لماذا نخاف أجسادنا؟!!!
بقلم: أنجيل الشاعر
جهة النشر: صدى الجنوب
في طفولتي
…كان لدي رغبة في اكتشاف ما تخفيه أحاديث النساء عن الجنس، لم أكن وقتها أعرف أنه اكتشاف، فقد كان تلصصا وسرقة لأحاديث غامضة، ترمي إلى شيء ما بعيداً عن الأحاديث العامة والمعتادة. لعل تلك الرغبة الملحة والمكفوفة أو المقموعة، التي تساور جميع الأطفال والطفلات هي السبب الرئيس من أسباب الاستيهامات الجنسية، واستيهامات الإناث المتعلقة بالذكور وأعضائهم الجنسية، واستيهامات الذكور المتعلقة بالإناث وأعضائهنّ الجنسية، كما تؤدي تلك الرغبة إلى السؤال المعهود: من أين أتيت؟ فيأتي الجواب: ” من تحت دالية العنب، أو اشتريناك من بائعٍ جوال.
ذات شتاء؛ زارت أمي نساء كثيرات، فكانت تبعدني من الجلسة عندما تبدأ أحاديثهن الغامضة ويتبادلن بينهن نظرات ارتياب من وجود طفلةً أنثى بينهن، لا يجوز أن تتعرف على خفايا الجسد وبيولوجية الأنثى، كان المكان الذي حشرتني به أمي لا يتسع لنوم نعجة صغيرة، فاضطررت إلى البقاء واقفة طيلة فترة الزيارة، مع أن باب المكان كان يفضي إلى غرفة الجلسة النسائية. لم تتوقف رغبتي في التلصص عليهن، وكان ضرباً من الجنون لو اكتشفت أمي ذاك التلصص وسرقة الأحاديث، سيكون عقابي أشدّ من العقاب التي واجهته حينها.
تناهت إلى سمعي جمل كثيرة، مثل: “غابت شمسي على بكير”.. “ما بيعرف شو لون جسمي”.. “وحياتك من تحت اللحاف وبس”. لم أكن أعرف أنه يجب أن أحمل كفني على يدي إذا تجرأت على السؤال أو الاستفسار عن تلك الجمل. حين سألت أمي اكتفت بصفعي على خدي الأيسر فقط، ما جعلني أبتلع بقية الأسئلة وأصمت، إلى أن باغتني أول طمث عند بلوغي. حتى حين باغتني الطمث بغموضه وكل ما يثيرة من ارتباك وقلق وخوف، لم أجرؤ على إخبار أمي، فما زالت آثار أصابعها محفورة في خدي وفي ذاكرتي. وما زلت حتى اليوم أكاد أخجل من الحديث الذي يتناول الجنس، مع أن أغلب المفردات المحلية تحتوي على إيحاءات جنسية يضحك منها الجميع. أما ما يتعلق بالمرأة وجسدها، وخصائصها البيولوجية التي وهبتها إياها الطبيعة فهو محرَّم ومعيَّب، وكذلك “المناطق الحساسة” من جسد الرجل.
كل هذا القمع، وذلك العنف، ليس إلاّ ثقافة شفوية موروثة تستبعد التربية الجنسية، كما أنها تستبعد الحب. غياب الحب، هو غياب للتحسين الذاتي والإبداع، وعرقلة للابتكار في الحياة الإنسانية، يجب أن يكون الحب حاضراً في جميع مفاصل الحياة، فهو “ملكة” وعلى الأفراد تنميتها، كما هو “فن” على الأفراد إتقانه حسب “أريك فروم. أما في المجتمعات المتخلفة ذات الطابع السلطوي (الأبوي) و(التمييزي) الذي يتغّول على العوامل الثقافية والأسئلة المُنتجة، يُعتبر فيها الحب سلوكاً جنسياً وحالة شعورية يجب إخفاءها، كما تحرّمه تلك السلطة على الإناث وتهلل للذكور حين يحبون، كما تهلل لهم عند الولادة، وإلاّ لماذا تقُتل النساء والفتيات اللواتي يحببن، ويصفح المجتمع عن الذكر في حالة الحب، أو العلاقة الجنسية الخارجة عن الثقافة المجتمعية السائدة القائلة “عيب الرجل على حذائه”.
لأن الجنس هو أحد أضلاع الثالوث المحرم، لم يدخل في الـ “مقدمات لدراسة المجتمع العربي” فالمقدمات التي تحدث عنها “هشام شرابي” هي البدايات في التربية، بدءاً من الأسرة فالمدرسة، فالدولة المسؤولة قانونياً وسياسياً وأخلاقياً عن ممارسة الأفراد في المجتمع، وتبني التنشئة الصحيحة في المقدمات التربوية. لذلك نرى تحريم التربية الجنسية أو الحديث الجنسي، جعل الجنس ثاوياً في المتخيل الجمعي للمجتمعات المنغلقة دينياً واجتماعياً، وهذا الانغلاق يسبب توتراً بين المرأة والرجل، في أماكن العمل، أو في الشارع على سبيل المثال، ثم بين الإنسان والعالم، علاوة على الاضضطرابات النفسية التي تصيب الأفراد وتنعكس على المجتمع وتتسبب في الجريمة ولا سيما جرائم التلصص والتحرش والاغتصاب وسائر أشكال العنف التي تسم علاقات الرجال بالنساء.
يتساءل آلان بييز:“عندما يجتاز الرجل المرأة في شارع مزدحم فهو عادة ما يستدير نحوها،أما المرأة فعادة ما تستدير بعيداً عنه. ترى هل غريزتها تدفعها إلى ذلك لكي تحمي أنوثتها؟ هل هي ردة فعل غريزتها الأنثوية؟أم هي تعلمت ذلك في اللاوعي بعد أن رأت الأخريات يفعلن ذلك”؟ علينا أن نركز بشدة على حالتين من هذا القول: الحالة الأولى، مفهوم اللاّوعي- حسب تفسير فرويد – من منطلق أنّ تلك الأفكار والمشاعر تتكوّن ممّا لا يمكن إدراكه في حالة الوعي، كالتصوّرات والرغبات المكبوتة بسبب أنها مرفوضة وغير مقبولة من منظور الوعي (الاجتماعيّ) أو الأخلاقيّ، الأمر الذي يجعل تلك العناصر المرفوضة والمكبوتة تحتفظ بنوع غريب من الطّاقة، وهنا يجب فهم اللاّوعي كظاهرةٍ ديناميكيّة بشكلٍ أساسيّ، أي أنّ اللاّوعي يسعى بشكلٍ دائم إلى تمرير التصوّرات التي لا يمكنُها الوصول إلى الوعي أو بدايته، ما لم تتحوّل خاصّةً إلى أحلام، وبهذا فإنّها تتّخذ شكلَ صفةٍ أو مظهر مقبول أخلاقيّاً (واجتماعيّاً)، والحالة الثانية، أن المرأة اكتسبت مخاوفها من الرجل الذي اكتسبها بدوره من الموروث الثقافي للمجتمعات، ليصبح أي تلامس جسدي بين امرأة ورجل هو ايحاء جنسي ليس إلاّ، “إذا اجتمع رجل وامرأة فالشيطان ثالثهما”، ليس الشيطان هنا إلاّ محرضاً على الفعل الجنسي بينهما، هذه الأيديولوجيا هي التي تخلق من الفرد/الإنسان، فرداً مكبلاً ومقيّداً بمحرمات دينية وأعراف اجتماعية أكل عليها الدهر وشرب، وتجعله غير قادر على التمتع بحريته الشخصية التي هي حق من حقوقه الطبيعية.كثيراً من الأحداث الواقعية تثبت الترسبات الجنسية في المتخيّل الاجتماعي، ذلك نتيجة غياب التربية الجنسية في المجتمعات المنغلقة، كالمجتمعات العربية، وانزياح التسميات الجنسية إلى تسميات معتادة، كقول إحدى النساء “غابت شمسي على بكير” أي “انقطع عنها الطمث” ويمتد ذلك إلى تدنيس جسد النساء وفصله عن الروح الإنسانية، ومنع الشريك من رؤيته كاملاً، وهذا يفضي إلى أننا في أزمةٍ تربوية/ ثقافية، تقصي الجنس من الواقع إلى الخيال، ليتُنتج ثقافةً منقوصة، وكبتاً مزمناً يُنتجان أزمة أخلاقية عميقة في العلاقات الجنسية، وفي العلاقات الإنسانية.
خلاصة القول
إن النُظم الاجتماعية والسياسية والعقائد الدينية، ومنظومة القيم المجتمعية كلها نمَّطت الإناث والذكور والنساء والرجال حسب المواريث السائدة، وصورتها كائناً ناقصاً، ومردّ ذلك إلى السلطة الأبوية التي أعلنت وصايتها على النساء، إضافة إلى العنف الذي يمارس عليهنّ، والعنف الذي يمارسنه هن أنفسهنّ على أنفسهنّ، فقد أخذت النساء تتماهى مع التنميط السائد لهنّ، ومع إعلاء دور الذكر في الحياة العامة، من ثم. فردة فعل أمي العنيفة لم تكن وليدة لحظتها، إنما هي نتيجة عنف مستبطن من فعل أشدّ عنفاً مورس عليها، فالعنف القائم الذي يمارس على النساء؛ ليس حكراً على الذكور، إنما هو فعل ورد فعل، مصدره السلطة الذكورية التي فرضتها المنظومة الاجتماعية على الذكر والأنثى على حد سواء.
هل سنجد “أربعين عاقلاً وعاقلة ينتشلون الجنس من البئر التي رمته فيها المنظومات السلطوية”؟
Add Comment