بقلم: فريدة الزغاري
جهة النشر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث
يَعرف مفهوم الديمقراطية[1] في عصرنا الحالي قبولاً واسعًا من لدن المواطنين، على عكس مفاهيم من قبيل العنصرية التعصب الاستبداد الطغيان والديكتاتورية، مما جعله موضوعًا آنيا يلتف حوله الباحثون والمفكرون من مختلف المشارب الفكرية، والمفارقة أنه بالرغم من الدراسات الواسعة التي جرت حول المفهوم، مازال يعتريه الكثير من اللّبس والغموض. وإن ظهر الخلاف حوله منذ انطلاقته الأولى في أثينا؛ كواقعة إعدام سقراط من طرف 500 قاضي، الذي أدى إلى امتعاض تلامذته ومريديه، والتشكيك في ديمقراطية أثينا. لعب الحدث الذي رافق بزوغ شمس الديمقراطية دورًا بارزًا في جعلها منبوذة ومهمّشة لدى مجموعة من الفلاسفة والمنظرين ومن أبرزهم أفلاطون.
أما ديمقراطية قرن 21، فيمكن أن نقول عنها إنها أوفر حظًا من سابقتها؛ إذ آمن الشعب أنه من خلالها يمكن تحقيق مستوى معيشي أفضل، مع تمكينهم من حق تقرير المصير، وحمايتها لقوانين المواطنين من الجور والفساد، وتعزيزها لخانة الحريات الفردية، وتُؤَمّن لهم العدالة والمساواة الاجتماعية، كما تُشركهم في صنع القرار عبر المشاركة الفعّالة في الانتخابات، وتميل إلى تطبيق الحل السلمي مع الأطراف المتنازعة، ولهذه الاعتبارات أصبح مطلب الديمقراطية ضروري في مجتمعات القرن 21؛ فهي الأمل الوحيد لتحقيق مستقبل أفضل، أقل تسلطًا وهيمنة.
وأثناء استحضارنا للمفهوم وجدنا أنفسنا أمام معسكرين؛ معسكر يمكن أن نقول عنه إنه مازال متأخرًا في تعاطيه مع النظام الديمقراطي، وهو يشمل الأنظمة العربية التي تسعى إلى الانتقال من مرحلة الحكم الشمولي، والتخلص من سلطة خليفة الله فوق الأرض، إلى حكم ديمقراطي مؤَسس على قرار الأغلبية، يشارك فيه الشعب في صنع القرار عبر الانتخابات النزيهة، والثاني يشمل دول العالم الأول التي تجاوزت المرحلة التي تعيشها البلدان العربية منذ القرن 18، إلى محاولة إعادة بناء فهم جديد للمفهوم؛ وذلك عبر إبراز طابعه التركيبي الذي يخوّل للحاكم المستبد استغلال القيم النبيلة للحكم الديمقراطي لاستعباد الشعوب أكثر؛ فكيف انتقلت الديمقر اطية في المجتمعات العربية من اللامفكر فيه إلى مطلب آني وضروري؟ ماهي العوائق التي أحالت دون تبني الشعوب العربية مطلب الديمقراطية؟ كيف يمكن أن تشكل الديمقراطية نقطة التقاء بين الشرق الاسلامي والغرب الرأسمالي؟ كيف يتجلى الطابع التركيبي للديمقراطية؟ متى تتحول الديمقراطية إلى مطلب إنساني كوني؟
وللإجابة عن الأسئلة، سنعتمد على المنهج المقارَن الذي سنقارن من خلاله مفهوم الديمقراطية من منظور محمد عابد الجابري، الذي يعكس لنا كيف أن المجتمع العربي مايزال يتخبّط في محاولة تحديد معنى المفهوم، وبين الديمقراطية من منظور إدغار موران الذي قدّم معنًا جديدًا للمفهوم من خلال نقده وإعادة بنائه لمعنى الديمقراطية.
الديمقراطية بين الاختيار والضرورة
اهتم الجابري بمسألة الديمقراطية شأنها شأن باقي القضايا التي حاول تفكيكها داخل التراث العربي، فبعدما لاحظ أن الأيديولوجيات العربية اتخذت موقفا مضادًا تجاه الأفهوم، ارتأى ضرورة إعادة مراجعة هذا المفهوم الذي عانى من التأجيل والإرجاء المرحلي في الفكر السياسي العربي. غالبا ما يُقصد بالديمقراطية تلك الكيفية التي تمارس بها السلطة، وتحدد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين المبنية على احترام حقوق الإنسان والمواطن، كحق التعبير الحر وحق انتخاب الحاكمين ومراقبتهم[2]. فالديمقراطية لا تخرج عند الجابري عن نطاق حكم الشعب نفسه بواسطة ممثلين يختارهم بكل حرية.[3]
إن المسألة الديمقراطية في الوطن العربي لا يمكن طرحها طرحًا بناءً -حسب الجابري- إلا من خلال النظر إليها في ضوء الواقع؛ وذلك من خلال استقراء الرأي بتحليل الواقع “إن ذلك كفيل بالخروج بالديمقراطية في الوطن العربي من هذه الوضعية المأزومة”[4]؛ فالديمقراطية تتجسد من خلال حضور ثلاثة أركان أساسية: أولا الدفاع عن مبادئ الحرية والمساواة وكل ما يتفرّع عنهما من الحقوق، ثم حضور دولة المؤسسات التي يقوم كيانها على مؤسسات سياسية ومدنية تعلو على جميع الأفراد، وأخيرًا تداول السلطة داخل هذه المؤسسات بين القوى السياسية المتعددة؛ وذلك على أساس حكم الأغلبية في إطار حفظ حقوق الأقلية[5].
وإن اتسعت رقعة المطالبة بالديمقراطية منذ ثمانينيات القرن الماضي في البلدان العربية، فهذا لا يعني أنها ناتجة عن وعي عميق لدى الإنسان العربي بضرورتها وأهميتها، أو بالتضحيات التي يجب تقديمها لتحقيقها؛ فهناك من يطالب بالديمقراطية فقط رغبةً في التخلص من حكم القبيلة أو الطائفة أو الحزب الواحد…
ويناءً عليه؛ قد يعود غياب الوعي العربي بأهمية الديمقراطية إلى ما تعرضت له من تشويه وتزوير داخل هذ المجتمعات، إضافة إلى فساد التجارب البرلمانية. ورغم هذه الاعتبارات يستنكر الجابري أن تكون هذه الأسباب كافية للكفر بالديمقراطية بشكل نهائي، موضّحا بأنه يمكن التخفيف من عيوبها بمزيد من الديمقراطية. أما غيابها بشكل نهائي، فسيؤدي لا محالة إلى تفشي الاستبداد والديكتاتورية، وهذا الأخير لا يمكن التخفيف منه إلا بالتخلي عنه والجنوح نحو الديمقراطية[6]. لنعتبر فكرة الديمقراطية عند الجابري فكرة اجتماعية تقوم على منطق المقاومة؛ مقاومة الأطراف ومناطق الهامش للمركز وللهيمنة التي يحوزها هذا الأخير.
وبحكم أن المجتمعات العربية عرفت خلال السنوات الأخيرة انتقالات حضارية (انتقال من مجتمع القبيلة إلى مجتمع المأسسة العقلانية)؛ فالديمقراطية أصبحت ضرورة تاريخية للقفز – حسب تعبير ابن خلدون – من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة. فهي من أهم الآليات القادرة على مأسسة وقولبة عملية التحول الكبرى هذه. إن التعبير الديمقراطي الحر والاعتراف بالاختلاف والتمايز، إضافة إلى تداول السلطة من الشروط الضرورية التي ستساعد المجتمعات على تصريف عملية التحول والصراع تصريفًا سلميا. وبالتالي إفساح المجال لقيام مؤسسة المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ونقابات ومجالس منتخبة، التي ستؤطر الصراع والحركة والتحول داخل المجتمع في اتجاه التقدم التاريخي. والجابري يؤكد أننا إن لم نتخذ من الديموقراطية التاريخية آلية لاحتضان التحولات الكبرى التي يشدها العالم العربي، فسنسقط في الفوضى والحروب الأهلية التي لن تنتج لنا سوى الاقتتال والخلاف والنزاع، بدل السلم والتنمية المنشودة[7]، غير أن المفارقة تتجلى هنا عندما تلجأ الأنظمة الاستبدادية إلى الديمقراطية كوسيلة لتوطيد نظام الحكم المطلق، وممارسة العنف الممنهج على الشعوب؛ فكيف تفقد الديمقراطية قيمتها الأخلاقية، وتصبح مجرد قناع تجملي للأنظمة الاستبدادية؟
الطابع التركيبي للنظام الديمقراطي
لتوضيح العلاقة التي تجمع المواطنين بالدولة، لابد من الوقوف عند طبيعة الحكم الذي تتبناه الأخيرة. فمثلا داخل النظام الاستبدادي[8] يعتبر الفرد مجرد تابع وراع ينفذ أوامر سيده. أما داخل النظام الديمقراطي، فيكون سيّدًا وحرًّا وله دور فعّال في صناعة القرار. غير أن هذه السيادة التي تجد شرعيتها في قرار الأغلبية يمكن أن تتحول إلى مدخل ناعم لممارسة العنف؛ وذلك من خلال تغييب دور الأقليات وفرض سلطة الأغلبية. ونظرًا لهذه الازدواجية فصّل إدغار موران[9] في الفصل السابع من كتابه الموسوم بـ: “تربية المستقبل المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل” الحديث عن الطابع التركيبي للمفهوم الديمقراطية.
تكمن الجدّة في معالجة موران لمفهوم الديمقراطية في تسليطه الضوء على النقاط التي تسلب من المفهوم معناه ومغزاه، وتوظّفه في سياق آخر قد يكون متناقضًا مع المعنى الجوهري للديمقراطية، وعلى هذا الاعتبار أصبح من الضروري النظر في محددات الديمقراطية التي توفر الحرية والتعايش السلمي بين الشعوب، بالتركيز على علاقتها بالتنوع والصراع والحق في الاختلاف[10]؛ فكيف تكون الديمقراطية نسقًا مركبًا يتغذى بالصراع والتفاوتات الاجتماعية مع وجود التوافقات؟
إن الديمقراطية عند موران تتجاوز معناها البسيط الذي يعني سيادة الشعب؛ فهي تضمن كذلك التقنين الذاتي لهذه السيادة عن طريق طاعة القوانين وتحويل السيادة إلى المنتخبين، كما تضمن التقنين الذاتي لنفوذ الدولة عن طريق الفصل بين السلطات، وضمان الحقوق الفردية، وحماية الحياة الخاصة. فبالرغم من أن الديمقراطية تحتاج بطبيعة الحال إلى توافق اغلب المواطنين، فهي تحتاج في نفس الآن إلى التعددية وإلى وجود أنواع من الصراع[11]، لتتحقق معها تعددية المصالح والأفكار. فبعدم احترام لهذه التعددية ستتحوّل الديمقراطية إلى وسيلة لممارسة الديكتاتورية على الأقليات، من خلال قمع كل ما لا يتوافق وإيديولوجيتها، وإلغاء حرية التعبير، ورفض تعددية الأفكار والآراء، إضافة إلى تحفُّظ مصادر الخبر (الصحافة، وسائل الإعلام)؛ فحسب موران تتغذى الديمقراطية بالصراعات بين الأفكار والآراء؛ لأنها هي التي تضفي الحيوية والإنتاجية عليها؛ لأنها تنظم التناقضات وتعوض المعارك المادية بمعارك بين تلك الأفكار المتصارعة.
2- بين الديمقراطية والتكنوقراطية
على الرغم من أن دمقرطة الدول الحديثة استغرقت صيرورة طويلة الأمد لتظهر للعلن، تظل في نظر إدغار موران هشة وغير مكتملة؛ لأنها لم تنجح في دمقرطة النظام الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعاتنا، فقد ظلّت المؤسسات عبارة عن أنسقة سلطوية تراتبية، تمت دمقرطتها جزئيا بناء على تأسيس المجالس والنقابات، فالديمقراطية الناجحة هي التي تحث الافراد والجماعات ليتحلّوا بروح المبادرة وتحمّل المسؤولية. ومن أهم نواقص وعيوب الديمقراطية حسب فيلسوفنا أنها لا تقوم باستشارة المواطنين المعنيين حول البدائل الممكنة في مجموعة من المجالات التي تهمهم؛ وذلك تحت ذريعة النخبوية[12]؛ فبذلك تنزع من المواطنين حق المشاركة في القرارات السياسية الكبرى تحت ذريعة أنها قرارات جد معقدة ويجب أن يتخذها الخبراء، وبالتالي تميل الديمقراطية في هذا السياق إلى إيقاف نمو كفاءاتهم، وهذا ما يهدد التعدية وتحط من درجة التمدن.[13]
كما حذّر موران من مشكلة ضحمة ستواجه ديمقراطيات القرن 21، وهي المشكلة الناتجة عن تطور ما يسميه بالآلة الكبرى، موضحًا أن هذه الآلة لم تنتج لنا فقط المعرفة والوضوح، بل أنتجت كذلك الجهل والعماء. فرغم إيجابيات التطور في مجال تقسيم العمل على سبيل المثال، حملت معها سلبيات التخصص الفائق مع فصل وتجزيء المعرفة. مما أدى إلى ظهور معرفة نخبوية (لايدركها إلا المتخصصون)، ومجهولة الهوية تتمركز في أبناك المعلومات وتستخدم من طرف أجهزة مجهولة وعلى رأسها الدولة. وبالمثل فالمعرفة التقنية أصبحت حكرا على الخبراء الذين وإن كان يشهد لهم بالكفاءة في مجال مغلق، فإنهم يصبحون غير أكفاء عندما يتعرض هذا المجال للتشويش الذي قد تحدثه مؤثرات خارجية، أو عندما يتعرض هذا المجال لتعديل قد يفرضه حدث جديد، وفي مثل هذه الظروف يفقد المواطن الحق في المعرفة، فعلى الرغم من امتلاكه الحق في اكتساب معرفة متخصصة، لكن ليس له حق المواطن في إبداء أية وجهة نظر إجمالية وملائمة. فعلى سبيل المثال، ليس من حق المواطن التفكير في السلاح الذري أو في مراقبته؛ لأن ذلك الأمر متروك لصاحب القرار في الدولة، دون استشارة أي جهاز ديمقراطي، قانوني. لذا، فكلما أصبحت السياسة عبارة عن تقنية، إلا ووقع تراجع في الكفاءة الديمقراطية.[14]
يصعب من خلال أهم الأفكار التي استعرضناها أن نشكك في نجاعة الديمقراطية ودورها الفعّال في تحقيق النمو السياسي الاقتصادي أو الاجتماعي، نظرًا لقدرتها على خلق بيئة تنافسية بين المواطنين، وحمايتها للقيم الإنسانية الكونية. فمن خلال تقليصها لصلاحيات الحاكم، ونشرها لقيم السلم والسلام بين المواطنين، ستتجذر قيم الحرية وسيتشكل لدينا مجتمع يسوعب الاختلاف ويعمل على ترسيخها.
وبترسيخ القيم الكوكبية في المجتمع، ستتجاوز البشرية ثلة من المشاكل الناتجة عن الأنانية المطلقة من قبيل: الاقصاء الديني أو الإثني وحتى السياسي، سيصبح كل من المواطن والحاكم إنسان بالدرجة الأولى يسخّر كل طقاته للحفاظ على أرقى ما توصل إليه الإنسان ألا وهي الدولة والمواطن.
قد يقول قائل إن هذه التصورات طوباوية صعب تحققها على أرض الواقع، وسنجيب أنه طالما أننا في عصر النسبية كل شيء قابل للتحقق فقط إذا توفرت الإرادة.
Add Comment