السلطة لا تضحك. وجهها متجهم، لكنها تتقن جيداً – دون قصد – أن تجعلنا نضحك. في مؤشرات الضحك النتيجة: «واحد – صفر» لصالحنا.
فلنضحك ضحكاً مجلجلاً مع كل خبر نسمعه، أو قرار يلقونه في وجوهنا. هناك من يقول إن الفكاهة «مأساة أضيف إليها مرور الزمن»، وكم من زمن مر على مآسينا حتى إننا لم نعد نذكر سببها! بل تشغلنا تلك التفاصيل الصغيرة التي تتعلق بنتائجها.
الأكثر إثارة للضحك هو تأقلمنا وقدرتنا العجيبة على التحمل، أن تستيقظ ليلاً على أمل أن تعمل وتستحم، وتحوّل نهارك ليكون وقت النوم هو ذروة الإخضاع لما هو منافٍ للطبيعة والحياة، ثم فجأة يقطعون الكهرباء حتى في الليل، ما الروادع الداخلية للحقد والغضب الذي سيتملكنا إن لم نضحك؟!
إنه وقت الضحك. الضحك على أنفسنا، على حياتنا التي تبدو أقرب إلى حياة إنسان بدائي في عصور متقدمة.
«كوميديا» يومية
«أيتها الحكومة الموقّرة لا تهمني قراراتك بعد الآن، لن تعودي موجودة بالنسبة لي، سأنتحر».
يبوح لي هاني – وهو شاب في الرابعة والعشرين من عمره – بما يشغله هذه الأيام، هو العاجز عن إكمال دراسته، أو إيجاد عمل، وكل ما يسيطر على تفكيره أن يكتب رسالة انتحار منمقة «تحرك الرأي العام».
فكرة الرسالة تشغل دماغ هاني، يتخيل جميع السيناريوهات المحتملة لانتحاره، وكيف سيتناول قطعة من الشوكولا غالية الثمن، ثم يستحم بماء شديد السخونة قبل انتحاره، مصوراً جميع أفعاله بفيديو توثيقي، لينتشر ويؤرق الحكومة. يتخيل ذلك بشكل يومي، ويحدِّث الجميع به ضاحكاً، من دون أن تتضح جديته من عدمها.
على الأرجح يستحيل على أي مخرج الآن أن يصنع عملاً كوميدياً يثير شهيتنا للضحك، غالباً سنضحك منه، ومن القصور الذي يعانيه الفن في بلادنا عن مجاراة زخم الضحك في حياتنا، خاصة أن الكوميديا الفنية المسموحة في سوريا هي تلك التي تريدها السلطة: كوميديا باهتة وخائفة، لا تنتهك تجهّماً، ولا توهن عزيمةً، ولا تمس هيبة.
مشهد واحد في إحدى ساحات دمشق والجموع تركض وتقفز نحو الباص أو «السرفيس» بينما تتعالى أصوات السائقين بابتكارات من الألفاظ النابية والشتائم، يفوق معظم ما قد تقدمه الدراما، بل وحتى السينما العالمية، وبالطبع ستكون بعض تعليقات القافزين والراكضين على حالتهم مضاهية لأجمل النصوص الكوميدية.
يقول لي أحمد وهو شاب في الخامسة والعشرين: «خلال الشهرين الماضيين اكتسبت ليونة لا مثيل لها بفضل التدريب المتواصل على القفز من الشباك إلى داخل السيرفيس، صرت قادراً على فعلها ببراعة وسهولة، حتى إنني أفكر في إقامة ورشة تدريبية أعلّم فيها اكتساب هذه المهارة».
تعذيب كوميدي
بمراقبة بسيطة للشارع يتضح للمراقب/ـة أننا قوم لا نعبأ بأحد ولا يوقفنا شيء، لا ننبهر بما يحدث خارج عالمنا الضيق هنا، ونقابل كل شيء بتكتيك واحد هو السخرية والضحك، تلك «مزية» نافعة اكتسبناها، وتبدو «أسلوب حياة» ناجحاً!
اختبرنا المآسي الكبرى بكل تفاصيلها، والآن حان وقت الملهاة، سندفع خمسة آلاف ليرة ثمناً لبضع حبات من الخضار ونحن نبتسم، فبرغم كل شيء ما زلنا نأكل – كما يصرح أحدهم – وحياتنا «أفضل من الكثيرين»!
سننام حين يرغبون، ونستيقظ بوجوه باسمة على توقيتهم، وسنركض لاهثين لنلحق بأعمالنا التي لا نكسب منها ثمن خبزنا المقنن حسب رغبتهم بإطعامنا، ثم نعود مجدداً لننام هانئين لحظة قطع الكهرباء بهدف حثِّنا على النوم باكراً. ننام بقلوب يغمرها الرضا والحب، ما الذي نريده أكثر من ذلك؟ إنهم يعملون على «تطويرنا» جسدياً وعقلياً بشكل يومي. نحن «نتطور» تطوراً عصياً على أن يفهمه العالم.
أسأل العم أبو سعيد، وهو صاحب محل لبيع الأغذية عن أكثر شيء أسعده في الأيام الماضية، فيجيب غامزاً: «قانون تجريم التعذيب أفرحني كثيراً، صار فيني قدم شكوى على مرتي».
أظن أننا جميعاً نشعر بالفرح الغامر لصدور هذا القانون، نتأمل بنوده ونضحك، كنتُ قد تساءلت في سري: ما لزوم هذا القانون في بلاد مثل بلادنا؟ بلاد تسود فيها العدالة، والمساواة، من أصغر التفاصيل إلى أكبرها، حتى نباشو القمامة فرضت الحكومة ضريبةً على «عملهم».
ألا يدعو كل هذا للتفاؤل وارتفاع مشاعر الانتماء وحب الوطن؟ حتى إن مصطلحات مثل الوطن والمواطن أصبحت تبعث البهجة في القلوب، وتخلق جواً من الفرح العام، والضحك المدوّي.
قبل أيام اعترض أحد الشبان على سائق لرفعه الأجرة قائلاً: «ليش عم تعملوا هيك بالمواطن»؟ خلقت كلمة المواطن موجة من الضحك استمرت دقائق، ليجيبه السائق بأنه لا يرى مواطنين في الحافلة.
«بلاد بلا مواطنين»، يا للإبداع! بلاد؟ أم مسرح دمى؟ لكأن هناك خيوطاً تحركنا، وتحدد خطواتنا، ومساراتنا جيئة وذهاباً طوال الوقت، وبما أن القصة التي نرويها ينبغي أن تكون مسليّة وتصلح للترفيه خلقوا لنا حياة مضحكة في عملية محاكاة عجيبة للكركوزات.
لقراءة المقال كاملاً يرجى زيارة الرابط التالي :
Add Comment