصري ليس مقصوراً على جنوب أفريقيا بل إنه ينطبق على «جميع أشكال الفصل العنصري في جميع البلدان». يوضح السياق التاريخي أن القضية لا تكمن في تماثل إسرائيل مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، بل تكمن في أن الصهيونية ونظام الأبارتهايد يتقاسمان السياسة والأيديولُوجية سواء في بدايتهما أو في تحالفهما الاستراتيجي التاريخي.
إن العلاقة بين الصهيونية والفصل العنصري تعكس، جزئياً، جذورهما المشتركة داخل بوتقة الإمبراطورية البريطانية. ويلفت ريتشارد ستيفنز الأنظار إلى أن زمرة السياسيين المسؤولين عن تمرير وعد بلفور الذي حدّد فلسطين كموقعٍ للاستيطان اليهودي في العام 1917، وهم اللورد بلفور، واللورد ميلنر، وجوزيف تشامبرلين، والجنرال يان سموتس، واللورد سيلبورن، قد لعبوا بالمثل دوراً محورياً في إقرار قانون اتحاد جنوب إفريقيا في العام 1909. وكان تعزيز المصالح الإمبراطورية الغربية في القارة الأفريقية وكذلك في الشرق الأوسط يكمن في قلب كلتا المبادرتين. لقد فهم القادة الصهاينة الأوروبيون، مثل حاييم وايزمان وتيودور هرتزل، ذلك جيداً عندما ناشدوا القادة الأتراك والبريطانيين والألمان حق الاستيطان في فلسطين، بحجة أن الاستيطان في فلسطين «سوف يشكّل نوعاً من المتراس الأوروبي في مواجهة آسيا، وثكنة للحضارة في مواجهة الهمجية». وفي مناقشته مع سيسيل رودس، المشهور باستعمارهِ للبلدان الواقعة جنوب غرب أفريقيا والذي كان يحلم بخلق «أفريقيا بيضاء تماماً»، توسّل هرتزل:
«أنتم مدعوون للمساعدة في صنع التاريخ. إنه لا يمس أفريقيا، بل جزء من آسيا الصغرى؛ ليس الإنكليز بل اليهود. لماذا إذن أتوجّه إليك والأمر لا يمسك؟ لماذا؟ لأنه شأن استعماري».
كما أوضح روبن د.ج كيلي من بين آخرين، كان الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الأساس مشروعاً استعمارياً مستوطناً، يهدف إلى تهجير الأفارقة السود، وإن كان ذلك داخلياً، على عكس التهجير الخارجي الذي يميّز تهجير الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم، وجمعهم في مناطق صغيرة تعرف باسم البانتوستانات، واستبدال سيادتهم الأصلية بالسيادة الأفريكانية. كان الفصل العنصري الأفريقي أكبر بكثير من مجرد مشروعٍ للتفوّق الأبيض الذي نتذكره من أجله، فقد فهمه أنصاره على أنه حركة لتقرير المصير الأفريكاني ضد القمع البريطاني على أرض بلا شعب، أي أنه لا يوجد شعب اعتباري معترف به يتمتع بحق تقرير المصير.
لا تمثل نزعة التفوّق اليهودي سمة فطرية يتفرّد بها الصقور من السياسيين، بل هي سمة جوهرية للمشروع الصهيوني تشمل الطيف السياسي الإسرائيلي بأسره
ويرى الصهاينة أن الصهيونية أيضاً مشروع قومي لتقرير المصير اليهودي. ولكن كما قال عابدين جبارة في العام 1979:
«ثمة قاعدة مطلقة تخص حق التحرّر الوطني. لا يجوز لأي إنسان أو شعب أن يحقق التحرّر الوطني على حساب شعب آخر. وبالنظر إلى هذه الحقيقة، فلا يمكن لحركة تسعى إلى حل المشكلة الوطنية لشعب ما على حساب شعب آخر أن تسمّى حركة للتحرّر الوطني، وينطبق ذلك على الصهيونية».
وبينما ثار العالم الثالث على الهيمنة الإمبريالية طوال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، رفضت الشعوب المستقلة حديثاً وحركات التحرّر الوطني الحجج الإسرائيلية القائلة بأن السيادة الاستيطانية الصهيونية تمثل حق اليهود في تقرير المصير. وقد تأكّد هذا في أعقاب حرب العام 1967 عندما أدت سيطرة إسرائيل على سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية، والضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة، إلى تحويلها إلى قوة إمبريالية. وفي هذا السياق، انضمّت إسرائيل إلى الأنظمة العنصرية والقوى الاستعمارية ضد حركات التحرّر في العالم الثالث، والتي شكّل النضال التحرّري الفلسطيني محورها.
وبينما تحرك المجتمع الدولي، متأخراً وبطيئاً، لعزل نظام جنوب أفريقيا، حافظت إسرائيل على اقتصاد الفصل العنصري عبر قيامها بتطوير صناعة وطيدة للسلاح. ونظرت حكومة جنوب أفريقيا إلى إسرائيل كدولة زميلة محاصرة «تقع في عالم يغلب عليه العداء وتسكنه شعوب مظلمة». وفي العام 1973، أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة «التحالف غير المقدس بين الاستعمار البرتغالي وعنصرية جنوب أفريقيا والصهيونية والإمبريالية الإسرائيلية». وبعد ذلك بعامين، أدانت الأمم المتحدة الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري بموجب القرار 3379، ممّا يضعها بشكل مباشر ضمن أجندة عقد مكافحة العنصرية الذي وُضع بالأساس لتفكيك الأبارتهايد الأفريقي. وقد أنجز المجتمع الدولي ذلك التعهد في غضون عقدين من الزمن في القارة الأفريقية. وفي اللحظة التي تحرّرت فيها جنوب أفريقيا وناميبيا، عثر الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والفصل العنصري على شريان حياة جديد في «عملية أوسلو السلام».
المسؤولية الدولية لإنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي: مسألة وقت
لقد نجحت إسرائيل في استخدام القشرة الليبرالية أو صنع السلام لتوسيع مشروعها الاستعماري الاستيطاني وترسيخه. وقد ارتفع عدد سكانها المستوطنين من 200 ألف إلى ما يقرب من 600 ألف في الضفة الغربية. ويقسم مشروعها الاستيطاني الضفة الغربية إلى أكثر من عشرين منطقة غير متجاورة. فقد قامت ببناء جدار يمر في المقام الأول عبر الضفة الغربية ويصادر 13% من الأراضي. وهي تشرف على الضم الفعلي للمنطقة (ج) – أو 60% من الضفة الغربية – وقد أعلنت صراحة عن نية الضمّ القانوني. أعلنت إسرائيل سيادتها على القدس الشرقية، وهي تحظر على الفلسطينيين الانتقال بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وقامت بتأمين سكّان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة، وتواصل سياسة الترحيل القسري للسكان بهدف تقويض التماسك الوطني الفلسطيني والحفاظ على الغالبية الوطنية اليهودية. وبينما قام الفلسطينيون منذ فترة طويلة بالتنظير لهذه النتيجة وتعليمها وتبيانها بوصفها النهاية المنطقية للصهيونية السياسية، فقد خلقت إسرائيل الآن الظروف التي تجعل الأمر واضحاً بشكل لا يمكن إنكاره.
إن القضية المطروحة ليست ما إذا كانت إسرائيل تدير نظاماً للفصل العنصري، ولكن ما إذا كان المجتمع الدولي على استعداد للاعتراف بذلك والاضّطلاع بمسؤولية تفكيكه. إن التملص من تلك المسؤولية لا ينمّ سوى عن الاعتراف بالسيادة الاستيطانية الصهيونية حلاً لمكافحة التعصّب المناهض لليهود، كما تعبّر عن التقدير، الذي يُصرح به في كثير من الأحيان، القائل بأن حياة الفلسطينيين بلا قيمة وتستحق أن تُبذل مقابل ذلك المسعى. لطالما بيّن الفلسطينيون أن إنهاء الاستعمار مستقبلاً وإقامة دولة لمواطنيها سوف يعززان الحياة اليهودية، ويؤكدان الانتماء اليهودي إلى فلسطين التاريخية، ولكن ليس كأسيادٍ لها. إلا أن حتى هذه الرؤى التقدمية قد تعرضت للانتقاد باعتبارها معادية للسامية، وهو ما يقدّم الدليل على الاستخدام المنحرف لمعاداة السامية كسلاح يعفي إسرائيل من المساءلة بدلاً من حماية اليهود من العنف والتمييز العنصري.
العلاقة بين الصهيونية والفصل العنصري تعكس، جزئياً، جذورهما المشتركة داخل بوتقة الإمبراطورية البريطانية
والاوضاع لا تبشر بخير. وفي الولايات المتحدة، التي ما تزال الراعي الرئيسي لإسرائيل على صعيد الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، تحتل الحرية الفلسطينية أكثر فأكثر مكاناً مركزياً في السياسة التقدّمية. وقد أدّى الإحياء المعاصر للتضامن الفلسطيني-الأسود إلى تشجيع هذا الاتجاه في الآونة الأخيرة. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن دعم إسرائيل ينحصر أكثر فأكثر داخل إطار المنبر المحافظ دون سواه. ووفقا لاستطلاعٍ أجرته مؤسّسة Pew للأبحاث في العام 2016، تضاعفت نسبة الديمقراطيين الليبراليين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين منذ العام 2014. وللمرة الأولى، أصبح الديمقراطيون الليبراليون أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين منهم مع إسرائيل. والدعم لإسرائيل هو الأقل بين جيل الألفية، ما يميط اللثام عن فجوة عميقة بين الأجيال. تماماً مثلما يفعل تشجيع السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة، رون ديرمر، لإسرائيل على التركيز على الإنجيليين المسيحيين، وهُم برأيه أشد تعاطفاً مع إسرائيل قياساً باليهود الأميركيين.
بالمستطاع أن نستمر في مناقشة المسائل القانونية في الأكاديمية وأن نعد تقارير تحتوي على أكثر من مئة صفحة تثبت التمييز المنهجي الذي يهدف إلى الحفاظ على تفوّق فئة عرقية على أخرى في الأمم المتحدة. بيد أن الوضع على الأرض وقوة الرواية الفلسطينية عن الوضع، هو الذي سيفرض في نهاية المطاف تحولاً نموذجياً. لقد بشرت انتفاضة الوحدة الأخيرة والمستمرة بتقدم كبير في تلك الجهود كما يتضح من إدانة أعضاء الكونغرس الأميركي للفصل العنصري في قاعة مجلس النواب واعتراضهم على تحويل 750 مليون دولار من الدعم العسكري لإسرائيل، بالإضافة إلى «أكثر من 300 قسم أكاديمي وبرنامج ومركز واتحاد وجمعية» في العالم يؤازرون الحقوق الفلسطينية. إن الاضطلاع بالمسؤولية الدولية من أجل تفكيك الأبارتهايد الإسرائيلي إنما يعني ممارسة الضغوط اللازمة لتفكيكه. وفي غضون ذلك، سوف يواصل الفلسطينيون النضال الساعي إلى نيل الحرية كما فعلوا لأكثر من قرن، يحدوهم الأمل والاقتناع بقدرتهم على تعبيد الطريق نحو مستقبلٍ من التحرّر المشترك أفضل بأشواطٍ من كل ما حققته برامج السيادة الحصرية والسيطرة الدائمة.