ركيزة التعلّم بالعمل في عمليّة التعليم المعاصر
بقلم: ناهل الدخيل
جهة النشر: منهجيات
في ضوء التطوُّر العلميّ والتربويّ الذي نشهده اليوم في عمليَّة التربية والتعليم، من تطوّر أساليب واستراتيجيّات ومداخل ركَّزت على دور الطالب الحيويّ والفعّال، والذي يُعدّ محور العمليّة التعليميَّة. ورغم أنّ هذا التطوّر العلميّ خفّف من قيود سلطة المعلّم في صفّه، حيث مَنح الطالب الأهميّة الكبرى، فحرّره من قيود الصفّ والمقعد الدراسيّ والإجابات المقيَّدة، وانطلق به إلى رحاب أوسع ممّا كان سائدًا في نظام التعليم التقليديّ، إلّا أنّه منح المعلّم مزايا علميَّة تؤهِّله لقيادة عمليّة التعليم، بالتوجيه والإرشاد والتقويم وتقديم الدعم اللازم للطالب أثناء الدرس.
التعلّم البنائيّ
أشار كلّ من ديمونت وايزتانس وبينافيدر إلى أهمّيّة إعادة التفكير في ما تَعلَّمناه، وكيف تعلَّمناه؟ وكيف نُقيِّمه؟ انطلاقًا من اعتبارهم التعلّم بالعمل من مداخل التعلّم البنائيّ الذي يتمحور حول الطالب، ويُعزِّز نشاطاته السلوكيّة، بالإضافة إلى نشاطاته المعرفيّة والمهاريّة (السيّد، 2017). كما أشار أجوادوا إلى مقولة مهمّة عن التعلّم بالعمل، مفادها: “أسمع وأنسى، أرى وأتذكّر، أعمل وأفهم” (السيّد، 2017). لتَتعلَّم شيئًا ما يجب عليك أن تَعملهُ، فإذا أردتَ أن تَتعلَّم كيف تقود سيّارة، عليك أن تقوم بذلك، ولو قرأتَ كلّ شيء عن طريقة قيادة السيّارة، فلن تتمكّن من قيادتها إلّا إذا مارست ذلك عمليًّا (عبد الهادي 2012). وعليه، فالمدخل البنائيّ في التعليم هو الطريقة التي تُشجِّع الطلبة على السعي بأنفسهم للبحث والحصول على الإجابة، في حين يرسم المعلّم المسار لتسهيل بناء الطلبة معرفتَهم.
تتأثّر البنائيّة الاجتماعيّة تأثّرًا قويًّا بأعمال فيجاتسكي الذي يعتقد أنّ المعرفة تُبنى أوّلًا وفق سياق اجتماعيّ، حيث يبني الطالب فهمه بناءً جمعيًّا، ويندر أن ينفرد بفهم خاصّ من دون تفاعل مع الآخرين (الرويس، 2016). يحدّد الرويس (2016) أربع خصائص للبنائيّة الاجتماعيّة:
1. عندما يبني الطلبة فهمهم تكون المعارف ذات معنى عندهم.
2. يعتمد التعلّم الجديد على الفهم السابق.
3. يسهِّل التفاعل الاجتماعيّ عمليّة التعلّم.
4. يكون للتعلّم معنى وقيمة عندما يُمارَس وفق مهمّات ووظائف حقيقيّة وواقعيّة.
هرم التعلّم
يعزّز تعلّم العلوم بالعمل المسؤوليّة عند الطالب، كما يعينه على تقديم البراهين والأدلّة والتوضيحات، وتطوير المفاهيم الذاتيّة الإيجابيّة، فضلًا عن تعزيز الثقة بالنفس والقدرة على التعبير عن الأفكار بوضوح وتلقائيَّة (السيّد، 2017).
أوضح موبى ودوجروريزر أنّ التعلّم بالعمل يُطبَّق في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيّات، كما يُستخدَم كثيرًا في الجامعة المستقلِّة الدوليّة في المكسيك. وأشارت تقارير الجامعة إلى أنَّه من أفضل الطرق، ويجب استخدامه في المدارس العليا لأنَّه هادف وذو معنى. كما يتضمَّن أهداف التعلّم المتمثّلة بالتعبيرات الثلاثة الآتية: تعلَّم لتتعلَّم، وتعلَّم لتعمل، وتعلَّم لتكون (السيّد، 2017).
يرسِّخ التعلّم بالعمل التعلّم بالذاكرة طويلة المدى، والتي تحتفظ بكمّ كبير من المعلومات لفترات طويلة. كما تساعد في بقاء أثر التعلّم واسترجاعه عند الحاجة، حيث اقتران الرؤية بالعمل يجعل التعلّم متميِّزًا (السيّد، 2017). يُؤكِّد التعلّم بالعمل على قاعدتين، هما:
1. المعرفة + الاختيار = قوَّة دافعة (طاقة إيجابيّة)
2. قوّة دافعة (طاقة إيجابيّة) + السلوك = تعزيز تعلّم العلوم
أشار زانجي وإكسي إلى تصميم هرم التعلّم، والذي سجّل التنافس بين استراتيجيّات التعلّم المختلفة، وأهمّيّة التعلّم بالعمل، كما يُظهِر الشكل الآتي:
فالطالب يُتقِن المعلومات ويستقبلها من حقل الاستماع إلى حقل التوضيح، بينما ينفِّذ ما تعلّمه من حقل مجموعات المناقشة إلى حقل تعليم الآخرين. يُستنتَج أنّ الطالب يصبح أكثر نشاطًا وخبرة، وتزداد معرفته. وكذلك الأمر في الممارسة العمليّة والتطبيق واستخدام الحواس، كلَّما اتجهنا إلى قاعدة الهرم (السيد، 2017).
من هنا، نادت أساليب التعلّم واستراتيجيّاته الحديثة بمشاركة الطالب في العمليّة التعليميّة. يتوافق ذلك مع ما جاء به هرم التعلّم الذي قدّم التعلّم بالعمل على جانب الحفظ والتذكُّر، ويَتناغم مع ما جاءت به تعاليم مدرسة منتيسوري التي يدعو منهجها التعليميّ إلى أن يكون التعليم فعَّالًا وداعمًا الطفل، ومبتعدًا عن تراكم المعلومات والتلقين والحفظ. فضلًا عن التركيز على تنمية شخصيّة الطالب من النواحي النفسيّة والعقليّة والروحيّة والجسديّة، كي تعينه على تطوير قدراته الإبداعيّة والنقديّة في حلّ المشكلات وتطوير ذاته.
أهمّيّة التعلّم بالعمل
تأتي أهمّيّة التعلّم بالعمل من التطوّر العلميّ الذي خَفّف من قيود المعلّم لصالح المتعلّم، فأصبحنا نسمع بالمتعلّم المعلّم الذي يؤدّي دور المعلّم في العمليّة التعليميّة، أو يعلّم الطلّاب بعضهم بعضًا ضمن مجموعات يمارسون فيها نشاطات تعليميّة تُنمِّي مهارات التعاون والتواصل بينهم، وتُعزِّز ثقتهم ببعضهم.
بالإضافة إلى أنّ التعلّم بالعمل يُولِّد عند الطلّاب شعور الثقة بالنفس والراحة، إذ يتعلّمون من زميلهم أو يُشاركونه التعلّم، حيث نجدهم يناقشون زميلهم المعلّم بالأفكار ويتفاعلون معه من دون خوف أو خجل، ويحاولون استكشاف الأفكار النقديّة والإبداعيّة وتوظيفها في الدرس المُقدَّم إليهم.
بالإضافة إلى ما سبق، يجد المتعلّم المعلّم نفسه أمام فسحة كبيرة من الإبداع التعليميّ لتوظيف أفكاره الإبداعيّة والنقديّة في التعليم، حيث يشعر بمسؤوليّته عن إيصال المعلومة بكلِّ ثقة. وهذا الأمر يخلق جوًّا علميًّا في الصفّ بين الطلّاب؛ يقوم على المناقشة الفرديَّة والجماعيَّة، وعلى التفاعل العلميّ والإيجابيّ في معالجة المعلومات بطرق مهاريّة وإبداعيّة ونقديَّة، تُسهِم في حفظ معالجة المتعلّم لها مع زملائه وفق التعلّم بالعمل.
أمَّا إذا نظرنا إلى دور المعلّم الحقيقيّ في هذه العمليّة التعليميّة، فسنجده دورًا توجيهيًّا وتشجيعيًّا قائمًا على إرشاد الطلّاب وتصحيح أدائهم في الحالات الضروريّة أثناء الدرس.
وفي نهاية الدرس، يكون هناك تقييم علميّ لكلّ ما جرى.
أنموذج تطبيقيّ
- – المستوى: المبتدئ الأعلى.
- – المهارة: القراءة.
- – الأنموذج التطبيقيّ: حالات مجيء حرف اللام في الكلمة، مع شرح الكلمات.
- – مهمَّة الطالب العلميّة والعمليّة: اختيار الطريقة التي يراها الطالب مناسبة للشرح وإيصال المعلومة.
- – مدّة تحضير الطالب المهمّة: يومان.
- – مهمَّة المعلِّم: موجِّه ومرشد ومشجِّع للطلّاب.
- – تفصيل المهمّة: كلَّف المعلّم طالبًا بشرح فقرة من فقرات الدرس، تتناول حالات مجيء حرف اللام في الكلمة، مع شرح كلّ كلمة بالطريقة التي يراها الطالب مناسبة. وردت في الدرس أربع كلمات (لباس، جلسَ، بصل، قال). بدأ الطالب بشرح الكلمات أوّلًا لزملائه، واستخدم هنا الإشارة والتمثيل في الشرح، فأشار في شرح كلمة “لباس” إلى ملابسه، حتى يتعرِّف إليها الطلّاب، وكذلك الأمر في كلمة “جلس”. أمَّا كلمة “بصل” فقد وضّح في البداية أنَّ البصل من الخضروات، ثمّ أشار بيديه إلى عينيه كعلامة على البكاء الذي تُسبِّبه رائحة البصل. أمَّا كلمة “قال” فشرحها الطالب بتحريك يده أمام فمه حركة دائريّة.
بعد الانتهاء من شرح الكلمات، سأل الطالب عن حالات مجيء حرف اللام في بداية الكلمة، أو وسطها، أو آخرها، أو متّصلة، أو منفصلة، واعتمد في شرحه على إشارات اليدين، فسأل الطلّاب: أين جاء حرف اللام في كلمة لباس؟ وأشار بيديه: أوَّل الكلمة أم وسطها أم آخرها. كذلك سأل الطلّاب عن كلمة “قال” إن كانت اللام في “قال” متّصلة أم منفصلة؟ واستخدم الطالب هنا يديه أيضًا في شرح كلمتي متّصل ومنفصل، بتقريب يديه إلى بعضيهما للإشارة إلى كلمة متّصل، وإبعادهما عن بعضيهما للإشارة إلى كلمة منفصل. استمرَّ الطالب بهذه الطريقة في الشرح حتّى النهاية.
* * *
في الختام، نستنتج أنَّ التعلّم بالعمل، أو بالمشاركة، يتناسب تناسبًا كاملًا مع كلّ ما وصل إليه التطوّر العلميّ والتربويّ في مجال التعليم. وذلك من حيث النتائج الإيجابيّة التي يحصل عليها الطالب، بالإضافة إلى تعزيز دوره وزيادة ثقته بنفسه.
Add Comment