الدولة كشرط مسبق للديمقراطية في الوطن العربي
الباحث: ملاح السعيد
جهة النشر: Caus Centre
مقدمة:
تعلمنا الأدبيات السياسية أن الديمقراطية ترتبط بعامل الصراع الاجتماعي لأنها تقدم نفسها كآلية مؤسساتية للتسوية ولإدارة النزاعات. وفي الحالة العربية قد تمثل الديمقراطية وصفة للتخلص من الاستبداد ومن التسلط الذي أعاق نمو المجتمعات اقتصادياً وسياسياً، لذلك فنحن لسنا مطالبين بتفسير ظاهرة مفقودة، بقدر ما نحن مطالبون بالبحث عن العتبات التي قد تقودنا إلى أنظمة حكم صالحة ومستقرة.
ومنذ الخمسينيات أجمعت أدبيات التنمية السياسية على أهمية العامل الاقتصادي في خلق بيئة جيدة لظهور الديمقراطية، لكن أدبيات الانتقال إلى الديمقراطية تذهب إلى شرط أولي آخر وهو شرط الدولة أو الحسم في المسألة الوطنية وفي جوهر الجماعة السياسية التي ينتمي إليها الجميع.
سنعتمد في هذه الدراسة على عدة أسئلة بحثية:
– هل الديمقراطية ممكنة قبل تسوية مشكلة الهوية الوطنية؟
– هل الديمقراطية تبدأ من الدولة أم من الأمة؟
– وهل يمكن أن تقوم الديمقراطية في مجتمع ليس مدنياً، وهل يمكن أن نرى مجتمعاً مدنياً يقوم بطرق غير ديمقراطية؟
تبين كتابات دانكوارت روستو (Dankwart Rostow) وإيلان بالج (Ilan Peleg) وخوان لينز (Juan Linz) وألفريد ستيفان (Alfred Stépan) أمراً مهماً حول دروس الدمقرطة، فكلهم يقولون بأسبقية شرط الدولة والحسم في المسألة الوطنية ومسألة الهوية، وبالتالي فلا يمكن أن نتكلم عن مشروع ديمقراطي في جماعة لا تعرف ضرورات العيش المشترك، ولا تملك تصوراً موحداً عن الماضي والحاضر والمستقبل.
وفي الحالة العربية تزداد هذه الضرورة باعتبار أن مختلف تجارب التحول والانتقال أثارت إمكانات انهيار الدولة بكاملها، كما أن أسئلة «الثورات» التي قامت كانت دوماً متعلقة ببناء الدولة وليس إصلاح طرق وأشكال الحكم، ووفق تعبير جون واتربوري (John Waterbury) فإن الثقافة العربية تقدم نفسها على أنها ثقافة محرومة من الازدهار الجماعي.
بالنظر إلى وضعية الفواعل المختلفة يفضل الجميع الدولة كأقوى طرف لقيادة الإصلاحات، وبخاصة أنها استولت على التراث البيروقراطي من الاستعمار، ولهذا فنقاش عتبات الانتقال في الحالة العربية لا يجب أن يتجاوز هذه الثنائية:
- يجب التأسيس لمفهوم الجماعة السياسية – أو ما يسميه البعض المجتمع السياسي – ذات الهوية الوطنية.
- يجب عدم حيْد الأنظمة في المراحل الانتقالية، أي يجب التفاوض مع الأنظمة القائمة على قيادة إصلاحات جادة لا تقصي أي أحد من أطراف اللعبة السياسية.
أولاً: ترتيب ثلاثية الدولة والأمة والديمقراطية في مسار الانتقال الديمقراطي
تحليل مسار الدمقرطة يجب أن يتعاطى مع عدة أسئلة أهمها:
– هل يمكن الحديث عن انتقال إلى الديمقراطية قبل الحسم في السؤال المتعلق بالدولة كإطار عام يحتوي ويؤطر العملية؟
– يرتبط بهذا السؤال سؤال آخر وهو: هل ترتكز الديمقراطية على الجماعة الوطنية أم على الجماعات القبلية والطائفية ماقبل السياسية؟
تفيدنا كتابات محمد عابد الجابري – وبخاصة كتابه العقل السياسي العربي – لفهم كيف تأسست ظاهرة السلطة في المخيال الاجتماعي العربي، وكذا تماهي ثلاثية الدولة والنظام السياسي والسلطة السياسية، وهذا التماهي أدى إلى عدم وجود مجال سياسي – نشاط سياسي – يمكن ممارسة الملاحظة عليه بشكل منفصل عن بقية النشاطات الاجتماعية، وهو ما يفسر صعوبات الإصلاح على ما هو سياسي. وهو الطرح نفسه لمحمد جابر الأنصاري الذي أشار إلى هذه الإشكاليات في معظم كتاباته.
ويفضل محمد أركون العودة إلى التحليل الأنطولوجي (l’analyse Ontologique) الذي يبحث في الأصل التاريخي للدولة العربية، ويعتقد بأنها دولٌ استعارت النموذج القومي من القوميات الأوروبية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وقد تحملت هذه الدول مهام ثقيلة جداً بدءاً من المشاكل التي تركتها فترة الاستعمار وكذا طبيعة المجتمعات المتعددة الهويات، بالإضافة إلى أعباء التنمية الاقتصادية[1].
ووفق أركون، اقترن ميلاد الدولة القومية العربية بتجاوز ظرفين أساسيين[2]:
1 – القضاء المفاجئ والعنيف على الدولة الخليفية السنّية عام 1258م بدخول المغول إلى بغداد رغم محاولة العثمانيين فيما بعد.
2 – نشأة البلدان العربية التي اقترنت برقعة جغرافية وحدود دولية معبأة بتناقضات عميقة على مستوى الهويات، بمعنى أنها لم تكن نتيجة للفصل في مسألة طبيعة الانتماء والهوية، ليسود فيما بعد الخوف من انفصال القوميات المحرومة من دولها.
ما يهم حسب محمد أركون أن الدول العربية الإسلامية تجد نفسها محرومة من المرجعية المؤسساتية لماضٍ إسلامي ملغىً منذ زمن طويل، وفي الوقت نفسه مشدود بقوة إلى فعالية النموذج الغربي. لذلك تبنت النموذج القومي اليعقوبي الفرنسي بكل المخاطر التي يتضمنها من إقصاء وتجاوز للعديد من الهويات الفرعية والكلية في الدول[3].
وفي هذا ارتجال لتركيبات قومية تضطر فيما بعد إلى فرضها وصيانتها بالقوة والإذعان، وبالتالي فإن المشكلة هنا تكمن في عدم ممارسة أي نوع من النقد على النموذج الغربي، وعدم إخضاعه لمتطلبات علم التاريخ والأنثروبولوجيا والفلسفة السياسية ونقد القانون.
وهكذا، فالنماذج السياسية في مختلف الأقطار العربية كانت نتيجة محاكاة النموذج السائد في النظام الدولي من أجل الانسجام مع البيئة الدولية، أو أن هذه النماذج كانت محصلة لإرث تاريخي عن الحقب الاستعمارية في كثير من الدول. وهو التحليل نفسه لبرتراند بادي الذي قال بأطروحة الدولة المستوردة، التي تجاوزت كل المعطيات السوسيولوجية والسياسية للدول النامية، لدرجة أنها أسست لجهازها البيروقراطي قبل أن تظهر الأسس الاجتماعية والمدنية للمجتمع السياسي[4].
المقصود بشرط الدولة هو الإطار العام الذي يضمن الخطوط الحمر التي يحترمها الجميع، أي توافر مجموعة مؤسسات دستورية وأمنية بولاء للدولة لا للسلطة السياسية؛ وهو الولاء الذي يؤهل هذه المؤسسات لأداء دور التحكيم في اللعبة السياسية بين السلطة والمعارضة، وفي حالة الفراغ أو انغلاق اللعبة السياسية تستطيع هذه المؤسسات إمساك المراحل الانتقالية وتجنب تفكك الدول والعودة إلى حالة الطبيعة – (Pré politique situation) – أو مراحل ما قبل الحالة التعاقدية بلغة نظرية العقد الاجتماعي. ولا يجب تجاوز هذا الإطار في المراحل الانتقالية لأنه الضامن الوحيد لتجنب ظهور الخيارات العنيفة نتيجة تحول اللعبة السياسية إلى لعبة صفرية بدون وجود سلطة تحكيم بين الأطراف المتنافسة حولها.
1 – أطروحات علماء الانتقال (Transitologues)حول شرطية الدولة
يقدّم خوان لينز وألفريد ستيفان تأكيدات قوية حول هذه الحلقة البحثية الضعيفة في أدبيات الانتقال الديمقراطي، ويرجع السبب وفقهما إلى أن شرط الدولة لم يحظَ بالأهمية الكبرى في الأعمال التي اشتغلت على تفسير الموجة الثالثة، كون تجارب أوروبا الجنوبية وأمريكا اللاتينية لا تطرح فيها إشكالية الهويات بقوة باستثناء حالة إسبانيا، كما لا تطرح إشكاليات المواطنة والانسجام الاجتماعي بالحدة نفسها في أمكنة أخرى من العالم، وبخاصة المنطقة العربية وأفريقيا.
الانتقال إلى الديمقراطية يعني حدوث إجماع على نوع جديد للشرعية وعلى معاداة العودة إلى نظام غير ديمقراطي، وفي العديد من الدول ترتبط أزمة الأنظمة غير الديمقراطية باختلاف عميق حول سؤال الهوية السياسية، أو ما الذي يمثل السياسة أو المجتمع السياسي، وكذلك ما هو الشعب أو الشعوب التي تسكن الدولة ويمكنها أن تكون عضوة في الجماعة السياسية؟ لذلك الاختلاف داخل حدود الدولة، خاصة داخل الجماعة السياسية وقضية الحق الشرعي للمواطنة داخل الدولة، يطرح إشكالية «أسبقية وأولوية الدولة» أو ما يسميه خوان لينز بـ The Stateness Problem[5]، أو شرط الوحدة السياسية كبديل لشرط النمو الاقتصادي الذي دافعت عليه نظرية التحديث لوولك روستو ومارتن ليبست.
يطرح خوان لينز ثلاثة أسئلة أساسية:
– لماذا يعتبر وجود الدولة شرطاً مسبقاً للديمقراطية الحديثة؟
– لماذا تختلف السياقات المفاهمية والتاريخية لبناء الدولة وبناء الأمة؟
– ومتى تدخل الدولة الأمة في حالة توافق أو تنازع مع الديمقراطية، وما هي طرق تجاوز حالات التناقض والصراع؟
ينطلق في الإجابة من الارتكاز على مضمون الديمقراطية والدولة، بحيث إن الديمقراطية هي شكل لحكم الدولة الحديثة (Form of gouvernance)، لذلك فبدون الدولة لا توجد إمكانية لقيام ديمقراطية حديثة، وهذا التأكيد مثبت نظرياً وتجريبياً، أما الدولة فهي بالمدلول «الفيبري» جهاز إداري وقانوني قابل للتغيير عن طريق التشريع، وجماعة تملك عضوية في الإقليم بالولادة، وشرعية تؤسس لاحتكار القوة والعنف داخل المجتمع[6].
والدولة حسب تشارلز تيللي (Charles Tilly) هي الوحيدة القادرة على رقابة السكان داخل الحدود، ولن تستطيع فعل ذلك إلا بتوفر ثلاثة شروط أساسية[7]:
– تميزها عن بقية المنظمات التي تنشط داخل الإقليم.
– استقلاليتها وعدم تبعيتها لأي إدارة داخل الدولة – بما في ذلك السلطة السياسية بالمفهوم التسييري.
– وترابط أجزائها فيما بينها – أي الوحدة الإقليمية.
ولهذا فغياب قدرات الدولة على احتكار القوة داخل الإقليم لا يمكنها أن تفرض أي إجراءات ولا أن تقوم بأداء أي التزام تجاه المجتمع، وبالتالي لا يمكنها أن تؤسس لحكم ديمقراطي، ولذلك فغياب الدولة يعني غياب السلطة السياسية وإمكانية الحكم الديمقراطي[8].
ويحاجج خوان لينز بأن هناك اختلافاً كبيراً بين بناء الدولة وبناء الأمة، ورغم أنهما يظهران بأنهما مرتبطان إلا أنهما مفاهيمياً وتاريخياً لهما مسارات مختلفة وتفاعلهما يمكن أن ينتج مشاكل كبيرة لعمليات الدولنة (Stateness) والدمقرطة.
فبناء الدولة رافق أزمة الإقطاعية وبداية النهضة والإصلاح، كما كانت نتاج أزمة الإمبراطورية، والصراعات الدامية بين الملكيات الأوروبية غرباً وبعدها شمالاً، فالدولة حسب بوركهارت (Burckhrdt) هي نتاج «عمل فني» ومنذ بدايتها كان لها طابع صناعي، لذلك لم ترتبط الدولة بتطور عضوي كما يشار إليه في الحوارات القومية، كما أنها لم ترتبط بفكرة الطبيعة أو الميلاد العضوي، ولكنها ترتبط أساساً بفكرة الإبداع والحرفة[9].
أما عملية بناء الأمة حسب ماكس فيبر فترتبط بمجال القيم، وهي شعور عفوي ولا يعبر عن اتفاق حول كيفية تحديد هذه الجماعة، وعموماً فجماعة الأمة ليست بالضرورة هي جماعة الدولة، والأمة ليس لديها طابع اسمي ولا قيادة محددة، وبالتالي لا توزع فيها الحقوق والأدوار، ولا تملك القوة أو الإكراه أو النفوذ لفرض النظام وإعطاء الحقوق، لذلك فالدولة هي الوحيدة القادرة على ذلك، والأمة هي مجرد تعريفة نفسية للشعب الذي يمثلها.
فالدولة هي نتاج التوافق الخارجي مع قواعدها، أما الأمة فهي نتاج التوافق الداخلي[10].
وفق هذا الطرح فالأمة شعور داخلي والدولة أداة خارجية، والديمقراطية ترتبط بطبيعة العلاقة القائمة بين الدولة والأمة، لذلك يشرح خوان لينزال الأوضاع التي تنسجم فيها الديمقراطية مع الدولة – الأمة والحالات التي تعرف التوتر.
في الأصل سياسات الدولة الأمة تختلف عن السياسة الديمقراطية حسب روجرز بروبكر (Rogers Brubaker) لأن السياسات الوطنية للدولة تستهدف ترسيخ مضمون الأمة والأغلبية، أما منطق الديمقراطية فيتأسس على أن جميع المواطنين لديهم نفس الحقوق المتساوية، ولتخفيف هذا التناقض يجب معرفة نوعية السياسات التي تستهدف بناء الأمة والديمقراطية المستقرة[11].
السياسات التي تستهدف بناء الأمة وبناء الديمقراطية يمكنها ألا تتناقض في حالة ما إذا امتلك معظم سكان الدولة نفس الفكرة عن الأمة، بمعنى وجود أمة واحدة في الدولة. وقد تتوفر تعددية ثقافية بسيطة، وفي وجود هذه الشروط يمكن للقادة السياسيين تبني سياسات الدمقرطة وسياسات الدولة – الأمة، وهذا الاتفاق يمكنه أن يسهل بناء دولة – أمة ديمقراطية (Democratic Nation-state) ويجنبنا مشاكل المراحل الانتقالية وترسيخ الديمقراطية[12].
عموماً تختلف الأنظمة الديمقراطية عن الأنظمة غير الديمقراطية، لأن الأنظمة غير الديمقراطية لا يهمها الإجماع داخل الدولة أو التوافق، والمهم هو قدرتها على صيانة الإذعان وفرضه على الأغلبية لمدة طويلة بدون أن يمس تجانس الدولة، ويكفي توافر سلطة مركزية قوية حتى تقمع أي حركة انفصالية أو مطالب للأقليات، لذلك فالإجماع والتوافق ليس من متطلبات الأنظمة التسلطية.
في حين أن الديمقراطية تفترض التوافق فيما بين جميع المواطنين داخل الإقليم حول الإجراءات وحول شرعية الحكومة، وإذا حدث أن وجدت جماعة لا ترغب أو تعلن عدم توافقها يصبح الانتقال والترسيخ الديمقراطيين إشكالياً، ولذلك فالإجماع حول الوحدة ضروري وغيابه غير مستوعب من طرف الأدبيات الديمقراطية.
2 – الأطروحات العربية حول علاقة الدولة والأمة والديمقراطية
اشتغلت العديد من الأعمال النظرية والفكرية والفلسفية العربية على هذه الثلاثية، وخاصة الطروحات والنقاشات حول مدلول القومية، وأول هذه الدراسات نجد أعمال ساطع الحصري التي حاولت تقديم طرح أصيل حول مضامين القومية تستوعب الخصوصيات العربية.
وقد كان كتاب برهان غليون يحمل طرحاً قوياً حول علاقة الدولة بالأمة في الحالة العربية، ويكفي عنوانه لفهم المحنة العربية كون الدولة ضد الأمة باعتبار أنها استعملت العديد من السياسات لتقويض الأمم الموجودة وكذا تفكيك الولاءات والخطابات القومية.
وحديثاً يفضل عزمي بشارة البدء من ما يسميه المسألة العربية، ويعتقد بأنها خضعت لعمل استعماري سياسي وثقافي أدى إلى نفي الهوية العربية للجماعة السياسية التي يمكن أن تؤسس لدولة أمة، وهي نفسها أرضية أي انتقال إلى الديمقراطية.
ويعتقد بأن المسألة القومية غير محلولة لاعتبارات تاريخية ولارتباطها بسياسات القوى المهيمنة في المنطقة، وفي إجابته عن سؤال كيف تؤثر إشكالية القومية على الانتقال إلى الديمقراطية؟ يستعين بإجابة محمد فريد حجاب: «الذي يربط إخفاق الديمقراطية في العالم الثالث بالتكوين غير الكامل للأمة، ويحلل المسألة بأن تكوين الأمة في الغرب سبق تكوين الدولة في حين حدث العكس في العالم الثالث»[13].
مسألة القومية يمكنها أن تعقد موضوع الديمقراطية، بحيث أثبت تاريخياً وعملياً ونظرياً أن هناك تلازماً بين الديمقراطية الحديثة والقومية الحديثة، لأن الأمة هي الوعاء الذي يحتوي الديمقراطية، فسيادة الأمة، المواطنة، سيادة القانون، بناء المؤسسات، الحيز العام، الثقة المتبادلة، المشاركة، التسامح والتعددية كقيم عامة للديمقراطية لا يمكن أن تنشأ خارج إطار «نحن المتخيّلة»، فالنحن الجماعية تتحمل النقاش السياسي وتداول السلطة سلمياً، وهي ضمان عدم تحول المجتمع بانقساماته الثقافية إلى انقسامات سياسية[14].
وحديثاً وتزامناً مع حركات الهجرة وحركات التعامل أصبح بديل القومية هو فكرة المواطنة، وأصبحت المواطنة هي «النحن» وهي طريق العضوية في جماعة الدولة، وهذا ما يذهب إليه يورغن هابرماس في طرحه حول «الأمة المدنية».
في حالات غير ديمقراطية مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا رافق التحول الديمقراطي حركات انفصالية، ففي حالة يوغسلافيا كان التحول دموياً وأخذ شكل التطهير العرقي؛ وفي حالة تشيكوسلوفاكيا كان سلمياً، ولكن الإجماع هو أن التحول استوجب ضرورة الانسجام القومي سواء عن طريق التطهير العرقي أو تحويل شعوب معيّنة إلى أقليات داخل الدولة[15].
أما في الحالة العربية، سواء في لبنان أو في العراق أو ليبيا أو اليمن، فإن الانتقال فيها من سلطة استبدادية إلى حالة تعددية يعني انهيار الدولة، ولذلك فمعظم المجتمعات العربية وجدت نفسها أمام خيارين أساسيين: إما وحدة مفروضة بواسطة الاستبداد، وإما الانفصال إلى دول طائفية.
مشكلة الدولة في العالم العربي أنها تعبر عن الطابع الإشكالي والاستعصائي لأنها تطورت بدون أن تنفصل عن النظام وعن السلطة. لذلك يختلط علينا الأمر حين نسائل قضية الإصلاح، هل نصلح الدولة أم نصلح طرق ممارسة السلطة؟
الجميع يجد نفسه أمام إشكالية من أين نبدأ في عملية الإصلاح، وهذا لصعوبة فصل الدولة عن الحيز الاجتماعي في الوطن العربي، ونتيجة هذا الوضع لا يمكن أن نقبل على الانتقال من خارج إطار الدولة، أي يجب أن نفصل الدولة عن طرق ممارسة السلطة، وهنا تقدم الديمقراطية كآلية لممارسة الحكم وليس كآلية لإصلاح الدولة.
لذلك لا يمكن الحديث عن ديمقراطية إلا في وجود دولة، وإذا كان هناك تصور مضطرب عن الدولة تصبح الديمقراطية خياراً مستحيلاً وثانوياً.
ثانياً: الديمقراطية ومحاذير تفكيك الدولة في العالم العربي
في حالات التحول تبين الملاحظة التاريخية أن معظم التجارب العربية في الإصلاح بيّنت أن الإصلاح السياسي يؤدي عادة إلى تحول العشائر والانتماءات الثقافية إلى وحدات سياسية متنافسة، لذلك فإن التعددية السياسية لا يمكن أن تعتمد على التعددية الثقافية والاجتماعية، لأن هذا الوضع يفرغ أي إصلاح سياسي من مضمونه الديمقراطي.
استبصار حالات ليبيا ولبنان والصومال والعراق وسورية والأردن والبحرين واليمن تثبت فرضية أن الديمقراطية بالمضمون الليبرالي يمكنها أن تكون طريقاً للفوضى ولتفكك الدولة، والسبب يعود إلى عدم نضج مفهوم الجماعة السياسية، كما أن الأنظمة السابقة كانت تقدم نموذجاً عن الأمة يصونها القهر والإذعان، فالدولة في الحالة العربية كانت دائماً ضد الأمة، كما أن السلطات الاستبدادية وظفت العنف لضمان الاستقرار بدلاً من تبني برامج لتطوير «الخطاب القومي المدني»[16].
والنتيجة التاريخية الثانية هو أن التحولات الديمقراطية في الدول العربية مثلت فرصة تاريخية وأعطت منافذ للأقليات المضطهدة من أجل تمرير التعددية أو الوصول إلى السلطة، وهنا أصبحنا أمام فرص تحول التعددية الثقافية والاجتماعية إلى تعددية سياسية، وهذا ما ينتج ديمقراطية ملغاة بتعبير إبراهيم غانم لأن نظام المحاصصة الطائفية يعتبر في جوهره غير ديمقراطي.
1 – التعددية الثقافية والديمقراطية في الحالة العربية
الديمقراطية كأداة لإدارة النزاعات الثقافية والاجتماعية هو من أقدم الطروحات في الأدبيات الديمقراطية، والكل يرجعه إلى جون ستيوارت ميل الذي قال بأن التعدد والانقسام لا يتناسب مع الديمقراطية، ويذهب إلى درجة القول باستحالة قيام الديمقراطية في البلدان المكونة من عدة قوميات[17].
الوطن العربي أمام نموذج للتعددية يعتمد على تعدد انقسامي للجماعات الطائفية والعرقية يتجاوز المواطنة القومية المشتركة ويعمل ضدها بدلاً من تعددية تقوم على قوى سياسية تمثل مواطنين، وهذا ما يعني أنها تهدد وتدمر النسيج السياسي[18].
إذا النقاش حول التعددية الثقافية والإثنية والديمقراطية كان موضوعاً لمعظم أدبيات التنمية السياسية، بحيث إن نظريات التحديث تكلمت عن شرط الجماعة الوطنية التي تحول دون التقسيم العمودي إلى طوائف وعشائر، وحتى نظرية الانتقال إلى الديمقراطية فإنها جعلت من شرط «الدولة الموحدة» الشرط المسبق الوحيد لأي عملية ديمقراطية، فالسلطة الديمقراطية ملك للشعب ولكن فقط إذا كان الشعب موحداً كما قال جون ستيوارت ميل.
تفيدنا كثيراً حالة العراق التي تبين كيف أن التدخل الأمريكي كان بهدف تحويل العراق إلى فدراليات ديمقراطية، وبالتالي فالعراق في الخطاب الأمريكي هو دولة مصطنعة، لذلك ظهرت دعوات حل الدولة في العراق وترك المجال للانتماءات المذهبية والعشائرية والإثنية، وقد توقع العديد انحلال العراق بعد الحرب وصعود الانتماءات ما قبل الوطنية، وكتابات إيلي خدوري وبرنارد لويس تقول باستحالة الدولة في العراق وبالتالي استحالة الديمقراطية، وهنا يصبح خيار السلطة القوية والتسلطية ضرورة لحفظ الأمن واستمرار الدولة[19].
وبحسب هذا الكلام فإن معضلة الديمقراطية في غالبية الدول العربية هو طبيعة الانتماءات ماقبل الوطنية التي تعيق تشكل «الجماعة الوطنية»، كما أن هذه الانتماءات تصبح أكثر واقعية وبخاصة في مراحل انهيار الدولة أو على الأقل في المراحل الانتقالية، فالبنى القبلية تقدم حلولاً أقل تكلفة وأكثر انسجاماً، وأسرع تعبئة من أي آلية أخرى تمنحها الظروف الانتقالية.
وما هو خطير أكثر في إمكانية تحول التعددية الثقافية إلى تعددية سياسية هو ظهور أنظمة المحاصصة التي تكرس المنطق القبلي، وترتقي بالخلافات والانقسامات الاجتماعية إلى الأمكنة السامية في الدولة، وهذا النظام المؤسس على الطوائف والعصبيات يستمر بإعادة إنتاج نفسه، وهو ما يمثل تعطيـلاً أبدياً للمشروع الديمقراطي.
فالتعددية الطائفية والإثنية تمثل دائماً مصالح جماعة معينة وممثلي النظام الطائفي، وهنا ينتفي الإبداع السياسي وتتراجع المشاركة الحقيقية، كما تتخلف الجماعة الوطنية ومعها المجال السياسي بشكل عام.
هناك عدة كتابات عملت على كيفية تجاوز هذه التحديات التي تطرحها التعددية الثقافية والقومية وأهمها طروحات ألفريد ستيفان وخوان لينز اللذان طرحا سؤالاً أساسياً، وهو كيف يمكن تحقيق الديمقراطية في الدول متعددة القوميات؟ وتنطلق إجابتهما من الإقرار بصعوبة الترسيخ في حالات الدول المتعددة القوميات، والعكس بالنسبة إلى الدول التي تعيش فيها جماعة مواطنين لا ينتمون ذهنياً إلى الخارج، ويحترمون مواطنتهم ويعيشون فرصهم وحظوظهم[20].
في هذه الحالة من التعددية القومية، تزداد فرص الترسيخ الديمقراطي بواسطة سياسات الدولة التي تحترم مواطنيها وتساوي بينهم، وتمنحهم سقفاً مشتركاً، وتعزيز الحقوق الفردية؛ ولذلك فالتعددية القومية لا تحتاج إلى السياسات التي تقصي التنوع وتهمش الأقلية.
أما إذا كانت الاختلافات عميقة وغير قابلة للتوفيق والتسوية تقدم كتابات أرند ليبهارت حلولاً أخرى قائمة على آليات أكثر عملية؛ مثل الحل الفدرالي الذي يتضمن إما المناطق الإدارية أو الفدراليات الإثنية[21].
عموماً، يجب التوجه إلى الحقوق الفردية أكثر من الحقوق الجماعية للجماعات، أي تبني ما يسميه جوزيف راز «السياسات الديمقراطية التي لا تركز على الطابع القومي للدولة» (Democracy Non-nation State Policy) وإنما تستهدف دعم السياسات التشاركية والممارسات غير الإقصائية[22].
ويفيدنا مشروع ويل كيمليكا (Will Kymlicka) كثيراً في فهم الاستقرار وعدم الاستقرار في الدول المركبة، وينطلق من كون أن النموذج الليبرالي يقوم على مبدأ فصل الدولة عن الإثنية، وأعضاء الجماعات الإثنية والقومية محميّون من التمييز والتحيز المؤسساتي[23].
كل النماذج المتوافرة لا تستطيع القضاء على التفاضل الثقافي، لذلك يجب على الأقل السعي حسب كيمليكا لإنشاء ثقافات مجتمعية متميزة وكاملة مؤسساتياً، أي سلسلة كاملة من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والسياسية التي تشمل الحياة العامة والخاصة على السواء[24].
لا تقول أطروحات كيمليكا بالثبات في القوميات والثقافات، بحيث يمكن ممارسة التلقيح الثقافي الذي ينتهي بتفكيك وتهذيب الميول والولاءات القومية، وهو التوجه نفسه لدايفيد لايتن (David Laitin) الذي يقول بضرورة العمل على تحسين فرص العيش المشترك للأقليات والمهاجرين من طريق ما يسميه «لعبة التنافس حول الاستيعاب» (Competitive Assimilation Game)[25].
وهناك من يتكلم عن إمكان استغلال التعددية الثقافية لتطوير التوازن والحماية من الاستبداد، ويرى اللورد أكتون إمكان قيام ديمقراطية أهلية (Communitarian Democracy) تتأسس على أسبقية الجماعة عن الفرد، وهذا الطرح هو الذي سيتطور فيما بعد مع الشكل التوافقي للديمقراطية.
2 – نقاشات الأغلبية والأقلية في الدول المتعددة القوميات
تعد معظم الدول الحديثة دولاً مركبة أو متعددة إثنياً، وهذه التعددية تصبح خطيرة إذا لم تمتلك هذه الجماعات صورة موحدة عن الجماعة السياسية، وهنا تزداد صعوبة العيش المشترك، وبخاصة إذا كان وصول إحدى الجماعات إلى إدارة شؤون الدولة يعني انتصار نموذج مصلحي معين.
إذاً أصبحت مقولة مازيني (Mazzini) «أمة واحدة، دولة واحدة» (One Nation, One State) لا تنعكس على معظم الدول الحالية، والأغلبية منها تعد دولة – أمة، والمشهد مكوَّن من دول متعددة الإثنيات أو يقع على رأسها مجموعة تحتكر القوة والهيمنة.
الدولة هي انعكاس لمجتمعها الذي تتأسس فيه كجهاز يحتكر السلطة، لذلك فمن دون دولة لا يمكن أن تقوم أي ديمقراطية حديثة، وبالتالي من المهم أن نركز على سلوك النخب والمجموعات الحاكمة، هل هو سلوك في اتجاه تعميق السياسات الإثنية، أو في اتجاه تذويب الخصوصيات في الجماعة الوطنية.
في الحالات العادية التي توجد فيها قوة مهيمنة فإن كل الفواعل والنخب والبيروقراطيات والقوى العسكرية والأمن والمثقفين تجد نفسها تعمل في سياق وطني واحد أو ما يسميه روجرز بروبكر «الأمة الأساسية»، وهو نفسه توجه ثيدا سكوكبول (Theda Skocpol) الذي يرى بضرورة توفر قوة الدولة حتى تستطيع أن تعمل وتقترح وتفرض سياسات معينة في ظروف حرجة[26].
عموماً هناك عدة تحديات أمام الدول غير المنسجمة، وفي الأفق يظهر حلَّان أو إمكان قيام نموذجين[27]:
– نموذج الدولة المدنية (Civic State Model): هذا نموذج يقوم على المواطنة المدنية المرتكزة على التساوي في الحقوق أمام القانون بدون العودة إلى أي محدد إثني.
– نموذج الدولة المهيمنة (Hegemonic State Model): وهذا النموذج الذي يوجد فيه التمييز بين من يحصلون على كل حقوق المواطنة، والذين يحصلون على حقوق محددة وقاعدية، ويكون التمييز بالمرجعية الإثنية للمواطن (The Ethnic Identity of the Individual)، وهذا يعني أن العضو في الجماعة الإثنية المهيمنة يتحصل على الحقوق الكاملة، أما العضو في الجماعة الصغرى فيتحصل على الحقوق المحددة والضرورية فقط، وهنا يظهر التمييز بين صنفين من المواطنين، الصنف الذي يتحصل على كامل حقوقه، والصنف الذي لا يتمتع بكامل الحقوق.
جوهر عملية دمقرطة المجتمعات المتعددة القوميات والإثنيات هو العمل على تفكيك وإحداث تحولات عميقة في خطابات المواطنة، وهناك من اعتمد مدخل الاعتراف بالحقوق الإثنية لبعض الأقليات التاريخية.
فالدولة يجب أن تكون حاكماً محايداً تستقل بمساحة حرة لإدارة تنازع المصالح داخل المجتمع، وهو دور نظري لم يحدث على الإطلاق، ولكنه وضع افتراضي يتحكم في استقرار معظم الديمقراطيات في العالم، والأصل أن كل الدول تحكمها إثنيات كبرى ويعيش فيها أقليات إثنية محمية، وهو ليس وضعاً مثالياً وتبقى الديمقراطية فيه مهددة دوماً في وجود شروط معينة[28]:
أ – الجهة التي تحتكر السلطة والقيادة تحوز على نفوذ كبير في كل القطاعات السوسيو – اقتصادية.
ب – تزامن سيطرة هذه الأغلبية مع تزايد النزاعات العنيفة بين مختلف الجماعات الإثنية.
ج – تبنّي سياسات تمرير وفرض نموذج ثقافي معيَّن على الجميع مثل حالة صدام حسين في العراق.
د – إذا كانت الأغلبية الإثنية المهيمنة على الحكم لا تتمتع بقيم التسامح تجاه الآخرين وبخاصة تجاه الأقليات الثائرة.
هـ – إذا لم تتوافر بيئة دولية تفرض قواعد حماية للأقليات من هيمنة وتعسف الأغلبية.
إذا توافر أحد هذه الشروط يمكن أن تنهار الديمقراطية أو نكون بصدد «ديمقراطية غير ليبرالية»، أو ديمقراطية بلا سياسات ديمقراطية كما يقول فريد زكريا.
إذا قامت الدولة على منطق استيلاء الأغلبية الإثنية، فإن تزامن الهيمنة مع مطلب الديمقراطية يعدّ لحظة تاريخية لميلاد العنف واللااستقرار وبالتالي زيادة إمكانات تفكك وانهيار الدولة، لذلك يعتقد الكثير بأن الحل هو التحويل الجزئي أو الكلي لنموذج الهيمنة.
هذا الحل تنضجه النزاعات كخيار عقلاني لتجنب الحروب الأهلية، ويتجسد في صورة سياسات تستهدف زيادة نفوذ الأقليات إلى المجال العام والسياسة العامة، وهنا تظهر عدة إمكانات لتقليل التوتر بين الهيمنة الإثنية والديمقراطية[29]:
(1) تحقيق نفوذ متساوٍ بين الأغلبية والأقليات في السياسة العامة.
(2) تنظيم هذا النفوذ في شكل نسب محددة، وهو مبدأ ينسجم كثيراً مع الديمقراطية.
(3) تفضيل الأقليات في بعض المواقع في المجال العام والسياسة العامة.
ويمكن تصور خمسة صور تحليلية لطريقة تعامل الدولة القائمة على نموذج الأغلبية الإثنية المهيمنة مع تحديات الأقليات[30]:
(أ) الوضع الراهن: يقوم على التوفيق وإدارة التوتر بين الطابع الإثني للدولة والقوى الديمقراطية من دون أن تدافع الدولة بقوة على طابعها الإثني.
(ب) التوجه نحو زيادة الإجراءات الديمقراطية: وهنا تحدث الاستجابة للضغوط، أي أن الدولة الإثنية تقبل بمشروع المساواة المدنية من دون تغيير النظام المهيمن مثل حالتَي إسرائيل وتركيا.
(ج) التحول الراديكالي: أي التحول من الهيمنة الإثنية إلى ديمقراطية قائمة على الأفراد أو الجماعات مثل حالة إسبانيا بعد انتخابات 1978.
(د) التحول النصفي المعتدل: تلجأ الدولة إلى دعم نسبي لطابعها الإثني ولكن بطريقة معتدلة مثل حالة روسيا ما بعد الاشتراكية.
(هـ) التوجه الراديكالي نحو الإثنية الكاملة: وهنا تلجأ الأغلبية الإثنية ونخبتها إلى تبني مبادرات راديكالية لتحويل الدولة متعددة الإثنيات إلى دولة إثنية صرفة، مثل حالات الأبرتايد في جنوب أفريقيا، ورواندا عام 1994، وسياسات باكستان في بنغلاديش 1970 وهناك من يضيف[31]:
(و) الانقسام السلمي: أي تقسيم سلمي لإقليم الدولة على عدد الإثنيات والقوميات الموجودة مثل تشيكوسلوفاكيا.
(ز) الانقسام العنيف: وهنا يحدث الانقسام نتيجة نزاعات عنيفة مثل حالة «قبرص».
ويتكلم تشارلز تيلي على ثلاث إجراءات أساسية[32]:
- انضمام شبكات الثقة داخل السياسات العامة.
- إبعاد السياسة العامة عن اللامساواة الطبقية.
- حل مراكز السلطة ذات الاستقلال الذاتي.
خاتمة
تطالعنا مختلف التجارب العربية بأن خيار الديمقراطية فكك دولاً وأسقط أنظمة، ولم يغيِّر شيئاً في الأمكنة الفعلية للسلطة وطرق اكتسابها وفقدانها. أكثر من ذلك، فإن موجات التغيير كانت دائماً تنتهي بإثارة أسئلة بناء الدولة وليس إصلاح شكل الحكم وممارسة السلطة، وهذا فيه الكثير من الغرابة والإشكالية. يعود السبب في ذلك إلى منطق الدولنة السائد الذي لم يفصل الدولة عن التفاعلات السياسية، ولم يجعل منها فاعـلاً محايداً بمؤسسات محايدة تؤطر جميع الحركات والمذاهب والاختلافات، فعندنا الدولة هي نفسها السلطة، وهي نفسها النظام، لذلك انتهت الديمقراطية في ليبيا بإعادة تبني نشيد وطني وراية وطنية، وفي سورية يحدث تفاوض بالسلاح حول المستقبل، وفي لبنان تقسم المكاسب وفق منطق الطوائف، والغائب الكبير هو «الدولة كفاعل محايد قادر على تأطير الجميع». لذلك، علينا مناقشة موضوع الدولة قبل الديمقراطية في الحالة العربية، لأنه ليس من المنطق أن نناقش آليات اكتساب وتجديد ونهاية السلطة قبل الاتفاق على السقف المشترك للجماعة السياسية الوطنية وهو الدولة.
Add Comment