إنشاء سجل Sign In

غاندي المتمرِّد: ملحمة مسيرة المِلْح

بعد خمسين عامًا مضت على رحيل غاندي – اغتيلَ في العاشر من كانون الثاني/يناير 1948 – يبدو أنَّ البشريةَ لم تسمعْ رسالةَ اللاعنف التي أرادَ أنْ يقدِّمَها للعالَم. فالعنف هو دائمًا المادة الأولى لأخبارنا اليومية ومازال يُغرِق تاريخَنا في غياهب الظلمات. فاليومَ كما في الأمس، يرى قليلٌ جدًا من الناس أنه من المنطقي التأكيد على أن اللاعنف الذي يطرحه غاندي هو في الحقيقة الحكمةُ التي من شأنها أنْ تتيحَ للبشر التصديَ للتحديات التي يواجهونها في النهاية هذه للعصر.

ما هي الصورة التي يأخذها الغربيُّون اليومَ عن غاندي، وما هي الفكرة التي يُكَوِّنونها عن اللاعنف الذي عاش لأجله ومات لأجله؟ لا ريب في أن الجميع تقريبًا يعرِفون اسمَ هذا الهندي ووجهَه؛ ويعرفون على الأرجح أنه ثارَ على الاحتلال الاستعماري لبلاده وناضل من أجل تحرير شعبه رافضًا اللجوءَ إلى أسلحة العنف الفتَّاكة. لكنهم إذا أقرُّوا بسهولةٍ بأن اللاعنف هو مثال أعلى مثير للإعجاب فإنهم لا يعتقدون مع ذلك بأنه يمكن أنْ يكون ذا فائدةٍ ما لهم من أجل أنْ يواجِهوا مواجهَةً واقعيةً وفعَّالةً الأحداثَ التي تشكِّلُ هنا والآنَ نسيجَ تاريخهم.

في جنوب أفريقيا حيث أقام غاندي من عام 1893 إلى عام 1914 أسَّسَ لأول مرة مقاومةً لاعنفية. وكان هدفه آنذاك هو إتاحة الفرصة للهنود المهاجرين في ذاك البلد ليحصلوا على الاعتراف بحقوقهم واحترامها أمام سلطة البيض العنصرية. فيما بعد، في عام 1942، يروي أنَّ “المسألة كانت بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت، وأنا أعالج هذه المشكلة حضرني ذلك المنهجُ في اللاعنف لم تكن الإجراءات المختلفة التي اتَّخذْتُها في ذلك الحين عملَ إنسانٍ راءٍ أو حالم. كانت فِعْلَ رَجُل عملي في صراع مع مشاكلَ عملية”.

وعندما بدأ غاندي تنظيمَ هذا الكفاحِ اقتبسَ من اللغة الإنكليزية تعبيرَ “passive resistance” [مقاوَمة سلبية] ليشيرَ إلى المنهج الذي يطبِّقه. ويَذْكُر أنه “كلما كانت أقليةٌ صغيرةٌ بين ظَهْرانَيْ الإنكليزِ تستنكر تشريعًا معيَّنًا ضارًا كانت بدلاً من التمرد تتبنَّى موقفَ المقاومة السلبية من خلال عدم طاعة القانون ومن خلال التعرُّض للعقوبات بسبب عصيانها”. إلاَّ أنه يدرك في الوقت الذي يكبر فيه الكفاح أن هذا التعبير “يسبِّب الالتباسَ بلا أدنى شك” و”يكاد يثير سوءَ فهم فظيع”

كتبَ يقول:كانت المقاومة السلبية تُفهم على أنها سلاح الضعيف وكان يُنظَر إليها على هذا الأساس. وعلى الرغم من أنها تتجنَّب العنفَ، وهي التي لم تكنْ ممكنةً للضعيف، لم تستبعد استعمالَه بحسب رأي من يلجأ إلى المقاومة السلبية إذا استدعَت الظروفُ ذلك.

يرى غاندي أنه من الضروري إيضاحُ أنه إذا تخلَّى هنودُ جنوبِ أفريقيا عن اللجوء إلى العنف فليس ذلك عن ضعف فيهم، بل على العكس لأنهم يمتلكون قوةَ التغلُّب على رغبتهم في الثأر من أجل البحث عن حل سِلْمي للنزاع الذي يواجههم مع البيض. عندئذٍ أراد أنْ يبتكرَ كلمةً جديدة ليسمِّيَ بها كفاحَه. وفي نهاية المطاف، أخذَ بالمصطلح السنسكريتي ساتياغراها Satyagraha: وأوضحَ أنَّساتيا Satya (الحقيقة) تنطوي على الحب وأغراها [أﭽراها] agraha (الثبات) تفيد كمرادف للقوة. فبدأتُ إذًا أدعو الحركةَ الهنديةَ باسم “ساتياغراها”. وكنتُ أعني بذلك القوةَ التي تُوْلَدُ من الحقيقة ومن الحب.

ومنذ ذلك الحين هجَرْنا هجرانًا كاملاً استعمالَ تعبير “المقاومة السلبية.

وهكذا، خلافًا لما يقال في بعض الأحيان، لم ينحتْ كلمةَ ساتياغراها ليضعها في مكان مصطلح أهيمسا، بل ليضعَها في مكان تعبير “المقاومة السلبية”.وهكذا يشير غاندي أيضًا إلى معنى مصطلح ساتياغراها بقوله:

معناه الاشتقاقي هو الالتزام بالحقيقة، ومن هنا تأتي قوة الحقيقة. دعَوْتُه أيضًا قوةَ الحب أو قوةَ النفس. عند تطبيق الساتياغراها اكتشفْتُ منذ المراحل الأولى أن البحث عن الحقيقة لا يقبل بإنزال العنف بالخصم، بل بوجوب فصلِه عن خطأه بالصبر والرحمة. لأنَّ ما يبدو حقيقةً لأحدهم قد يبدو خطأ للآخر. والصبر يعني قبولَ المرء المعاناةَ بنفسه. وبالتالي يرمي المذْهبُ إلى الدفاع عن الحقيقة ليس بإلحاق المعاناة بالخصم، بل بقبول المرء أنْ يعانيَ بنفسه.

لكن الكفاح من أجل الشعب، على الصعيد السياسي، يقوم بصورة رئيسية على معارضة الخطأ الذي يظهر في القوانين الجائرة. عندما تخفق في جعل المُشرِّع يعترف بخطأه عن طريق العرائض [المطالب] وطرق مشابهة فإن الوسيلة الوحيدة المتبقية أمامك إذا لم تُرِدِ الاستسلامَ للخطأ تقوم على إرغامه على الاستسلام لك بالقوة الجسدية أو على المعاناة بنفسك مسببًا العقوبةَ المنصوص عليها مقابل خرق القانون. ولذلك تبدو الساتياغراها للرأي العام مقابِلةً للعصيان المدني أو للمقاومة المدنية. وكلاهما مدني بمعنى أنه ليس جنائيًا. “

فيما بعد، استعملَ غاندي في أغلب الأحيان كلمةَ أهيمسا للتعبير عن قناعته بأنَّ العنفَ يتعارض تعارضًا جذريًا مع النداء الإنساني الداخلي للإنسان وبأنَّ على هذا الإنسان إذًا أنْ يتبنَّى موقفًا آخر ويفكر في طريقة أخرى للكفاح. للأسف، مازال تعبير “المقاومة السلبية” هو المستعمَل غالبًا في الغرب للدلالة على المقاومة اللاعنفية. غير أن هذا المفهوم يشتمل على تناقض جوهري يجعل استعمالَه غير مناسب. فالمقاومة، في الواقع، لا يمكنها أن تكون سلبية: تتميَّز السلبيةُ تحديدًا بأنها لا تُبدي أيةَ مقاوَمة لأيٍّ كان. يحمل تعبيرُ “المقاومة السلبية” طابعَ الإيديولوجيا السائدة التي تقول بأنه لا يمكن أنْ يكون العمل إلاَّ عنيفًا؛ عندئذٍ لا يمكن أنْ يُعبِّرَ رفضُ العنف إلاَّ عن السلبية. وهكذا يصبح اللاعنفُ في الغالب بدون أي اعتبار بحُجَّةِ أنه لا يمكنه إلاَّ أنْ يفيد الطغاةَ بدون أنْ يقصدَ وذلك من خلال نزع سلاح المضطَهدين والحكم عليهم بإيقاف العمل.العنف قبل كل شيء هو عنفُ مواقف الظلم التي تُغَرِّب البشرَ وتشوِّههم. فاللاعنفُ إذًا هو قبل كل شيء كفاح ضد الظلم. إلاَّ أنَّ غاندي، على الرغم من تأكيده على ضرورة محاربة النظام الذي يُنتِج الظلمَ ويرسِّخه، يريد احترامَ شخص المسؤولين عن هذا الظلم لأنهم هم الآخرون ضحاياه.

كتبَ غاندي:

الإنسانُ وأفعالُه شيئان متمايزان.. اللاعنف هو أساس البحث عن الحقيقة. ولا يمرُّ يومٌ إلاَّ وأُدرِكُ فيه في الواقع أن هذا البحث يكون سُدىً إذا لم يستندْ إلى اللاعنف. إنَّ مواجهةَ نظامٍ ما ومهاجمتَه أمرٌ حسَن؛ لكنَّ مواجهة فاعله ومهاجمتَه يساوي مواجهةَ المرء نفسَه وتحوُّلَه إلى مهاجم نفسِه.

لا بد لنا من الاعتراف بأن إيديولوجيا العنف الضروري والشرعي والمحترَم التي تسيطر على مجتمعاتنا مازالت تترك مجالاً قليلاً جدًا للتفكير باللاعنف. فمادام العنفُ يَظهَر على أنه فضيلة الرجل القوي الذي يمتلك شجاعةَ ركوب أعظم المخاطر من أجل مكافحة الظلم والدفاع عن الحرية فإن اللاعنف سيُعَدُّ ضعفَ الرجل الجبان الرعديد الذي يستسلم ليرزحَ تحت نير الطغاة والذي يتواطأ سلفًا مع المعتدين. إلاَّ أنَّ ما أظهره غاندي بالتحديد، وذلك ليس بالقول فقط وإنما بالعمل أيضًا، هو أنه إذا كان العنف أفضل من الجبن فإن اللاعنف موقف أكثر شجاعةً من العنف.

فيؤكد في عام 1920:أعتقد حقًا بأنه عندما لا يكون هناك من خيارٍ إلاَّ بين الجبن وبين العنف فإنني أنصح بالعنف..ولذلك أوصي الذين يؤمنون بالعنف أنْ يتعلموا استخدامَ السلاح. ودِدْتُ لو أنَّ الهند تلجأ إلى السلاح دفاعًا عن شرفها بدلاً من أنْ نراها بدافع الجبن تصبح أو تظلُّ الشاهدَ العاجزَ على خِزْيها وذُلِّها. لكنني أعتقد بأنَّ اللاعنف أرقى بكثير جدًا من العنف وبأنَّ العفو أكثر إنسانيةً من العقاب.

فاللاعنفُ هو قانون الجنس البشري مثلما أن العنف هو قانون البهيمة. فالعقل نائم عند البهيمة فهي لا تعرف قانونًا آخرَ غيرَ القوةِ البدنية. كرامةُ الإنسان تستوجب منه الخضوعَ لقانون أسمى، لقوة العقل.وهكذا يرى غاندي بأن اللاعنف ليس فقط وليس بالأساس منهاجَ عمل، إنه موقف، أيْ إنه بصورة أساسية نظرةٌ، نظرةُ عطفٍ وطيبةٍ إلى الإنسان الآخر. اللاعنف في نظر غاندي مبدأ: إذْ يؤكد قائلاً: “أؤمن بمبدأ اللاعنف”I believe in the principle of non-violence

فيراه المبدأَ نفسَه للبحث عن الحقيقة، وبالتالي فهو بهذا المعنى المبدأُ نفسُه للفلسفة: يؤكد صراحةً أنه الطريق الوحيد الذي يقود الإنسانَ نحو الحقيقة. كتبَ أنَّ:اللاعنف والحقيقة متشابكان تشابكًا وثيقًا يستحيل معه فك الواحد عن الآخر أو فصل أحدهما عن الآخر. فهُما وجهان لقطعة معدنية واحدة أو بالأحرى لقرص معدني صقيل لا يحمل أيةَ علامة. فمن يستطيع أنْ يميِّزَ بين وجهه الأول ووجهه الآخر.

يتطلَّب البحثُ عن الحقيقة على طريق اللاعنف تطبيقَ وسائلَ عملٍ تنسجم مع الغاية المنشودة. لقد أجابَ غاندي أحدَ مُحاوريه الذي أكَّد على أنَّ جميعَ الوسائل صالحةٌ، بما فيها العنف، للوصول إلى غاية عادلة، فأكد غاندي قائلاً:

إنكَ لترتكبُ خطًا جسيمًا باعتقادكَ بأنْ لا علاقةَ بين الوسائل والغاية.. فتفكيركَ هذا كتفكيرِ امرئٍ يصرُّ على القول بأننا نستطيع الحصولَ على وردة إذا زرعنا عشبًا ضارًا.. فالوسائلُ يمكن مقارنتُها بالحبة والغايةُ يمكن مقارنتُها بالشجرة؛ والعلاقةُ غيرُ الملموسة الموجودةُ بين الوسائل والغاية هي العلاقة نفسُها الموجودة بين الحبة والشجرة

اشتُهِر غاندي بأنه رجل متديِّن. فمن الصحيح أنه كان يتكلم غالبًا جدًا عن الله وأنه هو نفسه أعطى غالبًا التعبيرَ عن قناعته بشأن اللاعنف مدلولاً دينيًا. مع ذلك فإن غاندي لم يكن رجلاً “متديِّنًا” بالمعنى التقليدي للكلمة، بمعنى أنه لم تكن له من علاقة شخصية مع إله شخصي وأنه لم يُرِد الامتثالَ لأي وحي خارجي. فهو يرى بأن “الله ليس شخصًا. لذلك فإن الله الذي يُجِلُّه غاندي لا اسم له ولا وجه: يعترف بالقول: “لم أرَ اللهَ، ولم أعرفْه ولا أمتلك أيةَ كلمة لوصف إيماني بالله” في المحصلِّة، اللهُ في نظر غاندي هو الحقيقة المطبوعة في سريرة الكائن الإنساني. ولذلك توصَّلَ إلى إبدال التأكيد الديني: “اللهُ هو الحقيقة” بالعبارة التالية: “الحقيقةُ هي الله“.

هناك أكثر من فَرْق بسيط بين الخطوات التي تتضمَّنُها هاتان الصياغتان. فالذي يعتقد بأنَّ “الله هو الحقيقة” يرى بأنه يكفيه أنْ يؤمنَ بكلام الله الموحى في الدِّين – إيْ في دِينهِ هو – لكي يمتلكَ الحقيقةَ. فيقتنع عندئذٍ بسهولةٍ بأنَّ من يرفض الإيمانَ بهذا الوحي يكون على ضلالة. ولكي يدافعَ عن الحقيقة ويحاربَ الضلالَ يأخذ على نفسِه واجبَ مهاجمة الهرطقات [البِدَع]، وليس هذا فحسبُ، بل يوجب على نفسِه شنَّ الحرب على الهراطقة. الخطر إذًا جسيم في أنْ تصبحَ عبارةُ “الله هو الحقيقة” تأكيدًا شموليًا [توتاليتاريًا] يؤدي إلى الحرب المقدَّسة [الجهاد]. يُلفِتُ غاندي النظرَ إلى أن “ملايين البشر في الواقع استحوَذَ عليهم اسمُ الله فارتكبوا وهم يتضرَّعون إليه فظاعاتٍ تَدِقُّ عن الوصف”.

الاعتقاد بأنَّ “الحقيقة هي الله” ينطوي على خُطْوَةٍ فكرية وروحية أخرى مختلفة. لأنَّ الحقيقةَ، عندئذٍ، لا تُعَرِّفُ بنفسها للإنسان من خلال وحي خارجي، بل من خلال فريضة داخلية تُعَبِّر عن نفسها من خلال “الصوت الخافت الهادئ” لضميره، أيْ من خلال عقله. وبذلك يؤكد غاندي تفوُّقَ العقل على الدين ويريد أنْ ينظرَ بنفسه في صحة النصوص المقدَّسة وفقًا لمتطلبات العقل. ولذلك فإنَّ غاندي “لديه قناعة راسخة بأنه لا دِينَ إلاَّ الحقيقة“.

لقد بقيَتْ حياةُ غاندي وفكرُه لا يُلْقَى لهما بالٌ على نطاق واسع لدى الأوروبيين وخاصةً الفرنسيين منهم. وقد امتدَّ عمَلُ غاندي على مدى أربع وخمسين سنةً – أولاً في جنوب أفريقيا من عام 1894 إلى عام 1914، ثم في الهند حتى رحيله في عام 1948.

ولذلك لم تتمكَّنْ سِيَرُ حياتِه [ترجماته] من عرضٍ دقيق وصارم لجميع أقواله وأفعاله وحركاته. كتاباتُ غاندي وأقوالُه لا تُحصَى، لكنها ما تزال في سياقها [ظرفها]. ولفهمها فهمًا صحيحًا يجب إعادة وضعها في السياق المحدَّد الذي تكلَّمَ فيه غاندي. وإذا اكتفينا بالنصوص المنشورة بالفرنسية فإنها لم تكن في الغالب إلاَّ “شذراتٍ مختارةً” لا تتيح الحصولَ سوى على رؤية جزئية لفكره وعمله. وقد جُمِعَتْ أقوالُه وكتاباتُه – سواء المقالات أو الخطابات أو الرسائل أو المقابلات – ونُشِرَتْ بالإنكليزية في تسعين مجلَّدًا يضم كلُّ مجلَّد أربعمئة وثمانين صفحة وسطيًا: The Collected works of Mahatma Ghandi [الأعمال الكاملة للمهاتما غاندي]. تشكِّل هذه النصوصُ مادةً أوليةً ذات غنى مدهش، لكنْ يجب الاعترافُ بأنه من الصعب الاستفادة منها. وفي الواقع، لم يُستفَدْ منها إلاَّ نادرًا. وإذا استطعنا العثورَ على بعض الإشارات المرجعية إلى غاندي في الأعمال الفلسفية المعاصرة فإنه من الملفت للانتباه أن غاندي لم يكن مرجعًا للفلاسفة المعاصرين. فقد أُهمِلَ عمومًا؛ بل أكثر من ذلك، لقد عُتِّمَ عليه.

من جهة أخرى، فقد جعلوا أحيانًا من الملحمة البطولية الغاندية أسطورةً: قدَّموا لنا عندئذٍ المشهدَ الريفيَّ الغزليَّ لمواجهةٍ سِلْمية يواجه فيه هنودٌ لاعنفيون رجالاً بريطانيين رفيعي التهذيب [جنتلمان]، مما يوهم بأن غاندي كان سيجترح معجزةَ تحريرٍ وطني بدون إراقة دماء. إن تاريخ الأحداث التي جرت في الهند في الفترة من 6 نيسان/أبريل 1919 – يوم إطلاق غاندي لحملته في المقاومة المدنية – وحتى تاريخ 15 آب 1947 – يوم استقلال الهند – يُظهِر لنا أن أعمال عنف عديدة ارتُكِبَتْ من جهة كل طرف من الطرفين المتواجهَين. فمن جهة، لم يتردد البريطانيون للدفاع عن إمبراطوريتهم من اللجوء عندما يرون ذلك ضروريًا إلى أسوأ أساليب القمع بحق الهنود. ومن جهة أخرى، يجب ألاَّ نخطئَ في الأمر: نضالُ الشعب الهندي ضد المحتل والذي قاده غاندي لا يقدِّم لنا، كما أراد البعضُ أن يزعموا، النموذجَ الكاملَ لاستراتيجية العمل اللاعنفي. فقد استشاط الهنودُ غضبًا عدةَ مرات وأطلقوا العِنانَ لرغبتهم في العنف ضد المحتل ضاربين عُرْضَ الحائط بتعاليم اللاعنف التي أعلنها غاندي.

بالتأكيد الحدثَ الأهمَّ في الملحمة الغاندية. هذه المسيرة افتتحَت حملةَ عصيان مدني كان هدفُها المعلَنُ ليس أقلَّ من الحصول على استقلال الهند بالكامل. وهذه الحملة امتدَّت أربعَ سنوات ابتداءً من 6 نيسان/أبريل 1930 بالضبط، اليوم الذي خرقَ فيه غاندي عن عمدٍ القانونَ البريطاني من خلال التقاط قليل من المِلْح الذي خلَّفَتْه الأمواجُ على شاطئ البحر، وحتى تاريخ 7 نيسان/أبريل 1934، اليوم الذي أَعلَنَ فيه قراره بإنهاء العصيان المدني. تتضمَّنُ هذه السنواتُ الأربعُ ثلاثَ مراحلَ متمايزةٍ تمامًا. تمتد المرحلةُ الأولى من 6 نيسان/أبريل 1930 إلى 4 آذار/مارس 1931، اليوم الذي وقَّع فيه غاندي ونائب ملك الهند معاهدةَ سلام لتعليق حركة العصيان المدني. والثانية هي وقت “الهدنة” التي زار خلالها غاندي لندنَ للمشاركة في مؤتمر الطاولة [المائدة] المستديرة الذي كان عليه أنْ يبتَّ في الدستور المستقبلي للهند. وتمتد من تاريخ 4 آذار/مارس 1931 حتى 3 كانون الثاني/يناير 1932، اليوم الذي قرر فيه غاندي استئنافَ حركة العصيان المدني بعد أن تأكد من رفض السلطات البريطانية قبولَ حوار بَنَّاء معه. وتمتد المرحلةُ الثالثة إذًا من 3 كانون الثاني/يناير 1932 إلى 7 نيسان/أبريل 1934. ومن أجل فهم مدى أهمية هذه الأحداث، ينبغي وضعُها في الإطار التاريخي الإجمالي لنضال الهنود من أجل الاستقلال. ولذلك سنَعرِض باختصارٍ المراحلَ التي مرَّت قبل المرحلة التي آثرْنا دراستَها وبعدها.

وكتب جان ماري مولر عن شخصية غاندي:

كان يمتلك ابتسامةً عذبة وضحكةً مُعْدية؛ كان يُشِعُّ مرحًا. كان في داخله شيء طفولي ممتلئ سحرًا. عندما كان يدخل غرفةً كانت نسمة هواء عليل تلطِّف الجوَّ.

هذا هو الإنسان الذي يودُّ هذا الكتابُ اكتشافَه

ترجمة : محمد علي عبد الجليل

المصدر:

http://maaber.50megs.com/issue_september11/non_violence2.htm

المقالة السابقة
ليس الانتقام أبدًا حقاً من حقوق الإنسان
المقالة التالية
تدريبات دارنا

أضف تعليق

Your email is safe with us.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Rawabet طلب التسجيل في منصة

X