التجلّيات الفلسفية والأخلاقية لرسالة المعلم التربوية
بقلم: علي أسعد وطفة
جهة النشر: مؤمنون بلا حدود
مقدمة:
“ينال المعلم بتأثيره الأبدية، ولا يمكن أن يعلم أين يتوقف هذا التأثير”. (آدمز H. Admes)
لا يخفى على أحد أن التربية العربية تعيش أزمتها الفكرية كجزء من أزمة حضارية عامة تقض مضاجع المجتمعات العربية المعاصرة برمتها؛ ولا غرو في القول إن الأزمة التي تعيشها التربية العربية تتميز بالعمق والشمول، لتأخذ صورة جمود في المضامين وركود في المناهج، وانغلاق في الرؤى وتصلب في التصورات. وإذا كانت التربية العربية تعاني حقا من الانغلاق والتزمت والانقطاع والجمود، فإن هذا الجمود والانقطاع يتجلّى في أكثر حالاته مأساوية وبؤسا في الفكر التربوي الذي يختنق في شرانق الجمود، ويتقصّف تحت مطارق العدمية والتصلب.
ولنقل، وفي بعض القول حكمة، إن تقدم المجتمعات العربية مرهون بتقدم أنظمتها التربوية، وإن تقدم الأنظمة التربوية لا يكون إلا بومضة روح نقدية تستطيع اختراق الحجب وكسر الجمود للخروج بالتربية ومن ثم بالمجتمع، من عالم الضياع والاختناق إلى فضاءات تنويرية حضارية جديدة. ولا نبالغ إذا قلنا بأن التربية العربية تحتاج اليوم فكرا مستنيرا وممارسة فكرية نقدية أكثر من أيّ وقت مضى للخروج من الدهاليز المظلمة إلى عالم الضياء والعطاء والمشاركة في نهضة الأمة وبناء حضارتها المأمولة.
فالتربية العربية تختنق بعناصر جمودها وعطالتها وانكسارها تحت مطارق أوضاع التخلف المدمرة الكبرى التي تعاني منها جماع الأوطان في ممالك العروبة والإسلام. ولم يخف على المفكرين العرب المعاصرين عمق هذا الانكسار الحضاري، فبدأوا بالعمل على اختراق جدار الصمت والسكون، انطلاقا إلى آفاق أرحب من فضاءات النقد والرفض والتمرد على أوجاع الفكر وهزائم العقل وعدمية الاستكانة إلى ظلام التقاليد الفكرية المتكسرة تحت حوافر التخلف المزمن الذي فرضته عصور الظلام.
ومما لا شك فيه، أن الأنساق التربوية العربية المعاصرة تواجه منظومة معقدة من التّحديات التي فرضتها التغيرات، العاصفة في مختلف الميادين والمجالات؛ ويتمثل جوهر هذه التّحديات في قدرة الأنظمة التربوية على مواجهة هذه التغيرات ومواكبة صيروراتها الحادثة في مستويات الفكر والنظرية. وقد أثمرت هذه المواجهة إحداث تغيرات بنيوية في الأنظمة الفكرية التربوية؛ إذ شهدت الساحة المعرفية ولادة أنساق فكرية ونظرية تربوية جديدة في ظل التصادم مع ثورة الأشياء في عالم لا يتوقف عن صيرورة التبدل والتغير. فالفكر – كما هي الحياة – مواجهة كبرى مع التّحديات، ولا يستقيم وجوده إلا بقدرته على مواجهة التّغير ومواكبة الإيقاع المتسارع لصيرورة التسارع، واحتواء الآثار التي يمكن أن تترك بصماتها على مقدرات الحياة.
فليس لشيء أن يبقى ويستمر في الوجود ما لم ينطو في ذاته على أسباب نمائه وتطوره، فدوام الحال من المحال، كما تقول الحكمة القديمة، وكل شيء يزول ويتلاشى ما لم يتطور وينمو ويتقدم ويستمر في مسار نمائه وتطوره وتقدمه، ولا تشكّل العلوم الإنسانية استثناء يتجاوز حدود هذه القاعدة؛ فالعلوم تستجمع في ذاتها القوة الحقيقية على الاستمرار في الوجود عبر التقدم والتطور، ولكي يحظى علم من العلوم أو فن من الفنون بإمكانية الاستمرار في الوجود، يجب عليه أن يماحك ويعارك ويصادم من أجل الحضور في عالم المتغيرات والطفرات، لأن عالم اليوم يشهد طفرات مذهلة من التطور والتحول والتغير في مختلف الميادين وشتى الاتجاهات، وهذا التحول بقدرته الهائلة يصدم الواقع والأفكار والأشياء ويغيرها ويضعها في مواجهة التغير، حيث يجب عليها أن تواكب حركة التّغير والتحول.
ومما لا شك فيه، أنّ الفكر التربوي يكافح ويناضل من أجل مواكبة هذه الدينامية الطاغية في الوجود، ومن أجل الاستمرار يترتب عليه أن يطور أدواته ومناهجه وأساليب حركته، وينمي في ذاته كل إمكانات المناورة من أجل الاستمرار في الوجود علماً بين العلوم، وفنّاً بين الفنون. وفي دائرة هذه الحركة الدائمة نحو المطالب المتجددة في الوجود يكون التّحدي الأكبر للمربين في قدرتهم على الاستمرار في عالم المتغيرات والمواجهات، حيث تولد النظريات والرؤى الجديدة والتصورات في عالم يتدفق بعطاءاته الفكرية المستمرة؛ وذلك لمواكبة عالم المستجدات والمتغيرات.
فالمعلم عندما يسند إليه الدور الحضاري قد يتمكن من النهوض بالمجتمع والإنسان، وتتجلى هذه الحقيقة في التجربة التربوية لسنغافورة، وفي الخطاب الذي سطره مؤسسها (لي كوان يو) في معجزة النهوض الحضاري لسنغافورة المعاصرة إذ يقول: أظن أنني لم أقم بالمعجزة في سنغافورة: أنا فقط قمت بواجبي نحو وطني فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين من الطبقات الدنيا في المجتمع إلى المكان اللائق بهم، وهم من صنعوا المعجزة التي يعيشها المواطنون الآن، وأي مسؤول يحب بلده ويهتم بشعبه كان سيفعل مثل فعلي. ويتابع إلى أية درجة كانت سنغافورة الستينيات قاسية: فقر ومرض وفساد وجريمة، بيعت مناصب الدولة لمن يدفع، خطف الشرطيون الفتيات الصغيرات لدعارة الأجانب، وقاسموا اللصوص والمومسات فيما يجمعون، احتكر قادة الدفاع الأراضي والأرز، وباع القضاة أحكامهم، وقال الجميع الإصلاح مستحيل! ولكنني التفت إلى المعلمين، وكانوا في بؤس وازدراء ومنحتهم أعلى الأجور، وقلت لهم أنا أبني لكم أجهزة الدولة، وأنتم تبنون لي الإنسان ((لي كوان يو مؤسس سنغافورة 1923-2015)). وفي تجربة سنغافورة دليل كبير على أن المعلم الذي يحمل الرسالة التربوية يستطيع أن يشارك في صنع المعجزات الحضارية لأمته وشعبه.
البعد الفلسفي لرسالة المعلم:
“قد أعطي الفن الأعظم للمعلم في أن يثير البهجة بالمعرفة والإبداع”. أنشتاين Einstien
تجسّد الفلسفة قدرة الإنسان على فهم العالم وإدراكه بمقتضى العقل والتأمل العقلي، والعقل يتماهى بالتساؤل، ويستلهمه لينطلق منه في عملية تشكيل المعرفة وبنائها، وهو انطلاقاً من خاصة التساؤل النقدي المفتوح يبني ممالك المعرفة، ويرفع حصونها استكشافا للعالم وخوضاً مستنيراً في متاهاته الغامضة. والفلسفة عشق مطلق للحقيقة، وما أعظم المربي حين يعمل على بناء أجيال تعشق الحقيقة، وتسعى إليها، وليس أكثر من تعليم الفلسفة يؤدي إلى عشق الحقيقة والتفاني في طلبها. فالفيلسوف عاشق للحقيقة، ينشدها أينما وُجدت، على الرغم من اقتناعه باستحالة امتلاكه لها بالمطلق على وجه اليقين! وهذا ما يذهب إليه المُربي العظيم لسنج الذي يقول: “لو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وجعل الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه، ولو كان في نيته أن يُضلني ضلالاً أبدياً، ومد نحوي يديه المضمومتين، وهو يقول: اختر بينهما! لركعت أمامه في خشوع، وهتفت وأنا أشير إلى يسراه: ربِّ! أعطني هذه! فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!”.
وفي هذه المعادلة الصعبة، يؤكد أساطين المعرفة ودهاقنة التربية على الدور الحضاري التربوي للمعلم في عملية النهوض الحضاري والثقافي بالتربية والإنسان. فالمربي، كما يقول جون ديوي، يجب أن يكون فيلسوفاً، والفيلسوف يجب أن يكون مربياً بالضرورة، والمربي لا يمكنه أن يكون من غير رسالة تربوية تنهض به إلى آفاق القدرة على استلهام المعاني، وتوليد الدلالات الكونية في رحاب الحياة التربوية وفضاءاتها المختلفة. فالتربية رسالةٌ إنسانية وأخلاقية في آن واحد. ومن ثم، فإنّ التربية من غير رسالة إنسانية فراغ وخواء، ومن أجل ذلك يجب على المربي أن ينهض إلى مرتبة الفيلسوف في قدرته على مخاطبة العقول البازغة والضمائر الخلاقة للأجيال والناشئة، وحال المربي كحال الصقور التي لا تستطيع أن تحدد أهدافها إلا من الذروة والعلى، ومن غير هذا التحليق في الأجواء والآفاق يتحول المربي إلى أعمى بصير، لا يمتلك القدرة على المناورة وتحديد غائية الفعل التربوي ومساراته وجدواه.
وفي عمق الفكر التربوي هذا، تنبلج إضاءات فكرية جديدة في رسالة المعلم الذي أدرك حكمة التجدد وروعة الانسجام وفضيلة التوازن الخلاق وعظمة الانطلاق نحو عالم يفيض بالإثارة والطفرة والجدة. فعالم التربية يشهد مستجدات فكرية وواقعية أفضت إلى تغير في ملامح العلوم التربوية وفي وظائفها وبنيتها وكينونتها، ويتجلى هذا كله في تدفق هائل للنظريات والأبحاث والدراسات، وظهور علوم جديدة مثل الأنثروبولوجيا التربوية والإثنولوجيا واقتصاديات التربية والنظريات التربوية الحديثة التي تتدفق فيضاً في عالم الفكر التربوي برمته. ومن هذه الزاوية، تولد ضرورة التجديد في المعرفة التربوية للمربين نحو آفاق قادرة على النهوض بالوعي والعقل، والتفكير التربوي إلى مستويات أكثر شمولاً وعمقاً ورحابة.
فالتربية كعلم وفن ومعرفة، تشهد اليوم تدفقاً فكرياً متجدداً في الأدوات والرؤى والمنهج تجاوباً مع متطلبات التغيير في مصادره الخارجية والداخلية. ومما لاشك فيه، أن التربية علم يزود المربين بمعرفة شمولية عن طبيعة الحياة التربوية وفعالياتها المدرسية، ويمكّن المربين والدارسين من تفهم النظريات العامة التي تفسر الظواهر التربوية بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية؛ فالتفكير التربوي بمستوياته المختلفة ومضامينه المتعددة ونظرياته المتعددة وغاياته المضمرة والمعلنة يتواصل ويتحرك ويتواتر عبر الزمن، فيرتسم في صورة تأمل عقلي يمتلك هويته الخاصة ووحدته النقدية المتميزة.
وهذا يعني أن تنامي الفكر التربوي يترافق في العادة مع ظهور مشكلات تربوية مستجدة في الساحة التربوية ذاتها، ومن ثم فإنّ الفكر التربوي يأتي استجابة لعوامل النمو والتعقيد اللذين تشهدهما العملية التربوية ذاتها عبر تاريخها الطويل. فكل تربية تقترح نموذجاً إنسانياً تسعى إلى تحقيقه، وهي في دائرة هذا التوجه تعمل على تحديد الفعاليات التربوية لصيرورة الإنسان في تواتر نموه من الطفولة إلى الرشد. وهذا النموذج التربوي المنشود ينبثق عن رؤية فلسفية تربوية إلى الإنسان غاية ومصيراً. وهذه الغائية الفلسفية تقتضي بناء وشائج جوهرية وأصيلة بين التربية والفلسفة والحياة كما بين المربي والفيلسوف. فالصورة التي تسعى التربية إلى تحقيقها مرهونة ببناء تصورات عقلية وفلسفية كمرتكزات كلية ينطلق منها العمل التربوي بذاته.
وتأسيساً على هذه الصورة، نقول: إن على المعلم أو المربي تزويد نفسه بمعرفة فلسفية نقدية شمولية لمختلف أركان العملية التربوية ومصادرها وأصولها كي يكتسب صفته التربوية، ويمتلك قدرته على بناء الأجيال والناشئة بناء إنسانياً أخلاقياً يتميز بالأصالة والرشاقة والجمال. ومن المؤكد أن أيّ تعليم يفتقر إلى المعلم صاحب الرسالة الغائية في التربية والحياة لن يستطيع أن ينهض بالمجتمع، وينير له دروب المشاركة في بناء الذات والحضارة الإنسانية. ومن هنا تبرز أهمية التأصيل الفكري للمعلمين والمربين والدارسين، وتمكينهم من فهم عميق وشامل لمختلف العناصر والمكونات والركائز والمنطلقات، والأسس التي تشكّل عماد العملية التربوية برمتها.
البعد الثقافي:
فما بين التربية والثقافة وشائج علاقة فريدة في طبيعة العلاقة بين الظواهر والأشياء، وتأخذ هذه العلاقة طابعاً وجودياً، حيث لا تكون الثقافة من غير تربية، ولا تكون التربية من غير ثقافة. فالتربية بمناهجها ومضامينها وتجلياتها ظاهرة ثقافية بالضرورة. ومن ثمّ، فإنّ الثقافة لا يمكن أن تكون خارج دائرة التربية من حيث الوظيفة والهوية، فوظيفة الثقافة وظيفة تربوية، كما أن وظيفة التربية وظيفة ثقافية بالدرجة الأولى. ومثل هذه العلاقة تعلن نفسها بوضوح في مختلف مداخل العلاقة بين الثقافة والتربية؛ فالتربية تنقل الثقافة وتحييها، ومن غير التربية تضمحل الثقافة وتتلاشى، وكذلك الحال في الثقافة التي لا تكون إلا بقدرتها على التأثير في الأفراد، حيث يأخذ التأثير فيهم طابعاً تربوياً بالطبيعة والضرورة. ويبين الباحث أن العلاقة بين الثقافة والتربية ليست علاقة ميكانيكية، بل هي علاقة وجودية تفاعليه قائمة على تبادل التأثير والفعل، حيث يؤدي كل منهما دور المنتج الحيوي للآخر في نسق علاقات جدلية متنامية بصورة أزليةً. وهنا يتوجب على المربي أن يكون عالما مثقفا في النفس قبل أن يكون مربيا. وهذا يعني بالضرورة، أن المعلم يجب أن يكون مثقفا كي يكون مربيا، وإن الثقافية ثقافة المربي تشكل المنطلق الحيوي في عملية التربية والتعليم والنهوض بالإنسان إلى مراتب القوة والنضج الإنساني.
البعد السيكولوجي:
ومن أجل أن يقوم المربي بعمله، يجب عليه أن يمتلك معرفة عميقة جوهرية بالتكوين النفسي للطفل، كما يجب عليه في الوقت نفسه، أن يعرف الكيفية التي تحدث التغيير المطلوب في طبيعة الإنسان وفي بنيته السيكولوجية، وهذا يعني أن المعرفة الدقيقة والعلمية بسيكولوجيا الطفل ومكوناته الانفعالية هي السبيل الوحيد لتربيته وتعليمه بصورة علمية.
لقد شكّلت المعرفة العلمية، بطبيعة الأطفال وميولهم واتجاهاتهم واهتماماتهم، فتحا كبيراً في مجال التربية والحياة التربوية. وليس لهذا الفتح أن يقف عند حدوده الأخلاقية ومعانيه الإنسانية التي تتمثل في احترام الطفولة ومحبتها، بل يتجاوز هذا إلى آفاق لا حدود لها يتمثل غيض منها في تمكين المجتمعات الإنسانية من تفجير قدرات أبنائها، وتحويل طاقاتهم المستلبة قديماً إلى قدرات إبداعية خلاقة تفيض في الكون عطاءات إنسانية غامرة.
لقد استطاع علم النفس اليوم، أن يهتك الأسرار الدفينة للنفس الإنسانية، وأن يتوغل في أعماقها، وأن يكتشف مجاهلها، وأن يفك رموزها، ويبدد طلاسمها، وذلكم هو التحليل النفسي الذي يبحث في الأعماق، ويكتشف مجاهل العقل الباطن للنفس الإنسانية، وهو بذلك يقدم للتربية معرفة سيكولوجية تفوق شطحات الخيال بجمالها، ويغنيها بأروع إبداعات المعرفة في مستواها السيكولوجي.
فالإنسان الذي تودّ التربية أن تحققه فينا ليس هو الإنسان على غرار ما أودعته الطبيعة في الإنسان، بل هو الإنسان على غرار ما يريده المجتمع كما يقول إميل دوركهايم، وهذا يعني أن الإنسان “حيوان اجتماعي بالطبع”، وتلك هي العبارة المشهورة التي رددها كبار المفكرين ودونتها أقلامهم، بدءاً بالمعلم الأول أرسطو، وانتهاء بابن خلدون في مقدمته المشهورة. فالكينونة الاجتماعية للإنسان تأخذ صورةً حقيقةً دامغةً سجلت حضورها المميز في مختلف الثقافات وفي تنوع الحضارات. وعلى هذه الصورة، يجب أن يكون المعلم متمكنا من علم النفس ومن نظرياته وفنونه العلمية كي ينهض بدوره التربوي رسالة ومصيرا.
البعد الأخلاقي:
ينسج الفيلسوف الألماني كانط “كوجيتو” التربية الأخلاقية بقول المشهور: “ثمة أمران يملآن نفسي إعجاباً واحتراماً: السماء المزدانة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في أعماقي”.
فالبعد الأخلاقي يشكّل ركناً أساسياً من أركان العملية التربوية ونسقاً حيوياً في نسيج وجودها. وإنه من الصعوبة بمكان الفصل ما بين الأخلاق والتربية، إذ لا يكون أحدهما من غير الآخر أبداً؛ فالتربية فعل أخلاقي في جوهره كما أن الأخلاق فعالية تربوية بطبيعتها. ويتجلى هذا التصور للعلاقة ما بين التربية والأخلاق في رؤية هربرت سبنسر الأخلاقية؛ إذ غالباً ما كان يردد قائلاً: “إنّ الغرض الجزئي والكلي من التربية يتمثل في فكرة واحدة هي “الفضيلة””. وتأسيساً على هذه الرؤية، لا يمكن للأخلاق أن تنفصل عن جوهرها التربوي، في الوقت الذي لا يمكن فيه للتربية أن تنقطع عن كونها رسالة أخلاقية في أشمل تجلياتها الإنسانية وأعمقها على الإطلاق. وعلى هذا النحو، يصعب تماماً إيجاد الحدود الفاصلة بين التربية والأخلاق، أو بين الأخلاق والتربية، لأن كلاًّ منهما يرتهن بالآخر، ويتكامل معه في عملية بناء الفرد والـتأثير في سلوكه والنهوض به إلى مستوى السمو الإنساني والأخلاقي.
فالأخلاق نظام من القيم يوجه حياة الفرد ويرتقي بها إلى مستوياتها الإنسانية، حيث لا يمكن للإنسان أن يكون إنساناً إلا في صورته الأخلاقية. والإنسان هو الكائن الوحيد في مملكة الكائنات الذي يرتقي إلى مستوى الفضيلة مضحياً برغباته وميوله على مذابح السمو الأخلاقي، سعيا إلى تجسيد قيم الحق والخير والجمال والفضيلة والشرف والكرامة والتضحية والإيثار والتسامح والشجاعة والنبل الإنساني، وتلك هي القيم والفضائل التي تشكّل جوهر الحياة الأخلاقية والتربوية في آن واحد.
فالأخلاق في النهاية منظومة من القيم والمعايير السلوكية التي يرتضيها المجتمع لنفسه وأفراده نشداناً لفضائل الحق والخير والجمال، وهي من حيث وظيفتها توجه الأفراد إلى ما يجب عليهم القيام به، وتنهى عما يجب تجنبه في مختلف المواقف الحياتية والإنسانية. يتناول الكاتب مفهوم الأخلاق في الثقافة الإنسانية، ومن ثم يعمل على تحليل المفهوم وتحديد تخومه الفكرية. ومن ثم، يتناول الأبعاد التربوية لمفاهيم: الحق والخير والواجب والضمير والجمال وغيرها من القيم وضرورتها في التشكيل التربوية للفرد، ويعالج هذه المفاهيم في إطار المقولات والنظريات الفكرية والأخلاقية والتربوية السائدة. ومن ثم، يتناول الفصل الاتجاهات الفكرية المثالية والمادية والطبيعية في مجال التربية والأخلاق.
وهنا تكمن رسالة المربي الأخلاقية، حيث يتوجب عليه أن يعمل على ترسيخ نسق من الفضائل والقيم الأخلاقية في وعي الطلاب ووجدانهم، وتتمثل هذه القيم في فضائل: الأدب، والكرم، والتسامح، والإخلاص والرحمة، والعفة، والنزاهة، والصبر، والتأني، والشفقة، والرقة، واللطف، والاعتدال، والشكر، والعرفان، والصدق، والشجاعة، والتواضع، والدعابة، والظرافة، والعدالة، والبساطة، والحب والحق، والخير، والجمال.
خاتمة:
“إن من يربي الأولاد بجودة ومهارة لأحق بالاحترام والإكرام من الذين ينجبونهم”. (أرسطو)
لا يمكن للمعلم أن يكون مربّيا كما لا يمكن للمربي أن يكون معلّما من غير رسالة تربوية تتميز بطابع السمو الثقافي والشمول المعرفي. ولا يمكن للرسالة التربوية أن تكون إلا استجماعا دمجيا لأركانها الأربعة: الفلسفة والثقافة والأخلاق والسيكولوجيا، كما لا يمكن للتربية أن تحقق نجاحا أبدا من غير المعلم صاحب الرسالة بأبعادها الفكرية الفلسفية والثقافية. ويبقى السؤال الذي ينتصب دائما في كل مواجهة فكرية: أين هو المعلم صاحب الرسالة في أنظمتنا التربوية؟ وهو سؤال يفرض نفسه في مختلف المستويات الحضارية ويشكل أحد أصلاب القضايا الإشكالية الكبرى في حياتنا التربوية. وقد جاء في الأثر المعلمون ثلاثة لا رابع لهم: الأول وهو المعلم العادي الذي يعلم ويلقن، والثاني هو المعلم الجيد الذي يفسر ويشرح. والثالث فهو المعلم المتميز الذي يشرح بالأدلة والبراهين؛ أما الرابع، فهو المعلم العظيم الذي يلهم طلابه (ينور ويفقه) وهذا هو المعلم الذي يحمل الرسالة التربوية نهوضا بالإنسان والإنسانية، بل هو المعلم المنشود في معركة التربية والتنمية من أجهل النهوض بالإنسان والمجتمعات العربية. وخير الكلام في هذا المقام تنهض القريحة الشعرية لحافظ إبراهيم في تكريم المعلم قائلا:
قــم للمعلِّــم وفِّـه الـتـبـجـــيـــلا كاد المعلم أن يكـون رسـولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي يبني، وينشئ أنفساً وعقولا؟
أضف تعليق