الأيديولوجيا الدينية-الطائفية والنضال المدني المجتمعي
بقلم: طارق عزيزة
جهة النشر: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر
مدخل
يتناول هذا البحث مسألة النضال المدني-المجتمعي، انطلاقًا من التمييز ما بين الوعي المواطَني/ المدني والوعي الديني/ الطائفي، وتأثير كلّ منهما في النضال المدني، إيجابًا أو سلبًا. فمن خلال الأوّل (الوعي المواطَني)، يعي الشخص (ذكرًا أو أنثى) ذاته بوصفه مواطنًا ينتمي إلى دولة بعينها، ويتشارك هذا الانتماء مع سائر المواطنات والمواطنين، بصرف النظر عن تحديداتهنّ وتحديداتهم الهوياتية الأخرى، ما قبل المواطَنية، ولا سيما الدينية أو المذهبية، ما يرتّب جملة حقوق وواجبات متساوية، نظريًا على الأقل. أما الثاني (الديني/ الطائفي)، فيُقصَد به الوضعية التي يتخذ فيها الشخص من انتمائه إلى دين أو طائفة ما، محدِّدًا هوياتيًا أساسيًا، فيضبط أولوياته وسلوكه وخياراته، ومن ضمنها الخيارات السياسية، وفقًا لهذا المحدِّد، والذي تتأسّس عليه ضروب من التمييز والتفاوت في الحقوق والواجبات، نظريًا وعمليًا، ما بين أتباع هذا الدين أو الطائفة، وبين نظرائهم من أديان وطوائف أخرى.
عند مقاربة الحالة السورية من هذا المنظور، يُلاحَظ أنّ ضمورَ الوعي المواطَني/ المدني وطغيان الوعي الديني/ الطائفي، وسواه من أشكال ما قبل المواطَنة (المناطقية، العشائرية… إلخ)، كان من الأسباب التي أدت إلى غياب النضال المدني – المجتمعي الفعّال في سياق الثورة السورية. وإذ أدّت عقود الاستبداد المديدة إلى تغييب المجتمع المدني، أحد الروافع الأساس في تحفيز النضال المدني وتنظيمه، فإنّ الثورة شكّلت فرصة لظهور عدد لا يحصى من المنظمات والمؤسسات تحت مسمّى “منظمات مجتمع مدني”، لكنّها على كثرتها لم تؤثّر في الحراك المجتمعي، نتيجة افتقارها إلى المقومات التي تجعلها تجسيدًا حقيقيًا لا اسميًا فقط للمجتمع المدني.
يناقش البحث جدلية العلاقة بين إمكانية النضال المدني وبين تجاوز الوعي الديني/ الطائفي إلى الوعي المواطَني، في مجتمع متعدّد الأديان والطوائف كالمجتمع السوري. ذلك أنّ الأيديولوجيا الدينية/ الطائفية إذ تُستَغلّ سياسيًا، تُشكّل عامل تفرقة يستثمره المستبدّون (حكّامًا أو ساعين إلى الحكم بمشاريع استبدادية) لإنهاك المجتمع وتسهيل السيطرة عليه، وتشكّل عائقًا أمام النضال المدني، الذي يتطلّب اجتماع مواطنات ومواطنين، بصفتهم هذه أولاً وأخيرًا، على قضايا وأهداف تمسّ شؤون حياتهم مباشرة، من دون اعتبار للأديان والطوائف، بحيث تنضبط البوصلة السياسية، وتتحدّد وجهتها بدلالة المصالح المشتركة، وليس استنادًا إلى انتماءات هوياتية “ثابتة”، ومتحاجزة. هذا يقود إلى تكامل فكر المواطَنة على المستوى النظري والنضال المدني على أرض الواقع، وتلازمهما من أجل تحقيق المواطَنة المتساوية دستوريًا وقانونيًا.
يعتمد البحث المنهج الوصفي التحليلي، فيعاين فرضيته في ضوء الواقع السوري، لتبيّن بعض الأسباب التي أعاقت تبلور حراك مدني حديث. على هذا الأساس، يندرج الموضوع ضمن سياق محاولة فهم ما جرى في سورية، وتَبيُّن مدى أثر هيمنة الوعي الديني/ الطائفي، على الصعيدين السياسي والمجتمعي، في إجهاض محاولات التغيير، ومن ثَمَّ يفترض أنّ الخروج من الاستعصاء الراهن يتطلّب التمسّك بالمواطَنة المتساوية وقيمها المدنية هدفًا عامًّا، يستنهض الفاعلية المجتمعية لدى السوريات والسوريين.
أولاً: مقدمة
لا يمكن تفسير مجريات الحدث السوري الكبير، أي ثورة آذار (مارس) 2011 وما تلاها، بالرجوع إلى سبب مفرد، فالأسباب متعدّدة ومتداخلة، وإنْ اختلف ترتيبها من حيث الأهمية أو حجم التأثير وفق منظورات الباحثات والباحثين المختلفة. يميل خطاب النخب السياسية والثقافية المعارِضة بوجه عام، إلى ربط ثورات الربيع العربي والثورة السورية ضمنًا، بالحقوق السياسية وقضية الحرية والإصلاحات الديمقراطية، فيما يحيلها خطاب الأنظمة الحاكمة إلى عوامل خارجية في هيئة “مؤامرة” على البلاد. وقد كشف تطوّر الأحداث عن شيء من التفارق بين نشاط نُخب المعارَضة، والحراك الشعبي، “وهو ما كان يبعدها عن الشعب أكثر فأكثر، ويقود إلى أن يهيمن على النشاط السياسي القوى الأقوى في الواقع، والتي كانت القوى الأصولية”[1]. بمعنى أنّ تفوّق الإسلاميين من حيث تحالفاتهم العابرة للحدود وإمكانياتهم المالية والتنظيمية، أتاح لهم التغلغل في الأوساط الشعبية، من خلال المساجد وشبكات “العمل الخيري”، الذي جعلهم على تماس مباشر مع الناس ومشكلاتهم اليومية، وهو ما افتقدته القوى السياسية الأخرى، في سورية وفي غيرها من بلدان الربيع العربي.
تشمل المطالب الحياتية الشرائحَ الشعبية معظمها، بصرف النظر عن الولاءات السياسية أو الانتماءات الدينية والطائفية، فالأزمات المعيشية المزمنة والخانقة، التي كانت تثقل كاهل عموم السوريين وتؤرّق عيشهم، منذ ما قبل ثورة 2011، لم تكن تستثني هذه الفئة أو تلك منهم. فلماذا، إذن، لم تفلح أوضاعهم المتردّية في توحيدهم، وهُم في الفقر سواء، لمواجهة السلطة التي تنهبهم وتفقرهم وتسبب شقاءهم وبؤسهم؟ جانبٌ رئيسٌ من الإجابة يعود إلى استراتيجية نظام الاستبداد نفسه، في العمل الممنهج طيلة عقود، ليس على تخويف الشعب وقمعه فحسب، بل على تذريره ومنع إمكانية اتّحاد فئاته المختلفة، أو التقائها على مطالب وأهداف مشتركة. وبالتالي، أعاد الاستبداد إحياء مقولة “فرّق تسُد” الاستعمارية، لتصبح هذه المرة في خدمة سلطة ترفع شعارات العروبة والوطنية ومقاومة الاحتلال. فالأنظمة القمعية لا تضمن استمرارها في مجتمع متماسك، وهي “ترث عن الاستعمار الأسلحة ذاتها التي كان يستخدمها، ومن ثم فإن التمزّق الاجتماعي أو التفريق الديني أو الطائفي أو العرقي، وإحياء الانتماءات التي من هذا النوع، مما نراه في المجتمعات المقموعة هو نتاج هذه الأنظمة بمقدار ما هو سلاحها”[2]. ويأتي تحطيم المجتمع المدني في مقدّمة الوسائل التي تتيح لأنظمة الاستبداد تحقيق التفتيت المجتمعي المطلوب.
كانت المبالغة الإنشائية المتمحورة على الشعارات القومية الكبرى و”الأمّة العربية الواحدة”، جزءًا من أدوات نظام الأسد في التعمية على سياسته الفعلية، والتي تقوم على نشر التفرقة وتشييد الجدران والحواجز اللامرئية بين أفراد الشعب السوري، وبثّ المخاوف والهواجس المتبادلة لدى الجماعات الدينية والطوائف المختلفة، مما أدّى إلى تعميق التعصّب للانتماءات الهوياتية الضيّقة وازدهار ثقافة الولاء للجماعة العصبية والذوبان في سديمها، على حساب استقلالية الأفراد وخياراتهم الأصيلة الحرّة.
يشلّ نظام الولاء، أو يحدّ على أقل تقدير من فعالية أيّة بنية يهيمن عليها، “ذلك أن هذا النظام في وضعه الامتثالَ قبل الأصالة، والطاعة قبل الاستقلال الذاتي يقضي على موهبة الإبداع، وينمّي فقط تلك القوى التي تساعد في الإبقاء عليه”[3]. هذا يلغي فاعلية الفرد، فالعصبيات “لا تعيش إلا على التهام أفرادها وتذويبهم في بؤرتها، تتغذى بانتمائهم إليها وولائهم لها وذودهم عنها، من دون هذا الالتهام تذوي وتضمر وقد تموت. فهي أشبه ما تكون بالثقوب السود، تمنع أفرادها من الانطلاق في الفضاء العام والتفاعل مع نظرائهم. الأفراد هنا مجرد أدوات لا كيانَ مستقلاً لأي منهم، لأن استقلالهم هو ضعفها والسبيل إلى موتها”[4].
وقيم الخضوع والتبعية والولاء التي تكرّسها العصبيات الهوياتية، هي من القيم الأبرز في نظام الاستبداد، مقابل الأنظمة الحرّة وقيمها التي تنمّي استقلالية الأفراد وحرياتهم وتغتني بها. إنّ كلاً من التبعية والاستقلال الذاتي يعدّ نظام قيم وتشكّل اجتماعي، “وفي حين ترتكز التبعية إلى الخضوع والطاعة وتنهض على أخلاقية السلطة، يقوم الاستقلال الذاتي على الاحترام المتبادل والعدالة، ويعتمد على أخلاقية الحرية”[5]. وبحسب موريس دوفرجيه “في ثقافة الخضوع يعرف أعضاء النظام وجوده، ولكنهم يبقون سلبيين إزاءه. فهو خارجهم بشكل من الأشكال. ينتظرون منه الخدمات أو يخافون التجاوزات، لكن دون أن يعتقدوا بإمكانية تغيير سيرورة النظام بصورة محسوسة. أما في ثقافة المشاركة فعلى العكس، يعتقد المواطنون أنهم قادرون على تحويل مسيرة النظام بوسائل متنوعة: الانتخابات، المظاهرات، العرائض، تنظيم مجموعات الضغط، الخ”[6]. وتتعلّق ثقافة الخضوع “ببنية سلطوية وممركزة، في حين تتعلق ثقافة المشاركة ببنية ديمقراطية، باعتبار أن المشاركة هي عنصر جوهري من المواطَنية”[7].
على هذا النحو، فإن قيم السلطة وأخلاقياتها المرتكزة على الولاء والطاعة، وخصوصًا عندما يختلط فيها السياسي بالديني/ الطائفي، هيمنت في المجتمع السوري بفعل الاستبداد المديد، فأعاقت نشوء بدائل مدنية تحمل قيمًا نقيضةً لبنى النظام وقيمه، قادرة على تهديد أسسه بشكل جدّي. بعبارة أخرى، أدّى تكريس الانتماءات الضيّقة والولاءات العصبية لدى فئات الشعب السوري المختلفة دورًا رئيسًا في الحيلولة دون تبلور حالة مدنية نضالية منظمة وعريضة في سورية، تعبّر عن مواطنين أحرار، تجمعهم مصالح مشتركة عابرة لتنوّع هوياتهم الدينية والطائفية وسواها. فاستنهاض الانتماءات التفتيتية، من قبل النظام وفئات بارزة في المعارضة، لم يفعل سوى صبّ الماء في طاحون الاستبداد، عبر تعزيز قيمه السائدة.
استثمر نظام الأسد في تسييس الهويات الدينية والطائفية، لشدّ العصب الطائفي لدى قطاعات من السوريات والسوريين، وإيهامهم أنّه ممثلّهم “الطبيعي” وحاميهم، في منطقة تزخر بالعصبيات المتناحرة، مما طمس الجذر الحقيقي للتناقض الحاصل بين سلطة الاستبداد والنهب وبين الشرائح الشعبية، في أبعاده الاقتصادية الاجتماعية ذات الجذر السياسي. وجاء خطاب الفئة الأعرض وسلوكها من معارضي النظام الإسلاميين، ليكمل ما بدأه في تحويل الصراع السياسي الاجتماعي إلى تناحر طائفي.
ثانيًا: من الوعي المواطَني المدني إلى التسييس الطائفي
تطوّرت فكرة المواطَنة في العصور الحديثة، ولم تعد مجرد دلالة على الانتماء إلى وطن محدّد أو حمل جنسية دولة ما. ومع عصر الحداثة والقيم التي جاء بها، وبخاصّة في أجواء الثورة الفرنسية وصدور إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789)، تأسّست فكرة المواطَنة الحديثة القائمة على المساواة والحرية، وطُوِّبَت الشعوبُ مصدرًا للسلطات، بعد قرون من سلطة الملوك الاستبدادية المقدّسة باسم “الحق الإلهي”. ولم يعد للدين من دور سياسي في دولة المواطَنة الحديثة، فقد أُعيد إنتاج مفاهيم الوطن والمواطَنة والوطنية “بدلالة منطق الحداثة ومقولاتها المركزية، كالإنسية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية والمجتمع المدني والدولة السياسية، أي الدولة الحديثة وحرية الفرد وحقوق الإنسان”[8].
إنّ تعدّد الأديان والطوائف مؤشّرٌ على التنوّع والغنى الثقافي في المجتمع المعني من حيث المبدأ، لكنّ استخدامها والتلاعب بها لغايات سياسية وسلطوية يقع على النقيض مما سبق، إذ يضرّ بالدين وبالمجتمع معًا. وقد ميّز فالح عبد الجبار بين “الطائفية كحدود ثقافية للجماعات كانت سابقة لنشوء الدولة الحديثة”، وبين “التسييس”، الذي وصفه بأنه “ظاهرة جديدة بدأت نذرها الأولى في أواسط سبعينيات القرن المنصرم، واكتسبت زخمًا هائلاً بعد صعود الإسلام السياسي والثورة الإيرانية عام 1979، وبلغت مدى هائلًا من التسييس والعسكرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق”[9]. كانت سورية سبّاقة في معايشة ظاهرة التسييس الطائفي التي أشار إليها عبد الجبار، بدءًا من ستينيات القرن الماضي، بعد استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي وعسكره على السلطة، وبصورة أكبر منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين وانفراده بالحكم مطلع السبعينيات حتى وفاته عام 2000، وهو ما استمرّ في عهد الأسد الابن. فالتوظيف السياسي للدين أحد أبرز أدوات نظام الأسد في توطيد حكمه، بمثل ما كان جزءًا من خطاب التحشيد والتحريض ضدّ السلطة البعثية ثم الأسدية، من قبل المعارضة الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، حيث خاضت أولى مواجهاتها المسلحة ضدّ “البعث الكافر” في ربيع عام 1964، وأعادت الكرّة في وجه “النظام النصيري” أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات[10].
هيمنت أجهزة النظام الأمنية على أشكال الحياة العامّة كافّة، وحُظِر أي شكل من العمل المجتمعي المنظم، ما لم يكن ملحقًا بالسلطة أو تحت إشرافها أو بعلمها وموافقتها الضمنية على الأقل. هذا ما جرى للأحزاب السياسية، من خلال تدجينها في إطار كيان تأسس سنة 1972، تحت اسم “الجبهة الوطنية التقدمية”، للإيحاء بتعددية سياسية زائفة، وكان مصير من رفضوا دخولها النفي أو الاعتقال أو التخفّي هربًا من الملاحقة. بعد ذلك، جاء دور النقابات والاتحادات المهنية، حيث جرى حلّ مجالسها المنتَخَبة واعتقال بعض كوادرها وتعديل أنظمتها، لتصبح تابعة للسلطة التنفيذية وحزب البعث، تديرها شخصيات معيّنة من قبل السلطة، في سياق حملة إخضاع المجتمع السوري بصورة نهائية، تزامنًا مع المواجهة المسلحة بين النظام والإسلاميين. لقد قضى نظام الأسد على الحياة السياسية ونشاط تشكيلات المجتمع المدني معًا، وبالتالي منع إمكانية اجتماع مواطنات ومواطنين من انتماءات دينية وطائفية وقومية مختلفة ضمن أطر مدنية علنية، تقوم على مشتركات سياسية أو حتّى مطلبية وخدمية. ذلك أنه “تاريخيًا، كانت هاتان القوتان (اتحادات العمال والأحزاب السياسية) أداتين هامتين لتأطير الجماهير وتنظيمها في الحياة السياسية. ولم تكونا أداتين فقط لتنظيم الاحتجاج الشعبي، بل وكانتا قناتي نقل وجهات النظر الشعبية إلى المعترك السياسي”[11].
تَرافَق تغوّلُ سلطة الأسد على المجتمع السوري بهذا الشكل الممنهج مع نوع من تعبئة جماهيرية “لا سياسية في جوهرها”، فالأنظمة المتسلطة ومنها النظام السوري “تسعى كي ينخرط السكان، أو فئات منهم على الأقل، في الحياة العامة من خلال المشاركة في المنظمات والطقوس الرسمية للنظام. فتتأسس سلسلة من الهيئات لتنظيم وإقامة أنشطة عامة مثل منظمات الشبيبة والنساء واتحادات العمال والرياضيين وما شابه ذلك. الهدف من تشكيل مثل هذه الهيئات هو إشغال عامة الناس في أنشطة غايتها في الحقيقة دعم النظام عبر بنى ومؤسسات رسمية، ومن خلال المشاركة في طقوسه ومناسباته كالمسيرات والمهرجانات والاحتفالات والانتخابات… إلخ، الهدف الأخير من ذلك هو تفريغ الحياة العامة من السياسة وتحويلها إلى احتفال عظيم بالنظام وإنجازاته”[12]. وأمام هذا التدمير أو الاحتواء المنظّم من قبل الدولة للمؤسسات المجتمعية على اختلافها، لم يعد “التحوّل الحضري – الطبقي للمجتمع يدفع الفئات الهامشية نحو اليسار، وبخاصة الشرائح القروية المهاجرة التي تجد في المدينة أحزابًا ونقابات تحتضن مطالبها وتظلّماتها” كما في السابق، فتوَجّهَ احتجاج الشرائح المتضررة “إلى الدين والقبيلة وإلى الجوامع وشيوخ القبائل. وتحول الخطاب الاحتجاجي من لغة الاقتصاد (التفاوت الطبقي)، والسياسة (غياب الديمقراطية)، إلى خطاب التكفير والطائفية”[13].
ثالثًا: الأيديولوجيا الدينية/ الطائفية والنضال المدني
في ذروة المد الإيديولوجي للتيار القومي العربي أواخر خمسينيات القرن الماضي، بدأت تضمحّل فكرة “الجمهورية السورية” لصالح أحلام أو أوهام إيديولوجية عابرة للحدود، وكان استقلال البلاد أحد ضحاياها في سنوات الوحدة السورية – المصرية، التي عُرِفت باسم “الجمهورية العربية المتحدة” ولم تدم سوى ثلاث سنوات. ثم مُسِخت القومية العربية نفسها في “دولة البعث” بعد استيلائه على السلطة، وانتهى الحال بالبلد إلى اختزالها في “سورية الأسد”، وأصبحت “الوطنية” تعني الولاء للسلطة وتمجيد “القائد”. لم يبقَ متّسع يُذكَر لهوية سورية وطنية جامعة بفعل تلك التحولات، فازدهرت العصبيات كافّة، مجسّدةً ما يسمّيه أمين معلوف “الناحية المضلِّلة في الهوية”، حيث يستعيض الإنسان عن الهوية بعنصر ما منها، “ويعتبر أن هذا العنصر، سواء كان دينيًا أو قوميًا، يختصر أو يختزل كلّ الهوية، بينما الهوية مركّبة من عناصر عدّة”[14]. وموضوع “وعي الهوية” ليس شأنًا نظريًا عابرًا، فهو يؤدّي دورًا هامًا في تعيين توجّهات الأفراد وخياراتهم وأدوارهم في الحياة العامّة: هل يعي المرء ذاته ويعرّف هويته من موقع طبقي، حقوقي ومدني، أم أنّ الأولوية تكون للانتماء الديني/ الطائفي (أو حتى القومي والمناطقي والعشائري)؟ ومن ثمّ، هل يتصرّف بوصفه مواطنَا مستلب الحقوق، ومفقرًا بفعل نظام أمني متسلّط، نهّاب وفاسد، فيبني موقفه من النظام ويؤسس علاقاته مع المواطنين الآخرين على هذا الأساس، أم أنّه سينطلق في خياراته واصطفافاته السياسية من هوية الانتماء الديني والطائفي له ولهم؟
تتوسّل أنظمة الاستبداد والتسلّط كلّ ما من شأنه إدامة سيطرتها واستبدادها، والطائفيّة من الوسائل الناجعة في استمرار تسلّط المستبدّين. نظام الأسد يفهم هذا جيدًا، ويدرك أنه من أجل القضاء على أشكال العمل المدني المنظّم الذي من شأنه أن يوحّد فئات محرومة اقتصاديًا وسياسيًا، ويدفعها للسعي نحو أهداف مشتركة، لا يوجد ما هو أفضل من دفع جماعات مختلفة في انتماءاتها الدينيّة والمذهبيّة إلى التباغض والتناحر فيما بينها[15]. ومما يساعد في انتعاش العصبيات المختلفة في المجتمع المقموع انعدام الأمن الشخصي والغذائي، لأنه “يصيب أبناء المجتمع بالذعر، ويدفعهم إلى الارتداد نحو انتماءاتهم الأولى لكي يحسوا بالأمان، أو يبحثوا عن الحماية، وفي هذا الارتداد ردّة حضارية مريعة؛ لأنه في الوقت ذاته تمزيق للمجتمع الذي كان يحاول أن يتقدم ليتعايش على مبادئ المواطنة بدل مبادئ الانتماءات العائلية أو العشائرية أو الدينية أو الطائفية أو الجغرافية”[16].
قد يحقّق المرء أمانه الشخصي والغذائي، من خلال اللجوء إلى الجماعة العصبية، لكن هذا يبقى حلاً مؤقتًا، لن يغيّر من واقع عام يتردّى أكثر فأكثر. الخطير في الأمر أنّ هذا الخيار، ولأسباب ترتبط بخلاف واختلاف هوياتي حقيقي أو متخيّل، سيعيق التلاقي مع “الآخرين” للعمل معًا بهدف تحقيق حلول مستدامة للمشكلة المشتركة. بوجه عام، ترتّب هذه الانتماءات نتائج بعيدة الأثر، لها انعكاساتها السلبية على المجتمع، فالعصبيات تحصر التزامَ أفرادها الأخلاقي ضمن بنيتها الداخلية إلى حدّ كبير، خلافًا للأخلاق المدنية التي تقوم على فكرة المواطَنة والتشاركية والحقوق المتساوية. وقد لاحظ هشام شرابي أنّ “الأخلاق العصبية بسيطة ومحدودة، فالالتزامات داخل البنية القبلية محددة بدقة، أما خارج تلك البنية فليس هناك التزامات أخلاقية أو اجتماعية محددة بوضوح، ما عدا تلك الطارئة أو التعاقدية منها”[17].
ستقف هذه العصبيات عائقًا أمام نشوء نضال مدني عابر لها، فالنضال المدني مرتبط بقدرة الفرد على المبادرة، وتبنّي مواقف تنبع من ذاته الحرّة المستقلّة، وهذا ما يجعل من أفراد مختلفين في انتماءاتهم الدينية والمذهبية شركاء في العمل على أهداف مشتركة، تنطلق من ظروفهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتشابهة ذات الجذر السياسي نفسه. مردّ ذلك أنّ “الفرد الذي فنيت ذاته أو ذابت في الجماعة، حتى بات لا يعرِّف نفسه ولا يعرِّفه الآخرون إلا بها ومن خلالها، تغدو الجماعة المعنوية، التي أذابته في سديمها، ذاته وقوام شخصيته، وهذا ما يسمى تماهي الفرد والعَصَبَة، فالعصبة هنا قوام الفرد، والعصبية ذاته، وما يحدد علاقتها وعلاقته بالأخريات والآخرين، والتعصب من أبرز علاماته الفارقة. لذلك كانت العصبة والعصبية متناقضتين مع استقلال الفرد وحريته ومع كيانه الإنساني”[18].
هكذا، ارتفعت الأسوار والحواجز بين كل “جماعة” والجماعات الأخرى في سورية، وغدا من الصعب إحياء المشتركات المدنية بين أفراد الشعب، أو إدراك حقيقة أنّهم في البؤس سواء. ظهر هذا جليًا بعد ثورة 2011، حيث لم يطل الوقت حتى أرخت هذه المعطيات بظلالها القاتمة على المشهد، ليتراجع هتاف “الشعب السوري واحد، تدريجيًا، وتحلّ محلّه شعارات دينية وخطاب تحريض وتجييش طائفي متبادل، واستسهل كثيرون إطلاق أحكام مسبقة على جماعات بأكملها، استنادًا إلى الهوية الدينية والطائفية.
اشتُهِرَ النظام السوري بأنه موارب في طائفيته، قبل الثورة وبعدها، فهي أداة من بين أدوات عديدة يستخدمها في تثبيت سلطته، وليست مشروع طائفة بعينها على نحو ما يشيع بعض خصومه. ومع تكرار ادّعاءاته الوطنية واستحضار نظرية المؤامرة، لم يوفّر جهدًا في إلباس الصراع ثوبًا طائفيًا منذ أيام الثورة الأولى، ساعده في ذلك خطاب فئات من معارضيه وسلوكهم دعمًا لسرديته. فقد هيمنت قوى إسلامية على إعلام المعارضة السورية وهيئاتها السياسية والمدنية، وروّجت شعاراتها وأيديولوجيتها الدينية لاستنفار العصبية المذهبية لدى “الجماعة” التي تزعم تمثيلها، بصورة تضفي طابعًا دينيًا/ طائفيًا على الصراع، وهذا ينسحب على أي عمل عام، سياسي أو مدني. فالتعبئة على أساس العقيدة الدينية “تتجه نحو تنمية خطاب (عبر طبقي) أساسًا، بمعنى أنه ينفي شرعية أية تعبئة تعمل على أساس معايير اجتماعية”[19]، والأصوليات الدينية “تؤكّد على تصنيف أفراد المجتمع تبعًا لوجودهم الروحي (العلاقات الدينية) بدل تصنيفهم تبعًا لوجودهم الاجتماعي (العلاقات الاجتماعية)، وعليه فإنها تنسخ مقولتي الطبقة والأمة وتحل مكانهما مقولة الجماعة الدينية”[20]. وهكذا، بدلاً من الانتماء لمشتركَات المواطَنة والتفكير في هموم اجتماعية واقتصادية جامعة، تبرز هويات الأفراد الدينية والطائفية، على حساب عضويتهم في الدولة وروابط المواطَنة، التي يٌفترَض أنّها تجمعهم، أو هكذا ينبغي أن تكون، وعليهم العمل لجعلها كذلك.
رابعًا: “منظمات مجتمع مدني” في غياب المجتمع المدني
من تعريفات المجتمع المدني أنه “المجتمع الذي يضم جماعات حرة مستقلة يلتقي أفرادها حول آراء وضروب أنشطة ويعملون من أجل تأكيد مصالحهم والدفاع عنها؛ بما في ذلك ضد السلطة. يعني ذلك أن تقوم في المجتمع إمكانية لمناقشة عامة علنية للقضايا ومساءلة حول السياسة العامة يجري تداولها بشكل واسع داخل المجتمع ولا تقررها نخب النظم وحدها”[21].
انطلاقًا من هذا التعريف، لا يحتاج المرء كبير عناء للجزم بأن سورية تفتقر إلى مجتمع مدني حقيقي منذ استيلاء حزب البعث على الحكم، وبصورة أكبر بعد انفراد حافظ الأسد بالسلطة وتأسيس نظامه. وليست مبادرة عدد من المثقفين والنشطاء السياسيين السوريين بتأسيس “لجان إحياء المجتمع المدني”، بعد وفاة الأسد الأب، إلا دليلاً على حالة موات المجتمع المدني في سورية، ومن ثَالمّ ضرورة العمل على إحيائه. لم يتأخّر النظام في قمع المبادرة وإجهاض الحراك الثقافي والسياسي الذي تلاها وعُرف باسم “ربيع دمشق”، في استمرار لنهجه الثابت في رفض فكرة المجتمع المدني بالمطلق.
على الرغم من أهمّية دور “لجان إحياء المجتمع المدني” في التعبير عن الحاجة إلى كسر الجمود السياسي، لكنّها بقيت محصورة في حدودها النخبوية من دون حضور أو تأثير يُذكر في القطاعات الشعبية الأوسع. ذلك أنّ هيمنة نظام الأسد وتسلّطيته المفرطة منعت بروز قوى مجتمع مدني وعناصر سياسية تؤيّد الديمقراطية في المجتمع، و”كلما كانت هيمنة الدولة شاملة وقوية تكون فرص بروز قوى مستقلة أقل. وعلى العكس كلما كانت الهيمنة على المجتمع أضعف تكون الإمكانات والاحتمالات لنشوء قوى مستقلة متطورة أقوى”[22].
جاءت الثورة في ربيع عام 2011 لتخلخل أركان النظام لبعض الوقت وتضعف من قبضته نسبيًا، مما فتح المجال أما حراك شعبي غير مسبوق، كان من بين تعبيراته الرائدة تجربة التنسيقيات والمجالس المحلية في بداياتها. وقد عمل الناشط الراحل عمر عزيز على وضع تصوّر لتنظيمها ومأسستها منذ أواخر عام 2011، ساعيًا إلى الربط بين “الحراك الثوري والأنشطة الحياتية للبشر”، من خلال “تشكيل مجالس محلية من أفراد يحملون ثقافات متنوعة وينتمون الى شرائح اجتماعية مختلفة، تعمل على تحقيق الآتي: “مساندة البشر في إدارة حياتهم بشكل مستقل عن مؤسسات وأجهزة الدولة (وان بشكل نسبي)، تكوين فضاء للتعبير الجمعي يدعم تعاضد الأفراد ويرتقي بأنشطتهم اليومية الى التعامل السياسي، تفعيل أنشطة الثورة الاجتماعية على مستوى المناطق وتوحيد أطر المساندة”[23]. يجسّد هذا التصور شعار “المشاركة الديمقراطية”، الذي تقول عنه حنّة أرندت “إنما ينتمي إلى أفضل ما في التقاليد الثورية: نظام المجالس الذي كان على الدوام، النتاج الأكثر أصالة – رغم انهزامه الدائم – لكل عمل ثوري منذ القرن الثامن عشر”[24].
لكن في الواقع سرعان ما أجهضت مقترحات عزيز الطموحة بشأن المجالس، فقد خرجت الأمور من أيدي نشطاء الداخل لصالح جهات سورية وغير سورية تعمل من الخارج، فرضت أجنداتها بقوّة المال والإعلام. وللمفارقة، فإنّ نشاط معظم الهيئات المدنية التي تشكّلت في أعقاب الثورة أُفرغ من مضمونه المدني وأفقه السياسي على يد فريقين متعارضين نظريًا، الأول هو قطاع من المعارضة السورية يحمل أجندات أيديولوجية طائفية مدعومة إقليميًا، والثاني منظمات دولية ترفع شعارات تحرّرية وحقوقية وحداثوية. فإنّه من خلال التمويل المشروط، فرض كل منهما أولوياته على التشكيلات المدنية الناشئة التي ارتبطت به، فجعلها كيانات مسلوبة الإرادة ومنزوعة السياسة، لا يتعدّى تأثيرها المدى الذي يريده الممول، وعلى النحو الذي يرسمه.
ما سبق يجعل من وصف منظمات كهذه بأنها “قوى مجتمع مدني” بعيدًا عن الدقة والموضوعية، لأنّ قوى المجتمع المدني تنبثق “استجابة لحاجة الناس لممارسة مصالحهم الجماعية داخل المجتمع العريض، وتبرز من خلال ظروف حيواتهم وعلاقاتهم مع بعضهم والتحديات التي تواجههم”[25]، وهو ما لا يتوفر عليه حاليًا معظم ما يسمّى “منظمات مجتمع مدني” سورية.
خلاصة
لا ينفصل نشاط الأفراد عن طبيعة وعيهم لذواتهم، ومن هنا تأتي أهمّية “وعي الهوية” في تحديد سمات النضال المدني والحراك المجتمعي. ولمّا كان من سمات النشاط المدني الأساسية، أنّه عابر للهويات الدينية والطائفية وسواها، فإنّ هيمنة الوعي الطائفي سيعيقه لا محالة، نظرًا لما ينطوي عليه من تعصّب، يلغي – أو يحدّ في أقل تقدير – إمكانية المشاركة بانفتاح وإيجابية ومصداقية، في أنشطة مدنية أو سياسية منظّمة، بعيدة عن انتماءات الأفراد الدينية والمذهبية. في المقابل، تؤسّس ثقافة المواطَنة والوعي المواطَني المدني لقيم المشاركة والتواصل والاعتدال، وغيرها من خصائص النضال المدني بأشكاله كافّة. فالمطالبة بالحقوق تقع في صلب العمل المدني، وهي في الوقت نفسه “تكوّن عنصرًا أساسيًا من ثقافة المواطَنة. أولاً لأن المطالبة تفترض حدًا أدنى من اندماج صاحب المطالبة مع الجماعة السياسية التي ينتمي إليها. ثم لأن عملية المطالبة تلجأ، أثناء تحقيقها، إلى ممارسات ذات طبيعة ترابطية، وتحصل على شرعيتها بطريقة نهائية باستنادها إلى التضامن بين مجموع الأفراد الذين يكوّنون المجتمع”[26]. وفي حين ينصبّ التفكير الديني/ الطائفي على مصالح الجماعة الدينية أو الطائفة المعنية، فإنّ المواطَنية تضمن الحقوق القانونية والسياسية للمواطنات والمواطنين كافّة، بصرف النظر عن الانتماءات الهوياتية.
ما جرى في سورية يكشف عمق العلاقة الجدلية بين الوعي الديني/ الطائفي والتعصّب الهوياتي وغياب قيم المواطَنة، وبين أفق الحراك المجتمعي ووجهاته المحتملة. ومع افتقار البلاد إلى مجتمع مدني حقيقي وإخفاق محاولات تأسيسه بعد الثورة ليطوّر الحراك الشعبي وينظّمه، أدّى انقسام المجتمع طوليًا على أسس هويّاتية إلى تغييب الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للثورة الشعبية السلمية.
لقد تفاقمت حالة الانقسام الديني والاحتقان الطائفي بفعل بروباغندا النظام وممارساته واستخدامه الطائفية من أجل شدّ عصب الموالين. وإنّ تحميله القسط الأوفر من المسؤولية عن ذلك لا يلغي حقيقة تبنّي فئات وازنة من المعارضة السياسية والمسلّحة خطابًا وسلوكًا طائفيًين صريحين، وهي بميلها إلى خوض الصراع من منظور إيديولوجي طائفي، عبّرت عن مشروع لا صلة له بالتطلعات الشعبية التي انطلقت الثورة من أجل تحقيقها.
إنّ تكامل المعطيات السابقة مع طغيان لغة السلاح منعَ نشوء قوى مجتمع مدني تجسّد روح النضال المدني، وتعبّر عن تطلعاته، فالتوحش الذي بدأه النظام في سحق المجتمعات المنتفضة، تلاه ظهور فصائل مسلحة خاضت مواجهات مفتوحة ضدّه، قبل أن تحكم قبضتها على مناطق خرجت عن سيطرته، وتفرض سلطتها على السكان بقوّة السلاح، في محاكاة لنهج النظام في استبداده وفساده. وعليه، يجدر الإقرار بأنّ مسألة معارضة نظام الاستبداد الأسدي وفي الوقت نفسه محاكاة ممارساته وتبنّي قيمه، تقع في صلب العوامل التي ساعدته على البقاء، لأنّ مساندة النظام تتجاوز الموافقة البسيطة على قواعده “إذ تتضمن كذلك الانتماء إلى القيم التي يقوم عليها”[27].