المجتمع الأهلي والمجتمع المدني: سوريا أنموذجاً
بقلم: جاد الكريم الجباعي
جهة النشر: مؤمنون بلا حدود
تاريخ النشر: 25\02\2020
يندرج بحثنا في المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، في إطار وصف الأوضاع السورية قبل عام 2011 وبعده، ومحاولة تحليلها وفهمها، بغية اكتشاف مبادئ إنتاج السياسة، وإنتاج السلطة (الناعمة والخشنة)، وآليات اشتغالها، وأشكال ممارستها، في جميع مستوياتها، وتعيين المبادئ والأساليب الأكثر نجاعة لمعارضتها، ونفيها، أو تجاوزها جدلياً وتاريخياً. وهذه كلها خطوات تمهيدية للتفكير في كيفية إنتاج مجتمع سياسي حديث، أو دولة وطنية حديثة، لا يزال إنتاجها على جدول أعمال شعبنا كله، ومحاولة فهم الحركات الاجتماعية السلمية (الثورات السلمية)، التي تبدو أنها الظاهرة الأبرز في هذا القرن.
فليس الحديث عن المجتمع المدني والمجتمع السياسي من قبيل الترف الثقافي، على أهمية الترف الثقافي، لو كان الترف ممكناً، في ظروف التقشف الثقافي والعوز المعرفي، والكسل العقلي. وليس خطاب المجتمع المدني والمجتمع السياسي، في شقيه الوصفي والتحليلي خطاباً أيديولوجيا، كما في شقه الإنشائي أو التأويلي، لأن الوصف والتحليل ينفتحان على طرائق شتى للإنشاء والبناء، ويفسحان في المجال لتصورات أيديولوجية مختلفة، وهذه صيغ مختلفة من التأويل الذاتي، متساوية في القيمة، تبعاً لتساوي الأفراد والجماعات في الحريات والحقوق والالتزامات.
مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم التي تحيط بها التباسات كثيرة، في الكتابات العربية، ولا سيما في البلدان التي ابتليت بأنظمة تسلطية وأيديولوجيات شعبوية وحركات جماهيرية (توتاليتارية)، تواطأت كلها، مع متواطئين آخرين، على اغتيال جنين الدولة الوطنية الحديثة، الذي تشكل في المرحلة الكولونيالية والمرحلة الليبرالية التالية، وتصفية الآثار الإيجابية لتلك المرحلة، ولا سيما حرية الصحافة وحرية النقابات والأحزاب السياسية والمنظمات المدنية الأخرى واستقلالها، واستقلال القضاء وسيادة القانون والمعارضة البرلمانية… إلخ. يمكن إرجاع هذه الالتباسات إلى سديمية مفهوم الدولة، في ثقافتنا، والتباسه بـ (الملك العضوض) والنظام السلطاني، والتباس مفهوم الأمة، ومفهومي “الدولة القومية”، و”الدولة الإسلامية”، وغياب مفهوم الشعب ومفهوم المجتمع، حتى القرن التاسع عشر[1]، إضافة إلى الغبار الأيديولوجي، الذي غطى عملية أو سيرورة الإجهاز على جنين الدولة الوطنية الحديثة الاستقلال، منذ عام 1963؛ وقد آلت هذه السيرورة إلى “دولة البعث” و”سوريا الأسد”، المجافية جفاء مطلقاً للفكر والسياسة والأخلاق، والمجافية لأهداف المجتمع، وحرية أفراده.
ولنقل باختصار، إن نظام الحزب القائد والجبهة الوطنية، والديمقراطية الشعبية، والانتخابات الزائفة، كان واجهة سياسية لبنية تسلطية متخلفة، قوامها عسكر ومخابرات، معظم النافذين منهم ريفيون متعطشون للثروة والسلطة والانتقام من المدن، تحت شعارات اشتراكية، وأيديولوجية عنصرية وإعلام كاذب. فقد أدى هذا النظام إلى قضم الدولة تدريجياً، حتى أتى عليها. وما كان ليستطيع ذلك لولا السيطرة المحكمة على جنين المجتمع المدني وخنقه. هكذا تتبدى بوضوح شديد “علاقة الارتباط”، بل العلاقة الجدلية (الديالكتيكية) بين المجتمع المدني والدولة الوطنية، في التجربة السورية، وإن في سياق انهياري.
في هذا السياق الانهياري، علينا أن نتأمل في طبيعة الصراع على السلطة بين القومويين البعثيين أو الإحيائيين وبين الإسلامويين، وهم بعثيون وإحيائيون أيضاً؛ فقد انجدلت الحياة السياسية على قطبي هذا الصراع الضاري، منذ عام 1963، وانقسم المجتمع الأهلي وفق ذلك على نفسه قسمين متنافيين: الأول مجتمع مؤمم (سميته في بحت سابق “المجتمع الحكومي”)، وهو الذي صار مجتمع الموالاة، بعد عام 2011، والثاني، مجتمع مهمش، اختُزل في “قوى الثورة والمعارضة”، وكلاهما كانا مذرَّرين ومخترقين أمنياً، الأول تحكمه علاقات الولاء المتغيرة، وما يقابلها من امتيازات، خاصة بعد أن صارت الدولة ربة عمل للكتلة الأساسية من العاملات والعمال، وبسطت السلطة سيطرتها على جميع مفاصل الحياة. والثاني تحكمه الروابط الأولية الواهية، التي ضعفت إثر تغير وظائف البنى التقليدية.
وقد تبين لنا باكراً أن نسبة الأصوات التي كان ينالها حافظ الأسد في كل استفتاء على رئاسة “الجمهورية”، أو التي ينالها وريثه بشار الأسد هي نفسها نسبة تآكل الدولة الوطنية وتموُّت المجتمع المدني، وقوة رعاع الريف وحثالة المدن، الذين أطلق النظام أيدي بعضهم على بعض في الأحزاب والمنظمات الشعبية وفي مؤسسات الدولة، (بما يشبه حرب الكل على الكل، التي أنتجت تنافساً ضارياً على الولاء)، وأطلق أيدي “الناجحين” منهم في الثروة الوطنية والمال العام، فأسّس الاصطفاءَ الاجتماعي على مبادئ الولاء والوشاية والكيد والانتقام.
ومن ثم، يكون نظام البعث وسلطة الأسد قد دمّرا رأس المال الاجتماعي السوري، بتدمير الثقة المتبادلة بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية والأحزاب السياسية و”المنظمات الشعبية”، وتدمير الثقة بالدولة ومؤسساتها، وهدر الحريات والحقوق الخاصة والعامة، الذي حال دون توافق الأفراد والجماعات، ولو على وصف الواقع القائم وشروط تحسينه أو تجاوزه، ما يعني أن التعصب والتطرف قد بلغا ذرى غير مسبوقة، تُرجمت إلى حرب التدمير الذاتي، التي لا تزال مستمرة، وهذا مما هدر قيم التعارف والتسامح وحال دون أي شكل من أشكال التعاون، ومنع قيام أي شكل من أشكال العلاقات الأفقية والشبكية، التي تقوم على التكافؤ والمساواة في الحقوق والالتزامات، وتعد شرطاً لازماً لمواطنة متساوية.
أردت، من هذا الاستطراد، أن أشير إلى العلاقة الجدلية (التفاعلية) الضرورية بين المجتمع المدني ورأس المال الاجتماعي، وعلاقة هذا الأخير برأس المال الثقافي والرمزي، ورأس المال المادي (الاقتصادي والمالي والنقدي).
فرأس المال الاجتماعي هو أحد العوامل الرئيسة في نمو جنين المجتمع المدني في أحشاء المجتمع الأهلي، وفي تحول المجتمع المدني إلى مجتمع ديمقراطي. وما يجعله كذلك، هو كونه البطانة الأخلاقية للمعرفة والثقافة، ومضمون العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، والقيم التي توجه العمل، وتحكم أنماط السلوك وأشكال النشاط.
في ضوء ما تقدم، تتبين ثلاثة أمور أساسية؛ أولها أن المجتمع المدني والدولة الوطنية أو المجتمع السياسي هما وحدة تناقضية، (تركيب synthesis من عنصرين متعارضين، كتركيب الماء)، أو حدان متعارضان في علاقة جدلية (ديالكتية)؛ لا يوجد أحدهما إلا بوجود الآخر ولا ينتفي إلا بانتفائه، يتحول كلٌ منهما إلى الآخر، مرة تلو مرة، في تركيب جديد ليس أيّاً منهما؛ أي إن المجتمع السياسي يتمدن باطِّراد، والمجتمع المدني يتسيس باطِّراد، شرط أن تُدرَك السياسة وأن تُفهم بأنها إدارة الشؤون العامة، ومشاركة حرة ومبدعة في الحياة العامة وحياة الدولة، ووسيلة لحل التعارضات الملازمة للاجتماع البشري بالطرق السلمية؛ أي بالحوار والنقاش العام والتفاوض والاقتراع، وأشكال التعبير المختلفة، التي تبدأ بالنقد والمساءلة والمحاسبة وتتصاعد إلى التظاهر والاعتصام والإضراب، وتبلغ حدها الأقصى في العصيان المدني … العلاقة الجدلية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي هي التي تجعل المجتمع يتحول شيئاً فشيئاً إلى مجتمع ديمقراطي، أركانه الأمن والسلام والرفاهية، فلا ينمو المجتمع المدني ولا يتطور إلا في ظلال الأمن والسلام، ونفي الحروب والنزاعات.
والأمر الثاني أن المجتمع الأهلي أو المجتمع التقليدي… أو ما شئتم هو ظهير للسلطة القائمة، والسلطة الممكنة، يتمثَّل تعسُّفَها وتسلُّطَها أو يستبطنه، وهو مناهض للدولة الوطنية الحديثة، بطبيعة علاقاته الداخلية والخارجية وخصوصية بناه ومؤسساته. وهذا مما تبينه التجربة السورية بوضوح؛ إذ استقطب المجتمع الأهلي، في العمق، على محوري صراع ضارٍ على السلطة، وهما محوران مناهضان للدولة الوطنية: البعث والجبهة الوطنية من جهة، والإخوان المسلمون وحزب التحرير الإسلامي وغيرهما من الإسلامويين من الجهة المقابلة. هنا يمكن أن نلاحظ نزاعَ القومويين والإسلامويين على “الإسلام”، بوصفه مصدراً للشرعية “الشعبية”، وذلكم هو الجانب الثقافي لصراع، بلغ ذروة من ذراه بـ “الصحوة الإسلامية”، التي واكبت الثورة الإسلامية في إيران[2]. سمة هذا الصراع الأساسية هي التنازع على التراث واستئناف معارك الماضي، وقد التحق به يساريون وشيوعيون. يبدو لنا أنه من الصعب تحديد بنية الثقافة السورية واتجاهاتها، واتجاهات المثقفين والمثقفات، في نصف القرن الماضي، بمعزل عن هذا الصراع أو التنازع الثقافي.
لقد كان الصراع على السلطة يتجه تدريجياً نحو “صراع وجود”، أو صراع تعادمي، بنسبة تآكل الدولة وضمور المجتمع المدني، الذي كان في بدايات تشكله. فإن الاستقطاب على محوري الصراع من جهة، وهشاشة جنين المجتمع المدني والدولة الوطنية أو المجتمع السياسي (الحديث)، من جهة أخرى، جعلا الانقلابات العسكرية سهلة للغاية، ومهدا الطريق لتسلط الجيش والمخابرات وقوى الأمن الداخلي على المجال السياسي، في بداية الأمر، وصولاً إلى نظام تسلطي، شمولي (توتاليتاري) يشترك مع النازية والفاشية والستالينية بعدد من الخصائص العامة، التي كشفت عنها عالمة الاجتماع الأمريكية من أصل ألماني، حنة أرندت.
أما الأمر الثالث، وهو الأهم، من وجهة النظر التاريخية، فهو أن المجتمع الأهلي هو الذي يحمل جنين المجتمع المدني في أحشائه، وكل حديث عن تناقض بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، لا يشبه تناقض الأب والابن، الذي يصير أباً، وتناقض الأم والبنت، التي تصير أماً، هو محض توهم. لذلك يحمل المجتمع المدني جينات المجتمع الأهلي وبعض صفاته، إذا جاز التشبيه. يمكن القول بعبارة وجيزة: المجتمع المدني هو أفق المجتمع الأهلي، أفق نموه وتقدمه وتحولاته البنيانية. العوامل التي عيَّنت هذا الأفق، في البلدان المتقدمة هي ثلاث ثورات مستمرة ومفتوحة على المستقبل: أولها الثورة المعرفية، بوجه عام، والثورة العلمية، بوجه خاص، والثانية هي الثورة الصناعية (الرأسمالية)، التي دشنت عصراً جديداً، في أفق المدنية، والثالثة هي الثورة الديمقراطية (البورجوازية). هذه الثورات الثلاث هي قوام الحداثة المستمرة والمتجددة، والتي يعد المجتمع المدني والدولة الوطنية الديمقراطية من أبرز منجزاتها، هذه الثورات الثلاث محمولة على ثورة مستمرة ومتجددة على الدوام، أقدم بكثير، هي ظهور الاجتماع البشري وتشكل العالم الأخلاقي، فتاريخ الجنس البشري كله تنويعة على أشكال الاجتماع.
في هذا السياق الثالث، علينا أن نلاحظ أن المجتمع، أي مجتمع، هو بنية تعاقدية، عرفية أو قانونية. أنا أفترض أن المجتمع الأهلي هو نتاج تعاقد عرفي بين جماعات (عائلات ممتدة وعشائر وقبائل وإثنيات وأديان ومذاهب ..)، وأن المجتمع المدني هو تعاقد قانوني بين أفراد حرائر ومستقلات وأحرار ومستقلين. هذا حد فارق بين التقليد والحداثة، بل هو حد فارق بين الحضارة والمدنية، وهو حد فارق بين مبدأين مختلفين جذرياً من مبادئ إنتاج السلطة؛ أحدهما هو تقاسم السلطة وفق نسبة القوى، (المحاصصة)، بحسب الاعتبارات المعروفة للقوة، (قوة الشوكة وقوة العصب وقوة المال والقوة المعنوية .. وقوة ظهير إقليمي أو دولي)، والثاني هو الانتخابات الصحيحة، وفق قانون انتخاب عادل، وهي الطريق الفضلى إلى سيادة الشعب.
وللبحث صلة
الهوامش:
[1]– راجع/ـي، عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبيروت، ط 10، 2014، ص 22 – 24
[2]– استقبل معظم المثقفين والسياسيين السوريين، على اختلاف مشاربهم، الثورة الإسلامية الإيرانية، و”الصحوة الإسلامية”، التي انبثقت منها وواكبتها، بحفاوة شديدة، عبر عنها برهان غليون بقوله: “بعد سنوات الاغتراب الطويلة، يبدو كما لو أن النخبة المثقفة العربية التقت نفسها، في لهب الأحداث الإيرانية، وكان تبنيها السريع لها وسيلة بلا ريب للتعبير عن مشاغلها الذاتية، وعن رفضها للوضع العربي الراهن. وهكذا جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحَه الزائل، وإلى الشعور العميق بالخيبة أملاً متجدداً في القدرة على استملاك العالم من جديد. فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبةُ روحَها الإسلامي الضائع، كما التقى الإسلامُ موطنَه العربي الجافي .. الإسلام الذي عمد نفسه في أعظم ثورة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، مطالب اليوم أن يحقق الحلم الذي عجرت عن تحقيقه الأيديولوجيات الماضية، القومية والماركسية”. راجع/ي: برهان غليون، الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992، ط 2، ص 79
أضف تعليق