أُسست أنوية الجيش السوري، التي شاركت في أول مواجهة ضد القوات الفرنسية بقيادة الجنرال هنري غورو، في جامع تنكز بدمشق تحت مسمّى «المدرسة الحربية». تخرّج هؤلاء في دورة واحدة للضباط ودورتين لضباط الصف على عجل في أوائل تموز/يوليو 1920 قبل معركة ميسلون.
أما قرار تأسيس الكلية-المدرسة وفكرتها، فيعود إلى الملك فيصل، وفق ما هو متوافر من معلومات.
مقاربة تأسيس الجيش السوري في تلك المرحلة تقتضي التعرف – لو سريعاً – إلى بنية الدولة الوليدة كما طرحها رجالات تلك المرحلة، فقد بدأت الحكومة أعمالها بسن قانون للتجنيد الإجباري وتأسيس الجيش وإنشاء أنوية جامعة حديثة (جامعة دمشق)، ومجمَع علمي للغة العربية، ونقد وطني، وأحزاب نيابية، ونظام مؤسسي لمقاطعات (لا مركزية) في إطار وحدة الدولة.
وبالتوازي، جاء دستور الدولة (المملكة السورية) في إطار منفتح، فكان عصرياً مدنياً، وقد أخذت تلك التجربة من التنظيمات العثمانية أفضل ما فيها، أي عناصر التحديث والنهضة، ثم صبتها في قلب الدولة الجديدة.
لم يكن الجيش السوري الأول يتمتع بقدرات قتالية ولا لوجستية كبيرة، وكان أحد مصادر سلاحه هو التبرع الشعبي
في المدة القصيرة التي عاشتها تلك الدولة-الحكومة (1918-1920)، غدا الجيش سوريّاً بصورة شبه تامة لكنه كان يضم في قياداته بعض قادة الحركة العربية من الضباط العراقيين-العثمانيين الذين التحقوا بالحركة العربية أثناء الحراك ضد العثمانيين. ومن البديهي أنّ ذلك الجيش لم يكن يتمتع بقدرات قتالية ولا لوجستية كبيرة، وكان أحد مصادر سلاحه التبرع الشعبي.
هكذا، خاضت قطعات الجيش المعركة ضد القوات الفرنسية القادمة من بيروت في موقعة ميسلون المعروفة. ولم يكن عديد العناصر السورية يتجاوز ثلاثة آلاف، مقابل تسعة آلاف هم عماد القوة الفرنسية الغازية.
الجنود السوريون في ساحة معركة ميسلون / صفحة التاريخ السوري – فايسبوك
وبرغم تسليحها القليل، تمكنت القوات السورية من تسجيل علامة فارقة في تاريخ البلاد المعاصر. كان من المتوقع خسارة تلك المعركة بالنظر إلى فارق القوات الكبير ونوعية التسليح، إذ قاد الضابط السابق في الجيش العثماني يوسف العظمة قواته المسلحة ببنادق إنكليزية ومن دون دبابات أو طائرات أو أسلحة ثقيلة، ليكون أوّل وزير دفاع (حربية) يستشهد دفاعاً عن الدولة الوليدة.
المدرسة «الفرنسية»
جراء الهزيمة، وبعد فرض الانتداب الفرنسي على سوريا، أعيد افتتاح المدرسة للشباب السوريين (بمن فيهم من سيكونون في ما بعد لبنانيين)، وكانت الدراسة فيها بالفرنسية ومدتها ثلاث سنوات، ليتخرج الطالب في نهايتها برتبة ملازم ثانٍ إن كان عسكرياً، أو بتسمية مترجم إذا كان مدنياً. أما المنهاج المستخدم، فكان منهاج الجيوش الفرنسية في المستعمرات.
لم تقبل السلطات الفرنسية أياً يكن في هذه المدرسة حتى الحاصلين على شهادات مقبولة. وحتى مطلع الخمسينيات، كانت غالبية ضباط الجيش السوري خليطاً من الأرمن والأكراد والشركس وقليلاً من العرب من أجل تفادي الاضطرابات داخل الجيش. ومن الشروط أيضاً ألا يكون الفرد حزبياً ولا متديناً تديناً زائداً، وهو ما كانت تحدده لجنة القبول المؤلفة من ضابط فرنسي ومترجم وضابط سوري، الأمر الذي بقي سارياً حتى السبعينيات.
طابع تذكاري بمناسبة مرور قرن على معركة ميسلون / سانا
خلافاً للرواية القائلة إنّ أبناء المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، كانوا يرفضون الانخراط في الجيش، أو التطوع بصفة ضباط، تظهر مراجعة أسماء ضباط تلك المرحلة (1921-1948) أنّ العديد منهم كانوا من أبناء كبار العائلات الدمشقية والحلبية، خاصة أن الضباط كانت لديهم مزايا، منها الرواتب العالية على طريقة الجيوش الفرنسية في خدمة المستعمرات، وإنْ كان هناك ميل أكثر إلى أبناء الريف لكن اقتصر أمر هؤلاء على العسكريين والجنود، وأكثرهم من الأميين.
بين حمص وحلب
في العام 1932 انتقلت المدرسة إلى حمص في موقعها الحالي، وصارت مدة الدراسة فيها سنتين فقط يتخرج بعدهما الطالب برتبة ملازم ثانٍ. وفي العام 1936، فُصل الطلاب اللبنانيون عن السوريين فصاروا يدرسون في ثكنة الفياضية في بيروت، وهو ما كان مقدمة مفهومة لفصل لبنان عن سوريا عسكرياً قبل أن يكون ذلك اقتصادياً.
خلافاً للروايات الشائعة تظهر مراجعة أسماء ضباط تلك المرحلة (1921-1948) أنّ هناك العديد من أبناء كبار العائلات الدمشقية والحلبية عملوا ضباطاً في الجيش
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية انتقلت الكلية الحربية إلى حلب العام 1939 لكنها عادت إلى حمص بعد انتصار القوات الحليفة على قوات فيشي في تموز/يوليو 1941، ثم في صيف 1944 نُقلت إلى حلب من جديد، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية العام 1945 أعيدت إلى حمص وحملت اسم الكلية العسكرية.
إحسان الجابري يناشد أهل حلب الدفاع عن البلاد 1920م / دار الوثائق الرقمية
بعد خروج الفرنسيين من سوريا في 17 نيسان 1947 تحولت الدراسة في تلك الكلية إلى اللغة العربية واشُترط لقبول الطلاب الحصول على الشهادة الثانوية أو ما يعادلها. وفي وقت لاحق، أُنشئت الكليات الأخرى التي كان بعضها يقبل الناجحين في الشهادة الإعدادية (التاسع حالياً)، ومنها الكلية الفنية الجوية التي هي الأكثر صعوبةً في التعلم!
كان الطالب المستجد (السنة الأولى) يتعلم تقاليد الطلاب في السنوات الأعلى ومنها الانضباطية والالتزام، إذ يكون الطالب الأعلى (المتقدم) المعلم والقدوة في السلوك والانضباط، كما يتلقى التدريب الشاق والرياضة والعلوم العسكرية الحديثة مثل التخطيط للمعارك وقيادة الجنود.
في المقررات المفروضة على طلاب الكلية خلال الخمسينيات تركيز كبير على دور القيادة العسكرية. وفق مقتطفات من تلك المناهج، يرد كلام للجنرال الفرنسي فوش يقول فيه: «النصر يساوي الإرادة، وخسارة الحرب أو ربحها يقع على عاتق الجنرالات لا الأفراد، فالنتائج العظيمة في الحرب يصنعها القائد… من دون القائد لا يمكن خوض أي معركة أو تحقيق أي نصر بارز». ومن أقوال فوش أيضاً: «لا يكون القائد ناجحاً ما لم يكن مثقفاً يقود عسكرياً بفكر جامعي».
صوت سوري
Add Comment