إنشاء سجل Sign In

الجندر من النسوية إلى ما بعد النسوية (من سيمون دو بوفوار إلى جوديث بتلر)

تجمع سوريات من أجل الديمقراطية/ Coalition of Syrian Women for Democracy

جهة النشر:تجمع سوريات من أجل الديمقراطية/ Coalition of Syrian Women for Democracy

أ. زينب صلاح/ موقع (bahethat) الإلكتروني- نال مصطلح الجندر أو النوع الاجتماعي اهتماما واسعا في الدراسات النسوية والاجتماعية في العقود الماضية، وعلى الرغم من أن المصطلح ما زال غير محدد التعريف، إلا أنه يمكن تقريب مفهومه بأنه القوانين التي تحكم توقعات أدوار الأشخاص في المجتمع ومدى تعلقها بجنسهم ذكورا وإناثا. بكلمات أخرى، هل للرجل -بما هو ذكَرٌ- أدوار اجتماعية معروفة ومتوقعة، وللمرأة -بما هي أنثى- أدوار مناظِرة.

ظهرت بواكير فكرة الجندر في دراسات فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولعل من أوائل تلك الدراسات ما قدمته عالمة الأنثروبولوجيا مارجريت ميد  في كتابها (سن البلوغ في ساموا) عام 1928م، حيث رصدت الاختلافات بين طرق التنشئة في المجتمع الأمريكي وبين نظائرها في ساموا، وأشارت إلى أفعال قد يقوم بها الرجال رغم أنها تعتبر “أفعالا أنثوية” بالنسبة لمجتمعات أخرى[1]. كما أن البحث الذي كتبته المحللة النفسية جوان ريفيير عام 1939م بعنوان: “خصال المرأة كنوع من التنكر” قد حاز قصب السبق في القول بأن النوع يُبنَى وفقًا للقواعد الاجتماعية، حيث تصبح الذات مذكَّرًا أو مؤنثًا من خلال عملية المحاكاة[2].

ثم تلا ذلك استخدام مصطلح (الدور الجندري (gender role)) في مقابل مصطلح (الدور الجنسي (sex role)) في خمسينيات القرن العشرين[3]. وقد قُصد بالدور الجندري عملية سَن قوانين سلوكية للذات تتعلق بتوقعات الأدوار، مع تقرير أنها لا تتعلق بالجنس، بل بشعور الفرد بانتمائه إلى جنس معين. لكن لا يمكننا أن نتنقل بين هذه الاستخدامات دون أن نتوقف عند مقولة فارقة فيما يتعلق بالاستخدام النسوي لمفهوم الجندر وإن لم تتعلق كثيرًا باستخدام المصطلح، وهي مقولة سيمون دو بوفوار (Simone de Beauvoir) في كتابها الشهير “الجنس الآخر” الصادر عام 1949م: “لا يولَد المرء امرأة، وإنما يَصِيرُ كذلك”. تلك المقولة التي صارت أساسًا بنَت عليه نسويات الموجة الثانية وما بعدها تطوراتٍ نسوية عديدة في وجهات النظَر وفي المطالب على حد سواء.

وتهدف هذه المقالة إلى المقارنة بين الرؤية البوفوارية لمفهوم الجندر وما ينبغي أن تفعله النساء وبين ما آلت إليه الأمور بعد ذلك فيما يسمى بما بعد النسوية اعتمادا على رؤية الفيلسوفة الشهيرة جوديث بتلر (Judith Butler) باعتبارها واحدة من أبرز رواد هذا الاتجاه، والتي أعادت قراءة بوفوار ووسَّعت أقوالها إلى أقصى حد ممكن. وهذا يتأتي في المحاور الآتية:

الأول: سيمون دو بوفوار وكتاب الجنس الثاني.

الثاني: فلسفة الجنس والجندر عند سيمون دو بوفوار.

الثالث: الرؤية الجندرية للنسويات بعد بوفوار.

الرابع: ما بعد النسوية ونظرية الجندر.

الخامس: فلسفة الجنس والجندر عند جوديث بتلر.

السادس: القراءة البتلرية للأفكار البوفوارية.

السابع: آفاق نقدية.

وتفصيل ذلك على النحو التالي:

المحور الأول: سيمون دو بوفوار وكتاب الجنس الثاني

كانت سيمون دو بوفوار فيلسوفة وجودية من أبرز الناشطات النسويات في القرن العشرين. وقد وضعت في كتابها الجنس الآخر وصفها التفصيلي لأوضاع النساء. إذ رأت أن السبب في شقاء المرأة هو أنها مضطهدة من قِبَل الرجل في مراحل حياتها المختلفة وعلى الأصعدة المختلفة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وجنسيًّا وعرضت ذلك على مدار كتابها بوصف نقدي مطوَّل لأحوال المرأة في كونها طفلة، أو مراهقة، أو شابة عزباء، أو زوجة، أو أمًّا، أو عاشقة، أو عاملة، أو متعلمة أو مثقفة. ورأت من خلال وصفها الذي غلب على توجيهها في هذا الكتاب، أن علاقتها بالرجل في كل ذلك تقوم على الخضوع والاستعباد. فالرجال يسيطرون على فئة الذات أو الفاعل بينما تنحصر المرأة في فئة الآخر إلى الأبد[4]، ذلك أن الرجل يحتاج إلى آخريَّة المرأة كي يشعر بذاتيَّته، ويظهر ذلك جليًّا في مقارنتها العلاقة بين الرجل والمرأة بالعلاقة بين الرجل الأبيض والزنجي في أكثر من موضع في الكتاب. وتلك العلاقة بين الذات والآخر هي التي شكلت أساس القمع في تاريخ النساء، فعلى حد قولها: كان “تاريخ النساء من صنع الرجال… فهم الذين أمسكوا دائما بمصير المرأة بين أيديهم ولم يقرروا فيه تبعًا لمصلحتها، بل أخذوا بعين الاعتبار أهدافهم الخاصة ومخاوفهم وحاجاتهم”[5]. ورغم صورة المضطهِد التي رسمتها بوفوار للرجل عموما، إلا أنها كانت ترى فيه النموذج الأكمل للإنسانية على مدار كتابها، فهو الحاكم، وهو الصانع، وهو الثائر، وهو الفنان، وهو صانع التاريخ والمتحكم في الواقع، فتقول: “لقد تجسد الإنسان حتى الآن في صورة الرجل، لا في شكل المرأة”[6]. وهكذا رأت بوفوار أنه يجب على المرأة أن تتحرر من تبعيتها للرجل، لا كراهية فيه ونفورًا منه وإنما تشبهًا به وطلبا للمساواة معه. ولذلك فهي كما تطالب المرأة بتحرير نفسها من الرجل باعتبار أن الفرصة قد واتتها لتحقيق التحرر الاقتصادي والاجتماعي ويجب عليها اغتنامها، فإنها كذلك تدعو إلى إقرار المرأة بالإبقاء على ارتباطها بالرجل إذا تحققت لها تلك المساواة الكاملة قائلة: “إن الرجل في الحقيقة لا يفقد شيئا إذا كفَّ عن التعمية، وأقلع عن إخفاء المرأة تحت الرموز والطلاسم. كما أن تجربته لا يحل بها الفقر إذا رأت في المرأة كائنا إنسانيا. ولا يعني ذلك إلغاء الشعر والحُب والتخلي عن الأحلام، بل يكون من نتيجته إرساء التصرفات والإحساسات على أسس واقعية حقيقية”. وأما قبل أن تتساوى المرأة مع الرجل تماما، فإن بوفوار ترفض أن تقدم المرأة أيًّا من أشكال المصالحة أو اللين تجاه الرجل فتقول: “يوم تستطيع المرأة أن تحب بقوتها لا بضعفها، لا لتهرب من ذاتها بل لتكتشف نفسها؛ في ذلك اليوم يصبح الحب للمرأة كما للرجل ينبوع حياة لا مصدر خطر قاتل. وفي انتظار حدوث ذلك، يلخص الحب اللعنة التي تحيق بالمرأة المحبوسة في العالم النسوي والعاجزة عن كفاية نفسها بنفسها”[7].

اعتمدت بوفوار في كتابها بصورة أساسية على المذهب الوجودي فلسفةً وأخلاقًا، متأثرة في ذلك بالفيلسوف جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre)، فقد انطلقت من أن كل شخص يجب أن يعمل على مجموعة من الأهداف ليستكمل من خلالها ذاته ويحظى جراء ذلك بجوهره الإنساني، وأن على الكائن الإنساني أن يستمر في طريقه نحو الارتقاء. كما ترى أن من يتوقف بإرادته عن طلب هذا الرقي يصبح جامدا، وهو بذلك يرتكب خطيئة أخلاقية، بينما من يتم إيقافه عن طلب هذا الرقي رغمًا عنه فذاك هو الشخص المضطهَد. ولذلك فإن بوفوار لم تلتفت إلى ما إذا كانت رؤاها ومقترحاتها في كتابها ستحقق السعادة للنساء أم لا، لأن إسعاد النساء ليس هدفًا لها أصلا، إنما هدفها هو الترقي لتحقيق الجوهر الإنساني، وفي هذا المعنى تقول: “على أننا لا نخلط بين مفهوم الصالح الخاص ومفهوم السعادة. هذه نقطة أخرى تعترض سبيلنا؛ أليست النساء اللواتي يؤلفن الحريم أسعد من النساء العصريات المتمتعات بحق الانتخاب؟ إننا لذلك لن نعتمد أبدًا على مفهوم السعادة، بل سنتبنى وجهة نظر الأخلاق الوجودية”[8]. وهكذا لم تكن بوفوار ترى أن اضطهاد المرأة يضعها في موضع الضحية إلا بقدر ما تُجبَر عليه، وإلا فإنها تقف ضد المرأة المتوانية في نظرها، تلك التي لا ترضى بالسير في الطريق الذي رسمَته بوفوار للترقي، وكذلك المرأة الأنانية عاشقة ذاتها، فتحذرها من أن تقع فريسة لنفسها. وربما كان هذا هو السبب في سخريتها على مدار الكتاب من تصرفات النساء في حياتهن العملية أيًّا كانت أدوارهن مقارنة بالرجال، ولومهن على عدم السعي لتغيير أوضاعهن، وانتقاص ما يقدمنه في شتى المجالات، إذ تقول: “إن الرجال الذين ندعوهم الكبار هم هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم بطريقة أو بأخرى ثقل العالم واستطاعوا أن ينجحوا في ذلك، الأمر الذي لم تفعله أي امرأة في وقت من الأوقات”[9].

وقد كان الحل الذي اقترحته بوفوار لترقي المرأة وانعتاقها من الرجل هو تقليده سعيًا لتحقيق المساواة الكاملة معه اقتصاديًّا واجتماعيًّا، حتى يتسنى لها أن تصبح جوهرًا مستقلا وعندها فقط يمكنها أن تجرب بحريَّةٍ حظها في الحياة. لكنها مع ذلك كله، كانت تفرِّق بين دور المرأة الاجتماعي وبين وجوب أن تحتفظ بأنوثتها، وهذا ما سيتضح في المحور التالي.

المحور الثاني: فلسفة الجنس والجندر عند سيمون دو بوفوار

مع نفيها أن المرأة تولد امرأة، أقرَّت سيمون دو بوفوار -بل وأكدت- أنها تولد أنثى، كما أن الرجل يولد ذكَرًا. لقد كانت الرؤية البوفوارية للجسد هي أنه وسيلة تمكِّننا من العالم، وأن المعطيات البيولوجية تمثل أحد المفاتيح التي تسمح لنا بفهم المرأة، ولكنها مع ذلك لا تقرر مصير المرأة نهائيًّا. وبما أنها تنطلق من رؤية وجودية للجسد أيضًا، فقد رأت أن الاختلافات البيولوجية لا يمكن أن تفسِّر المغزى وحدها، كما أنها لا تعطي أوليَّة لأحد الجنسَين على الآخر في النوع البشري. ذلك أن المعطيات الفسيولوجية تكتسب القيم التي يضفيها الكائن عليها، وتتغير سلطة الاختلافات بتغير تلك القيم. ولهذا تقول: “إن جسد المرأة هو أحد العناصر الأساسية من وضعِها في هذا العالم، إلا أنه لا يكفي وحده لتعريفها؛ إذ ليس له من واقع وجودي إلا عن طريق الشعور ومن خلال فعلها ضمن المجتمع”[10]. لقد قرَّرت بوفوار أن المرأة لا يمكنها أن تقضي على نفسها كجنس، ولكنها تطالب فقط بإلغاء (بعض) النتائج المرتبطة بالجنس[11]. ومع ذلك فقد كانت تدافع عن الطبيعة الأنثوية للمرأة باعتبار أن الاحتفاظ بها يمثل جزءًا من الاحتفاظ بالكينونة التي يقابلها احتفاظ الرجل بذكورته، وإلا فلو فقدت المرأة طبيعتها الأنثوية، فإنها ستصبح كيانا ناقصًا يفتقر للكمال الذي يتمتع به كيان الرجل، وفي هذا المعنى تقول: “إن الرجل هو إنسان بشري له جنس خاص، ولا يمكن للمرأة أن تكون بالمقابل فردًا كاملا مساويًا للرجل إلا إذا كانت هي نفسها شخصًا بشريًّا لها جنسها الخاص، فالتخلي عن أنوثتها يعني التخلي جزئيًّا عن إنسانيَّتها”[12]. حتى أنها تنافح عن هذه الفكرة في حالة مستغرَبة للغاية، وهي حالة المرأة السحاقية. إذ ترفض بوفوار أن توصف المرأة السحاقية بأنها خشنة أو أقل في الأنوثة من المرأة الغيرية بل تقول “إن عددا كبيرا من السحاقيات يتمتعن بأنوثة نادرة”[13]، وتعتبر تقليد الرجل في هذه الحالة ما هو إلا ظاهرة ثانوية، ولكن الدافع الأساسي وراء ذلك في نظرها هو تمرد الفرد المتمتع بالسيادة، وتقصد به السحاقية الممارسة لدور الرجل، ضد تحوله إلى فريسة جسدية. وجدير بالذكر أنها تنفي أن يكون اتجاه المرأة للسحاق واقعا قدَريًّا أو رغبة في التسلية، فتقول: “والواقع أن السحاق لا يعتبر ضربا من ضروب التفنن والتسلية لدى المرأة، كما لا يشكِّل لعنة من القدَر تحل عليها، وإنما هو موقف تتخذه المرأة كرد فعل على أوضاعها في المجتمع”[14]. كما يظهر ذلك في اعترافها بآثار الطبيعة الأنثوية على حالة المرأة، فتعترف أن متاعب المرأة الناتجة عن بنيتها الجسدية ليست متاعب خيالية، بل هي حقيقة كالحالة التي تعبر عنها، لكنها ترى أن عمل المرأة يساعدها في الوصول إلى توازنها الداخلي فيجعلها تنسى متاعبها[15]. يتضح إذَن أن بوفوار تشدد على أن الأنثى لابد لها من المحافظة على جنسها أو أنوثتها. ويبدو أن بوفوار لم تكن رائدة النسوية الوحيدة التي أكدت على أهمية تحقيق الأنوثة، فقد كانت بيتي فريدان (Betty Friedan) ترى أن (السحر الأنثوي) يتمثل في أن أسمى قيمة في حياة المرأة والالتزام الوحيد لها هو تحقيق أنوثتها[16] إلا أن الأخيرة لم ترَ أن تحقيق الأنوثة يتأتى من خلال التشبه بنموذج الرجل، وإنما بتقبل طبيعتها كما هي.

أما ما يتعلق بدور المرأة في المجتمع، فقد رأت بوفوار -كما هو مشهور- أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصير كذلك. وأرجعت صيرورتها من أنثى لها خصائص بيولوجية معينة إلى امرأة لها أدوار اجتماعية معينة إلى البناء التاريخي والاجتماعي. وفي هذا الإطار أنكرت القوالب النمطية التي توضع فيها النساء باعتبارها نماذج فريدةً بحسب ما يحكم به الرجال. ورأت أن هذه الصور النمطية ما هي إلا تمثلات خيالية فرضتها السلطة الذكورية، فالواقع الاجتماعي  “يحصر المرأة في المطبخ أو المخدع ثم يشكو من ضيق أفقها، ويقص أجنحتها ثم يحتقرها لأنها لا تستطيع الطيران”. وعليه فإن المرأة بإمكانها -بمزيد من النضال- أن تتحرر من تلك القوالب شيئا فشيئا حتى تتمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها الرجل، فتتحول من “إعادة الإنتاج” إلى “الإنتاج”. على أن إنتاج المرأة يجب أن يصل إلى مرحلة الإبداع التي وصل إليها الرجل في كافة المجالات، وذلك عندما تتخلص المرأة من القيود التي فرضها عليها وضعها الاقتصادي والاجتماعي التابع للرجل، والذي أدى إلى تقويض إبداعها. فليست المرأة ناقصة القدرة الذاتية على الإبداع، بل “القول بأن المرأة لا تتمتع بالفكر الخلاق المبدع ينبع من خيال أعداء تحرر المرأة”[17]. وفي ذلك الحين ستصبح المرأة ذاتًا مستقلة عن الرجل، وسيصبح هو “آخر” بالنسبة لها كما أنها “آخر” بالنسبة له.

ومما تحسن الإشارة إليه في ختام هذا المحور، أن سيمون دو بوفوار كانت تنظر إلى المرأة باعتبارها فئة مقابلة لفئة الرجل، وبالتالي فقد حصرت مشكلات النساء في مشكلة واحدة وهي سيادة الرجال عليهن وتحكُّمهم فيهن، ورأت لها حلًّا واحدًا وهو السعي لمساواة كاملة بالرجال، في إغفال ظاهر لما يعتري أحوال النساء من الاختلاف، وما يصاحب ذلك من تعدد مشكلاتهن. وقد أثَّر ذلك تأثيرًا كبيرًا في أهداف من اتبعنها من النسويات، وهذا ما سيتضح في المحور التالي.

المحور الثالث: الرؤية الجندرية للنسويات بعد بوفوار

سعَت النسويات بعد تصريحات بوفوار إلى تحقيق المساواة الكاملة مع الرجال، ولكن لم يلتزمن بالرؤية المقدِّرة للرجل التي قدمتها بوفوار دوما، فقد ظهر تيار نسوي راديكالي يسعى إلى إلغاء التمييز باعتبار الرجل خصمًا وليس مثالا يُحتذَى. ولم يقتصرن في ذلك على حق التعليم والمساواة في الأجور مثلا، بل كان من مطالب مؤتمر كلية راسكن عام 1970م: إنشاء حضانات تعمل على مدار الساعات الأربع والعشرين، وحرية استخدام وسائل منع الحمل واللجوء إلى الإجهاض. الأمر كما تقول لورا مالفي: “فجأة، ظهر منظور جديد لرؤية العالم أعطى المرأة موقعًا تتحدث منه، فأصبح من الضروري الحديث، لا من منطلق الاختيار، بل من منطلق الضرورة السياسية”[18]. لقد ركزت النسويات جهودهن على إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، واعتبرن من التمييز ما ليس منه، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تلك المطالبة المحمومة بالتساوي العددي في كافة المناصب والمجالات، مع عدم المبالاة بغياب شرط الكفاءة من المشهد، مما تسبب في الانتقاص من قدر المرأة كإنسان له مواهبه كما كانت بوفوار تتمنى. ولذلك تقول أوجيني باستيي: “إن التساوي العددي هو مأساة الأنثوية الجديدة. بسببه لم تعد المرأة معدودة إنسانا بمعنى الكلمة، له خصال ومواهب فردية، وإنما هي مجرد عضو في طائفة من الملائم دعمها” وتقول: “كتبت فرانسواز جيرو قائلة: ‘ستكون المرأة حقا مساوية للرجل، حين تُعيَّن -في منصب مهم- امرأةٌ غير مؤهلة‘. لقد حقق التساوي العددي هذه الأمنية الساخرة. سيوجد نساء نائبات ووزيرات ومستشارات إدارة ليس لأن لديهن مواهب فذة، ولكن فقط لأنهن نساء، منتسبات إلى بشرية من جنسين لا بد من تفكيكها من أجل تحريرها”[19]. كما لم تقتصر النسويات على المطالبات المتعلقة بتمثيل النساء، بل اتجهن إلى البحث النظري، ونشأت في الجامعات أقسام خاصة بدراسات المرأة تتفحص كافة مجالات المعرفة من الآداب والفنون إلى الفلسفة والميتافيزيقا بل وحتى العلوم الطبيعية، ورأت أن هذه المعارف تمثل انعكاسا للرواسب الرجولية[20]. وهكذا تحول الهدف النسوي على هذا الصعيد من المطالبة بحقوق المرأة المتعلقة بأدوارها الاجتماعية إلى العبثية في فرض استحقاقها للأدوار بسبب جنسها واتخاذ ‘الذكورية السامة‘ حصنًا يحتمين به من النقد، وفي هذا المعنى يقول الفيزيائي جيمس ليندساي: “لم يكن التنظير النسوي به عجز في النقد، ولكنه من خلال قوة الاتهام التشتيتية بالتحيز الجنسي المحتمل، استجاب لهذا الضغط الاختياري بلا تصحيح أكاديمي مسؤول، حتى جعل نفسه غير قابل للاهتمام بالنسبة للعالم الخارجي، بينما وضع غشاوة على عينيه؛ ليتسنى له الاستمرار كما لو أن كل الانتقادات الموجهة إليه -في حقيقة الأمر- متحيزة جنسيا، بالقدر الذي يجعلها لا تستحق الملاحظة”[21].

لم يكن التيار الراديكالي هو التيار الوحيد، بل تعددت التيارات النسوية فظهرت نسوية ليبرالية، واشتراكية وماركسية، ونسوية غير معادية للرجل وليس ذلك محل التفصيل في تلك الاتجاهات. ولكن ظهر اتجاه آخر متأثرًا بما بعد الحداثة وما بعد البنيوية والذي يُعرف بـ “ما بعد النسوية”. وقد كان لهذا الأخير بالغ الأثر في موضوعنا وذلك بالتأسيس الفعلي لنظرية الجندر، وهو ما سيتضح في المحور التالي.

المحور الرابع: ما بعد النسوية ونظرية الجندر

لبادئة الـ مابعد طابع يثير الارتياب، فإذا أردنا أن نقرنها بوضع له أسسه ورموزه المحددة، ربما نعني بذلك رفضه وربما نعني فقط مجاوزته وربما نعني إسقاطه. فما بالنا إذا كنا نقرنها بمصطلح هو بحد ذاته يشوب محتواه التعدد حدَّ التناقض مثل مصطلح النسوية! ومع ذلك، يمكن أن تتضح الرؤية إذا استحضرنا أن مصطلح ما بعد النسوية يرتبط ارتباطا وثيقا بمصطلحي ‘ما بعد الحداثة‘ و ‘ما بعد البنيوية‘. وإذ تؤسس ما بعد الحداثة لنقد السرديات الكبرى لما قد تكون قمعته من أفكار ورؤى، وتؤسس ما بعد البنيوية لرفض الثنائيات والتراتبية وتتبنى الرؤية التفكيكية وسيولة الهوية، فإن ما بعد النسوية تنطلق من هذه النظريات بالطريقة نفسها في الشأن النسائي. فترى الفكر بوصفه مجموعة من السرديات الرجولية التي ينبغي نقدها، كما ترفض ثنائية الرجل-المرأة، وتعتبر أن مفهوم المرأة سيَّال ومتغير، وبحسب هذا المفهوم فليس هناك امرأة عامة أو امرأة نوعية، وليس هناك أنوثة موحدة ومتجانسة[22]. ولذلك فإن ما بعد النسوية تتلافى انتقادًا بارزًا لطالما وُجِّه إلى مراحل النسوية السابقة سواء في الرؤية البوفوارية وغيرها، وهو الانطلاق من رؤية موحدة للمرأة وهي المرأة الغربية البيضاء المنتمية إلى الطبقة المتوسطة وعدم الاهتمام باختلافات النساء. أما ما بعد النسوية فقد أخذت في الاعتبار كلًّا من النساء الملونات والسوداوات والثقافات المهمشة والمستعمَرة وثقافات الشتات، ونادت بالتعددية في مقابل الثنائية، وبالتنوع في مقابل الاتفاق[23]. فترى النسوية والفيلسوفة التفكيكية الشهيرة غياتري سبيفاك “أن النساء يختلفن عن بعضهن البعض، وبالمثل لا يجب ضم الرجال تحت مصطلح جامع لا يعترف بالفروق بينهم” كما ترى أن النساء لا يجب أن يفترضن أن لديهن الحق في الحديث نيابة عن غيرهن من النساء على أساس الهوية المشتركة أو الجماعية[24]. ورغم ما توحي به هذه الرؤية التعددية من توجه أكثر تسامحًا إلا أنها تمثل خلخلة لأسس أي نظام، ويظهر ذلك تحديدًا في فكِّ الارتباط بين النوع الاجتماعي للفرد وبين الجنس البيولوجي، باعتبار أن هذا الارتباط وما يفرضه من قيود ما هو إلا صناعة اجتماعية وثقافية وليس أمرًا محتومًا وهذا ما يُعرَف بنظرية الجندر. وإذا كانت أصل هذه الفكرة قد وجد لدى بوفوار كما أسلفنا، إلا أنها تحضر هنا بصورة أكثر تقدما ربما لم تخطر ببال بوفوار، فالأمر هنا لا يتعلق بأن تثبت المرأة كفاءتها من خلال قيامها بعمل الرجل، وإنما يتعلق -باستحضار الهوية السيَّالة- بأن مفاهيم مثل المرأة والرجل ما هي إلا خيالات ثقافية لا تمثل بحد ذاتها حقيقة راسخة. الأمر كما يقول إريك زمور: كانت “نظرية الجندر بالنسبة لكتاب الجنس الآخر، مثل شبكة الإنترنت بالنسبة للمينيتل.. الصقل إلى ما لا نهاية!”[25]. وقد برز ذلك من خلال أطروحاتِ ثلاثةٍ من أشهر الباحثات الأمريكيات في نهايات القرن العشرين وهن: إيف كوزوفيسكي سيدجويك (Eve Kosofsky Sedgwick)، التي اقترحت أطرًا جديدة لتصنيف النوع والهوية الجنسية وشاركت في التنظير للكوير [أو الهويات الغامضة]، ودونَّا هاراواي (Donna J. Haraway) التي اخترعت مفهوم الكائن السيبرنطيقي غير المنحصر في أطر التحديد النوعي العضوي. أما الثالثة والأشهر فهي جوديث بتلر، والتي سنقصد تصورها عن الجنس والجندر بمزيد من التفصيل في المحور التالي.

المحور الخامس: فلسفة الجنس والجندر عند جوديث بتلر

تعد جوديث بتلر فيلسوفة أمريكية من أبرز المساهمين في مجالات الجندر والمثلية، وهي أستاذ الأدب المقارن والبلاغة في جامعة كاليفورنيا. ولا تتبع بتلر في فكرها منهجية واحدة، وإنما استقت أفكارها من عدة نظريات واتجاهات، من أبرزها تأثرها بتقاليد النظرية النقدية وما بعد البنيوية. كما يعد كتابها (مشكلة الجندر) الصادر عام 1990م من النصوص الأساسية في نظرية الجندر. وقد قدَّمت في هذا الكتاب -وما تلاه من صقل وتطوير-  رؤيتها عن الجندر والحياة الجنسية. لقد سعت في هذا الكتاب إلى هدم الثنائية الجندرية، لتقوض أي خطاب يتحدث عن الحقيقة لإعطاء أو نزع المشروعية من أي ممارسة جندرية أو جنسية. ومن أبرز الأفكار المشهورة عن بتلر هي فكرة إنكارها للجنس[26]. ولتوضيح رؤية بتلر، يمكننا أن نستحضر أن هوية الكائن تتكون من خلال ثلاثة محاور، وهي: الجندر، والجنس، والتوجه الجنسي. أما رؤيتها للجندر، فقد أسستها بتلر اعتمادًا على نظريتها المسمَّاة بالأدائيَّة (performativity) والتي تفترض أن الجندر عبارة عن سلسلة من الأداءات، ومن خلال استحضار بتلر لنظريات الفعل وأفعال الكلام والظاهراتية، تشير إلى أن هناك استخداما أكثر جذرية لمذاهب التكوين يتخذ الفاعل الاجتماعي موضوعًا للفعل وليس ذاتًا له[27]. ومن خلال استحضارها للاستعارة المسرحية، ترى أن الأفعال التي يُكوَّن الجندر من خلالها تبدي ضروبَ شَبَهٍ مع الأفعال الأدائية في السياقات المسرحية[28]. ولكنها أفعال غير مسبوقة بوجود الذات، بل هي تكوِّن الذات وتتكون من خلالها. وبناء عليه فإن بتلر ترى أن الجندر لا ينفك عن التكوُّن وأنه حالة من البناء المستمر، أو على حد تعبيرها، “فإن الواقع الجندري أدائيٌّ على النحو الذي يعني بكلّ بساطة أنّه ليس واقعيًّا إلا بقدر ما يُؤدّى”[29]. وبذلك تصبح مصطلحات مثل “الرجل” أو “المرأة” لدى بتلر مصطلحات ملتبسة للغاية، لأنها ليست أوضاعًا يمكن الوصول إليها ولكنها بدلا من ذلك تتشكل تباعا. تقول بتلر: “والحال أنّ افتراض مقولة المرأة ذاتها افتراضًا مسبقًا هو ما يقتضي جينالوجيا نقديّة للوسائل المؤسسية والخطابية المعقدة التي تكوّنتْ هذه المقولة من خلاله”[30].

أما رؤيتها للجنس فإنها تتفرع على رؤيتها للجسد. وبينما يؤكد ميشيل فوكو (Michel Foucault) على الحقيقة المادية للجسد، ويرى أن السلطة تستهدف الجسد وتنتجه، ومن ثم يهدم التمييز بين الجنس والجندر بوصف الأول طبيعيًّا والثاني ثقافيًّا، إذ يُصبح -وفقًا لرؤيته- كلًّا منهما مجهولًا خارج دلالته الثقافية[31]، نجد أن جوديث بتلر تستقي منه الفكرة نفسها، ولكنها لا ترى الجسد مادةً سلبية، بل تقول أن “الجسد لا يُرَقَّش بالسنن الثقافية على نحوٍ سلبي، كما لو كان متلقيًا خاملًا لعلاقات ثقافية متعيّنة مسبقًا كليًا. لكن الذوات المجسَّدة ليست أيضًا بالسابقة في الوجود على الأعراف الثقافية التي تمارس الدلالة من خلال الأجساد بصورة أساسية”[32]. وتقول: “ليس الجسد ماديةً متطابقةً مع ذاتها أو واقعة من الوقائع فحسب؛ فهو مادية تحمل معنى، على الأقل، وطريقة هذا الحمل هي طريقة درامية في جوهرها. وما أعنيه بالدرامية هو أنّ الجسد ليس مادةً محققة فحسب، بل تحقيق مادي متواصل لإمكانات”[33]. وإذا كان الجسد عبارة عن مشروع جسدي مادي[34] وعن إمكانات لا تنفك عن التحقق مع كونه شرطًا للأداء، فعندئذ تصبح مصطلحات مثل “الذكَر” أو “الأنثى” خاوية من الدلالة التي تُستخدم بها في العُرف والثقافة، لأن الجسد وإن كان محكومًا بإمكاناته، إلا أن طريقة تحقق هذه الإمكانات قد تختلف بحيث لا يمكن التنبؤ بها مباشرة. بل ثمة جزء مرجعي وآخر درامي، فكما أن المسرح والنص فضاءات للأداء المسرحي لا تمنع الاختلاف والتنوع في طرق لعب الأدوار، فكذلك هو الفضاء الجسماني بالنسبة للأداء الجندري، لكن الفرق الكبير هو أن الذات في الأداء الفعلي غير سابقة التكوين، بل كل ما يحمله الفضاء وما يُنتجه أو ينتج عنه الأداء ليس في جوهره سوى عملية مستمرة لتكوين الذات!

أما عن التوجه الجنسي، فبما أن بتلر فككت ثنائية الذكر-الأنثى على النحو السابق، واستنتجت أن الذكورة والأنوثة هي ضرب من التخييل الثقافي والاجتماعي، فقد انتقدَت بشدة في كتابها (مشكلة الجندر) الحديث عن التوجهات الغيرية بوصفها حقيقة طبيعية. وباستحضار رفض التراتبية الذي أسس له خطاب التفكيك وعلى رأسه معلم التفكيكية جاك دريدا (Jacques Derrida)، فقد رأت أن معيارية الممارسة الغيرية ناتجة عن هيمنة المجموعة التي تنتصر لها، ولذلك رفضت ما تسميه تراتبية الممارسة الغيرية على سواها من الممارسات ودعَت إلى الاعتراف بشتى التوجهات الجنسية. كما ميَّزت بين الجندر والجنسانية [التوجه] من جهتين: الأولى، أن المعيارية الجنسانية الغيرية لا يجب أن تنظِّم الجندر، وأنه يجب معارضة هذا التنظيم. والثانية، أن البعد الأدائي للانقلاب على الجندر قد لا يشير إلى أي شيء حول الممارسة الجنسية[35]. لقد رأت بتلر -متابعة بذلك فوكو- أن اقتران جنس طبيعي بجندر مميز وانجذاب طبيعي هو اقتران غير طبيعي لبناءات ثقافية موضوعة في خدمة المصالح التكاثرية[36]. وعلى ذلك فإن بتلر قد فتحت الباب على مصراعيه أمام تكوين الذات، فمحاور التكوين الثلاثة السابق ذكرها يمكن أن تتبادل وتتوافق دون معارِض، ودون أن تشكِّل إحدى صور التكوين نموذجًا معياريًّا.

وأما الطريقة التي تتحدد بها هوية الفرد اجتماعيًّا فقد فوَّضتها بتلر إلى شعور الفرد بذاته، وحين سئلت بتلر: لماذا يُعَد تقويض الجندر أمرًا مرغوبًا؟ أجابت: “لا أعتقد بأن الجندر يمكن أن يكون صحيحاً أو خاطئاً إلا حين يشعر بذلك الشخص الذي تم تعيين جندر غير مناسب له. أرى أنه بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يعيشون ويتعذبون خارج معايير الجندر فإن فتح المجال لإمكانات جديدة جيد بالتحديد لأنه يجعل الحياة ممكنة العيش أكثر”[37].

وبعد هذا التوضيح الموجز، يتبين لنا مواطن عديدة من الافتراق بين ما قرَّرته جوديث بتلر وبين الأفكار السالفة لسيمون دو بوفوار رغم أن الأخيرة كانت من أشعل الجذوة في البداية، وهذا ما سنعرضه في المحور التالي.

المحور السادس: القراءة البتلرية للأفكار البوفوارية

يتبين مما سبق أن ما فعلته جوديث بتلر هو أنها -بمزيد من الجهد المتشابك- سارت على امتداد الخط الذي رسمته سيمون دو بوفوار من قبل حين قالت “لا نولد امرأة وإنما نصير كذلك”. ولكن هذه الجملة في نظر بتلر كانت بحاجة إلى تفكيك أيضًا، وذلك بتوضيح الالتباس في فعل الصيرورة. فعلى صعيد الجندر، بالنسبة إلى بتلر: “إذا كان الجندر هو التأويل الثقافي المتغير للجنس، فإنه يفتقر إلى سمة الثبات والانغلاق التي تميز الهوية البسيطة. أن تكون جندرًا، سواء رجلًا أو امرأة أو غير ذلك، هو أن تكون منهمًكا في تأويل ثقافي مستمر للجسد”[38]. فليس الجندر وفقًا لبتلر حالةً أو وضعًا ينتقل إليه الجنس المتجسد، وإنما -كما سبق ووضحنا- هو عملية بناء أو ‘مشروع‘[39]، كما أنه ليس مقتصرًا على جندر الرجل أو المرأة، بل الباب مفتوح لاستحداث أنواع أخرى من الجندر مما تسمح به إمكانات الجسد المرتبطة بطرق العيش.

أما على صعيد الجنس، فقد رأت بتلر أنه رغم ما تضفيه بوفوار على الجنس من سمات أنطولوجية، إلا أن الأخيرة تقترح في أحيان أخرى أن التشريح ليس ذا أهمية كامنة[40]. وتستكمل بتلر بعد هذا الافتراض إرساء اعتقادها عن الجنس بقولها: “التفريق الجنسي ذاته يحدث داخل سياق ثقافي يتطلب أن يبقى الجنس ثنائًيا. إن رسم حدود الاختلاف التشريحي لا يسبق التأويل الثقافي لهذا الاختلاف، ولكنه في ذاته فعل تأويلي محمل بافتراضات معيارية”[41].

ولمحاولة استخلاص فكرة تعدد الهوية من قراءتها لبوفوار، تعترف بتلر بأن بوفوار لا تقترح وجود أنواع أخرى غير الرجل والمرأة، ولكن تأكيدها على كونهما بنيتين تاريخيتين يشير إلى أن النظام ثنائي الجندر لا يتمتع بضرورة أنطولوجية[42].

وهكذا تحاول بتلر أن تجد لأفكارها إشارات في مقولة سيمون دو بوفوار، ولكن الذي تصرِّح به بتلر هو إنكارها لوجود النساء، وأن ما تدافع عنه ليس إعادة توصيف العالَم من وجهة نظر النساء، بل تقول: “وأنا لا أعرف ما وجهة النظر هذه، لكنها مهما تكن، فهي ليست بمفردها، ولستُ معتنقة لها”[43]. وهذا يمثل جانبا من الافتراق بينها وبين بوفوار التي كانت تتحدث باسم النساء، وعن النساء كمفهوم شامل، أما بتلر فترى أن هذه الشمولية زائفة، وأن الاستعمال الأنطولوجي لمصطلح المرأة استعمال قاصر[44]. وفي حين أرجعت بوفوار -كما سبق- اتجاه المرأة للسحاق إلى فرارها من الشعور بالاضطهاد في علاقتها بالرجل ودافعت عن أنوثتها، نجد أن بتلر لا تبحث في دوافع التوجهات الجنسية عمومًا بقدر ما تعترف بها جميعًا طالما أنها توفر لأصحابها حياة أسهل. وبينما كانت بوفوار تقدم وعودها بالعلاقة الطيبة مع الرجل إذا تحققت لها المساواة باعتبارها حينئذ علاقة حرة وسليمة، نجد أن بتلر تدعي أنه “لا يوجد أفعال مرتبطة بالنوع يمكن وصفها بالصواب أو الخطأ أو الحقيقة أو التشوه، ومن هنا فإن التصورات القائلة بوجود هوية حقيقية مبنية على النوع تغدو نوعا من الخيال التنظيمي[45].

وبالجملة فإن بتلر تنزع المرأة من المركز باعتبارها كلًّا شاملا، وكذلك باعتبارها موصوفة بالاضطهاد، أو بحاجة إلى الدعم على الدوام. وقد أدت أفكار بتلر المختلفة إلى توجيه النقد إليها من النسويات وغير النسويات. وهذا ما سنشير إليه إجمالًا في المحور التالي.

المحور السابع: آفاق نقدية

توجَّهَ للنسوية البوفوارية نقد بأنها تحسد الرجل وتدعو لتقليده، وتوجه للاتجاه الراديكالي من النسوية بعد بوفوار نقد بأنه يشيطن الرجل ويدعو لتجنبه، أما جوديث بتلر، فأبرز ما وُجِّه إليها من النقد هو أنها تزيح المرأة كهدف يجب الدفاع عنه.

“النسويات أمثالي لا يناهضن التحول الجنسي، إننا فقط لا يمكننا أن نتجاهل فكرة الجنس” -سوزانا روستن-

في سبتمبر 2020م، كتبت النسوية والصحفية في الجارديان سوزانا روستن مقالًا عنونته بالجملة السابقة[46]. وكما يبدو من العنوان، فإنها -كنسوية- تنتقد فكرة إنكار الجنس، وتطرح عددًا من الأمثلة لمشكلات تتعرض لها النساء كفئة بسبب الطبيعة البيولوجية، فعمل المرأة المنزلي والرعائي مثلا يرتبط بدورها في الإنجاب، وكذلك فإن النساء أكثر عرضة من غيرهن للإصابة بسرطان الثدي. وبحسب قولها فإننا إذا استعضنا عن “الجنس” بـ “الجندر” فستكون معالجة الاضطهاد القائم على أساس الجنس أكثر صعوبة.

وقد أشارت من قبل الفيلسوفة والباحثة في أخلاقيات البيولوجيا ماري آرين (Mary Anne Warren) في كتابها “الآثار المترتبة على اختيار الجنس” إلى أن السياسة الاجتماعية لضبط النسل تتجه إلى تفضيل جنس الذكور ونبذ جنس الإناث، فلو قلنا بأنه لا وجود للنساء فإن هذا سيحفز هذه السياسة. وصفَت بتلر قول آرين بأنه “حجاج مقنع” ولكنها فرَّقت (بما لا يقدم حلًّا) بين البحث في المصطلح أنطولوجيا وبين تقديم رؤية معيارية للنظرية النسوية[47].

وفيما يتعلق بتنظيرها للكوير ودعمها لحقوق المثليين، فقد توجهت عدة انتقادات لبتلر، منها أنها تريد المساواة بين التوجه الغيري الذي يمثل عموم الناس وبين غيره من التوجهات التي تُعدُّ قلة إذا قورنت مجتمعة بالتوجه الغيري. ومنها أيضا أنها تدعو لمحاربة الطبيعة وتقويض القدرة الإنجابية، كما أن مؤدى أفكارها يعزز تشييء المرأة من خلال تأجير الأرحام والحمل بالنيابة.

وتتمثل المعارضة النسوية الأشهر لفكرة نفي الجنس عند بتلر في أن هذه الفكرة تضرب النسوية في مقتل، لأنه إذا لم يكن ثم وجود للإناث، فعن حقوق مَن تنافح النسويات من الأساس؟ وكيف يمكن تبرير العمل الاجتماعي ضمن ظروف محكومة بسيالية هوية المرأة؟ وبناء على هذا فقد رأت بعض النسويات من أمثال آن فيليبس (Anne Phillips) أن دخول أفكار التفكيك وما بعد الحداثة على الفكر النسوي أدَّى إلى عواقب وخيمة قوضت هذا الفكر ذاته وبدأن بمواجهتها، بينما سعت أخريات إلى إيجاد طرق للموازنة بين هذه الأفكار وبين النسوية بتقديم رؤى أكثر توسطا واعتدالا[48].

خاتمة

حاولت في هذه المقالة أن أقدم عرضًا موجزًا مقارنًا لتصور فيلسوفتين من أشهر الفلاسفة وأعمقهما أثرًا فيما يتعلق بالتنظير الجندري. وآمل أن تسهم هذه المقالة في ضبط تصوير كل منهما للجنس والجندر. ويجدر التنبيه مجددا على أن البحث النسوي والجندري حقل يجمع اتجاهات مختلفة، وأن محاولة تقسيمه أو عرضه متسلسلًا لا تعني انتهاء فكرة وابتداء أخرى. فلا تعني نشأة اتجاه ما أن الآخر قد قُضي عليه. ما زالت فئات من النسويات تعمل وفقًا للتنظير البوفواري، وما زالت نسويات أخريات يبدين نوعًا من الانسجام ويمددن أيديهن للرجال طلبا للمشاركة في الإصلاح الجماعي. ففي خطابها كسفيرة للنوايا الحسنة للأمم المتحدة عام 2014م، قالت الممثلة الأمريكية الشابة إيما واتسون (Emma Watson): “كلما تحدثتُ عن النسوية، كلما أدركتُ أن الدفاع عن حقوق المرأة قد شاع في كثير من الأحيان أنه مرادف لكراهية الرجال، وما أعرفه على وجه اليقين هو أن هذا الأمر يجب أن يتوقف. وللعلم، إن تعريف النسوية هو أن الرجال والنساء ينبغي أن يحظوا بحقوق وفرص متساوية”. وتتساءل واتسون: “كيف يمكن إحداث التغيير في العالم إذا كان نصفه فقط هم المدعوون أو من يشعرون بالترحيب؟” داعية الرجال إلى مزيد من المشاركة ودعم حقوق النساء[49]. كما تبذل نسويات العالم النامي جهودًا أكاديمية وحركية كبيرة لمعالجة مشكلات نسائية قد لا تتعلق مباشرة بالرجل، كالمشكلات الصحية ومشاكل الجهل والفقر وفقدان المعيل في بعض المجتمعات النائية والقبلية وكذلك المجتمعات التي أثرت فيها الحروب.. فالبحث النسوي البوفواري وغير البوفواري ما زال مستمرًّا، لكن يمكن القول أن جوديث بتلر من خلال العرض السابق، تقدم نموذجًا من أكثر النماذج راديكالية وتطرفًا عند المزاوجة بين أفكار الما بعد ودراسات النوع.

للاطلاع على الدراسة كاملة اضغط/ي هنا.

المقالة السابقة
منحة جامعة أبوظبي لدراسة البكالوريوس والدراسات العليا (ممولة بالكامل)
المقالة التالية
مسابقة للأعمال الفنية المعاصرة للفوز بجائزة أجيال المستقبل 2023

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X