المجزرة القادمة– الانتقال من نظام الكراهية إلى مجتمع الكراهية
جهة النشر: Megaphone – ميغافون
موسم اصطياد «الشذوذ»
السبت 30 أيلول. ساحة رياض الصلح في بيروت.
مسيرة للحريّات تحوّلت إلى اعتصام للحريات، قبل أن تصبح كميناً مُحكَماً ضد المشاركين/ات أعدّه بلطجيّون وشبيحة، بالتعاون مع عناصر القوى الأمنية، بحجة رفض «الشذوذ». حاصر البلطجيون المسيرة، فلجأت العناصر الأمنية إلى ابتزاز المعتصمين. أدخل «الأمن» المشاركين المحاصرين في عربات الشرطة حمايةً لهم من القتل والضرب. لكنّها لم تؤمّن الحماية الكافية، فتعرّضت العربات لهجوم الشبيحة. وبعد وقت طويل من الحصار، تخلّله حالات هلع وإغماء وتهديد فعليّ، تمّ إخراج العربات من تحت الحصار وفُكّ أسر المحاصرين على بعد ما يقارب 10 كيلومترات خارج بيروت ليتدبّروا أمورهم بعيداً عن بطش الشبيحة.
السلطة أعطت الإشارة لبلطجيتها: الاختلاف ممنوع وقمعه وضربه وقتله حلال. موسم اصطياد «الشذوذ» بات مفتوحًا: حفلة في صور، شاب شعره طويل، بنت شعرها قصير، وقبل ذلك عيادة طبية في طرابلس، مقهى ليلي في مار مخايل…
موسم اصطياد السوريّين
الخميس 5 تشرين. منطقة الدورة في ضواحي بيروت.
أخبار عن إشكالات بين لبنانيين وسوريين في منطقة الدورة، أخبار أخرى عن ضرب سوريين في مناطق مختلفة من العاصمة، مسيرات ليلية من فاشيي الأحزاب وزعرانهم. كانت حملة شيطنة اللاجئين/ات السوريين/ات قد بدأت منذ سنوات، لكنّها خفتت بعض الوقت، لإفساح المجال أمام كره «الشذوذ». عادت إلى الصدارة مع تصريح وزير الداخلية الأخير وتزايد التجمّعات مجهولة المصدر التي تحذّر من توطين السوريين.
لم يحتج بلطجية النظام كثيراً من الوقت لفهم الإشارة الجديدة والهدف الجديد: السوريون اليوم هم الهدف. شباب الحيّ باتوا جاهزين للاعتداء على سائق دليفري من هنا أو عامل من هناك، بإسم منع توطُّن بلادهم من قبل السوريين أو حماية أحيائنا «منهم».
نظام الكراهية اللامتناهي
لم يعد لهذا النظام ما يقدّمه إلّا الكراهية اللامتناهية، عنف يلهث وراء ضحيته الجديدة، أي ضحية يمكن أن تشفي فائض العنف المتراكم في جسم المجتمع اللبناني المهترئ. لم يعد الموضوع مجرّد محاولة لإلهاء الناس عن المشاكل «الفعلية» أو عن المسؤولين «الفعليين» عن ورطتهم. هناك فائضٌ من العنف في هذا المجتمع، ناتج عن سنوات من الانهيار المالي والعنف السياسي، وقد عرف النظام كيف يستغلّه ويطلقه في ليالي الانهيار في وجه أي ضعيف.
يمكن البحث عن مغزى سياسيّ وراء سياسة الكراهية هذه، كالتحضير لانزلاق قمعي أو لرئاسة عسكرية للجمهورية المنهارة. لكنّ المهم في كل هذا ليس ألاعيب سياسيين سخيفين، بل ما سيبقى من كل هذا بعد رحيلهم: لبنان بات بلداً محكوماً بكراهية علنية وواضحة ومتفلّتة من أي ضابط. انتهت مرحلة الثورة المضادة، وبدأت مرحلة بناء نظام كراهية معمّم، يتولى تدشينه وزير داخلية أبله، لم يجد إلّا تعميم العنف كمبرّر لوجوده ولطموحاته السياسية الصغيرة. فبينه وبين وزير الثقافة، بات واضحًا أن الهبل غالبًا ما يكون أخطر من الشر.
بلطجيّة النظام
مَن يحكم شوارع لبنان اليوم هم «البلطجية» و«الشبيحة». مجموعات من الشباب، تنحدر من أحزاب أو عصابات أو تتبع لأجهزة أمنية، تربط بين السلطات السياسية والأحياء الشعبية، لتفرض نوعًا جديدًا من السطوة. يقوم هذا النوع من العنف على المزج بين أدوات القمع الرسمية مع تلك غير الرسمية، وهي خلطة الأنظمة الفاشية. الأول يؤمّن الحماية للثاني، والثاني يؤمّن غطاءً «شعبيًا» للأول. القمع الرسمي يطال الحيز العام من خلال أدواته القضائية والأمنية، أمّا الثاني فيدخل إلى خصوصية المنازل والأحياء، من دون أي رادع أو حدود.
بات واضحًا أنّ مطالبة «الدولة» بأي مطلب، أكان حقوقياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، أو حتّى معارضتها، أصبحا خارج السياق. فـ«الدولة» المطالَبة بالحقوق هي «السلطة» المانعة لهذه الحقوق، و«الدولة» التي يراد معارضتها هي «الدولة» التي يراد منها حماية المعترضين من عنف البلطجية. نجحت «الدولة» في ابتزازها: إمّا الرضوخ وإمّا مواجهة عنف البلطجية اللامحدود.
المجتمع الغائب
اخترعت السلطة تهمة «الشذوذ» لتحديد هوية ضحاياها. براعة هذا الاختراع أنّ العبارة مطاطة، وتطال كل من يشكّل أي نوع من التهديد للسلطة، من مُطالِب بكشف حقيقة انفجار أو جريمة إلى معترض على ذكورية أحكام شرعية، وصولًا إلى أي خروج عن السائد. ولا يمكن الهروب من مواجهة حقيقة أنّ تهمةً كهذه تحظى بدعمٍ ما في مجتمع «محافظ» أصلًا، ولم يُبدِ أي اعتراض يُذكَر على قمع «الشذوذ».
قبل «الشذوذ»، شيطنت السلطة اللاجئين/ات السوريين/ات، ببراعة أيضًا، كونها وجدت كبش فداء لتحميل فئة مهمّشة من المقيمين في هذا البلد مسؤولية انهيارها. فلم تعد الطبقة السياسية مسؤولة عن نهب البلاد، وليس رياض سلامة وأصحابه في المصارف مَن سرق الودائع، وليس محتكرو السوق هم من يتلاعب بالأسعار. إنّهم السوريون/ات وتمويلهم الآتي من مؤسسات دولية. وجدت هذه التهمة صدى في مجتمع له أصلًا قابلية لشتى أنواع العنصرية، ولم يُبدِ أيّ اعتراض على حفلات ضرب وقتل مدنيين سوريين في ليالي الانهيار.
بعد المثليين واللاجئين، سنجد كبش محرقة جديد، في مجتمع بات مهيَّأً لمختلف حفلات الهلع العنفيّ القادمة. فبعد ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الأهلية، لا يبدو أنّ هذا المجتمع قد طوّر أي حساسية تجاه العنف، أيّ رفض للعنف، ما عدا بعض سخافات العيش المشترك والتعايش المسيحي-الإسلامي. أو بكلام أوضح، انتشر هذا العنف في غياب أي اعتراض يذكر. أمّا العنف ضد «المصارف» في بداية الثورة، فقد لاقى من يندّد به بإسم السلم الأهلي والصورة الحضارية والضرورة الاقتصادية. أقتُلْ سورياً، لكن لا ترمِ حجراً على واجهة مصرف، وإن كان قد سرق ودائعك وودائع أهلك. أقتُلْ سورياً، فهذا أفضل للسلم الأهلي.
ربّما استسلم المجتمع بعد سنوات من الإذلال السياسي والاقتصادي للعنف. بات يتقبّل أي عنف بإسم استقرار ما أو أملاً بحلّ ما. أو بات الجميع يتقبل العنف الآن كمحاولة للهروب من حلقة العنف المقبلة: سيقف العنف عند حدود مجتمع الميم-عين، لن يطال العنف إلّا الأجانب، لن يصل العنف إلى هنا…
وبينما يردّد المجتمع هذه الترهّات لتطمين نفسه، لن ينتبه أنّه بات محكومًا من نظام الكراهية وبلطجياته على الموتوسيكلات، وأنّ الدور آتٍ على الجميع في الحلقة المقبلة من العنف. لم ينتبه، وقد يكون هذا هو الأهم، أنّنا بتنا جميعًا شركاء في هذا العنف، نبرّر وجودنا الآمن إلى جانبه، قبل أن نضعف وننضم إليّه. هكذا نكون قد انتقلنا من نظام الكراهية إلى مجتمع الكراهية.