سوريا: مساهمة إلى لجنة الاختفاء القسري والفريق العامل المعني بالاختفاء القسري أو غير الطوعي بخصوص إصدار بيان مشترك حول الاختفاء القسري قصير الأمد
جهة النشر: Syrians for Truth and Justice سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
يجب تضمين تعريف واضح للاختفاء القسري في القوانين السوريّة بناء على ” إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” والنصّ قانونياً على واجب إبلاغ الأهل أو الممثلين القانونيين حول اعتقال أو توقيف أي شخص
تقدم منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” هذه المساهمة المكتوبة لكل من لجنة الاختفاء القسري والفريق العامل المعني بالاختفاء القسري أو غير الطوعي لدعم إصدارهما لبيان مشترك حول الاختفاء القسري قصير الأمد.
تتناول المنظمة في هذه المساهمة قضية الاختفاء القسري قصير الأمد في سوريا مع الأخذ بعين الاعتبار تعدد الأطر القانونية بحكم الأمر الواقع المتمثل في سيطرة عدة جهات غير حكومية على عدة مناطق في شمال شرق البلاد وغربها.
وعلى الرغم من عدم مصادقة سوريا على اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، إلا أن سوريون من أجل الحقيقة والعدالة تشدد على واجبات الدولة السورية في منع الاختفاء القسري سواء كان قصير أو طويل الأمد استناداً إلى أحكام القانون الدولي ذات الصلة ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والقانون الدولي الإنساني، بالإضافة إلى الصكوك الدولية الأخرى وأهمها إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. ونلفت النظر إلى أن عدة هيئات أممية قد أكدت أن ممارسة الاختفاء القسري في سوريا تتم بشكل ممنهج وواسع النطاق.[1]
تحاول سوريون من أجل الحقيقة والعدالة في هذه المساهمة إلقاء الضوء على النصوص القانونية الأساسية التي وإن بدت وأنها تؤمّن إبقاء الأشخاص المحرومين من حريتهم تحت حماية القانون، إلا أنها في الوقت ذاته مقترنة بالممارسة واسعة النطاق تتسم بالغموض والتناقض وكذلك التصريح في بعض الأحيان بإخفاء الموقوفين قسرياً لفترات قصيرة أو طويلة. كما تشير هذه المساهمة إلى انعكاس مواضع القصور في القانون السوري على الممارسات التي ترتكبها سلطات الأمر الواقع في شمال سوريا عموماً.
أولاً: كيف يُفهم الاختفاء القسري قصير الأمد وفي أية سياقات يحدث؟
- لا يتضمن القانون السوري أية إشارة صريحة للاختفاء القسري بشكل عام. ولكن الحكومة السورية في تقريرها الوطني الذي قدمته عام 2021 لآلية الاستعراض الدوري الشامل ذكرت أن القانون يعاقب على الخطف وحجز الحرية اللذين يصنفان دولياً تحت مفهوم الاختفاء القسري على حد وصف الحكومة السورية.[2] وقد أشارت الحكومة السورية في هذا الصدد إلى المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 2013 الذي يجرم “خطف الشخص حارماً إياه من حريته بقصد تحقيق مأرب سياسي أو مادي أو بقصد الثأر أو الانتقام أو لأسباب طائفية أو بقصد طلب الفدية“.[3]
- على الرغم من إغفال الاختفاء القسري كجريمة في القانون السوري، إلا أن المادة 33 من الدستور السوري النافذ بنصها أن: “الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم” يمكن اعتبارها ضمانة دستورية من الاختفاء القسري كأحد أشكال الحرمان من الحرية، فلا شك أن حرمان الشخص من حريته دون إعلام ذويه بمكان احتجازه ينتهك حرية الإنسان الشخصية وكرامته وأمنه. كما ان القيود المفروضة على توقيف واحتجاز الأفراد في الدستور تشكل شكلاً من الضمانة القضائية لمنع الاختفاء القسري. فالمادة 53 من الدستور تشترط وجود أمر أو قرار صادر عن الجهة القضائية المختصة لتوقيف أي شخص، و يجب أن يُبلَّغ أسباب توقيفه وحقوقه، ولا يجوز الاستمرار في توقيفه أمام السلطة الإدارية إلا بأمر من السلطة القضائية. وبالنظر إلى أن العنصر الأساسي للاختفاء القسري هو وضع الفرد المحروم من حريته خارج حماية القانون، يمكن الركون إلى هذه المواد كإشارة من المشرع إلى واجب الحفاظ على حماية القانون للأفراد المحرومين من حريتهم في كل الأحوال.
- وانطلاقاً من هذه الضمانات الدستورية، فقد نص قانون العقوبات السوري رقم 148 لعام 1949 على عقوبة السجن لمن يرتكب هذا الجرم، بغض النظر عن صفة الفاعل، سواء كان موظفاً لدى الدولة أم لا، حيث ذكرت المادة 555 من القانون المذكور بأنه “من حرم آخر حريته الشخصية بأية وسيلة كانت عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وتخفض العقوبة عن المجرم، حسبما نصت عليه المادة 241 فقرتها الثالثة، إذا أطلق عفواً سراح الشخص المختطف في خلال ثماني وأربعين ساعة، دون أن ترتكب به جريمة أخرى جناية كانت أو جنحة“. وقد نصت المادة 556 من القانون نفسه على: “عقوبة الاشغال الشاقة المؤقتة للفاعل، إذا تجاوزت مدة الحرمان من الحرية الشهر، أو إذا أنزلت بمن حرمت حريته تعذيب جسدي أو نفسي، أو إذا وقعت الجريمة على موظف أثناء قيامه بوظيفته أو في معرض قيامه بها”.
- وقد اعتبرت المادة 367 من قانون العقوبات إن صفة الموظف أو المستخدم لدى الدولة ظرفاً مشدداً للعقوبة، وبالتالي فإن المحكمة تقوم بتشديد عقوبة الفاعل إذا كان موظفاً/مستخدماً لدى الدولة، كما هو حال عناصر وضباط الأجهزة الأمنية والجيش وغيرهم من المكلفين بتنفيذ القوانين، حيث نصت المادة المذكورة على أنه “في ما خلا الحالات التي يفرض فيها القانون عقوبات خاصة عن الجرائم التي يرتكبها الموظفون فإن الذين يقومون منهم بصفتهم المذكورة أو بإساءتهم استعمال السلطة أو النفوذ المستمدين من وظائفهم على ارتكاب أية جريمة كانت، محرضين كانوا أو مشتركين أو متدخلين يستوجبون العقوبات المشددة التي تفرضها المادة 247“. وتشديد العقوبة وفقا للمادة المذكورة يكون بأن تزداد كل عقوبة مؤقتة من الثلث إلى النصف مع مضاعفة الغرامة.
- أما فيما يتعلق بالإجراءات والآليات الواجب اتباعها لحماية الحرية الشخصية للأشخاص، فقد تم النص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية، حيث أكدت المادة 15 على أن النائب العام هو من يراقب سير العدالة ويشرف على الدوائر القضائية والسجون ودور التوقيف وعلى تنفيذ القوانين، أي أن كافة السجون ودور التوقيف وأماكن الاحتجاز تكون خاضعة لرقابة القضاء (النيابة العامة). ولضمان حسن سير هذه الرقابة فقد نصت المادة 422 من القانون المذكور على أنه “يتفقد قاضي التحقيق وقاضي الصلح مرة واحدة في الشهر ورؤساء المحاكم الجزائية مرة واحدة كل ثلاثة أشهر على الأقل الأشخاص الموقوفين في محال التوقيف والسجون“. وبالتالي، يفترض بهذه النصوص والإجراءات المصانة من قبل السلطة القضائية أن توفر حماية للأفراد المحرومين من حريتهم من الاختفاء القسري. وفي هذا السياق، فقد أوجبت المادة 424 من القانون المذكور كل من علم بتوقيف أحد الناس في أمكنة غير التي أعدتها الحكومة للحبس والتوقيف أن يخبر بذلك النائب العام أو قاضي الصلح أو قاضي التحقيق، وعلى هؤلاء، وسنداً للمادة 425، عندما يبلغون بهذا الخبر أن يتوجهوا في الحال إلى المحل الحاصل فيه التوقيف وأن يطلقوا سراح من كان موقوفاً بصورة غير قانونية، أما إذا تبين لهم وجود سبب قانوني موجب للتوقيف عليهم إرسال الموقوف في الحال إلى النائب العام أو قاضي الصلح المختص، وإذا أهملوا العمل بما تقدم فيعتبرون شركاء في جريمة حجز الحرية الشخصية وتجري الملاحقة القانونية بحقهم على هذا الأساس.
- على الرغم مما يمكن اعتباره نظرياً كضمانات حمائية من الاختفاء القسري في الدستور والقوانين المذكورة، إلا أن القصور يكمن في النقاط التالية:
- عدم اشتراط عنصري إنكار الحرمان من الحرية أو رفض الكشف عن مصيره أو مكان تواجده في جرائم الخطف أو الأشكال الأخرى من الحرمان من الحرية. ففي سياق قيام موظفي الدولة بحرمان الأشخاص من حريتهم بشكل مشروع – أي في حالة الجرم مشهود أو تنفيذاً لأمر قضائي على سبيل المثال – قد ينكرون ذلك للعائلات، أو يرفضون التصريح عن مكان هؤلاء الأشخاص، دون أن يُعتبروا مخالفين للقانون، ودون تعريضهم للمساءلة بخصوص هذا الإنكار أو الرفض، حتى وإن قامت الأجهزة القضائية المختصة بمهامها وفق المواد الواردة أعلاه.
- لا يمكن اقتصار مفهوم الاختفاء القسري – حسب موقف الحكومة السورية – على جرائم الخطف، حيث أن الخطف لا يشمل بالضرورة إنكار الخاطف، بل أنه قد يتواصل مع الأهل مباشرة ويطلب الفدية على سبيل المثال. كما أن الخطف بالمعنى الوارد في المرسوم التشريعي 20 لعام 2013 يحمل دلالة القيام بالخطف من قبل أفراد غير حكوميين على اعتبار أن الموظفين الحكوميين مخولون بالحرمان من الحرية في معرض أدائهم مهامهم ولا يمكن اعتبار ذلك خطفاً.
- إن الإجراءات التي يمكن اعتبارها حمائية من خلال رقابة النائب العام وتفقد قاضي التحقيق وقاضي الصلح للأشخاص المحرومين من حريتهم تهدف في المقام الأول إلى ضمان مشروعية الحرمان من الحرية. ففي غياب النص الصريح الذي يوجب عدم إنكار الحرمان من الحرية أو رفض الإبلاغ عن مكان أو مصير الشخص المحتجز، لا يُتوقع من القائمين على الرقابة أصلاً النظر في هذه العناصر.
ثانياً: الأطر القانونية والممارسات التي قد تؤدي إلى الاختفاء القسري قصير الأمد:
- عدا عن أوجه القصور القانونية هذه فيما يتعلق بالاختفاء القسري عموماً، يتسم القانون السوري بالغموض فيما يتعلق بالمدّة التي يسمح فيها لأجهزة إنفاذ القانون بالاحتفاظ بالشخص المحروم من حريته قبل العرض على القضاء المختص. على سبيل المثال، تنص المادة 358 من قانون العقوبات على أن “مديري وحراس السجون أو المعاهد التأديبية أو الإصلاحيات وكل من اضطلع بصلاحياتهم من الموظفين إذا قبلوا شخصاً دون مذكرة قضائية أو قرار قضائي أو استبقوه إلى أبعد من الأجل المحدد يعاقبون بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات“. هؤلاء الموظفون المشمولون في هذه المادة لا يمارسون صلاحية موظفو الضابطة العدلية[4] المكلفون “استقصاء الجرائم وجمع أدلتها والقبض على فاعليها وإحالتهم على المحاكم الموكول إليها أمر معاقبتهم“.[5] يحدد القانون مدة 24 ساعة للاحتفاظ بالشخص الموقوف بموجب مذكرة إحضار قبل التحقيق معه من قبل قاضي التحقيق.[6] ويجب على رئيس النظارة إحالة الموقوف الذي لم يتم التحقيق معه خلال 24 ساعة إلى النائب العام الذي يجب أن يأمر بإطلاق سراحه إذا تعذر استجواب المدعى عليه.[7]
- هذا التحديد وإن بدا متناسباً مع واجب العرض الفوري للمحروم من حريته على جهة قضائية وفق ما نصت عليه الفقرة الثالثة من المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلا أن الحرمان من الحرية لأسباب أخرى غير مذكرات الإحضار إما غير مقيد بهذا الحد الزمني، أو أنه أطول مما يعتبر فترة معقولة. تتيح المادة 1 من المرسوم التشريعي 55 لعام 2011 للضابطة العدلية أو المفوضين بمهامها التحفظ على المشتبه بهم سبعة أيام قابلة للتجديد من النائب العام ولمدة قد تصل إلى ستين يوماً. ويتعارض هذا مع موقف لجنة حقوق الإنسان التي اعتبرت أن شرط “الفورية” في العرض على جهة قضائية يجب أن يكون في حدود 48 ساعة، وان هذا ينطبق في كل الأحوال سواء كانت هناك تهم جنائية أو لا.[8]
- ولدى النظر في الجرائم المشمولة في هذه المادة فهي تلك المتعلقة بأمن الدولة عموماً (المواد من 260 حتى 339 والمواد 221 و388 و392 و393 من قانون العقوبات) والتي تخول موظفي الضابطة العدلية استقصاء هذه الجرائم وجمع أدلتها والاستماع إلى المشتبه بهم قبل عرضهم على الجهة القضائية المختصة. هذه المواد عبارة عن نصوص قانونية فضفاضة وتحتمل أكثر من تأويل، أو يمكن تأويل أي فعل أو سلوك، بل حتى الصمت أحياناً على أنه جرم يعاقب عليه القانون، كون الجرائم الواردة في تلك النصوص غير معرَّفة أصلاً، ونذكر على سبيل المثال “النيل من هيبة الدولة” أو “النيل من مكانة الدولة” أو “إضعاف الشعور القومي“، حيث نصت المادة 287 من قانون العقوبات السوري على أن “كل سوري يذيع في الخارج وهو على بينة من الأمر أنباء كاذبة أو مبالغا فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها المالية يعاقب بالحبس ستة أشهر على الأقل..” ، وفي عام 2022 تمّ تعديل هذه المادة بموجب القانون رقم 15 حيث تم حذف كلمة المالية من المادة، لتصبح أو مكانتها وبالتالي لتصبح المكانة فضفاضة بشكل أكبر ولا تقتصر على المكانة المالية فقط، كما تم حذف كلمة في الخارج من المادة لتشمل كل سوري، مقيم في الداخل أم في الخارج، كما نصت المادة 285 على أنه “من قام في سورية في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال المؤقت“. كما تمت اضافة عبارة المساس بالهوية الوطنية أو القومية الى الجرائم المذكورة في هذه المادة وذلك بموجب القانون رقم 15 لعام 2022. وقد تم النص على الجرائم المذكورة في قانون جرائم المعلوماتية رقم 20 لعام 2022، وذلك بتوسيع نطاق الوسائل المستخدمة في ارتكابها، وذلك عبر استخدام وسائل تقانة المعلومات والصفحات الالكترونية.
- إن ربط هذا الطيف الواسع من النصوص الفضفاضة وغير محددة العناصر بأمن الدولة بشكل أو آخر يوسع من نطاق إمكانية الاحتفاظ بالعديد من الموقوفين الذين يمكن بسهولة تبرير حرمانهم من الحرية وعدم عرضهم على السلطة القضائية لمدة قد تصل إلى ستين يوماً لمجرد الاشتباه وادعاء الاستقصاء بخصوص أي من الأفعال التي قد تفسر بسهولة على أنها تمس أمن الدولة بالمعاني الواردة في هذه المواد. وربطاً بالمادة 422 من قانون أصول الأحكام الجزائية بخصوص التفقد القضائي للسجون وأماكن التوقيف، فإن التفقد الشهري المنصوص عليه في حالة هؤلاء الموقوفين للاستقصاء وفق المرسوم التشريعي 55 لعام 2011 قد يؤدي إلى تعرضهم للاختفاء القسري لمدة شهر على الأقل على فرض أن هذا التفقد يتم بالفعل شهرياً. علاوة على ذلك، فإن غياب أي نص قانوني يفرض على سلطات إنفاذ القانون أو السلطات القضائية المخولة بالرقابة على سير العدالة إبلاغ عائلة المحروم من حريته او الإفصاح عن مكان تواجده لا يحميه من وقوع الاختفاء القسري وإن كان قصير الأمد. فالرقابة المنصوص عليها في القانون هي لحماية سير العدالة، أي ضمان الإجراءات القانونية، وطالما يغيب عن هذه الإجراءات واجب التبليغ أو الإفصاح، فالرقباء على سير العدالة غير مُلزَمين بفرض هذا الواجب.
- من الضروري التذكير بأنه من أهداف واجب عرض الموقوف حضورياً على السلطة القضائية إتاحة الفرصة للنظر في المعاملة التي يتلقاها الموقوف خلال حرمانه من حريته، وذلك كضمانة حماية للحق في الأمن الشخصي وحظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية،[9] وهي حقوق تُنتهَك بحكم الواقع عند ارتكاب الإخفاء القسري. وتبرز هنا قضية مراكز الاحتجاز السرية خاصة تلك التي تكون تحت سلطة أجهزة أمنية واستخباراتية واحتمالية عدم خضوعها لمثل هذه الرقابة. يشير الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي في تعليقه العام رقم 3 إلى مجموعة من التدابير التي تحد من إمكانية وقوع الاختفاء القسري وتضمن حق وصول ذوي المفقودين ومحاميهم وكل من له مصلحة مشروعة إلى المعلومات. ومن هذه التدابير هي أن يكون كل شخص محروم من حريته في أماكن احتجاز رسمية قابلة للتعرف عليها بما يتفق مع القانون الدولي. ولا يجوز بأي ظرف من الظروف تبرير أو إضفاء شرعية على مراكز احتجاز سرية تنتهك الإعلان.[10]
- في الممارسة، يغلب طابع رفض إبلاغ العائلة أو السماح بالتواصل معها خاصة في مراحل ما يعتبر حرماناً من الحرية بقصد التحقيق والاستقصاء. فعلى سبيل المثال، أفاد عامل في المجال الطبّي أنه اعتقل من منزله الكائن في الغوطة الشرقية بريف دمشق خلال شهر حزيران/يونيو 2019 وتنقل بين عدة أفرع أمنية وسجون للتحقيق في نشاطه خلال فترة سيطرة المعارضة المسلحة على المدينة. وقد استمرت فترة التحقيق في مطار المزة العسكري (جهاز المخابرات الجوية) وحده ما يقارب ثمانية شهور، وفي فرع آخر تابع للمخابرات العسكرية (شعبة المخابرات العسكرية/الأمن العسكري) لستة شهور، واستمر على هذه الحال حتى شهر شباط/فبراير 2023 حيث نقل إلى سجن عدرا المركزي، وتمكن أخيراً للمرة الأولى من التواصل مع عائلته. خلال هذه الفترة، حاولت العائلة الحصول على أي معلومات من معظم الأفرع الأمنية في المدينة دون جدوى. ففي مثل هذه الحالة، قد يكون الرقيب على سير العدالة قد قام بما يفرضه عليه القانون لجهة تفقد مراكز التوقيف والسجون، ولكن مما لا شك فيه أن ذلك الرقيب لم يعتبر أن الإبلاغ عن مصير ومكان تواجد ذلك الموقوف كأحد موجبات سير العدالة. وتاكيداً لهذا الاستنتاج فقد منحت المادة 72 من قانون أصول المحاكمات الجزائية قاضي التحقيق الحق في منع الاتصال بالموقوف لمدة عشرة أيام قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، دون ان يشمل هذا المنع محاميه، الذي يحق له الاتصال به في أي وقت، لكن لم يلزم هذا القانون (أصول المحاكمات الجزائية) قاضي التحقيق أو غيره بضرورة إعلام ذوي الموقوف بمكان التوقيف. أي أنه حتى بعد ان يحال الموقوف الى القضاء لا يوجد مثل هذا الالزام الضروري والملح.
- إن غياب الإلزام القانوني على سلطات إنفاذ القانون بالإفصاح عن مكان ومصير الأشخاص المحرومين من حريتهم وأثر ذلك في ممارسة الإصرار المتعمد على حجب تلك المعلومات يخالف جوهر المادة العاشرة من إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي تنص فقرتها الثانية بوضوح على توفير كافة المعلومات – وبشكل فوري – للعائلات أو الممثل القانوني حول اعتقال الأفراد وأماكن اعتقالهم ونقلهم. ولهذه الغاية يفترض بالدولة إنشاء سجل مركزي لهذه المعلومات محدّث بشكل دائم ليكون متاحاً للعائلات والممثلين القانونيين كأحد شروط منع الاختفاء القسري.
- وتجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسة معززة بحصانة قانونية تُخرج طيفاً واسعاً من الموظفين الحكوميين المكلفين بحرمان الأشخاص من حريتهم من إمكانية المحاسبة كما أنها تقيد سلطة القضاء بحقهم، بما في ذلك الدور الرقابي على أماكن التوقيف والسجون. إذ نصت المادة المادة 16 من مرسوم إحداث ادارة أمن الدولة رقم 14 لعام 1969 بأنه “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير“، وفي عام 2008 صدر المرسوم التشريعي رقم 69 وتم بموجبه تعديل المادة 47 من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية رقم 61 لعام 1950 وذلك باضافة مايلي إلى المادة المذكورة لتصبح: “(أ) الجرائم المرتكبة من ضباط وصف وأفراد قوى الأمن الداخلي، وعناصر شعبة الأمن السياسي، وعناصر الضابطة الجمركية، بسبب تأدية المهام الموكلة إليهم. (ب) تصدر أوامر الملاحقة بحق ضباط وصف ضباط وأفراد قوى الأمن الداخلي وعناصر شعبة الأمن السياسي وعناصر الضابطة الجمركية بقرار من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة.” أي أنّ التعديل وسّع من دائرة المستفيدين من الحصانة من الملاحقة القضائية، وفتح الباب واسعاً أمام الإفلات من العقاب.
- ولم يقتصر الأمر على عناصر وضباط الأمن والشرطة والجمارك، بل إن عناصر وضباط الجيش السوري محصنون أيضاً من الملاحقة القضائية، إلا إذا حصلت النيابة العامة العسكرية على أمر الملاحقة القضائية بموجب قرار أو مرسوم يصدر من القائد العام للجيش والقوات المسلحة حسب الحال، سنداً للمادة 53 من قانون العقوبات العسكري رقم 61 لعام 1950، ومن المؤكد أن هكذا أمر لن يصدر طالما إن هؤلاء المتهمون يدافعون عن القائد العام للجيش والقوات المسلحة ويقمعون كل من يقف ضد سياسياته القمعية.
- بناءً على ذلك، فإن ممارسات هؤلاء المشمولين في هذه النصوص القانونية وإن أخرجت المحرومين من حريتهم من حماية القانون من خلال إنكار توقيفهم أو عدم الإفصاح عن مصيرهم أو مكان تواجدهم، أو من خلال مخالفة الإجراءات الحمائية المفروضة، هي ممارسات مُطلقة بحكم الحصانة الممنوحة لهم. ويتعاظم أثر هذه الحصانة إذا ما اقترنت بقوانين مكافحة الإرهاب والمحاكم الاستثنائية التي تحظى بخصوصية تجعلها لا تتقيد بالإجراءات الأصولية المتبعة في أدوار الملاحقة والتحقيق والمحاكمة. فالمادة 5 من المرسوم 109 لعام 1968 تنصّ على أن محكمة الميدان العسكرية غير ملزمة بالتقيد بالاصول والاجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة ، كما إن محكمة مكافحة الإرهاب معفاة أيضاً من التقيد بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة وذلك في جميع أدوار واجراءات الملاحقة والمحاكمة (المادة 7 من القانون 22 لعام 2012). وقد حلت هذه المحكمة محل محكمة أمن الدولة الاستثنائية أيضاً.
- وقد أدّى هذا القصور القانوني عن حماية الأشخاص المحرومين من حريتهم من الاختفاء القسري عموماً إلى ارتكابه من قبل سلطات الأمر الواقع في المناطق التي لا تخضع لسيطرة الحكومة السورية نظراً لاستمرار انطباق معظم النصوص القانونية السورية مع بعض التعديلات التي بمعظمها لا تؤثر على ما ورد أعلاه. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من الإعلان أن مدة التحقيق المسموح خلالها بالاحتفاظ بالموقف قبل عرضه على الجهات القضائية المختصة في مناطق الإدارة الذاتية هي 48 ساعة يمكن أن تمتد إلى 15 يوماً بإذن من النيابة العامة، تزداد هذه المدة إلى أسبوع قابلة للتمديد إلى شهر في قضايا الإرهاب.[11] في الممارسة فإن أي تهمة “أمنية” يمكن أن تؤدي إلى غياب أي معلومة عن مكان أو مصير الشخص الموقوف لفترات قد تستمر لأشهر تعاني فيها عائلته من التواصل والسفر لزيارة العديد من المقرات الأمنية ومراكز التوقيف والإدارات المدنية والعسكرية طلباً لمثل هذه المعلومات. لقد اعتقل أحد الصحفيين خلال شهر أيلول/سبتمبر 2022، وهو يقوم بعمله الصحفي في مدينة الرقة من قبل الأمن الداخلي في الإدارة الذاتية، ولم تعرف العائلة أي معلومة رسمية عن مصيره إلى بعد مرور 41 يوماً حين تم إبلاغهم من قبل قسم الأمن العام بأنّه قد تم تحويله إلى “سجن عايد” بتهمة أمنية. ورفضت السلطات السماح بزيارته على اعتبار الطبيعة الأمنية المشددة لهذا السجن ولم تتمكن العائلة من معرفة طبيعة الاتهام أو ما إذا قد تمت المحاكمة إلا من خلال مصادر شخصية في الأجهزة الأمنية في المنطقة وليس بشكل رسمي.
- ولا يختلف الأمر في مناطق سيطرة تنظيم “هيئة تحرير الشام” حيث تعتبر اتهامات التعامل مع الحكومة السورية أو التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش أو غيرهم، تصريحاً ضمنياً بالاحتفاظ بمن يتم توقيفهم لفترات غير محددة بذريعة التحقيق. وعادة ما لا يتم إبلاغ أو استدعاء الأشخاص “المتهمين” بهذه الاتهامات إنما يتم توقيفهم دون أي إنذار مسبق عند الحواجز ونقاط التفتيش الأمنية. وقد أفادنا أحد ضحايا هذه الممارسات بتوقيفه واعتقاله عند حاجز سرمدا في آب/أغسطس 2022 واقتيد إلى جهة مجهولة حيث بدأت عمليات التحقيق حول ادعاءات تعامله مع مختلف أطراف النزاع في سوريا. لم يسمح له بالتواصل الخارجي مطلقاً، وقصدت عائلته منذ اليوم الثاني لاختفائه مكاتب الأجهزة الأمنية المختلفة وكان يتم إنكار اعتقاله أو المعرفة باعتقاله. تبلغت العائلة بعد شهرين ونصف من اختفائه من قبل محكمة سرمدا بأنه موقوف وستتم محاكمته خلال أيام. تمت تبرئته من كافة الاتهامات وأفرج عنه بعد 3 أشهر من الاختفاء القسري.
- وتعتبر الممارسة أكثر تعقيداً وتعريضاً لاحتمالية الاختفاء القسري في مناطق سيطرة الجيش الوطني المعارض (يتبع للائتلاف السوري المعارض). ويعود السبب الرئيسي لتعدد الفصائل المسلحة وقيامها بعمليات التوقيف والتحقيق بشكل مستقل مما يترك المحروم من حريته خارج حماية القانون خاصة وأن التهم الفضفاضة وغير المعرّفة هي دائماً ما يتذرع به أي فصيل لاعتقال الأشخاص وخاصة السكان الكرد، مثل “الإرهاب” أو “دعم حزب العمال الكردستاني”. وعلى الرغم من وجود اتفاق ضمني برعاية تركية بين الفصائل بوجوب تسليم أي معتقل للشرطة العسكرية لتتولى الإجراءات القانونية وعرضه على القضاء المختص، إلا أن الشرطة العسكرية بحد ذاتها مشكّلة من ضباط وقيادات من الفصائل ذاتها، مما يعني أنه حتى في حال تسليم الفصيل للشرطة العسكرية، فهو على الأرجح يبقى عملياً تحت وصاية ذلك الفصيل حسب المنطقة وسيطرة الفصيل عليها. وتسعى الفصائل إلى المماطلة في تسليم الموقوفين للشرطة العسكرية لمحاولة الضغط على عائلته بغية الحصول على الفدية المالية مقابل إسقاط تلك التهم والإفراج عنه.[12]وعلى الرغم من أنه في نهاية المطاف تتم محاكمة الشخص الموقوف الذي تم تسليمه للشرطة العسكرية، إلا ان ذلك يتم عادة بعد عدة شهور من احتجازه، حيث يكون التواصل خلالها مع العائلة مستحيلاً خاصة خلال احتجازه والتحقيق معه لدى الشرطة العسكرية وقبل إيداعه بالسجن للمحاكمة.[13]
ثالثاً: الأسئلة الإجرائية الأساسية:
- ما هي المدة الزمنية الأقصى التي يتوجب بعدها على سلطات إنفاذ القانون إبلاغ عائلة المحروم من حريته بمصيره أو مكان تواجده؟ هل هناك تدابير واضحة ومحددة لمثل هذا الإجراء؟ هل تختلف هذه المدة والتدابير حسب اختلاف المسوّغ القانوني للحرمان من الحرية؟
- متى يُسمح للموقوف بالتواصل مع عائلته؟ هل تختلف التدابير والحدود الزمنية لهذا الإجراء حسب اختلاف القضايا التي تم التوقيف على أساسها؟
- هل أوجدت السلطات المعنية سجلاً مركزياً للأشخاص المحرومين من حريتهم على اختلاف أسباب وأماكن توقيفهم؟ هل الوصول لمثل هذا السجل متاح للعائلات و/أو الممثلين القانونيين للموقوفين؟ هل تتوفر المعلومات الواضحة والمعلنة عن مثل هذا السجل بما يسمح للعائلات و/أو الممثلين القانونيين الوصول إليها بسهولة وخلال وقت معقول بعد التوقيف؟
- هل يندرج ضمن صلاحيات النائب العام وقاضي التحقيق في سياق أدوارهم الرقابية على حسن سير العدالة ضمان معرفة عائلات الموقوفين و/أو ممثليهم القانونيين بمصير ومكان تواجد الموقوفين وكذلك سير الإجراءات المتخذة بحقهم؟ هل يُعتبر عدم إتاحة هذه المعلومات للعائلات و/أو الممثلين القانونيين مخالفة من قبل السلطات المحتجِزة؟ ما هي الإجراءات القانونية التي يمكن للرقباء على سير العدالة اتخاذها بحقهم؟
- هل يُفرض على النائب العام في حال إعطائه الإذن لتمديد التوقيف أن يتخذ الإجراءات اللازمة لتبليغ عائلة الموقوف و/أو ممثله القانوني؟ هل هناك أي اختلاف في مثل هذه الإجراءات إن وجدت حسب اختلاف أسباب التوقيف و/أو التهم الموجهة للموقوف؟
- كيف تختلف صلاحيات الاحتفاظ بالموقوفين من قبل موظفي الضابطة العدلية حسب اختلاف مهامهم خاصة فيما يتعلق بمدة الاحتفاظ بهم؟ هل تلعب المواد القانونية التي تشكّل المسوّغ القانوني للتوقيف دوراً في اختلاف هذه الصلاحيات؟
أضف تعليق