هرباً من التجنيد المفروض على كل الذكور السوريين، ومن ظروف معيشيةٍ لم تعد تشبه حياة الآدميين، يلجأ الشباب السوري اليافع اليوم إلى أي فرصةٍ تساعده على السفر، ولو إلى بلاد الواق واق..
وفي ظل التقييد الذي تفرضه معظم الدول بخصوص استقبال العمال السوريين، صار العراقُ ملجأً لا مناص منه لكل طامحٍ بحياةٍ كالحياة. إلا أن هذا الإقبال، ومحدودية الخيارات، شكَّل عند الكثير من أصحاب المنشآت ومكاتب العمل هنا وهناك -على حد سواء- فرصةً للاحتيال على الشباب الهائم على وجهه..
يحدثنا (أمجد، 23 عاماً) وهو طالب في كلية الآداب، قسم اللغة الإنكليزية: «قمت بإيقاف تسجيلي في الجامعة، وبدأت البحث على الإنترنت عن فرص للسفر, إلى أن نجحت في إيجاد فرصة عمل في مطعمٍ عراقي ضمن العاصمة بغداد، فتواصلت مع صاحب الإعلان، وهو شيف (سوري الجنسية) مسؤول في ذات المطعم، لأعلم منه أن مجموعة من الشباب يتهيأون للسفر ليعملوا في سلسلة مطاعم هناك ، فقام بضمي إلى مجموعة خاصةٍ بهم على تطبيق واتساب، وبدأت رحلة الانتظار إلى حين إتمام الإجراءات..
كان الاتفاق حينها أن تكون سيمة الدخول “الفيزا” لمدة سنة، قابلة للتجديد، بناءً على عقد عمل سنوي، وبراتب 600 $، يتم اقتطاع 100 $ منها شهرياً ثمن تكاليف السفر واستخراج الفيزا.
حين وصلنا -بعدصبر طويل- إلى بغداد فوجئنا بأن الفيزا التي بدأنا ندفع ثمنها على أنها سنوية، هي في الحقيقة مخصصة للزيارة أو “الحج”، ومدتها شهر فقط، وأن الشيف الذي نسَّق لنا أمور السفر يتعامل مع مكتب لاستقدام العمالة، ويريد 100$ شهرياً من كل عامل أتى به إلى العراق، ليتحول الراتب من 500 إلى 400$.
أخذوا منا جوازات السفر، ووضعونا تحت الأمر الواقع، قبل أن يأتي وباء كورونا، ومعه أشهر الحظر التي منعت التجمعات، فتوقف العمل في القطاع السياحي بنسبة 85% تقريباً، فأصبحنا نقبض عن الأيام التي نعمل خلالها فقط، مرة نصف راتب وأخرى ربع راتب.. وأصبح وجودنا في العراق مخالفٌ للقوانين، لأن إقامتنا انتهت، وبِتنا مهددين بالسجن أو الترحيل، وعاجزين حتى عن التجول في الأسواق لشراء حاجياتنا».
لجأنا إلى الجهات الحكومية هناك للمطالبة بحقوقنا..
يتابع أمجد: «حين تقدمنا بشكوى جماعية ضد صاحب العمل فوجئنا بأنه متنفذٌ ذو سلطةٍ كبيرة هنا، ولا يستطيع أحدٌ رده، وحين علِم بأمر الشكوى بدأ بالتضييق على من تبقى منا، فما كان أمامنا إلا التنازل عن حقوقنا مقابل استرداد جوازات السفر، والعودة إلى سوريا ، والبدء من جديد بالبحث عن فرصة سفرٍ أخرى».
حالة من العجز عاشتها مجموعة الشباب هذه قبل أن تتفتَّق أذهانهم عن حلولٍ بديلة، يقول رامي (24 عاماً) وهو طالب في كلية الحقوق: «حين وصلنا إلى العراق تم التنصل من معظم الاتفاقات التي حدثت بيننا وبين المنسقين قبل السفر بخصوص ساعات العمل والراتب والإقامة وجوازات السفر، فحاولت أن أجد مخرجاً يضمن استمرارية العمل، ويعوضني قليلاً عما خسرته، فتركت العمل وهربت من مكان الإقامة المخصص لنا، ولجأت إلى بعض معارفي هنا في بغداد، وحصلت -بصعوبة بالغة- على فرصةٍ عمل أخرى، مع حمايةٍ من الملاحقة القانوينة، لكنني للأسف لم أستطع أن أساعد أحداً من زملائي، لأن فرص العمل قليلة جداً، وتكاد تكون معدومة، في حين توصَّل بعض الشباب إلى اتفاق مع صاحب العمل يقضي بالتنازل عن بقية مستحقاتهم ودفع غرامةٍ لدائرة الإقامات لتجنُّبِ قرار منع الدخول، مقابل استرداد جوازات السفر والسماح للراغبين بالعودة إلى سوريا، وهذا ما حصل فعلياً مع الكثيرين، لكنهم خُدِعوا ثانيةً”.
عادوا إلى سوريا، وبدأوا البحث عن فرصةٍ أخرى، فلم يكن أمامهم سِوى أربيل، إلا أنهم فوجئوا -بعد ما وصلوا مطارها- بأن أسمائهم معممة على كافة المنافذ الحدودية العراقية، بموجب قرار منع دخول صادر عن إدارة الإقامات، فتم إعادتهم إلى سوريا، ليخسروا بذلك ثمن الفيزا الجديدة وبطاقة الطائرة، أي كل ما جنوه في رحلتهم الأولى إلى بغداد»
وكأن الحرب تتفق مع الأقدار، ومع بؤسٍ يرافق السوري أينما حل، فوطنه “كالحسامِ المهنَّدِ”، ومعظم الطعنات التي يتلقاها تكون من سوريٍ آخر.. لتغدو بذلك “أشد مضاضة” من كل ما مرَّ عليه..
Add Comment