حاجة السوريين إلى عقد اجتماعي جديد
- عدد المشاهدات: 0
Description
الأزمة السورية وليدة أسباب داخلية أصابت بنيتنا الثقافية وتحتاج مراجعات صريحة ومؤلمة
هناك تصرفات دلالية صغيرة تُظهر عمق الأزمة البنيوية في المجتمع السوري، تحتاج هذه الدلالات إلى الذاكرة لمقارنة بين ما كان وما يتجذر الآن في بينية المجتمع لنستطيع إدراك العوامل الذاتية التي تقود المجتمع السوري إلى العنف وإلى التفكك وإلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة، لا ننكر وجود موجة الخراب الثقافي التي تلف العالم والمنطقة حولنا لكنها مرض كان على جهازنا المناعي مقاومته لو كنا بحالة سليمة وبجسد سليم مُنظّم قادر على مواجهة معظم العوامل الممرضة كما تفعل أجسادنا مع الجراثيم التي لم ولن تنتهي من العالم.
أولى الدلالات التي أرصدها بكثافة في مواقع التواصل الاجتماعي هو تلك الحاجة اليائسة للفخر الحضاري عبر البحث عن نجاحات السوريين في بلاد المهجر وحالياً في بلاد الهجرة القسرية لأسباب تتعلق بالحالة الاقتصادية الصعبة أو تتعلق بالحرب والعنف الذي اندلع مؤخراً في الأرض السورية والمجتمع السوري، المبدع متمردٌ في بنيته وهذا يتعارض مع البنى السياسية والاجتماعية والدينية المتحكمة في المجتمع السوري، أحد أهم أسباب هروب هذه الطاقة المتميزة من بلادنا هو الصراع الذي تقوده التيارات التي ترغب بالمزيد من السيطرة والتحكم في المجتمع، صراع الإخوة فيما بينهم وصراعهم مع الابداع بشكلٍ عام كتمرد يجب مواجهته في مهده، مفهوم الولاء للعصبيات البدائية يناقض حاجة المبدع للتجريب والخطأ مئات المرات قبل الوصول إلى إبداع جديد، من الخطأ تحديد جهة سياسية أو دينية أو اجتماعية وتحميلها مسؤولية الخراب السوري فالخراب الذي نعانيه هو نتيجة ثقافة شاملة تعم مجتمعنا وعلينا مواجهتها لننتقل إلى بر الأمان، نجاحات السوريين يجب نسبها لمن أمّن لهم البيئة الآمنة لظهورها وعلينا نحن أن نشعر بالخجل الشديد لوجود هؤلاء خارج البلاد، حين نستبدل شعور الفخر بهم بشعور الخجل والندم من وجودهم خارج أرضهم وخارج مجتمعهم نكون قد وضعنا قدمنا على أول الطريق لمعالجة هذه الظاهرة، الفخر هو مخدر نتبادله لنهرب من استحقاقات التفكير بأسباب وجودهم خارجاً وأسباب إبداعهم خارج البلاد وليس داخلها.
في دلالة ثانية مهمة أتحدث عن قضية شخصية، لدي في بستاني شجرتي إجاص صغيرتين، أقطع عشرين كيلومتراً مرتين في الأسبوع للعناية بهما وبغيرهما في الحقل وفي أول موسم لهما تمت سرقتهما، بالتأكيد السرقة هنا لن تغير من الوضع المادي للسارق، خمسة كيلو أو حتى ستة لن تحدث فرقاً في حالته، ولكي أوضح أكثر القضية لا تتعلق بالأزمة الغذائية الحالية أو بفوضى المجتمع الذي بدأت مع ظهور الاضطرابات فيه في بداية 2011 بل أعمق بكثير، وهذا ما قصدته بالذاكرة في بداية هذا المقال، نحن هنا لن نقارن بين المجتمع السوري وبين بقية المجتمعات الإنسانية بل بينه وبين ذاته لكن في فترات زمنية مختلفة لنرى إن كان يسير في اتجاه التعافي أم باتجاه المزيد من المرض، ولأوضح أكثر ظهرت هذه السرقات وازدادت حدة في منطقتي قبل حوالي عشرين عاماً قبلها كنا نضع أدواتنا الزراعية في البستان ونتركها طيلة العام ونحن مطمئنين إلى بقائها في مكانها، ما الذي تغير في المجتمع السوري؟ ولماذا وصلنا إلى هذه الحال؟.
الذي تغير في المجتمع السوري بشكل عام هو ارتفاع حدة الثقافة الاستهلاكية على حساب ثقافة الإنتاج، لم تعد الطفيليات تخجل من سلوكها بل المنتج هو الغبي الذي لا يبحث عن أسرع الطرق للحصول على المال، تم تمجيد الفساد بعشرات المقولات الساخرة والطُرف المتداولة التي تسخر من الذين لم ينخرطوا فيه، تم تدمير ثقافة العمل في المجتمع السوري وإعلاء ثقافة التجارة وثقافة الفساد الذي ارتبط بها، حين يسرق جاري أرضي فهو يفعل ذلك لأنه يحتقر ثقافتي في العمل، حين يطالب الفاسد برشوته يحتقر من جنى ماله بتعبه ويقول له أنا أحصل عليه بسهولة فلماذا هذا التعب؟، لا تفكر الطفيليات بسلامة الجسد وأنهم سيموتون ويُدفنون معه إن انهار تحت وطأة استنزافهم له، ليس لحرق المحاصيل في الآونة الأخيرة وقطع الأشجار المثمرة لسرقة حطبها وغيرها من الجرائم المنتشرة من جنوب سوريا إلى شمالها إلا عنوان محدد وواضح وهو نكوص عام إلى ما قبل المدنية وعودتهم إلى ثقافة الغزو والسلب، ما بدا في بداية الفقرة كأمر شخصي ما هو إلا حالة ثقافية عامة، مرض تجاوز حدوده لا يعرفه إلا أصحاب الذاكرة: من عاشها فعلاً ومن سمعها من أهله وأسرته، لقد تفككت المجتمعات المحلية وتفكك التضامن الاجتماعي بينها وهذا أمر بالغ الخطورة يحتاج التوقف عنده طويلاً.
نستطيع رصد العشرات من الدلالات الصغيرة الخطرة والتي لم تبدأ قبل عام أو عشر أعوام بل بدأت قبل ذلك بكثير كأعراض بسيطة لمرض لم نهتم بمعالجته حتى تفاقم وظهرت أعراضه الحادة في العجز عن زراعة أرضٍ خيّرة وفي العجز عن الحفاظ على كفاءاتنا العلمية والصناعية وفي العجز عن الحفاظ على قيمنا وأخلاقيات مجتمعنا، الأزمة السورية وليدة أسباب داخلية أصابت بنيتنا الثقافية وتحتاج مراجعات صريحة ومؤلمة تقود إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين السوريين على قاعدة المعرفة بالمرض وآثاره بدلاً من الإصرار على إنكارها وإنكاره.
أيهم محمود
سناك سوري
9/7/2020
هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.
Information Card
-
- Title: حاجة السوريين إلى عقد اجتماعي جديد
إضافة تعليق إلغاء الرد
هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.
إضافة تعليق