تحتل قضية الفساد مرتبة متقدمة في قائمة السلوكيات البشرية التي وصلتنا أخبارها منذ قرون طويلة.
تتباين تعريفات الفساد، لكنها تتوافق عموماً على أنه مجموعة سلوكيات غير أخلاقية. فهو اصطلاحاً في اللغة العربية: نقيض الصلاح والرشاد، ومن معانيه كذلك: «أخذ المال ظلماً دون وجه حق»، كما ينقل قاموس المحيط للفيروزآبادي.
أمّا وفقاً لمعجم أوكسفورد العريق، فالفساد «انحراف، أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة».
البنك الدولي أدلى هو اﻵخر بدلوه في المسألة، فذهب إلى أن الفساد «إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص»، وهو تعريف يتبناه أيضاً صندوق النقد الدولي.
تتنوع أشكال الفساد، فتشمل الرشوة، والضغط، والابتزاز، والمحسوبية، ، وضيق الأفق، واستغلال النفوذ، والكسب غير المشروع، والاختلاس… إلخ
قد يُسهل الفساد الأعمال الإجرامية مثل الإتجار بالمخدرات، وغسيل الأموال، والإتجار بالبشر، لكنه لا يقتصر على هذه الأنشطة.
كذلك يُعتبر سوء استخدام السلطة لأغراض أخرى، مثل قمع المعارضين السياسيين، وانتهاك حقوق الإنسان، وكم الأفواه، ونحو ذلك من الممارسات فساداً سياسياً.
ومع بروز العولمة وما رافقها من خصخصة لمؤسسات القطاع العام ظهر تعريف جديد للفساد، فهو «بيع أملاك الدولة بواسطة المسؤولين الحكوميين لتحقيق المصالح الشخصية»، وهذه الظاهرة ازدهرت في العالم العربي، بدءاً من من مصر أيام الثمانينيات.
بمرور الوقت، اتسع التعريف بالفساد ليشمل جوانب مختلفة. على سبيل المثال، ليس من الأخلاقي قبول موظف ما للهدايا أثناء أدائه عملاً لحساب الحكومة، أو بصفته ممثلاً لها، إذ يمكن تفسير أي هدية مجانية على أنها مخطط لجذب المتلقي نحو بعض التحيزات.
في معظم الحالات، يُنظر إلى الهدية على أنها مقدمة للحصول على مزايا معينة، مثل الترقية في العمل، أو الفوز بعقد، أو وظيفة، أو إعفاء من مهام معينة في حالة تسليم الهدية من موظف صغير إلى موظف كبير.
وتختلف الأنشطة التي تشكل فسادًا غير قانوني باختلاف الدولة أو الولاية القضائية. على سبيل المثال، قد تكون بعض ممارسات التمويل السياسي القانونية في مكان ما، غير قانونية في مكان آخر.
في بعض الحالات، يتمتع المسؤولون الحكوميون بسلطات واسعة، أو غير محددة، ما يجعل من الصعب التمييز بين الإجراءات القانونية وغير القانونية.
وفي جميع أنحاء العالم، تقدر قيمة الرشى وحدها بأكثر من 1 تريليون دولار أميركي سنوياً. كما تُعرف حالة الفساد السياسي غير المقيد باسم «حكم اللصوص».
الفساد العريق
ليست الظاهرة وليدة العصور الحديثة، ولا هي مرتبطة بزمان، أو مكان.
في العصر الفرعوني دونت على البرديات القديمة قصص فساد، في إحداها تواطأ حراس المقابر الفرعونية مع لصوص المقابر الذين كانوا قد سرقوا قطعاً وحِلى ذهبية من مقابر الأسر الحاكمة.
في حادثة أخرى عثر عالم آثار هولندي في أحد المواقع الأثرية السورية العام 1997 على ألواح مسمارية، وعند تحليلها كشفت عن قضايا خاصة بفساد العاملين في البلاط الملكي الآشوري قبل آلاف السنين.
ويلاحظ أن حمورابي ملك بابل، وصاحب أول تشريع قانوني في التاريخ (شريعة حمورابي)، قد اهتم في شريعته بجريمة الرشوة، وبفساد القضاء، ويذهب بعض الباحثين إلى أن أهم أسباب وضع حمورابي شريعته «انتشار الفساد الداخلي في مملكته من قبل الأمراء وكبار الدولة والكهنة رجال الدين، ورجال السياسة والتجار».
كذلك اهتم كونفوشيوس بظاهرة الفساد، وردّ في كتابه «التعليم الأكبر» أسباب الحروب إلى «فساد الحكم الذي سببه فساد الأسر، وإغفال الأشخاص تقويم نفوسهم»، أما في كتابه «عقيدة الوسط» فيرى أن «الحكم لا يصلح إلا بالأشخاص الصالحين، والوزارة الصالحة التي توزع الثروة بين الناس على أوسع نطاق»، ويشير إلى أخطار الفساد، فيقول: إن «تركيز الثروة يؤدي إلى تشتت الشعب».
جيراننا اﻹغريق اهتموا أيضاً بمشكلة الفساد، فوضع سولون في تشريعاته المسماة «قانون إتيقا» قواعد لإرشاد موظفي الدولة وضبط عملهم الإداري، وسعى إلى تكريس سيادة القانون، والحد من مظاهر الفساد. ولم تغفل محاورات أفلاطون وسقراط عن أن «اللجوء إلى العدالة يستبعد مسألة المنفعة أو المصلحة التي هي الأساس في ظهور الفساد واستفحاله».
مثال حديث نسبياً
عندما نمت الولايات المتحدة لتصبح القوة الصناعية الرائدة في العالم أواخر القرن التاسع عشر، راكم أولئك الذين كانوا على قمة السلم الاقتصادي في العصر الذهبي ثروات مذهلة، وبحلول العام 1890 كان 4000 مليونير يملكون 20 بالمئة من ثروات البلاد، ومع هذا الثراء الفاحش ازدهر الفساد السياسي.
وحتى اليوم، يمكن الشركات العملاقة شراء أي شيء تريد، بما في ذلك الساسة.
يقول ريتشارد وايت، أستاذ التاريخ الفخري بجامعة ستانفورد ومؤلف كتاب «الجمهورية التي تقف عليها: الولايات المتحدة أثناء إعادة الإعمار والعصر الذهبي 1865-1896» إن ذاك العصر الذهبي كان من بين أكثر العصور فساداً في التاريخ الأميركي ويرجع ذلك أساساً إلى «صعود الشركات، ونمو وسائل الاتصال الحديثة التي كثفت طريقة عمل الفساد».
كتب الرئيس التاسع عشر للولايات المتحدة رذرفورد ب. هايز في يومياته العام 1886: «هذه حكومة الشعب من قبل الشعب، ولكنها لم تعد من أجل الشعب، إنها حكومة من قبل الشركات، وﻷجل الشركات».
دفعت السكك الحديدية إلى توسع الاقتصاد الأميركي أربعة أضعاف تقريبًا بين العام 1871 والعام 1900. وقد ساعدت الحكومة الفيدرالية في تمويل مشاريع البنية التحتية الضخمة من خلال منح أكثر من 150 مليون فدان من الأراضي إلى شركات السكك الحديدية، التي باعتها لزيادة الإيرادات.
يقول وايت في كتابه السابق ذكره: «تحتاج خطوط السكك الحديدية إلى امتيازات احتكارية وإعانات، وللحصول عليها، فإنهم أكثر من راغبين في رشوة المسؤولين العموميين».
في أكثر الحالات شهرة للفساد المرتبط بالسكك الحديدية، شكل المسؤولون التنفيذيون في Union Pacific Railroad شركة إنشاءات اسمها Crédit Mobilier، وقدمت فواتير بما يقارب ضعف تكلفة بناء الجزء الشرقي من السكك الحديدية العابرة للقارات.
لتجنب أي تحقيق قام مسؤولو السكك الحديدية برشوة اثني عشر عضواً مؤثراً في الكونغرس بأسهم Crédit Mobilier بأسعار أقل من أسعار السوق.
هناك العديد من الحالات المتكررة في العديد من دول العالم، ولعل هذا ما دفع بعض المهتمين إلى العمل على إنشاء متحف افتراضي للفساد حول العالم.
للغرابة، لا يبدو أن لسوريا قسماً فيه، وأغلب الظن أن هناك فساداً وراء كواليس متحف الفساد هو سبب حرمان بلادنا المسكينة من هذا الحق!
لقراءة المقال كاملاً :
Add Comment