ازدحمت المواقع، والصفحات السورية، في الأسابيع الفائتة، بأخبار موسم هجرة السوريين/ ات الأخير. أنباء متتالية، ومتضاربة أحياناً، بعضها يتحدث عن هجرة “خيالية” للصناعيين، وأخرى عن ازدياد هجرة “الحرفيين، وأصحاب الأيدي الماهرة”، وصور تظهر ازدحاماً على فروع “الهجرة والجوازات”، لاستصدار جوازات سفر جديدة، ومنشورات هنا وهناك، من أصدقاء وصديقات قرروا مغادرة البلاد، بحثاً عن مستقبل أفضل، في مكان جديد، مع ازدياد صعوبات الحياة في سوريا، شهراً بعد آخر.
بعيداً عن التقارير الإخبارية، والأرقام، والإحصائيات التي قد يصعب التأكد من صحتها، أفكر كثيراً في الأيام الأخيرة التي يقضيها هؤلاء المغادرون/ ات، قبل أن يستقلّوا الطائرة، أو السيارة التي ستعبر بهم نحو العالم الجديد. كيف يوضّبون حقائبهم؟ ماذا يضعون فيها؟ كم حقيبةً يأخذون؟ ما هي مقاساتها؟ هل تكفيهم اثنتان، أو ثلاثة، لتتسع لحياتهم كلها؟ هل يكترثون للونها، وشكلها، وما إذا كانت مصنوعة من القماش، أو الجلد، أو البلاستيك المقوّى؟ هل يفضلون حقائب الظهر، أم تلك التي يمكن جرّها بأربعة دواليب، ليضعوها في الطائرة؟
بهذا الفضول والأسئلة كلها، توجهت إلى أشهر سوق لبيع حقائب السفر، في وسط دمشق، “سوق الخجا”، لعلّي أجد بين أكوام الحقائب الملونة المعروضة فيه، بعض الإجابات.
زبائن السوق زوجات وآباء وأمهات
بإتقان وأناقة، يعرض الباعة في أرجاء السوق الكبير، المكوّن من ثلاثة طوابق، وأكثر من 250 محلاً، والواقع في شارع الثورة وسط العاصمة السورية، قريباً من سوق الحميدية الشهير، مئات، وربما آلاف حقائب السفر، بمختلف الأحجام والألوان، إلى جانب الحقائب المدرسية المتنوعة. يصعب تمييز الازدحام فيه، وما إذا كان نتيجة انطلاق العام الدراسي، ومجيء الأهالي لشراء ما يرغب به أطفالهم، أو بسبب الإقبال على السفر.
كيف يوضّب المسافرون حقائبهم؟ ماذا يضعون فيها؟ كم حقيبةً يأخذون؟ ما هي مقاساتها؟ هل تكفيهم اثنتان أو ثلاثة، لتتسع لحياتهم كلها؟
وللمكان شهرة كبيرة اكتسبها منذ عقود، مع كونه أكبر أسواق دمشق المخصصة لبيع المنتجات الجلدية، والحقائب المختلفة، وقد شُيّد في هذا الموقع عام 1985، ليكون بديلاً عن السوق القديم الذي أُنشئ في العهد العثماني، وكان ملاصقاً لجدار قلعة دمشق.
الإجابة، أو جزء منها، أجدها عند سامر، أبي محمد، وهو يملك محلاً وسط السوق منذ نحو ثلاثين عاماً. بين زبون وآخر، يحاول الرجل الخمسيني الإصغاء لتساؤلاتي، ويقول إن الأسابيع الأخيرة فعلاً، شهدت إقبالاً كبيراً “نسبياً”، لشراء حقائب السفر.
“أغلب الزبائن اليوم هم إما آباء وأمهات سافر أولادهم منذ سنوات، ويرغبون الآن باللحاق بهم، أو بزيارتهم، والغالبية هن السيدات الحديثات الزواج، ومعظمهن يتزوج بشكل افتراضي عبر الإنترنت، من رجال يقيمون في الخارج. ومع استكمال الأوراق اللازمة، تحضر السيدة مع عائلتها لشراء ما يلزمها من حقائب تذهب بها إلى حياتها الجديدة”، يشرح أبو محمد لرصيف22، ويؤيده في هذه الملاحظة العديد من العاملين، وأصحاب المحال في السوق، فالشريحة الأكبر من الزبائن وفق حديثهم، هي من المتزوجات حديثاً “على سفر”، حسب التعبير المحلي الدارج.
يبيع الرجل كل يوم، حقائب عدة مخصصة لـ”جهاز العروس”، وهي على الأغلب مجموعة مكونة من أربعة مقاسات مختلفة، تكفي لنقل ما تشتريه العروس السورية عادةً، مع بداية حياتها الزوجية، من ملابس، وإكسسوارات، وأغراض شخصية، ولوازم للمنزل. ويبدأ سعر هذه المجموعة من 250 ألف ليرة (80 دولاراً)، إذ تكلف الحقيبة الصغيرة 50 ألف ليرة، والكبيرة 80 ألفاً، صعوداً إلى أكثر من نصف مليون ليرة، مع ارتفاع جودة التصنيع، ونوعية المواد الأولية. “قد يبدو مبلغاً كبيراً، لكن تكاليف الإنتاج باتت مرتفعة للغاية، خاصةً مع ساعات انقطاع الكهرباء الطويلة، وغلاء أسعار الوقود”، ويضيف أن مصدر الحقائب، إما محلي، أو مستورد، من الصين على الأغلب.
لا يعدّ أبو محمد سفر السوريين اليوم، بمثابة موسم جديد للهجرة، ويرى أن الأمر لا يمكن مقارنته مع الأعداد الكبيرة التي غادرت البلاد عامي 2014 و2015، لكنه يحزن كثيراً كلما جاءه زبون راغب بمغادرة البلاد بشكل نهائي. أسأله ممازحةً: “إنت اللي عم تسفّر الناس، وتبيعهم الشناتي”، فيجيب بحسرة: “ظروف المعيشة الصعبة هي السبب. صحيح أن من غادروا البلاد كلهم مرّوا من هنا يوماً، لكني أتمنى أن يعودوا، وأن يتوقف السفر بشكل نهائي”.
“أغلب الزبائن اليوم هم إما آباء وأمهات سافر أولادهم منذ سنوات، ويرغبون الآن باللحاق بهم، أو بزيارتهم، والغالبية هن السيدات الحديثات الزواج، ومعظمهن يتزوج بشكل افتراضي عبر الإنترنت، من رجال يقيمون في الخارج”
حقائب لاستعمال واحد فقط
وسط السوق، تتوقف سيدة خمسينية مع ابنتها العشرينية، محاولتَين البحث عن حقيبتين كبيرتين بسعر “معقول”، فالابنة التي حان موعد سفرها للّحاق بعريسها الذي لا تعرفه سوى بشكل افتراضي، لا تملك الكثير من النقود لدفعها على حقيبة ستشتريها لاستعمال واحد فقط، على الأغلب.
تقول سيدرا، وقد فضّلت الاكتفاء بذكر اسمها الأول، إنها تزوجت زواج “أهل”، منذ نحو عام ونصف، لكن عبر “سكايب”، واحتفلت مع أهلها وصديقاتها، والآن حان موعد مغادرتها إلى ألمانيا، حيث يقيم زوجها.
لا تفكر الفتاة، كما تشير في حديثها لرصيف22، بنقل الكثير من الأغراض، وتكفيها حقيبتان وفق ما تعتقد، لكنها لا تنوي دفع أكثر من مئة ألف ليرة ثمنهما، فهي تشعر بأنها لن تعود، ولن تلزمها الحقيبتان سوى للسفر مرة واحدة. “نذهب نحو المجهول”، تضيف ضاحكةً.
بشكل مشابه، أسأل إحدى صديقاتي التي غادرت قبل خمس سنوات إلى فرنسا، عن نوع الحقائب التي اصطحبتها معها، وإن كانت اشترتها من سوق الخجا. تخبرني بأنها اكتفت بحقيبتين قديمتين كانت تملكهما، وقد تخلصت منهما بمجرد وصولها، ولم تحتج حتى اليوم إلى أي حقيبة جديدة. تضحك حين أذكر أمامها اسم السوق، فهو يولّد لديها، كما لدى معظم سكان دمشق، ذكريات قديمة ترتبط ببداية العام الدراسي، والسفر بطبيعة الحال. “أتخيله مزدحماً اليوم، صح؟”، تسألني في نهاية الحديث.
“لا أعرف كم حقيبة أصلح كل يوم”
في أول السوق، يملك أبو يوسف محلاً لتصليح الحقائب، وبمجرد أن طرحت عليه سؤالاً حول عمله في الفترة الأخيرة، علت وجهه تعابير حزينة، وأشار بيده التي يمسك بها إبرة كبيرة، وخيطاً سميكاً لأكوام الحقائب التي يمتلئ بها محله الصغير، والردهة الواسعة إلى جانبه، وقال: “هي أكثر الأشهر ازدحاماً. الأكثر على الإطلاق مذ بدأت العمل هنا، قبل ثلاثين عاماً”.
يخفض الرجل الخمسيني صوت المذياع القديم الذي كان يستمع من خلاله إلى نشرة أخبار، ويبدو في توق للحديث. “لديّ عمل كثير، من الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساء، وأصلح عشرات الحقائب كل يوم، لكنه عمل ‘ما بيفرّح’، ولا يدعو للتفاؤل. خيرة الشباب والشابات يغادرون البلاد، فمن سيبقى فيها؟”.
ويستدل الرجل على ازدحام برنامج عمله اليومي، من عجزه مؤخراً عن تذكر الزبائن، لكثرة عددهم، فيما يمتلك ذاكرة حادة بما يتعلق بسنوات ما قبل الحرب، ويتحدث بالتفصيل عن زبائنه من مختلف الجنسيات، وحكاياته معهم، مع امتلاك المحل الذي ورثه عن والده شهرة كبيرة في السوق، لإتقانهم هذه الحرفة اليدوية المتوارثة “أباً عن جد”. “لا أذكر يوماً في حياتي أمضيته من دون عمل”.
“لديّ عمل كثير، من الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساء، وأصلح عشرات الحقائب كل يوم، لكنه عمل ‘ما بيفرّح’، ولا يدعو للتفاؤل. خيرة الشباب والشابات يغادرون البلاد، فمن سيبقى فيها؟”
ربما تكمن المفارقة، في كون أبناء أبي يوسف أيضاً، “مروا من هنا”، فابناه الكبيران سافرا قبل نحو ستة أعوام، “بحقيبة صغيرة على الظهر”، كما يقول، وقد يسعى الرجل أيضاً إلى أن يسافر أولاده الأربعة المتبقين، بعد انتهاء دراستهم، بحقائب قديمة قد يصلحها بنفسه، أو جديدة يشترونها من السوق الشهير. “ماذا يمكننا أن نقول؟ المستقبل يبدو غامضاً ومخيفاً، ولا همّ لنا سوى أن نؤمن حياة أفضل لأولادنا”.
يقطع حديثنا رجل يبحث عن “يد” حديدية، لحقيبته القديمة، ويبدو مستعجلاً، فسفره يوم غد، واليد كُسرت، وهو يوضّب الحقيبة، والحقائب الجديدة مكلفة للغاية. يرشده أبو يوسف إلى الطريقة الأفضل لتصليحها بشكل إسعافي، ويغلق محله معلناً انتهاء دوامه اليومي، تاركاً عشرات الحقائب القديمة في انتظار يوم جديد، لتصليحها، وإعادتها إلى أصحابها المسافرين.
أضف تعليق