الإنترسكس في الدراما السورية: الجزء الأول
بقلم: فادي صالح
جهة النشر: SyriaUntold حكاية ما انحكت
في هذا المقال، يسلط فادي صالح الضوء على تصوير الإنترسكس في الدراما السورية في حقبة زمنية لم تأخذ فيها قضايا الميم ـ عين حيزاً كبيراً في الفضاء العام السياسي والثقافي السوري. ويقدّم لنا في الجزء الأول قراءة تحليلة لتصوير حالة عبور شخص إنترسكس من أنثى إلى ذكر في الحلقتين ١٩ و٢٠ من مسلسل سيرة الحب (٢٠٠٧). يحاجج الكاتب في قراءته بأنه بالرغم من مراعاة الحلقتين لأعراف المجتمع وتابوهاته في بعض جوانب تصوير الإنترسكس، إلا أنّهما قدّمتا، ولو بشكل مبطّن، خطاباً نسوياً ثورياً يؤكد على حرية الخيار فيما يخص الجسد والجندر، ويعالج في الوقت نفسه عدداً من القضايا التي لم يسبق أن تمّ تقديمها بهذه الجرأة على شاشة التلفزيون السوري.
لعلّه من الغريب أن تقرأ/ئي مقالاً بهذا العنوان، فالحديث عن البينجنسية أو الإنترسكس ليس فقط غير شائع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل شبه معدوم. إذ أنّنا نلاحظ غياب واضح لأيّ خطاب سياسي يسلّط الضوء على قضايا الأشخاص الإنترسكس الذين يُولدون بخصائص جنسية تختلف عن الخصائص الجنسية المعيارية للذكر والأنثى (المتعارف عليها والمفروضة علمياً ودينياً واجتماعياً). وليس الغرض من هذا التشخيص السريع توجيه أصابع الاتهام على الإطلاق، فهناك العديد من الأسباب التي نستطيع من خلالها تفسير وفهم هذا الغياب. فبالرغم من أنّ اختصار ميم – عين يشمل، ولو بالتسمية، البينجنسيين/ات أو الإنترسكس، فإنّ الصعوبات التي تواجهها مجتمعات ومنظمات الميم – عين في المنطقة كفيلة وحدها بأن تجعل الحديث في قضايا الجنس والجنسانية صعباً جداً. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الخطاب الحقوقي العالمي وطريقة عمل المنظمات الحقوقية في المنطقة والعالم، بالإضافة إلى الاستراتيجيات التي تتبعها أنظمة “الظهور والتمثيل” الإعلامي وتوّجهاتها الشمولية الجديدة، مازالت كلّها عوامل تتفاعل مع بعضها البعض، وتجعل من حقوق وخطابات وتمثيلات بعض المجموعات أقوى من غيرها بطبيعة الحال. فليس من الضرورة أن أتعمّق بشرح أسباب نيل الرجال المثليين حيّزاً أكبر في الظهور والتمثيل، بينما تتوارى مجموعات أخرى عن الأنظار، أو تأخذ مجالاً خجولاً جداً مقارنةً بهم، ويتأثر ذلك بنوع التقاطعيات والتجارب القمعية التي تتعرّض لها، أو بالوصول غير المتساوي للموارد.
لا يكفي هذا التفسير المقتضب طبعاً، فبالإضافة إلى الأسباب الهيكلية والاجتماعية والسياسية، فإنّ كون العديد من الأفراد الإنترسكس، قد تعرّض/ن للتدخل الطبي والاجتماعي والعائلي منذ الولادة في الحالات “الظاهرة”، يجعل من الأذى النفسي والجسدي عائقاً للكثير من الأفراد الذين لا يودّون بالإفصاح عن كونهم/ن إنترسكس خوفاً من العار والتمييز، ولغياب خطابات حقوقية قوية تحمي الأقليات بالمُجمل.
تقدّر بعض الدراسات أنّ نسبة الأطفال حديثي الولادة ذوي خصائص بينجنسية قد تصل إلى ١,٧%، وفي دراسات أخرى إلى ٤٪.[i] نتحدث هنا، في السياق السوري أو المصري أو المغربي، عن عدد كبير من الناس، وعن تواريخ وتجارب وأحداث تجعل من الضرورة أن ننظر في قضايا الإنترسكس كحالة، كتشخيص، وكموضع تدخل اجتماعي وديني وطبي واجتماعي وثقافي من ناحية، وكهوية سياسية بدأت بوادر خطابها الحقوقي السياسي من فترة ليست ببعيدة.
عدا عن ذلك، بل وأهم من كلّ ما ذكرته إلى حد الآن، ما يُفاجئني في غياب قضايا الإنترسكس من خطابات الميم – عين، هو أنّ “الخنثى” هي الهوية الوحيدة من بين كلّ هويات الميم – عين التي لها تاريخ طويل وحضور في العالم العربي والإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكملها، وهذا يشمل الخطابات الدينية، وخاصة فيما يتعلّق بالإرث، والخطابات الطبية والتدخل الطبي، والقانون وأوضاع الأفراد الإنترسكس، بالإضافة إلى حضور “الخنثى” ومشتقاتها من “المخنّث” و”الخنيث” عبر القرون في الشعر والأدب والتاريخ العربي، سواء كان بشكل سلبي أو بشكل وصفي يعبّر عن مرحلة تاريخية مختلفة لم تكن هذه الكلمات فيه بالضرورة سلبية أو إيجابية. فإنّ أيّ تفسير أو اجتهاد في أسباب الأنوثة عند الذكور أو الرجولة عند الإناث يتم إسقاطه تلقائياً على الجسد، فقد كان الجسد هو المرجع الرئيسي لتفسير كلّ ظواهر الجندر والجنسانية على مرّ العصور، ومازال “الخنثى” والجسد هو المرجع الأساسي لخطابات المنطقة السياسية والقانونية والحياتية اليومية لفهم وتفسير الاختلاف الجنسي والجندري.
الصعوبات التي تواجهها مجتمعات ومنظمات الميم – عين في المنطقة كفيلة وحدها بأن تجعل الحديث في قضايا الجنس والجنسانية صعباً جداً
فحضور الإنترسكس في الفقه الإسلامي واضح وصريح منذ قرون، ويختلف الاجتهاد فيما يخصّ مواضيع الإرث والزواج بين دولة وأخرى. وبالرغم من أنّ جميع دول المنطقة تتعامل مع حالات الإنترسكس بشكل دائم، نأت الكثير منها عن قوننتها بشكل واضح. فبحيث أقرّت المغرب في سنة ٢٠٢١ قانونا يقر بال “خنثى” ويقونن أوضاع الولادات الجديدة للإنترسكس[ii] (مع تحفظات عديدة من منظمات المجتمع المدني للميم – عين المغربية)، فما زال الإنترسكس حالة غير مقوننة في السياق السوري، بل تترك لقرار الأطباء والأهل وقوانين الأحوال الشخصية التي تتدخل جميعها في فرض “جنس” الطفل عند الولادة وإجراء التدخل الطبي على حسب ما يريد الأهل.[iii] ولكن قلّما نسمع عن حالات أفراد بالغين يطلبون تغيير الجنس أو الجندر المعطى لهم/ن عند الولادة على أساس أنهم/ن إنترسكس، وأوّل حالة أخدت القليل من الصدى كانت في ال ٢٠١٨، حيث استطاع شخص بالغ من العمر٣٧ تصحيح الجنس على الهوية من أنثى إلى ذكر على أساس أنّ تغيّرات عديدة طرأت على جسده من دون تدخل طبي أو حقن هرمونات.[iv]
وعلى هذا، فإنّه ليس من الغريب أن يكون الإنترسكس قد أخذ حيّزاً، ولو صغيرا، في التمثيل الدرامي السوري، وكما نوّهت في مقدمتي لملف الكويرية والعبور في المشهد الثقافي السوري،[v] فإنّ المسلسلات السورية، خاصة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لم تخل ُمن الشخصيات الكويرية والعابرة جندرياً وطرحت العديد من القضايا التي تمسّ أو تمثل مجتمع الميم – عين في السياق السوري. في الجزء الأول من هذا المقال سألقي الضوء على تمثيل الإنترسكس في الحلقتين ١٩ و٢٠ من مسلسل “سيرة الحب”، والذي عرض في عام ٢٠٠٧. السيناريو والحوار من تأليف يزن أتاسي ولبنى حداد، وإخراج عمار رضوان.
سيرة الحب
تدور أحداث الحلقتين حول “لؤلؤة”، وهي نسوية سورية مقيمة في دمشق وتعمل في بنك. تبدأ الحلقة بزجنا في واقع المرأة في سوريا وأشكال التمييز اليومية والبنيوية التي تعاني منها: تعليقات على عدم قدرة المرأة على قيادة السيارة، عدم ترقيتها لأنّها على وجه زواج، تحرّش، تعليقات على مكياجها، وعبارات ك “طبيعة الأنوثة بتفرض عليكي واجبات منزلية”، وغيرها من العبارات التي يقولها لها خطيبها. شخصية “لؤلؤة” نسوية في ردودها وتعليقاتها وردّات فعلها، تحلّل كلّ ما تتعرّض له بطريقة تعبّر عن وعي نسوي تعدّى كونه فقط ردّات فعل طبيعية على التمييز، بل محاولة واضحة منها لفرض خطاب تحليلي نسوي واضح وصريح يفضح من دون أيّ التباس ذكورية المجتمع والأدوار الجندرية القمعية المفروضة على المرأة في المجتمع السوري.
أثناء تواجدها في المطعم، وفي لحظة غضب من خطيبها، تقع لؤلؤة مغمياً عليها على الأرض وتصحو في المستشفى على خبر فاجأها وفاجأ الجميع: لديها كتلة في أسفل البطن، ويتم تشخيصها على أنها حالة ضمور لعضو ذكري: لؤلؤة شخص إنترسكس. طبعاً، لم تذكر أيّ من الكلمتين، ولا أيّ مصطلحات أخرى. مبدئياً يمكن القول بأنّ الكاتبان يعتمدان على الفكرة الأكثر شيوعاً عمّا يعني أن يكون الشخص إنترسكس. في التخيّلات الاجتماعية والثقافية السائدة، هناك الاعتقاد الخاطئ والمهيمن بأنّ الإنترسكس هو شخص لديه الأعضاء الذكرية والأنثوية، الجنسية والإنجابية، في جسد واحد، كلاهما يعمل بشكل كامل ولدى الشخص القدرة الكاملة على الإنجاب، وأن يصبح هاذ أو ذاك الجندر من دون أيّ اختلاف عن المعايير النمطية لل “ذكر” أو “الأنثى”.
إنّ تصوير الإنترسكس هنا لا يصوّر المعاناة في القطاع الطبي وفي الحياة اليومية أو الاجتماعية، ولا يخبرنا شيء عن حياة “لؤلؤة” سوى أنّ لديها حالة طبية معينة تسمح لها بتغيّر جنسها/جندرها بشكل كامل، وعلى هذا فيمكن اعتباره على أنّه صورة بلاغية فقط. يحاول من خلالها الكاتبان اختزال ووصف المشاكل التي يعاني منها المجتمع السوري بسبب التقسيمات والأدوار الجندرية المفروضة حسب جنس الأشخاص. كون “لؤلؤة” إنترسكس يتيح للكاتب/تان التعليق على الأدوار الجندرية في المجمتع السوري وإلقاء الضوء على الاختلافات الجوهرية في كلّ جوانب الحياة.
تمثيل الإنترسكس بين خطاب نسوي ثوري ومراضاة المجتمع
من منظور هنا والآن، وما نعرفه عن الإنترسكس وتطوّر الخطاب الطبي والقانوني والحقوقي في عدد من أنحاء العالم، إنّ تمثيل الإنترسكس في هاتين الحلقتين من المسلسل، أقل ما يمكن أن يقال عنه أنّه إشكالي ومحفوف بمخاطر التمثيل الذي لا يصيب في كلّ مشهد من المشاهد. ولكن بنفس الوقت، علينا أن نذّكر أنفسنا دائماً، بأنّ هاتين الحلقتين كتبتا ومثلتا وعرضتا في فترة زمنية واجتماعية وسياسية مختلفة جذرياً عن ال هنا والآن. ومن الأحرى بنا أن ننظر إلى تصوير قصة “لؤلؤة” في الحلقتين على أنّهما مؤطرتان بالضرورة بحدود معينة لا يستطيع الكاتب/تان أن يخرجا عنها كليا، ووجب عليهما الخلط بين ما يمثل تحدّياً للمجتمع وبين ما يرضي المشاهدين/ات والرقابة ويُهدّأ من روعهم/ن جرّاء قراءة نص حقيقة مليء بالأفكار النسوية الكويرية التي تفرض آراء قوية عن الجسد وحقوق الإنترسكس وتأثير الجندر والأدوار الجندرية على حياة النساء في سورية تارة، وتارة تراعي وجهة النظر المجتمعية السائدة.
تمثيل القطاع الطبي في سوريا بهذا الشكل في مسلسل “سيرة الحب” بعيد كلّ البعد عن الحقيقة وغير مألوف على الإطلاق، ولكنه يخلق خطاباً جديداً لما قد يكون عليه الطاقم الطبي، رؤية مستقبلية مثالية تخلق احتمالية كويرية جديدة
فبالرغم من الاستخدام البلاغي للإنترسكس وعدم الخوض في جوانب حياتهم/ن في سوريا، وبالرغم من أنّ بعض التمثيلات والحوارات ليست نقدية بالشكل الذي أصبحت فيه الخطابات الحقوقية للجندر والجنسانية والجسد حالياً، فإنّ هاتين الحلقتين تقدّمان العديد من اللحظات والتمثيلات الكاسرة للتصوير النمطي لعدد من القضايا وتقدّم خطابات جديدة وكويرية نسوية، كانت ومازالت ثوروية في السياق السوري.
-عبد (خطيب لؤلؤة): شو شب ولا بنت! طبعا بنت.
-لؤلؤة: وليش طبعا بنت؟
-عبد: لإنو إنتي بالأساس بنت، وبعدين نحنا خاطبين وبدنا نتجوز، شو نسيتي …
-لؤلؤة: لا ما نسيت، بس هادا قراري ولازم إتحمل مسؤوليتو، وأنا بصراحة ماني ناوية آخد قرار إندم عليه كل حياتي، يعني ماني ناوية أبقى بنت وإندم وماني ناوية صير شب وإندم.
-عبد: أنا منشان هيك عم قلك تبقي بنت.
-لؤلؤة: أيوا، يعني عم تعطيني order!
-عبد: ولك إنتي شو، جنيتي؟
-لؤلؤة: لأ ماجنيت، بس لمجرد إني بدي آخد قرار بيخصني وحدي وبيخص جسمي، صرت مجنونة؟ ولا لإنو تهدّدت ذكورتك؟
(سيرة الحب ـ الحلقة ١٩)
أولاً، يقدّم لنا الكاتب/تان فكرة “الخيار الحر” فيما يخصّ الجندر والجسد. ولو أنّ حالة “لؤلؤة” ليست حالة عبور جندري أو شخص ترانس يريد العبور من “امرأة” إلى “رجل” لدواعي نفسية (وليست فقط “طبية”)، مازال هناك الكثير من التأكيد على فكرة الخيار الشخصي والانتظار والتفكير المليئ بالإجراءات. فعند إخبار الدكتور ل “لؤلؤة” بأنّ ما لديها ليس مجرّد كتلة، بل ضمور لعضو ذكري، يقول لها الدكتور: “هلق الموضوع مختلف، أنا مو من حقي اتصرف من دون مشورتك، لا تتسرعي، الموضوع كتير حساس ودقيق، فكري على مهلك، وشو ما كان قرارك أنا جاهز، بس أنا ما فيني أتدخل بقرارك ولا أي حدا تاني، إذا بدك تضلي أنثى أو تصيري ذكر”. هذا عدا عن أنّ حديث الدكتور معها عن دعم التغيّرات الفيزيولوجية بالهرمونات الصناعية على التلفزيون السوري، كان فريداً من نوعه أيضاً وجديد، ويعزّز فكرة أنّ تجسيد جندر معيّن لم يعد محكوماً ب “الطبيعة” حصراً، بالرغم من أنه محدّد بضرورة وجود تشخيص طبي قانوني. تمثيل القطاع الطبي في سوريا بهذا الشكل بعيد كلّ البعد عن الحقيقة وغير مألوف على الإطلاق، ولكنه يخلق خطاباً جديداً لما قد يكون عليه الطاقم الطبي، رؤية مستقبلية مثالية تخلق احتمالية كويرية جديدة، نتمنى أن نراها ويجب أن نعمل على خلقها، لأنها احتمالية، والاحتمالية أيضا حقيقة.
ثانيا، في الحلقة الثانية، نرى “لؤلؤة” قد اختارت أن تكون شاب، اسمه “لؤي”. يقدم لنا الكاتب/تان، هنا صورة قوية عن التربية الجندرية في مجتمعنا السوري وكيفية خلق وتعزيز الهوية الجندرية للرجل شيئاً فشيئاً، خاصة من قبل رجال آخرين. يظهر لنا الرجال في هذه الحلقة كمجموعة ترى نفسها مسؤولة عن إدخال “لؤي” في أجواء وخفايا وضروريات الرجولة وكيفية عملها، والوقت المستثمر في تعلمها، وضرورة عدم الحيد عن قوانينها والضغط الذي يحسّ به بعض الرجال، مثل “لؤي” في هذه الحالة، لتمثيل وتقديم الرجولة بشكلها المجتمعي القمعي. نرى “لؤي” ينخرط بشكل متسارع في مظاهر الرجولة ذاتها التي كان ينتقدها من قبل، ويصبح صورة عن الرجل الذي كرهه قبل العبور. وفي خضم هذا التصوير الفاضح لميكانيكات عمل الجندر، يعالج الكاتب/تان بقوة، وبشكل غير مباشر، موضوعاً لم يكن لا على الساحة الفنية ولا الحقوقية والسياسية في ذلك الوقت، لا في سوريا ولا خارجها، على الأقل ليس بالانتشار والسوية الذي هو عليه الآن: موضوع الضمائر والمخاطبة بالضمائر الصحيحة.
يعالج الكاتب/تان هذا الموضوع بشكل كبير إلى حد أن يصبح جوهرياً في هذه الحلقة، ولو كان الجو العام يوحي بأنّه عرضي. فمنذ بداية الحلقة الثانية، ينزعج “لؤي” من أنّ صديقته “جودي” ما زالت تخطئ بضمائره وينهرها قائلا “حلّك تتعودي” في إشارة واضحة منه لإحباطه من الضمائر غير الصحيحة. نرى صديقته تخطئ بالضمائر عدّة مرات خلال الحلقة، وتصحّح نفسها مباشرة بعد كلّ مرة. تقدّم صديقة “لؤي” هنا مثالاً جيداً عن كيفية التعامل مع تغيّر الضمائر وتظهر لنا مدى ضرورة احترام الضمائر وعدم الانهيار عند القيام بأخطاء، وتصحيح الذات من دون تضخيم الموضوع ودون أن يجعل الشخص من نفسه هو ضحية تغيير الضمير. ولكن في الوقت الذي تقدّم فيه هذه الشخصية صورة مثالية عن كيفية التعامل مع هذا التغيير، يقدّم لنا الكاتبان أيضا مثالاً عن رهاب العبور واستخدام بعض الناس في المجتمع لموضوع الضمائر للإهانة والتحقير، كما هو الحال مع زميل “لؤي” في الشركة، والذي بدواعي الحقد والغيرة من “لؤي” الذي حصل على ترقية في العمل، يستخدم معه ضمائر المؤنث في محاولة لإهانته. يغضب “لؤي” غضباً عارماً ويهجم على زميله في العمل ناوياً أن يضربه، وكاد أن يتطوّر الموضوع إلى شجار بالأيدي لو لم يقم زملاء آخرون في العمل بفضّ الشجار. أن يقوم شخص إنترسكس/عابر بمحاولة ضرب شخص آخر استخدم الضمائر الخطأ في مخاطبته، يسمح لغضب وإحباط فئة مضطهدة من المجتمع أن ينال مساحة من التمثيل على شاشة التلفزيون، وأن يقدّم صورة قوية عن أهمية استخدام الضمائر الصحيحة مع الأشخاص الإنترسكس والعابرين/ات.
الصورة النمطية لكيف أنّ الرجال العابرين يصبحون أيضا رجالاً سامون قمعيون مستفيدون من امتيازات المجتمع، هي صورة نمطية سائدة بدورها ولا تعبّر أبداً عن عمق وتعقيد واختلاف تجارب الرجال العابرين في سوريا أو مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
ما قد يجعل البعض يشكّك في قوّة أو حقيقية الخطاب النسوي الكويري التي قمت بتحليله هنا هو نهاية القصة، والحق يُحكى، شعرت أيضاً بخيبة أمل مبدئية عندما شاهدت كيف أننا نعود إلى المشهد الذي تجلس فيه “لؤلؤة” مع خطيبها في المطعم في الحلقة الأولى، وهي تردّ على متطلباته الذكورية بقوة وبخطابات نسوية ثورية وتشاجره على نقده الدائم لكونها غير أنثوية ولا تحطّ المكياج أو تفرد شعرها كامرأة. وفي المشهد الأخير، نرى بأنّ كلّ ما حدث من اكتشاف حالتها كإنترسكس وعبورها ما كان إلا حلم طويل. تستيقظ “لؤلؤة” من هذا الحلم وتنظر إلى خطيبها وهو يتحدث، فتقوم بإفلات شعرها وتضع القليل من الحمرة لتبرز أنوثتها كما طلب منها.
هذه النهاية تصوّر “لؤلؤة” على أنها خضعت له ولقوانين المجتمع الذكورية، وفي الحقيقة مهما حاولنا قراءة هذه النهاية بطريقة أخرى، سيبقى الجزء الأكيد من هذا التصوير هو أنّه فيه مداراة للمجتمع وعودة إلى ما يعرفه معظم المشاهدون/المشاهدات لتحسيسهم بالأمان بعد حلقتين مليئتين بنقد الرجال والخطاب الذكوري وشخصية “لؤلؤة” كشخصية نسوية قوية جداً وتصوير حالة إنترسكس وعبور جندري يقدّمان صوراً إيجابية عن الموضوع قدر الإمكان. ولكن شخصياً أصر على أنّ هذه القراءة ليست الوحيدة المحتملة، بل هناك قراءة أخرى موازية تتحملها هذه النهاية. فمنذ بداية القصة تقول “لؤلؤة” بشكل صريح أنّها تريد أن تصبح شاباً مثالياً لتثبت أنّ احتمال أن يكون هناك رجال يؤمنون بالمساواة ويعاملون المرأة باحترام وبتساوي موجود. ولكن ما حدث بعد العبور أنّ “لؤي” انجرف وراء قوانين ومعايير الذكورية السامة، وأصبح نسخة عن الرجل الذي كانت تكرهه “لؤلؤة”، وأبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي كانت تتمناها. صديقته المقربة بعد أن أحبّها وطلب يدها للزواج وخانها، تذكره بأنه أصبح الرجل السيء الذي كان ينتقده قبل عبوره. عند استيقاظ “لؤلؤة” من الحلم، من السهل جدا رؤية الخوف في عينيها من أن تصبح هكذا رجل، وأنّها تفضل أن تبقى أنثى على أن تصبح رجلاً كالكثير من الرجال في المجتمع، ولهذا تكون ردّة فعلها النهائية هي أن تنخرط، ولو قليلا في الأنوثة المعيارية على أن تصبح رجلاً قمعياً مخيفاً.
طبعا حتى قراءتي هذه لا تبرّر التمثيل المبسط جداً للعبور والرجولة والإنترسكس، وأنّ هذه الصورة النمطية لكيف أنّ الرجال العابرين يصبحون أيضا رجالاً سامون قمعيون مستفيدون من امتيازات المجتمع، هي صورة نمطية سائدة بدورها ولا تعبّر أبداً عن عمق وتعقيد واختلاف تجارب الرجال العابرين في سوريا أو مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فتحتمل النهاية قراءتي البديلة هذه فقط لأنّ قصة “لؤلؤة” لا تمثل قصة إنترسكس حقيقية أو حالة عبور في الأساس، بل تستخدم حالة الإنترسكس بشكل بلاغي لفتح باب النقاش على العديد من القضايا المهمة كالجندر، الجنسانية، الجسد، حرية الاختيار، العبور، النسوية، القوانين القمعية، الخطابات الطبية، والضمائر، وتعالج هذه القضايا بشكل جريء وغير مسبوق في سياق سوري سابق للانتشار العالمي الكبير لخطابات الميم – عين الاجتماعية والسياسية، كما هي عليه الآن.