العدالة الانتقالية في سياق الانتقال الديمقراطي تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب
إعداد: ليلى الرطيمات
جهة النشر: Caus Centre
مقدمة
تزايد اهتمام المجتمع الدولي بموضوع العدالة الانتقالية، وبخاصةٍ بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية، حيث كانت النزاعات تؤدي إلى جرائم إنسانية نتيجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لذلك تزايدت المطالب الدولية بغية إيجاد نظام يصبو إلى تحقيق العدالة عبر المساءلة وضمان منع تكرار الانتهاكات مستقبلًا من أجل إرساء نظام ديمقراطي ودولة القانون.
وكان يُطلق على هذا النوع من العدالة مصطلح «عدالة ما بعد النزاعات»، وعلى أساسه تم وضع مبادئ شيكاغو التي أُعدت لتحقيق عدالة ما بعد النزاعات[1].
تتسم كل مسارات العدالة الانتقالية بكونها تأتي عقب قطيعة بين عهدين، وتشكل آلية للاعتراف بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبت في العهد السابق، ومن ثم فسح المجال أمام الضحايا للكشف عن ما تعرضوا له من عذاب جسدي أو معنوي ومن امتهان لكرامتهم وردّ الاعتبار لهم باسم المجتمع بأسره.
وفي هذا السياق، تظل دراسة التجارب الدولية في العدالة الانتقالية، مسألة مهمة ليس من زاوية استنساخ هذه التجارب وتطبيقها على واقع الكثير من البلدان العربية التي تمر بمثل هذه الظروف ولو في سياقات وطنية وإقليمية ودولية مختلفة، ولكن بهدف معرفة عوامل نجاح هذه التجارب في مقابل تجنُّب الأخطاء التي وقعت فيها للخروج بنموذج متكامل يتناسب مع ظروف وخصوصية كل دولة.
أولًا: مرتكزات العدالة الانتقالية
في تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب
1 – العدالة الانتقالية في سياق الانتقال الديمقراطي
اختلف مسار التجارب الدولية في تجسيد مقاربة العدالة الانتقالية في سياق الانتقال الديمقراطي، من تجربة إلى أخرى. ففي تجربة ألمانيا الديمقراطية (الشرقية سابقًا) يصنَّف الانتقال السياسي فيها ضمن فئة الثورة الشعبية، فقد انهار النظام الشيوعي تمامًا وبشكل سريع، مخلفًا وراءه آثارًا مؤسسية. ففي ظرف سنة واحدة من سقوط جدار برلين سنة 1989، انتخبت البلاد مجلسًا للنواب في انتخابات حرة ونزيهة، ما لبث أن تنازل عن السلطة لمجلس جديد في ألمانيا الموحدة[2]. فتم في مدة قياسية الانتقال من الحكم الشيوعي إلى الحكم الديمقراطي في إطار الوحدة مع ألمانيا الغربية التي أدّت من خلالها الديمقراطية الليبرالية دورًا لا يستهان به في رسم معالم المناظرات المتعلقة بالعدالة الانتقالية بين عامي 1989 و1990 وفي عملية توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية.
أما تجربة إسبانيا سنة 1978 فقد أظهرت إمكان قيام ديمقراطية من دون الحاجة إلى عدالة انتقالية، ولو أن المسألة تبدو متناقضة مع إرساء دولة الحق والقانون، لكن تأتي أهميتها فقط لكونها تعدّ مدخلًا إيحابيًا نحو إرساء لبِنات الإصلاح المؤسسي الذي من شأنه أن يفضي إلى ضمان الاستقرار الديمقراطي والانتقال السياسي السليم في البلاد. مع العلم أن إسبانيا قد شهدت جرائم شنيعة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في عهد فرنسيسكو فرانكو، وبخاصة إبان الحرب الأهلية بين سنتي 1936 و1939، حيث سلط القمع الوحشي المباشر على الجمهوريين والباسكيين والكطلانيين من طرف الدكتاتور وحزبه الوطني. ومن هؤلاء الضحايا من نزع عنهم فرانكو الجنسية الإسبانية أو سلط عليهم حملات متتالية من الاعتقالات التعسفية والاختطافات والتعذيب والتصفيات الجسدية، حيث وصل عدد ضحايا الاغتيالات الذين تم الكشف عن مقابرهم الجماعية إلى أزيد من 143 ألف ضحية إلى حدود أيار/مايو من سنة 2008 [3]. ورغم ذلك اختارت إسبانيا نسيان ماضي الانتهاكات والعمل خلال المرحلة الانتقالية على إرساء سياسات الحق والعدالة في شكل إصلاحات مؤسساتية جوهرية على نحوٍ تدريجي بعد وفاة الجنرال فرانكو من دون إثارة القوى الفاعلة في عهده بخاصة المؤسسة العسكرية.
وعلى خلاف ذلك دخلت تجربة جنوب أفريقيا، التي عاشت صراعًا مسلحًا زهاء ثلاثين سنة في ظل نظام عنصري (أبارتايد) ما بين سنتي 1990 و1960، مرحلة انتقال ديمقراطي سنة 1990 وهي مرحلة فاصلة في التاريخ السياسي لدولة جنوب أفريقيا، بدأت بمفاوضات سياسية مطلع التسعينيات، أسفرت عن إصدار دستور انتقالي سنة 1993 وإجراء انتخابات سنة 1994 فاز بها المؤتمر الوطني الأفريقي، وانتخب نيلسون مانديلا رئيسًا لجنوب أفريقيا. وقد أسست جنوب أفريقيا لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون صدر عن البرلمان سنة 1995، وهو قانون دعم الوحدة الوطنية والمصالحة[4].
لقد اختارت جنوب أفريقيا عدم حل كل أجهزة الدولة، ولا محاكمة قادتها أو مساءلة منظّري ومترجمي سياسة التمييز العنصري التي كانت سياسة دولة، ولكنها سهلت عملية الانتقال الديمقراطي من خلال الكشف عن حقيقة الانتهاكات مع توفير شروط مصالحة لضمان الانتقال من نظام التمييز العنصري إلى سيادة الشعب عبر البناء الديمقراطي، مع تجنيب البلد الوقوع في حرب اهلية.
تتقاطع تجربة المغرب في العدالة الانتقالية مع تجربة جنوب أفريقيا، في تأسيس «هيئة الإنصاف والمصالحة» سنة 2003 وبدأت عملها في عام 2004 بوصفها آلية لتحقيق العدالة الانتقالية. وقد ركزت الهيئة على كشف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب ما بين عامي 1961 إلى غاية سنة 1999، أي فترة حكم الملك الحسن الثاني، مع الحرص على عدم المطالبة بمقاضاة مرتكبي ما سمّي «جرائم سنوات الرصاص»، كما حصل في تجارب أخرى في العالم. وبدلًا من ذلك دافعت «هيئة الإنصاف والمصالحة» عن مبدأ المصالحة وجبر الضرر، معتبرة أنه بمنزلة الحل الملائم للحالة المغربية، لإنجاز التصالح وبناء الانتقال الديمقراطي المنشود[5].
2 – مسارات المساءلة والحقيقة
تميزت تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب في العدالة الانتقالية، باختلاف ظروف وآليات تفعيلها، وفي هذا الصدد يوجد نموذجان رئيسيان لمسارات العدالة الانتقالية: إما مواجهة الماضي وتصفية الحسابات معه، وهو ما عكسته تجربتا ألمانيا الديمقراطية وجنوب أفريقيا، وكذلك المغرب، وإما نسيان ماضي الانتهاكات والعمل على نجاح الاستقرار السياسي، وهو ما مثلته تجربة إسبانيا.
بالنسبة إلى النموذج الأول المتمثل بالقطيعة مع الماضي يمكن فهم طبيعته من خلال تجربتَي ألمانيا وجنوب أفريقيا، إذ تميزت بداية عملية الانتقال السياسي في ألمانيا سنة 1989، بتحديد شعب ألمانيا الشرقية مسارًا واضحًا للمصالحة مع الماضي ركيزته الأساسية سياسات – جزائية نوعًا ما - حيث غاب القصاص العنيف عن المشهد السياسي تمامًا. لقد كانت مقاربة العدالة الانتقالية في ألمانيا بين عامي 1989 و1990، عبارة عن خليط متنوع من الألوان، فمع بداية هبوب رياح التغيير وبداية الانتقال الديمقراطي في تشرين الأول/أكتوبر عام 1989، نهض الألمان الشرقيون بأعباء مهمتهم في تعرية مؤسسات القمع الشيوعية بلا هوادة. فحافظوا على ملفات الأجهزة الأمنية (التشازي) وأعادوا تأهيل الضحايا، كما تم سن تشريعات لتطهير مؤسسات الدولة والشروع في تحقيقات جنائية. بيد أن عدد المحاكمات ظل محدودًا وتم إعطاء كامل الأهمية لعملية المصارحة والبوح بالحقيقة التي تزامنت مع توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية، الذي كان عاملًا حاسمًا انعكس بالإيحاب على نتائج هذه التجربة وأدى إلى منع تسييس قضية العدالة الانتقالية[6].
كما تتقاطع تجربة ألمانيا الديمقراطية مع تجربة جنوب أفريقيا في مواجهة ماضي الانتهاكات الجسيمة، من أجل إظهار الحقيقة ومعاقبة مرتكبيها ومنع تكرارها مستقبلًا، ولو أن تجربة العدالة الانتقالية في جنوب أفريقيا لها خصوصيتها، إذ ارتكزت على المصالحة والصفح بعد مرور الجناة والضحايا بلجنة الحقيقة والمصالحة. وهي تجربة ساهمت في تطوير العدالة الانتقالية دوليًا، بعدما دخلت البلاد مرحلة انتقال ديمقراطي سنة 1990. وذلك بعد وصول زعيم الأقلية البيضاء دو كليرك إلى السلطة. فقد رفع دو كليرك الحظر عن نشاط حزب المؤتمر الوطني وأطلق سراح زعيمه نيلسون مانديلا بعد 27 سنة من السجن، وتم إلغاء نظام التمييز العنصري عام 1991، والإعداد لمخطط انتقالي كان من أبرز نتائجه رفع العقوبات الدولية عن جنوب أفريقيا، ومن ثم تبنّي دستور انتقالي سنة 1993 وتنظيم انتخابات متعددة الأعراق سنة 1994 فاز بها المؤتمر الوطني الأفريقي وانتُخب مانديلا رئيًسا لجنوب أفريقيا.
لكن تجربة المغرب في العدالة الانتقالية تتقاطع مع تجربة جنوب أفريقيا أيضًا في الكشف عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب ما بين سنتي 1961و1999، إذ عملت «هيئة الإنصاف والمصالحة» على تحقيق الإنصاف وجبر الضرر من أجل بلوغ المصالحة، وذلك من دون ذكر أسماء الجناة أو معاقبتهم، حيث غلب أفق التصالح التاريخي والسياسي على منطق المقاضاة، ذلك أن التصور المختزل لمنهجية عمل «هيئة الإنصاف والمصالحة» تم حصره في جانبين مركزيين أولهما البحث والتحري في الوقائع والحوادث التي رسمت الملامح الكبرى لـ«سنوات الرصاص»، أي إبان حكم الحسن الثاني، ثم تقويم الحوادث الحاصلة بهدف تقديم اقتراحات تسمح بتجاوز آثارها في الحياة السياسية، وبخاصة أن ظروف تأسيس الهيئة لم تنشأ في سياق تحولات جذرية في المجتمع وفي الدولة، بل في أفق تطوير آليات عمل مختلف الفاعلين في النظام السياسي في المغرب، بهدف بلوغ ما يمكن من تجاوز ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتمهيد لبلوغ عتبة الانتقال الديمقراطي[7].
أما في ما يخص النموذج الثاني للعدالة الانتقالية المتمثل بنسيان ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فتُعد تجربة إسبانيا مثالًا لهذا النموذج الذي اختار عدم الخوض في الماضي المأسوي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة من طرف نظام «فرانكو».
قررت النخبة السياسية الإسبانية في بداية عودة الديمقراطية إلى إسبانيا سنة 1978 على نحوٍ إرادي عدم فتح صفحة الماضي تخوفًا من التأثير السلبي في عملية الانتقال الديمقراطي الذي انخرطت فيه إسبانيا بعد وفاة الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو سنة 1975 والذي عمَّر زهاء 39 سنة. لقد ارتكزت التجربة الإسبانية خلال المرحلة الانتقالية على نسيان أو تجاهل النبش في الماضي من جانب السياسيين، وكذلك من جانب الأغلبية العظمى من المواطنين، وذلك بغية الخروج من الجدل السياسي خوفًا من مخاطر الدخول في حرب أهلية جديدة، ومن أجل المحافظة على مكتسبات الاستقرار السياسي في إسبانيا. ومن ثم لم تنفذ تدابير العدالة الانتقالية. ظهر ذلك بدايةً من خلال عدم إدانة فرانكو بشكل صريح من جانب جميع القوى السياسية في البرلمان، والإفلات من العقاب الذي استفاد منه أيضًا مرتكبو جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان خلال الحقبة الدكتاتورية التي تم تمديدها أيضًا طوال المرحلة الانتقالية.
ثانيًا: آليات العدالة الانتقالية وفق خصوصية كل دولة
تنطوي إقامة عدالة انتقالية على تفعيل عدة آليات، وقد أظهرت لنا تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب، أن فكرة وجود نموذج واحد ثابت للعدالة الانتقالية أمر غير صحيح على الإطلاق، حيث اختلفت كل دولة في طريقة تحقيق العدالة في المرحلة الانتقالية لديها وفقًا لعدة عوامل منها رؤية النظام الجديد، وقوة النظام السابق، وحجم الانتهاكات ونوعيتها… إلخ؛ وبذلك اختلفت الآليات المعتمدة لتحقيق العدالة الانتقالية من دولة إلى أخرى. حيث تبنَّت التجارب الدولية السالفة الذكر مجموعة واسعة من الآليات المتنوعة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي وتحليلها وتطبيقها عمليًا بهدف خلق مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. فما هي أبرز الآليات المعتمدة في تجارب العدالة الانتقالية في ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب؟
1 – لجان تقصّي الحقائق
وهي من الآليات غير القضائية وتتمتع بنوع من الاستقلال القانوني، وقد برزت أكثر فأكثر خلال السنوات الخمس عشرة المنصرمة، وهي هيئات مؤقتة، تعمل غالبًا لمدة سنة أو سنتين، وتتم الموافقة عليها رسميًا أو الترخيص لها من طرف الدولة، وفي بعض الحالات، من طرف المعارضة المسلحة كذلك، ويتم تشكيلها غالبًا في مرحلة من مراحل الانتقال السياسي، سواء من الحرب إلى السلم أو من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطي[8]. تعَدّ هيئة «الحقيقة والمصالحة» في جنوب أفريقيا من أبرز التجارب التي ساهمت في تطوير العدالة الانتقالية دوليًا. فقد أعقب عملية المصالحة الوطنية سنة 1994 تشكيل «لجنة الحقيقة والمصالحة» وحددت مهمتها في الكشف عما ارتكبه نظام الفصل العنصري من جرائم وانتهاكات والعمل على إنصاف الضحايا وتعويضهم. وفي عام 1998 أصدرت اللجنة تقريرها الذي ضم أكثر من 22 ألف شهادة لضحايا وشهود، وأزيد من 2000 شهادة في جلسات علنية، وطُلب من المسؤولين عن الانتهاكات الكشف عمّا ارتكبوه، وصفح عنهم الضحايا. انقسمت «لجنة الحقيقة والمصالحة» إلى ثلاث لجان فرعية هي: لجنة انتهاكات حقوق الإنسان، ولجنة جبر الضرر وإعادة التأهيل، ولجنة العفو[9]. كان اختصاص «لجنة الحقيقة والمصالحة» النظر في الجرائم التي حدثت في حقبة الحكم العنصري، ولكن بعد الاستجابة إلى إصرار قادة الحزب الوطني – الذي يمثل الأقلية البيضاء – طوال المفاوضات ألّا يضطروا إلى مواجهة محاكمات جنائية بعد الانتخابات، ومنح العديد من الجناة ما سمي «الحصانة» بعد ذهابهم إلى «لجنة الحقيقة والمصالحة» واعترافهم بما قاموا به من جرائم.
كانت قضية العفو عن مرتكبي الجرائم الخطيرة من أهم نقاط المفاوضات حول الانتقال الديمقراطي، وقد تم التوصل إلى تسوية ترى أن العفو يمكن أن يتم بالنسبة إلى الأعمال الإجرامية التي تمت بهدف سياسي وكان لها علاقة بنزاعات الماضي[10].
بدأ نجاح تجربة جنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية قبل تأسيس «لجنة الحقيقة والمصالحة» بالاتفاق على الانتقال السياسي وتحقيق بناء ديمقراطي دائم ومستمر. غير أنه بفضل تلك اللجنة عُرف جزء مهم من الحقيقة، وترسَّخ الانتقال الديمقراطي، وتم جبر ضرر عدد كبير من الضحايا إلى حد كبير بمجرد معرفة الحقيقة والاعتراف الجماعي والرسمي بمعاناتهم. وقد كان من عوامل نجاح اللجنة في جنوب أفريقيا تأسيس لنظام جديد قائم على العفو عن مرتكبي مسؤولي انتهاكات وجرائم الماضي من خلال مساهمتهم في الكشف عن الحقيقة، كذلك مساهمة ودعم المجتمع المدني والسياسي، وتوفير موارد مادية ومعنوية مهمة في هذا الإطار ساهم إلى حد كبير في التحقيقات.
رغم الانتقادات التي وُجهت إلى «لجنة الحقيقة والمصالحة» في جنوب أفريقيا ولا سيما على مستوى الحصانة الممنوحة للمسؤولين الذين ارتكبوا انتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن عمل اللجنة ساهم في ترسيخ وتكريس مجموعة من مبادئ العدالة الانتقالية التي كان للمجتمع المدني الحيّز الأكبر والدور المحوري[11].
وما حدث في جنوب أفريقيا كان استثناءً في بداية التسعينيات، وما واكب ذلك من تكريس لمنظومة ثقافة احترام حقوق الإنسان وفق القيم المشتركة المنصوص عليها في المواثيق الدولية. وفي السياق الدولي نفسه تقاطعت أهداف «هيئة الإنصاف والمصالحة» في المغرب مع تجربة «لجنة الحقيقة والمصالحة» في جنوب أفريقيا، وبخاصة في ما يتعلق بروح الصفح العالية والتسامح ونسيان الماضي وفتح صفحة جديدة. وإن كان الهدف من أعمال «هيئة الإنصاف والمصالحة» في المغرب يروم تحقيق المصالحة والإنصاف بالتخلي عن المقاضاة مع عدم ذكر أسماء الجلادين في أثناء جلسات الاستماع، بحجة أن الهيئة المشرفة على العملية ليست هيئة قضائية.
2 – المحاكمات
إن آلية المحاكمات ليست مصممة في المقام الأول لتسليط الضوء على الأسباب الجذرية للنزاعات، وإنما لمعاجة حالات معينة من انتهاكات حقوق الإنسان في إطار مسؤولية الدولة، أو الجرائم في إطار المسؤولية الجنائية الفردية. وعندما تقوم بذلك فإنها قد تتصدى لانتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويمكن لمحاكم حقوق الإنسان أن تفصل في انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إذا كانت تتمتع بالولاية القضائية على مثل هذه الانتهاكات. صحيح أن مبادئ العفو والتسامح ضرورية في أي مجتمع عانى ويلات الحروب والقمع والاضطهاد، ولكن ذلك بالتأكيد لا ينفي ضرورة إجراء محاكمات عادلة ضمن إطار القانون.[12]
ساد تطبيق مبدأ المحاكمات الكثير من الدول العالمية، لكن تجربتَي ألمانيا وجنوب أفريقيا تميزتا بتطبيق آلية المحاكمات ولو بنسبة محدودة. وعلى غرار ذلك نجحوا في سجن بعض من المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة. خلافًا للتجربة الإسبانية، فمن خلال نهج خيار القطيعة مع انتهاكات الماضي الذي اعتمدته في مرحلة انتقالها السياسي، لم تتم محاكمة المسؤولين في نظام فرانكو عن الانتهاكات المرتكبة في حق الضحايا. فضلًا عن ذلك لم يكن دور القضاة في إسبانيا كما هي الحال في ألمانيا وجنوب أفريقيا، في تفسير قواعد القانون الدولي بطريقة مرنة. كما لم يلجأ أحد إلى القانون الدولي لملاحقة تلك الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، مثل الإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري، من خلال التذرع بالاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها إسبانيا، إضافة إلى اللجوء إلى القانون الجنائي الدولي[13]. وهذا الأمر ينطبق على تجربة المغرب من خلال عمل هيئة الإنصاف على الكشف عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بهدف إنصاف وجبر ضرر الضحايا ولكن من دون معاقبة الجناة مرتكبي الانتهاكات.
3 – جبر الضرر
لقد شكل جبر الأضرار الفردية التي منحتها جمهورية ألمانيا مرحلة حاسمة في تاريخ جبر الضرر. حتى سنة 1952، كان جبر الضرر بمثابة شأن بين دولتين، أي بوصفه أداءات تسددها الدولة المنهزمة لنظريتها المنتصرة، كما هي الحال في معاهدة فيرساي. وشكلت التعويضات الممنوحة لضحايا «الهولوكوست» أول برنامج تعويضات واسع يتم اعتماده على المستوى الوطني لفائدة أفراد تعرضوا لانتهاكات جسيمة لحقوقهم الإنسانية.
يجدر بنا في هذا السياق أن نوضح نه من وجهة نظر الضحايا، يحظى برنامج جبر الضرر بمكانة متميزة في أي انتقال ديمقراطي؛ فالتعويضات في نظرهم تعبّر بشكل ملموس عن الجهود التي تبذلها الدولة لجبر الأضرار التي تعرضوا لها. فالعدالة الجنائية حتى ولو عرفت نجاحًا كاملًا من حيث عدد المتورطين المتابعين قضائيًا – نادرًا ما يحدث ذلك في أي انتقال كان- ومن حيث النتائج، يؤثر فيها دائمًا توافر الدلائل ومكامن الضعف المزمنة التي تعرفها الأنظمة القضائية. تظل في نهاية المطاف صراعًا ضد المتورطين، وليست جهود تبذل لفائدة الضحايا.
ينطوي الكشف عن الحقائق وإعلانها على عدة مزايا مهمة بالنسبة إلى الضحايا، ومنها الإحساس بالانتهاء من شيء ما بعد معرفة مصير الضحايا والشعور بالرضا إزاء الاعتراف الرسمي بذلك المصير[14].
4 – المناظرات أو جلسات الحوار
شكلت هذه الجلسات واحدة من أبرز الآليات في تجارب الدول التي مرت بمراحل انتقالية. وتعَدّ تجربة ألمانيا من أبرز التجارب التي قامت بتفعيل هذه الآلية، ولا سيما خلال المرحلة الأولى للتغيير السياسي وقبل الوحدة الألمانية، إذ سلطت جلسات الحوار الضوء على جوانب كثيرة من التاريخ المخزي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، بما فيها فضائح الفساد والكوارث البيئية وسوء الإدارة المالية وضخامة الجهاز الأمني وانتشار نفوذه على نحو يثير الدهشة. لقد مثلت المناظرات المقامة في ألمانيا قوة ضغط كبيرة حدث في إثرها عدة إصلاحات سياسية، واتضح ذلك من خلال الدور الذي قامت به المعارضة وحركات المواطنين المشاركين في المناظرات على حل جهاز الأمن شتازي. ولم تقتصر مهمة المشاركين في الحوار على ذلك بل تعدتها إلى «ضمان حقوق الإنسان والكرامة لأفراد هذا المجتمع بلا استثناء»[15].
كما عُدّت جلسات الاستماع إلى ضحايا حقوق الإنسان في مغرب ما بعد الاستقلال – في إطار منهجية عمل «هيئة الإنصاف والمصالحة» – من أقوى الأحداث السياسية التي خلخلت فيها الهيئة كثيرًا من أركان النظام القمعي في المغرب، إذ كان الهدف من جلسات الاستماع تمكين الأجيال الجديدة من معرفة وقائع ومعطيات فظيغة جرت في المغرب منذ بدايات الاستقلال وإلى حدود نهاية عام 1999 الذي شهد بداية تنظيم مجموعة من الخطوات والتدابير التي يمكن إدراجها في باب العدالة الانتقالية، في مغرب يروم التصالح مع ذاته، وذلك بتصفية جوانب من تركة ماضيه السياسي المثخن بالظلم والاستبداد[16]. وإن كانت أهداف هيئة الإنصاف والمصالحة من جلسات الاستماع للضحايا تروم المساهمة في تحقيق الإنصاف وجبر الضرر من دون معاقبة مرتكبي الانتهاكات، فإن أغلب الضحايا الذين تحدثوا كانوا على يقين من أن لحظات الاستماع تقدم فرصة مواتية لطيّ صفحة الماضي، فهي لحظة تمكننا من إعادة قراءة ملامح الصراع السياسي في المغرب المعاصر، بهدف تأسيس أفق جديد في العمل السياسي يتسّم بمطلب تسريع آليات وإجراءات الإصلاح السياسي الديمقراطي.
5 ـ- الإصلاح المؤسساتي
لقد أُعطيت أهمية بالغة لإصلاح المؤسسات في تجارب الدول التي مرت بمراحل انتقالية وذلك كمحطة مهمة في اتجاه تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود، حيث عملت ألمانيا وجنوب أفريقيا وإسبانيا والمغرب على إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس من احترام حقوق الإنسان والمحافظة على سيادة القانون ولو بدرجات متفاوتة. ويشار في هذا السياق إلى اختلاف أولويات الإصلاح المؤسساتي من دولة إلى أخرى، والسياق العام المرتبط بمدة الانتقال الديمقراطي ومدى وجود إرادة سياسية بين جل الفاعليين والأفرقاء السياسيين لإحداث التغيير.
أثبتت تجارب الدول التي مرت بمراحل الاستقلال السياسي أن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تعمل من دون تحقيق آلياتها متكاملة، وهي لجان كشف الحقيقة، والتعويض، والإصلاح المؤسسي، والمصالحة الوطنية، وإحياء الذاكرة، وهي ضرورية للتعامل مع تركة الانتهاكات التي خلقتها مراحل العنف الماضية.
ثالثًا: التحديات والدروس المستفادة من تجارب العدالة الانتقالية
في ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب
قدمت إلينا التجارب الدولية في ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب، التي شهدت تفعيل مسار العدالة الانتقالية، عدة دروس في ما يخص كيفية تفعيل آليات العدالة الانتقالية، وإن اختلفت سياقات تفعيل هذه الآليات من دولة إلى أخرى، إلا أنها حققت ولو نسبيًا، الأهداف المحددة دوليًا، مثل البحث عن الانتهاكات ومعاقبة المسؤولين عنها ومنح الضحايا تعويضات ووضع أسس للمصالحة والاندماج الاجتماعي. غير أنه في مقابل ذلك ظهر الكثير من النقائص، سواء في مستوى التصور أو في مستوى التطبيق، الأمر الذي جعل منح الضحايا حقوقهم كاملة مسألة صعبة. وهذا يدفعنا إلى طرح مزيد من التساؤلات في سياق تحليل الإشكالية المفترضة للدراسة من قبيل: هل توجد دائمًا فوارق بين التصور والمثال أم أن خللًا ما في العقيدة الليبرالية المؤطرة لتلك العدالة الانتقالية أم هو مجرد قصور في الآليات الموظفة وفي محدودية تفعيلها؟
تحتاج هذه التساؤلات إلى جهد تحليلي مفصل للحسم فيها. وهو أمر لا يندرج ضمن رهاننا في هذه الورقة العلمية. لكن ما ينبغي التذكير به، ومن خلال تجارب الدول السالفة الذكر، يمكن للبلدان العربية استخلاص مقومات أو عوامل نجاح هذه التجارب في جعل العدالة الانتقالية محطة مهمة ومدخلًا ضروريًا لإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي فيها. وهو ما سأحاول تبيانه في الفقرات الموالية من هذا المحور.
1- التحديات التي واجهت تفعيل العدالة الانتقالية
واجه تفعيل مسار العدالة الانتقالية في ألمانيا وإسبانيا، وجنوب أفريقيا، والمغرب عدة تحديات؛ منها ما هو ذاتي بحسب خصوصية كل دولة، ومنها ما هو موضوعي ومشترك بين هذه التجارب الدولية.
أ – العراقيل الذاتية
اعترضت مسيرة تفعيل العدالة الانتقالية في تجارب الدول موضوع دراستنا عدة صعوبات، حيث كانت القوانين والتشريعات من أهم العقبات التي واجهت أصحاب الحقوق، سواء الافتقار إلى غطاء دستوري يحميها من الطعن عليها كما هي الحال في ألمانيا، أو لوجود قوانين تم تفصيلها خصيصًا لتجنب المحاسبة والمساءلة القانونية كما هي الحال في إسبانيا، أو التلاعب بالثغرات الموجودة في التشريعات القائمة كما هي الحال في جنوب أفريقيا.
كما واجه تفعيل مسار العدالة الانتقالية مجموعة من العراقيل بحسب خصوصية كل تجربة، وهي ليست صعوبات مقتصرة على العوامل الخارجية أو ممن يفترض أنهم يشكلون خطرًا على الديمقراطية الناشئة، وإنما كذلك من الضحايا السابقين الذين وصلت منهم نخبة سياسية إلى سدة الحكم كما هي الحال في تجربة ألمانيا، التي حاولت تكريس آليات العدالة لإنجاح الانتقال الديمقراطي الذي تزامن مع الوحدة الألمانية. غير أنه في مقابل ذلك ورغم إقرار حكومة ألمانيا الاتحادية حزمة من التشريعات حول كيفية التعامل مع الماضي الشيوعي، ظل تضارب القيم المتأصلة في العقيدة الديمقراطية الليبرالية إلى جانب تعقيدات المناظرات المتعلقة بماضٍ حافل بالاضطرابات[17].
وتبقى صعوبة تحقيق عدالة انتقالية تامة سمة مشتركة بين تجارب الدول التي اختارت هذا المسار؛ فحتى تجربة جنوب أفريقيا التي يُحتفى بها بوصفها النموذج الأفضل والأكثر نجاعة في تطبيق العدالة الانتقالية ليست أفضل حالًا. ففي عام 1998 أصدرت «لجنة الحقيقة والمصالحة» تقريرًا تضمن شهادات أكثر من 22000 ضحية وشاهد على الجرائم المرتكبة خلال حكم الفصل العنصري التي لم تتم محاسبة مرتكبيها، بل على الضد من ذلك، مررت اللجنة قانونًا فريدًا عنوانه «العفو من أجل الحقيقة» لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الذين رغبوا في الاعتراف، كما صدرت مراسيم عفو مباشرة من الرئيس السابق ثابو مبيكي دون علم الضحايا. كما تضمنت سياسة الملاحقة القضائية الخاصة بسلطة المتابعة القضائية الوطنية تعديلات من أجل «عفو عام غير نزيه»، مكنت مرتكبي الجرائم في زمن التمييز العنصري، ممن لم يتقدموا بطلبات للحصول على عفو «لجنة الحقيقة والمصالحة»، الإفلات من العقاب. ولم يكن للضحايا إلا الطعن بهذه الاحكام أمام القضاء الدستوري الذي قضى عام 2010 بوجوب استشارة الضحايا قبل منح العفو[18].
أما الإكراهات التي اعترضت تجربتَي إسبانيا والمغرب فقد اختلفت عن التجربتين السالفتَي الذكر، وذلك بالنظر إلى اختيار القوى المدبرة للانتقال السياسي في كلتا الدولتين أولوية البناء الديمقراطي مقابل طيّ صفحة ماضي الانتهاكات، وهو ما سمح بإفلات المسؤولين من العقاب. وهناك أمثلة وفيرة في التجربة الإسبانية عن التواطؤ بين اليمين المتطرف والقضاة وقوات أمن الدولة. وبناءً عليه، فحتى الآن ترفض المحكمة العليا جميع طلبات إعادة النظر في المحاكمات التي جرت خلال حقبة فرانكو، رغم فظاعة الجرائم المرتكبة الناجمة عن قمع الحكومة للتظاهرات الخاصة بمعارضة الدكتاتورية خلال المرحلة الانتقالية (1982-1975)، والتي نتج عنها وفاة 140 شخصًا[19].
وبالنظر إلى التعويض المادي الممنوح للضحايا في إسبانيا، يمكن القول إنه تم تضييقه بعدة شروط بحيث لم يمكن جبر كل الضحايا، فقد كانت هناك بعض الفراغات التي من المهم شغلها. من تلك الفراغات الرئيسية من حيث التعويضات المادية والمعنوية؛ هناك أولئك الذين لقوا حتفهم لأسباب سياسية، ولكن ليس خلال الحرب الأهلية أو نتيجة لذلك (على سبيل المثال، من خلال أعمال العنف من الحرس المدني أو الشرطة في جميع أنحاء الدكتاتورية بأكملها). فإذا لم تكن هناك صلة مباشرة للضحايا بالحرب الأهلية أو عواقبها المباشرة، لا يتمكن أقاربهم من الحصول على معاش تقاعدي، ولا يعترف بذلك عند وفاتهم بأي شكل من الأشكال. وبالمثل، لا يوجد أي تدبير من أي نوع في ما يخص أقارب الذين أُعدموا من خلال حكم قضائي في حقبة الدكتاتورية، بغض النظر عن ما إذا كان المعاقب مرتبطًا بالحرب أم لا من الأساس. وبناءً على هذا، يمكننا القول حتى في الوقت الحاضر، إن الديمقراطية الإسبانية تنظر إلى هذه الأحكام القضائية على أنها صحيحة، لأن أيًا من أقارب الضحايا عرض عليه التعويض، كما أنه لم يعترف أصلًا بالضحايا، ولم يتم إبطال أي حكم منهم. أخيرًا، وبخلاف الحالات الأخرى، لم يتم دفع أي نوع من المعاش التقاعدي لمن تعرض للتعذيب، ولم يتلقَّ من لا يزال في المنفى أي مساعدة لمساعدته في عودته إلى الوطن[20].
يظهر أن الاستقرار السياسي والاقتصادي الكبير الذي تتمتع به إسبانيا نسبيًا منذ أزيد من ثلاثين سنة من شأنه أن يسمح لانتهاج سياسات أكثر جرأة للجبر. لكن، والحقيقة هي أن القوة الاجتماعية أو قوة ضغط المجتمع المدني بإسبانيا كانت ضعيفة، بخاصة إذا ما قورنت بألمانيا وجنوب أفريقيا، على الرغم من أن الأمور قد بدأت في التغيير في السنوات الأخيرة في إسبانيا، حيث توجد عدة فعاليات من المجتمع المدني تتمتع بالقدرة على التعبئة مثلها مثل العديد من منظمات حقوق الإنسان في الماضي والحاضر.
أما التجربة المغربية، ورغم تمكن «هيئة الإنصاف والمصالحة» من مراكمة عدة إنجازات وإصدار توصيات مهمة جدًا، سيكون لها أثر في المستقبل السياسي بالمغرب – إذا ما تم تفعيلها – إلا أنه لا يمكن استثناء تجربة المغرب عن باقي التجارب الدولية – السالفة الذكر – التي واجهتها عدة تحديات في مسار تفعيل العدالة الانتقالية فيها، من بينها أن «هيئة الإنصاف والمصالحة» لم تكن لها السلطة الكافية لإرغام بعض الشخصيات على تقديم إفادات تتعلق بالوصول إلى الحقيقة في كثير من الملفات[21]. كما أن نحو نصف أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة كانت من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان[22]؛ فساد نوع من الإحساس بالتباس العلاقة بين الهيئة والمجلس من الناحية القانونية، وهو ما دفع البعض إلى الطعن بصدقية الهيئة. فضلًا عن ذلك، لم يتم الإشراك الكافي لمؤسسات البرلمان والحكومة في أشغال «هيئة الإنصاف والمصالحة»، كون أن هذه المؤسسات هي التي ستتابع التوصيات، وستضع السياسة العمومية في مجال ضمان عدم تكرار ما حصل. فضلًا عن ذلك لم تشر توصيات «هيئة الإنصاف والمصالحة» إلى عدم استمرار مسؤولين سابقين عن الانتهاكات في مسؤولياتهم العمومية. فجميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين متفقون على استمرار النظام السياسي، لكن ليس بالضرورة من طريق استمرار الأشخاص أنفسهم الذين شكلوا جزءًا من هذا النظام ويتحملون مسؤولية في الانتهاكات.
يظهر أن التحديات التي واجهت التفعيل السليم لمقاربة العدالة الانتقالية متعددة ومختلفة من بلد إلى آخر بحسب السياق العام ومدى وجود إرادة سياسية لتحقيق العدالة كمدخل ودعامة للانتقال الديمقراطي المنشود.
ب – العراقيل الموضوعية
على الرغم من اعتبار مقاربة العدالة الانتقالية دعامة أساسية ومدخلًا ضروريًا لإنجاح لانتقال الديمقراطي، إلا أن المبادئ الليبرالية المؤطرة لهذه المقاربة أثارت عدة تساؤلات، وقد كانت التجارب الدولية – السالفة الذكر – مجالًا لاختبار ومعرفة الأسباب التي دفعت النظم السياسية في تجارب ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب، إلى تبني خيار الكشف عن حقيقة الانتهاكات التي تم ارتكابها في السابق وسعيها إلى التصالح مع الضحايا، والتي ظلت موضوع جدل بين موقفين: أولهما لا يرى في خيار المصالحة إلا عملية «تجميلية» للاستبداد تفتقر إلى أي محتوى إصلاحي، هدفها الحقيقي هو التأجيل المواصل للتغيير الأساسي من طريق حصر أسبابه وإضعاف دوافع القوى الداعية إليه. وانطلاقًا من هذا الموقف، فإن نيات الانظمة السياسية في كل من ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب، لمواجهة الأزمات السياسية القائمة أو المرتقبة هي العامل الحاسم في خيار الحقيقة والمصالحة، وبخاصة أن جل هذه الأنظمة عرفت قمعًا وظلمًا ومآسي إنسانية نتيجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في حق شعوبها.
هناك موقف مخالف يركز لا على نيات الفاعلين، ولكن على الشروط السياسية والسياقات التاريخية التي دعمت حسابات خيار المصالحة. إذا كانت المنطلقات الأيديولوجية تسهل الحسم في الموقفين المذكورين، فإن مسألة المعرفة الموضوعية وتوثيقها ليست بهذه السهولة، بل تشكل أول التحديات التي تواجه تحليل ظروف انطلاق عملية المصالحة. إن توثيق نيات الفاعلين أو المسؤولين في النظام السياسي السابق على الانتهاكات المرتكبة سواء في ألمانيا أو إسبانيا وجنوب أفريقيا أو المغرب، أو غيرها من الدول التي مرت بمرحلة العدالة الانتقالية، تبقى مهمة بالغة التعقيد، هذا إذا كانت ممكنة التحقيق أصلًا. إنها تغدو موضوعًا متداولًا في النقاشات الشعبية اليومية وتشبه ما يعرف بـ«نظرية المؤامرة»، وتكون أوسع انتشارًا في مجتمعات الأنظمة الاستبدادية التي تفتقد فيها الثقة بالدولة ويسود فيها التشكيك الدائم في النخب الحاكمة وقراراتها. إلا أن النيات، مثلها مثل نظرية المؤامرة، تسمح بالتجرؤ على طرح أي تفسير – بغضّ النظر عن قيمته وقدرته على الإقناع - من دون تحمل مسؤولية التوثيق والتدقيق والبرهنة. لكل ذلك، فإن نظرية المؤامرة وشبيهاتها تمثل مادة لفهم طبيعة الثقافة السياسية السائدة أهم من قيمتها كمدخل لتفسير الخيارات السياسية[23].
وعلى المستوى الدولي، فخيار المصالحة رافق التحولات الدولية الكبرى التي يحتل المكانة البارزة فيها سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وهيمنة الإمبراطورية الأمريكية. وهي كلها ظروف لم تعد تسمح بتبرير الاستبداد السياسي من منطلقات أولويات الدفاع عن الاشتراكية، والحزب الواحد وأخطار التعددية والليبرالية. كما أنه مع تفكك الإمبراطورية السوفياتية لم تعد الحاجة قائمة لكي يدعم الغرب الاستبداد السياسي كضرورة استراتيجية للاحتماء من الخطر الشيوعي. لكن هذه الشروط السياسية، الوطنية منها والدولية، ليست عوامل كافية لتفسير أسباب المصالحة. ذلك أنها تسمح باحتمالات بالغة التنوع ليست المصالحة إلا أحدها. كما أنها لم تعنِ نهاية الأنظمة الاستبدادية، بل إنها، وكما هي الحال في الوطن العربي، ما زالت قادرة على تجديد استمراريتها[24]. لذلك، فإن تحدي فهم دوافع المصالحة لا يزال قائمًا، غير أنه يشكل انشغالًا فكريًا أكثر منه أولوية سياسية، إذ على المستوى العملي، وبالرغم من تضارب التحليلات في تفسير أسباب خيار المصالحة وتباين المواقف السياسية منها، إلا أن اعتناق هذا الخيار خلق واقعًا جديدًا ودينامية سياسية أصبح التحدي الرئيسي فيها، الذي يحظى بما يقترب من الاجماع، هو الدفع بتبني والاستفادة من إنجازات هيئات ولجان الحقيقة والمصالحة في التجارب الدولية، وبخاصة في البلدان العربية التي تمر بمثل هذه المراحل مع التشديد على خصوصية كل تجربة على حدة، وذلك بغية الدفع بعملية الانتقال الديمقراطي بصورة سلمية.
2 – عوامل نجاح تجربة العدالة الانتقالية
إن المحرك الأساسي وراء الدفع بقضايا العدالة الانتقالية، قدُمًا على الرغم من كثرة العوائق السياسية والزج المستمر والمتعمد بالعراقيل القانونية والتشريعية التي اعترضت التجارب الدولية في ألمانيا وإسبانيا وجنوب أفريقيا والمغرب، هو تضافر عدة عوامل من أجل إنجاح مسار العدالة الانتقالية فيها، من أبرزها:
إصرار المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية على تحقيق العدالة كاملة وتمسّكهم باستكمال خارطة الطريق. فقد أدّت تلك الكيانات دورًا كبيرًا في توعية الشعب بحقوقه في القصاص لجرائم الماضي وعدم تجاهلها بوصفه السبيل الوحيد لإرساء السلام المجتمعي والتنمية الاقتصادية. كما نجحت في التواصل مع الضحايا وأُسرهم لتوثيق الجرائم حتى لا تسقط من الذاكرة الإنسانية. ومن ثم كللت الجهود المدنية في كل من جنوب أفريقيا وألمانيا والمغرب بالنجاح بوجه عام في العدالة الانتقالية، بينما فشلت إسبانيا؛ نظرًا إلى رغبة شعبها في تجاهل الماضي خوفًا من مخاطر الانخراط في حرب أهلية مرة أخرى والمحافظة على مكتسبات الاستقرار السياسي الحالي[25].
إن الإرادة السياسية في تحقيق العدالة الانتقالية لا تقل أهمية أيضًا في الدفع بمسار العدالة الانتقالية سواء تمثلت بالقيادة العليا للبلاد – كما الحال في تجربة المغرب – وهو ما ظهر من خلال تأسيس الملك محمد السادس لـ«هيئة الإنصاف والمصالحة» التي كانت من مطالب القوى الحقوقية والسياسية بالمغرب، إذ حدد للهيئة دورًا يروم تحقيق المصالحة وجبر ضرر الضحايا وطيّ ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سياق استمرارية نظام الحكم. وقد تكللت منجزات الهيئة بتضمين دستور المغرب لسنة 2011 أزيد من ثلث مواده لتوصيات «هيئة الإنصاف والمصالحة».
كما لا بد من التشديد، ونحن نحلل دور الإرادة السياسية في تحقيق العدالة الانتقالية، على حنكة القيادة السياسية في جنوب أفريقيا وحكمتها، وبخاصة نيلسون مانديلا، وكذلك فريديك دوكليرك، قائد الأقلية البيضاء الحاكمة آنذاك، التي انحازت بالكامل إلى خيار المصالحة، الذي تجسد من خلال إدراج مبدأ المصالحة في الوثيقة الدستورية. كما تجسدت الإرادة السياسية في ألمانيا من خلال دور القضاء في إنجاح مسار العدالة الانتقالية، ولو أن عدد المحاكمات كان محدودًا. وكما كان لتوافر هذه الإرادة عامل كبير في نجاح هذه التجارب، كان الافتقار إليها في حالة إسبانيا وراء تبدد جميع الجهود الرامية إلى القصاص.
إن الدعم الاعلامي لقضايا العدالة الانتقالية كان حاسمًا في نجاح التجارب السابق الإشارة إليها، ولم يقتصر دوره على ممارسة الضغط الشعبي والتوعية، بل شمل تنفيذ بعض من إجراءات العدالة الانتقالية كالتوثيق والكشف عن جرائم المسؤولين والرمزية والتذكير الدائم بالماضي وقاطنيه من الضحايا.
أثبتت تجارب العدالة الانتقالية التي تكللت بالنجاح، أن آليات العدالة الانتقالية من ملاحقات جنائية وبرامج التعويضات والإصلاح المؤسسي وللجان تقصي الحقائق هي إجراءات تكاملية، لا يمكن فصلها عن بعضها أو تنفيذ إجراء دون الآخر، كما هي الحال في إسبانيا التي اتبعت إجراءً واحدًا وهو برامج التعويضات الذي شابه الكثير من القصور في التطبيق. وقد تمخض فشل تطبيق العدالة الانتقالية في إسبانيا عن ردود فعل عنيفة ومنها «منظمة إيتا» وأعمالها الانتقامية، وهو ما يدفع بالبلاد في معترك عدم الاستقرار أيضًا. ومن ثم يجب توعية بلدان الربيع العربي بأن الاستمرار في تجاهل جرائم الماضي بحجة واهية لنظام لا يقدر أو لا يريد تطبيق العدالة الانتقالية، وأن مردود ذلك سيكون بلا شك هو تهديد السلم المجتمعي والتنمية الاقتصادية.
3 – الدروس المستفادة عربيًا من التجارب الدولية للعدالة الانتقالية
بعد التحولات الإقليمية التي عرفتها المنطقة العربية سنة 2011 وما أعقبها من اندحار لبعض الدكتاتوريات في عدد من البلدان العربية يبرز السؤال الملح حول آلية التعامل مع انتهاكات الماضي، والكشف عن الانتهاكات، والمحاسبة أم العفو والتسامح وطي صفحة الماضي؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، وانطلاقًا من التجارب الدولية السالفة الذكر، يمكن القول إنه لا توجد وصفة سحرية جاهزة لنجاح عملية الانتقال الديمقراطي، فليس هناك صيغة نموذجية تستطيع البلدان العربية الاحتذاء بها، بل على كل بلد تلمُّس طريقه الخاص لاستنباط حل مناسب من خلال تطبيق المفاهيم الأساسية للعقيدة الحقوقية المرنة التي يؤمن بها ويقوم بتبنّيها. كما لا بد من استحضار أن العقيدة الديمقراطية الليبرالية لا تتضمن أجوبة وحلولًا جاهزة لجميع الحالات، وإنما هي تصور نسبي دوره لا يتعدى الاستئناس والمساعدة، إذ لكل حالة انتقالية خصوصيتها المستمدة من مجالها التداولي الخاص والظرفية التاريخية الدائرة في فلكها. وهو أمر جوهري يجب أن لا يُستبعد من ذهن المفكرين والمشتغلين بملف العدالة الانتقالية في البلدان العربية ما بعد سنة 2011.
لكن على الرغم من خصوصية كل تجربة، فأمام البلدان العربية الكثير من الدروس التي يمكن تعلمها من التجارب الدولية موضوع دراستنا، حيث تمثلت أهم شروط ومقومات النجاح بالحفاظ على الوحدة الوطنية وترسيخها بما يحول من دون حدوث انقسامات وصراعات داخلية خلال مرحلة الانتقال، وبحسن تصميم المرحلة الانتقالية وإداراتها من خلال التوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين على خارطة طريق واضحة لتأسيس نظام ديمقراطي، بما يعنيه ذلك من التوافق على صيغة النظام السياسي المستهدف، ومراحل الانتقال، والترتيبات المؤسسية والإجرائية الأكثر ملاءمة لظروف وخصوصيات الدولة والمجتمع. ومن الشروط أيضًا، إصلاح أجهزة الدولة ومؤسساتها على النحو الذي يعزز قدرتها على القيام بوظائفها، وبخاصة في ما يتعلق باحتكار حق الاستخدام المشروع للقوة، وتقديم السلع والخدمات العامة للمواطنين، وتحقيق العدالة الانتقالية، فضلًا عن تدعيم دور المجتمع المدني، وتعزيز الطلب المجتمعي على الديمقراطية ونشر ثقافتها في المجتمع؛ فلا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، وإعادة صوغ العلاقات المدنية – العسكرية بما يتفق وأسس النظام الديمقراطي، على أن يتم ذلك تدريجًا ومن خلال التفاوض وإجراءات بناء الثقة بين المدنيين والعسكريين[26].
مما سبق ذكره، لا بد من أن يوجد إدراك لدى البلدان العربية بعد مرحلة «الحراك العربي» أن عملية المصالحة الحقيقية عملية تداخلية معقدة فيها الكثير من العناصر والعوامل التي يجب التفكير فيها، وهي ليست عملية تهيئة أجواء ومناخ للتحايل وإجبار الضحايا على المغفرة والسماح وإيجاد مبررات للمذنبين والمجرمين للإفلات من المحاسبة. ولكن من المهم أن تتجاوز المجتمعات العربية مسألة الثأر الشخصي وحتى إجراءات المحاكم الجزائية التي تسعى غالبًا إلى معاقبة المجرم وترك الضحية، إلى تطبيق العدالة الانتقالية، التي تهتم بالنظر إلى المستقبل وكيف يمكن ارجاع الجناة إلى المجتمع بعد إصلاحهم، واعترافهم بتحمل كامل مسؤوليتهم عن الأعمال التي اقترفوها وتعويض الضحايا. ولعل تجربة المغرب في العدالة الانتقالية، التي كانت من بين التجارب التي شملها مجال بحثنا، والأولى التي تم تفعيلها على مستوى المنطقة العربية، قدمت إلينا نموذجًا استطاع تفعيل مسار العدالة الانتقالية في ظل استمرار النظام ولكن مع تغيير بارز في سياسته في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية.
ويبدو واضحًا أن التجربة المغربية مكَّنت من التقدم في الملف الحقوقي من خلال الوقوف على حقيقة ما جرى، وكشف جل الحالات الفردية للانتهاكات في المجال، وجبر الضرر الفردي والجماعي، واعتماد توصيات جريئة في مجالات الإصلاح المطلوب دستوريًا وقانونيًا ومؤسساتيًا وغيرها. وقد استفادت التجربة المغربية من «الحراك الديمقراطي» الذي ارتبط بالحراك على مستوى المنطقة العربية، لكي تعطي لهذا البعد الأخير مكانة متميزة وتتويجًا في الوثيقة الدستورية المعتمدة عام 2011، التي خصصت ثلث موادها لتوصيات «هيئة الإنصاف والمصالحة»[27].
وإذا كان سياق الحراك العربي قد جعل مطلب العدالة الانتقالية على رأس جدول الأعمال، فإنه لا بد من أن نسجل غياب رؤية متكاملة إلى حد بعيد للسياق والأبعاد والأطراف المرتبطة بالمشروع.
إن السياق السياسي لم يستطع فرز بناء أرض مشتركة بين الأفرقاء الأساسيين الذين ساهموا في دينامية التغيير، ولم يقدِّروا على نحوٍ دقيق خصوصيات المرحلة. وهذا ما جعل ممكنًا اللجوء إلى إعادة إنتاج ثقافة «الهيمنة» وسياستها من خلال الاستحواذ على السلطة أو محاولة الاستحواذ كما جرى في مصر وتونس، وفي غياب أرض مشتركة مؤطرة للفعل السياسي وتدبيره من خلال «الدستور»[28]. وفي ظل هذه الأجواء، لم تتضح معالم مشروع العدالة الانتقالية والأهداف المتوخاة منه والمراحل التي سيغطيها، ومدى توافر إرادة سياسية ضامنة لتعاون الأفرقاء المعنيين ومساهمتهم أي «مؤسسات الدولة وأحزاب وغيرها» في دعم هذه الدينامية.
على سبيل الختام
يبدو من خلال سياقات تفعيل العدالة الانتقالية دوليًا، وإن اختلفت من تجربة إلى أخرى، أن هناك عدة متغيرات، منها ما هو وطني ومنها ما هو إقليمي ودولي، مدعمة لتجسيد العدالة الانتقالية في بلدان الربيع العربي، التي لم تنطلق بعد، باستثناء التجربة المغربية «هيئة الإنصاف والمصالحة» التي تبلورت في سياق سياسي خاص. ويظهر أن الإكراهات التي تواجه تفعيل العدالة الانتقالية في البلدان العربية مرتبطة بمآل مشروع الانتقال الديمقراطي وإعاقاته، فضلًا عن عدم وجود قوى داعمة وهادفة لإرساء قواعد دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية. ومتى نضجت الشروط المؤطرة لهذا الاختيار، وتوافرت إرادة سياسية لدى البلدان العربية والأفرقاء الفاعلين على أرض مشتركة لتدبير الاختلاف وتدبير الانتقال، ستكون آنذاك دينامية العدالة الانتقالية ومقاربتها قادرة على الانخراط في تعزيز المسار الديمقراطي من خلال مداخل معالجة ماضي الانتهاكات وإعادة الاعتبار للضحايا مع تفعيل الإصلاحات السياسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات مستقبلً.