إنشاء سجل Sign In

الصبر.. فضيلة، أم عبء

صدى الجنوب

بقلم: سمر أبو عمار

الناشر: صدى الجنوب

تاريخ النشر: 05\08\2023

اعتاد الإنسان، ومنذ العصور القديمة الاحتفاء بالصبر على أنه قيمة أخلاقية عظمى، على أنه فضيلة، فترانا نقرأ ونردد الكثير من المقولات “الحكيمة” التي ترفع من شأن الصبر. لتجعله ليس مجرد فضيلة وإنما  “أم الفضائل”. باعتباره وسيلة إنسانية لتأمل الوجود والإنصات للعالم بكل تبايناته. فهو العمل الفكري البطيء الذي يعتمد تعلم الاستماع إلى الأشياء، من خلال السماح لها بالتحدث عن نفسها، بدلا من إجبارها على الإجابة على الأسئلة، هو صبر التساؤل عن علاقة الإنسان بالوجود، والوجود بالإنسان. وسيلة للتعامل مع تحديات الوجود، ومع معاناة الحياة التي تطور إمكانيات الإنسان على الصمود والبقاء، من خلال التعايش بـ”صبر” وتناغم مع غرابة الحياة.

لوحة تجسد رمزية فضيلة الصبر ل جورجيو فاساري، القرن 16

“الصبر مفتاح الفرج”! 

 لا يمل الناس في بلادنا العربية من ترديد هذه المقولة كيقين، ربما لتَبقى جذوةُ الأمل في النفوس المتعبة، مضيئة كشعاع نور في حلكة الظلام، وتمنح الثقة للحياة من جديد بأن الأمور ستؤول للأفضل. 

 ومع ذلك، فقد اعتبر آخرون أن هذه الخاصية الأساسية للحياة البشرية، تمثل عبئًا ثقيلا على الإنسان وعلى المجتمع، فترانا نردد الكثير من المقولات “الحكيمة أيضا”، التي ترى الصبر إما حجة للتقاعس واليأس برداء من الفضيلة “الصبر فضيلة المتسولين”، وإما وسيلة تضفي طابعاً من الحكمة، لإخفاء بؤس الناس وغضبهم من العجز عن تحقيق أحلامهم.

إن مسألة ما إذا كان الصبر فضيلة أم عبئًا، لطالما كانت موضوعًا للنقاش الفلسفي لقرون عدة.

لفهم هذه الفكرة بشكل أفضل، من الضروري التعريج على الجوانب الإيجابية والسلبية للصبر، وكذلك تأثيره على الحياة الفردية والاجتماعية.

“الصبر…فضيلة القوي ويأس الضعيف” ... نيتشة

في الفلسفة، كما في معظم المجالات، غالبًا ما يرتبط مفهوم الصبر بالحكمة وضبط النفس. حيث يتيح للإنسان التغلب على العقبات، وحل المشكلات بهدوء، ومواجهة المحاكمات انطلاقاً من الإخلاص للفكرة دون أن يطغى عليه الاندفاع والضجر. فهو حسب نيتشه، فضيلة الأقوياء، لما يتطلبه من جسارة لتحمل الحياة، والتفاعل معها بروح هادئة، و بصلابة. بالمقابل، اعتبر نيتشه أن ممارسة الضعفاء للصبر، هو شكل من الانغماس في البؤس والعجز. فمنطلق الصبر هو الأمل، والثقة بالتغيير للأفضل، وليس الاستسلام للأمر الواقع والرضوخ.

والصبر كذلك، مهارة إنسانية يمكن تطويرها، فيتعلم المرء التراجع، وتحليل المواقف بحيادية وعمق، واتباع نهج مدروس في اتخاذ القرار. يتعلم الانتظار بهدوء وترقب، وقبول أن الأهداف يلزمها الوقت المناسب لتتحقق، حسب ماهية الهدف، وغالباً هذا الانتظار سينتهي برضىً كبير عندما تتحقق النجاحات أخيرًا. 

أما في العلاقات الإنسانية، فالصبر صفة أساسية للحفاظ على علاقات متناغمة. ففي التفاعلات الاجتماعية، مفيد في فهم الآخرين، ومراعاة احتياجاتهم ووجهات نظرهم، ليكون المرء أكثر تعاطفاً ومرونة مع الآخر المختلف. فهو بوابة التواصل وحل النزاعات، وتقوية الروابط الشخصية. لكونه يعزز التسامح تجاه اختلافات ونواقص الآخرين، مما يساعد على تكوين مجتمعات أكثر تماسكاً، ويمكّنه من لعب دور حاسم في حل النزاع وبناء السلام.

 نيلسون مانديلا، رئيس جنوب إفريقيا السابق وزعيم مناهضة الفصل العنصري، يجسد هذه الفضيلة بكل وضوح. فخلال فترة سجنه الطويلة، حافظ على صبره وتصميمه على النضال من أجل المساواة والعدالة. وبمجرد إطلاق سراحه، اختار طريق المصالحة على الانتقام، وعمل بصبر لتوحيد الأمة المنقسمة.

كان لنهجه الصبور هذا، والمتسامح، دور فعال في تغيير جنوب إفريقيا، وإنهاء نظام الفصل العنصري التمييزي، (الأبارتيد).

“الإبداع، هو صبر لا ينفذ” ..مايكل آنجلو

في سجل آخر، يرتبط الصبر أيضًا بالنجاح في السعي وراء العلم والمعرفة. فكل المعادلات الرياضية والنظريات الفيزيائية والاختراعات العلمية التي تم تطويرها، مثال حي على فضيلة الصبر، فهذه الإنجازات لم تكن نتيجة الاكتشاف الفوري. بل سنوات عديدة استُهلكت في البحث وجمع البيانات وصياغة الفرضيات، قبل الوصول إلى تلك النتائج المبهرة. 

فالصبر بهذا المعنى، عنصرٌ أساسيٌ في تنمية المجتمعات وبناء الحضارات، وتشييد الصروح الحضارية الضخمة مثل البنى التحتية، الطرقات والقنوات المائية، وكاتدرائيات العصور الوسطى في أوروبا، وسور الصين العظيم وغيرها الكثير. أقيمت هذه الآثار الرائعة على مدى عدة أجيال، وتطلبت الكثير الكثير من الصبر ومن العمل الدؤوب من جانب المهندسين والعمال والمديرين. 

إن التخطيط الدقيق والبناء الصبور لهذه الهياكل المميزة يتحدث عن أهمية الصبر في تحقيق المشاريع الضخمة لأهدافها.

لوحة قصة الخلق – قبة كنيسة سيتسين الفاتيكان، مايكل أنجلو

في كل هذه الأمثلة، كان الصبر عاملاً حاسماً في التغلب على الصعوبات ومواجهة التحديات، وتمكين تقدم المجتمعات والحضارات. وهذا يوضح مدى أهمية هذه الفضيلة لتحقيق أهداف طموحة وبناء مستقبل مزدهر.

تكثر الأمثلة وتكاد لا تنتهي عن نتائج الصبر كفضيلة وقيمة عظمى في مختلف الميادين الفردية والاجتماعية.

لكن ومن ناحية أخرى، على الرغم من فضائله الجمّة، يمكن اعتبار الصبر أحيانًا كثيرة أيضا عبئًا، خاصة في مجتمع حديث يتسم بالفورية والتسرع. في عالم يبدو أن كل شيء يحدث فيه بسرعة عالية، يمكن أن يميل الأفراد إلى البحث عن نتائج فورية، ما قد يؤدي إلى التوتر والقلق، وإلى الإحباط والتخلي عن المشاريع الواعدة لمجرد أنها- فقط – لا تتحقق بالسرعة الكافية.

كذلك، يمكن أن يكون الصبر عبئاً عندما يؤدي إلى السلبية في مواجهة المواقف الإشكالية التي تتطلب إجراءً تغييرياً فورياً، فتتقلص قيمته وتتلاشى، كصبر الحمار الذي يذكره نيتشه في “هكذا تكلم زرادشت”، المتمثل بالاستسلام والطاعة العمياء للأوامر بلا مبالاة للنتائج، هو ــ بحسب نيتشه ــ صبر الضعفاء.

 ينطبق هذا أيضًا على السياقات الاجتماعية الأوسع، حيث يمكن للصبر الاستسلامي الجماعي، أن يسمح للأنظمة المستبدة القمعية بالاستمرار والتجذر أكثر فأكثر، بسبب تردد المجتمع في الدفاع عن حقها في التغيير.

حيث يعتبر أن الصبر على الهوان هو الضمان الوحيد للبقاء في المكان، والتمسك بالوجود، فتراه يستبدل الأمل في الحياة الدنيا بالنعيم الموعود في الحياة الآخرة، ويتحول مفهوم الصبر لديهم من وسيلة تأمل وترقب، وأمل وثقة بالحياة، إلى يأس، واعتياد على البؤس والشقاء، وانتظار لزوال الدنيا وما فيها، فلا يدركون بأنهم إنما يتمسكون بالزوال والاندثار لا بالبقاء!

“الفضيلة الأخلاقية هي نتاج العادة” .. أرسطو

 وهنا السؤال: هل الصبر، كفضيلة أخلاقية في بلادنا، هو نتاج البؤس المستمر فيها منذ قرون، أم أن البؤس المستمر فيها هو نتاج الصبر عليه؟ 

ومن هنا، لتقدير الصبر كفضيلة، من المهم إيجاد توازن بين التحلي به، وبين معرفة الوقت المناسب للتصرف.

فلا يكون مرادفًا للتكاسل، وإنما للفهم الواعي لإيقاع الحياة والإستعداد للتصرف المدروس بعمق.

في الختام، الصبر بلا شك فضيلة ثمينة تعود بفوائد جمة على الحياة الفردية منها والاجتماعية. من خلال التعامل مع التحديات بهدوء، وتعزيز علاقات متناغمة مع الآخر، كطريق للوصول إلى إنجازات عظيمة على جميع الأصعدة.

شرط ألا نسمح له أن يتحول إلى عبء ومرارة من خلال التقاعس في مواجهة القضايا المهمة، أو الانشغال بالانتظار اللامتناهي الذي يحمل في طياته الإحباط فيصبح “شكلاً ثانوياً من اليأس، متنكراً بزي الفضيلة”، فنطلق أحكامنا المسبقة على العالم، وتتحول الحياة كلها إلى مرارة وغضب دفين، عندما لا تستجيب لأحلامنا.

الصبر هو الانفتاح على العالم، هو الاهتمام بالتناغم مع إيقاع الكون، بالإنصات الهادىء للأشياء، بالتفاعل مع الحياة والناس، والسماح لهم بالتعبير عن أنفسهم بإيقاعهم الخاص، لا ليفرضوا كلمتهم بالتأكيد، إنها ليست مسألة انصياع.

الحكمة الحقيقية، هي معرفة متى تتحلى بالصبر ومتى تتصرف، وإيجاد توازن يعزز تحقيق الأهداف الفردية والتقدم الاجتماعي بنفس الوقت. 

للاطلاع على المقال على موقع الناشر

المقالة السابقة
حرية الرأي والتعبير والإعلام الواجهة الحضارية للمجتمع
المقالة التالية
إعلان تعاقد مع مدربة لإجراء تدريب حول مفاهيم الاقتصاد السياسي النسوي

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X