ليس بعيداً عن الدقة القول إنّ النساء في سوريا عانينَ وتُعانينَ من تمييز عميق في جميع أوجه الحياة. الأمر ليس اكتشافاً، وليس حكراً على البلد بكل الأحوال. لا يضيف هذا القول جديداً، لكن الاكتفاء بالركون إليه دون التدقيق في أوجه هذا التمييز ومداه سيكون سبباً رئيسياً في عدم القدرة على مواجهته، وفي التصميم الخاطئ للبرامج المخصصة لهذه المواجهة. يحاول هذا المقال تقديم نظرة موسَّعة على عدد من الدراسات والأبحاث التي أجرتها وكالات تابعة للأمم المتحدة وجامعات وباحثات وباحثون حول أوضاع النساء في سوريا، أو حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد بما في ذلك مسألة التمييز حسب النوع الاجتماعي، وذلك خلال العقد الأول من الألفية الحالية. تساعدنا هذه العودة على فهم التمييز ضد النساء في سوريا بمعزل عن تأثير الحرب خلال السنوات العشرة الماضية، وهي السنوات التي أضافت بطبيعة الحال أعباء وتحديات جديدة على النساء السوريات.
ستركز المقاربة هنا على محاولة فهم أوجه التمييز في حياة النساء تحت عنوانين رئيسيين: المشاركة الاقتصادية والتعليم، باعتبارهما من المؤشرات رئيسية لفهم أوضاع المجتمع، هذا إضافةً إلى أنّ دراسة جوانب أخرى من الحياة العامة مثل المشاركة السياسية ليست مؤشراً مفيداً جداً في بلد مثل سوريا، إذ ما هي أهمية نسبة النساء في مجلس الشعب السوري، ونحن نعلم أنّه مجرد مجلس صوري لا يملك أي تأثير على الصعيد السياسي؟
كان التمييز في سوق العمل وعلى صعيد المشاركة الاقتصادية، خلال العشر سنوات الأولى من حكم بشار الأسد، أحد أبرز أوجه التمييز ضد النساء. يُظهر الجدول أعلاه الفروق الواسعة في نسب البطالة بناءً على النوع الاجتماعي، ويبدو واضحاً أن معدّل البطالة العام يظهر ارتفاعاً لدى الشباب الذكور، إلّا أن النظر إلى الفروق بين الذكور والإناث، التي تفوق ثلاثة أضعاف في بعض السنوات، يُظهِرُ حجم التفريق في سوق العمل السوري بناءً على النوع الاجتماعي. غير أن تلك الأرقام لا تعطي الصورة الكاملة، إذ يشير بحث عن العوامل المؤثرة في البطالة في سوريا، تم تقديمه خلال المؤتمر الدولي لأزمة البطالة في الدول العربية عام 2008، إلى أنّ نسبة البطالة بين النساء من مختلف الأعمار عام 2005 قد بلغت 38.3% وهي نسبة مُقارِبة للأرقام المتعلقة بالفئات الشابة. إلا أنّ البحث يتحدث أيضاً عن انخفاض كبير في المشاركة الاقتصادية للنساء في البلد، إذ تراوحت نسبتها بين 17.4 إلى 18% في الفترة ذاتها، (1) وهو ما يُظهِر إحجام النساء أو منعهنّ من المشاركة في سوق العمل من الأصل، ناهيك عن بحثهنّ عن عمل دون إيجاده كما في حالة التعريف القياسي للبطالة.
ويُظهر مؤشر البطالة العام في سوريا بين عامي 2001 و2011، صحة هذه التحليلات، إذ يُبيّنُ الجدول التالي أدناه حجم الفروق بين الرجال والنساء في عمر العمل (تتبنى سوريا التعريف العالمي لعمر العمل والقوة العاملة حيث يعتبر كل الأشخاص بين عمري 15 و64 في عمر العمل، وكل من يعمل أو يرغب في العمل بينهم هو جزءٌ من قوة العمل). ولا تقلّ الفجوة لصالح الرجال في نسبة العاطلين عن العمل عن 11.4%، فيما تصل في أحد الأعوام (2011) إلى 26.7%، وكانت قد وصلت إلى 20.4% في العام 2007.
لا تلتفت الأرقام السابقة بالطبع إلى العمل غير المأجور للنساء، خاصةً ضمن المشاريع العائلية الزراعية بشكل رئيسي والعمل المنزلي ورعاية الأطفال في الأسرة. وفي حين لم نصل إلى دراسة إحصائية حول حجم اقتصاد العمل غير المأجور في السنوات المقصودة، إلّا أنّ دراسة بعنوان: عمل النساء المنزلي غير المأجور في سورية، صدرت عن رابطة النساء السوريات العام 2008، أشارت إلى ارتفاع ساعات عمل النساء في العمل غير المأجور بمعدّل ساعتين يومياً، وهو ما يُظهِرُ الأعباء الملقاة على النساء في المجتمع السوري من دون وجود أي عائد يُمكِّنهنَّ من الاستقلال الاقتصادي والقدرة على الدخول في سوق العمل الإنتاجي، ويُظهِرُ أيضاً أحد أسباب تراجع نسبة مشاركة النساء في سوق العمل.
إلّا أنّ دراسة أجريت منذ فترة قريبة قد تعطي بدورها أسباباً أخرى، إذ بيّنت نساء استُطلعت آراؤهنّ في دراسة بعنوان: العيش في دمشق بعد عقد من الحرب، بأنّ سبب عدم التحاقهنّ بسوق العمل هو منع رجال الأسرة مثل الأب أو الأخ أو الزوج لهنّ من العمل والحدّ من قدرتهنّ على الخروج من المنزل (وهي حالة قد تكون تفاقمت بشدّة بعد عشر سنوات من الحرب في سوريا وعمليات الاستهداف الأمني والاعتقال والاختطاف، إلّا أنّ عدداً من المؤشرات تدلّ على أنّها كانت ظاهرةً موجودةً قبل ذلك).
إلى جانب كل ذلك، كان واضحاً دفع النساء بطرق مباشرة أو غير مباشرة إلى العمل ضمن قطاعات بعينها، وإبعادهنّ عن العمل في القطاعات الإنتاجية الرئيسية. ويُظهر التقرير الوطني الثاني لأهداف التنمية للألفية في سورية، والصادر عن هيئة التخطيط في سوريا بالتعاون مع الأمم المتحدة عام 2005، بأنّ نسبة مشاركة النساء في قطاع الخدمات الجماعية والاجتماعية عام 2004 بلغت 47.2% فيما لم تتجاوز مشاركتهنّ في العام نفسه في القطاع الإنتاجي العام نسبة 5.3%.
شهدَ الوضع تحسناً طفيفاً عبر السنوات، إلّا أنّ الاتجاه العام لهذا التمييز البنيوي ضد النساء في الاقتصاد السوري لم يتغير، فعلى الرغم من ارتفاع نسبة مشاركة النساء في القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة بحلول العام 2007، حسب ما أشار تقرير التنمية البشرية الوطني الثالث الصادر عام 2010، فإنّ نسبتهنّ في قطاع الصناعة لم تزد عن 10%، فيما بقيت النسب مرتفعة في القطاع الزراعي حيث وصلت في العام نفسه إلى 42%.
التعليم
على الرغم من أنّ الوصول إلى تعليم شامل لجميع الأطفال كان أحد السياسات التي اتبعتها الحكومة في سوريا خلال العقد الأول من الألفية الحالية، إلّا أنّ الفجوات الجندرية التي أظهرتها الدراسات حتى بالنسبة للمستويات الأولى من التعليم تَشرحُ إلى أي حدّ بقي التمييز ضد النساء موجوداً في قطاع التعليم. وقد بلغت الفجوة الجندرية في العام 2004 في الصف السادس من مرحلة التعليم الأساسي 3% لصالح الأطفال الذكور، فيما بلغت الفجوة الجندرية بما يخص القدرة على الكتابة والقراءة في الفئة العمرية من 15 إلى 24 عاماً في السنة ذاتها 4.4% لصالح الذكور أيضاً. وقد أظهرت دراسةٌ حول التمييز الجندري في المجال الأكاديمي في سوريا قبل 2011، صدرت عن مشروع شيميرا بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي عام 2014، بأنّ الفجوة في عدد خريجي وخريجات الجامعات وصلت 4.4% في العام 2010 فيما يخص أكبر خمس جامعات سوريّة، وهو مؤشر مهمّ على استمرار هذه الفجوة على كافة مستويات التعليم.
وعلى الرغم من تراجع الفجوة بين الرجال والنساء بالنسبة للتعليم خاصةً في المراحل الأولى منه، إلّا أنّ النظر إلى مستويات الأمية بين النساء والرجال عبر السنوات تلك يمكن أن تعطي صورة حول الفروق الحقيقية في التعليم بينهم.
بلغ الفرق في نسبة الأمية بين الرجال والنساء في عام 1994 24.3%، ثم تراجعت هذه النسبة إلى 17.7% عام 2001، واستمرت بالتراجع، لكنّها بقيت في العام 2006 عند 13.7% في زيادة عن العام التي قبله بنسبة 0.1%، وهو ما يعني أنّ نسب الأمية بين النساء ستظل أعلى منها بين الرجال، وقد لا يرتبط ذلك بالفئات الأكبر عمراً فقط، خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار الفروق السابقة في مراحل التعليم الأولى.
كما أنّ التمييز يمكن أن يكون أكبر من ذلك عند النظر إلى التخصصات العلمية، إذ لم تبلغ على سبيل المثال نسبة النساء الحاملات لشهادات جامعية في الاختصاصات العلمية (العلوم الطبية، العلوم الزراعية، العلوم الاجتماعية) سوى 10% من إجمالي النساء الحاملات لشهادات جامعية في العام 2010 حسب دراسة وضع النوع الاجتماعي في العلوم (التقرير الوطني لسوريا) والصادرة عام 2014 عن مشروع شيميرا التي سبقت الإشارة إليها.
وقد أظهرت الدراسة السابقة أيضاً تمييزاً من نوع مختلف إذ تبلغ نسبة الباحثين الذكور في القطاع العام ضمن الفئة العمرية تحت 35 عاماً 50%، فيما لم تبلغ لدى النساء في الفئة العمرية ذاتها سوى 40%، وهو ما يُظهر القدرة المُبكّرة لدى الرجال على الوصول إلى مراكز بحثية وأكاديمية في عمر أصغر من النساء. وفي حين لم تبلغ نسبة النساء من حملة شهادة الدكتوراه في سوريا عام 2010 سوى 33% من إجمالي الحاملين لهذه الشهادة، فإنّ نسبتهنّ بين الباحثين في المجال الطبي للعام ذاته لم تتجاوز 20%.
تُساهم الفجوة الجندرية في قطاع التعليم السوري، سواءً على صعيد الطلاب أو على صعيد الكوادر التدريسية والبحثية، في استمرار الفجوات والتمييز الجندري ضد النساء في القطاعات الاقتصادية المختلفة، بالإضافة إلى استمرار إلحاق النساء ضمن قطاعات اقتصادية بعينها مثل قطاعات الخدمات الاجتماعية والزراعة، وهو ما يمكن أن يزيد نسب البطالة بينهنّ عند تُشبَع تلك القطاعات من اليد العاملة. وبالمقارنة بين الفجوات الجندرية في قطاعي الاقتصاد والتعليم، يمكن ملاحظة تراجعها بالنسبة للتعليم لصالح استمرار ارتفاعها في مسألة البطالة والمشاركة الاقتصادية، وهو ما يشير إلى طبيعة الفرص المتاحة أمام النساء للعمل، خاصةً بالنسبة للنساء اللواتي حصلنَ على تعليم عالٍ، ويبيّنُ كيف أن تحسّنَ مستويات التعليم بالنسبة للنساء في سوريا لا ينعكس تحسّناً في أوضاعهنّ الاقتصادية ومشاركتهنّ في سوق العمل، ما يزيد من عمق التمييز القائم على النوع الاجتماعي في سوريا.
لم تكن تلك الأوجه للتمييز ضد النساء في سوريا هي الوحيدة طبعاً، إذ تتعرض النساء لتمييز على الصعيد القانوني، وكذلك الاجتماعي والثقافي، لكن نظرة عليها تظهر أنّ الفروق المستمرة وغير المُعالَجة بين النساء والرجال فيما يخصّ المشاركة في الحياة العامة، تلعب دوراً رئيسياً في الاستعصاء السياسي والاقتصادي للمجتمعات، وهو ما يساهم بدوره في خلق حلقة مفرغة من التمييز التي تقود بدورها إلى مشاكل اجتماعية لا يمكن حلّها.
لقراءة المقال كاملاً :
Add Comment