هل تؤدي إتاحة العمل عن بُعد إلى تقليص الفجوة الجندرية وخفض الاحتراق النفسي بين النساء أم العكس؟
جهة النشر: ولها وجوه أخرى – Wlaha Wogoh Okhra
أعلنت رئيسة الوزراء النيوزلندية جايسندا أرديرن في شهر يناير الماضي، اعتزامها التخلي عن منصبها في السابع من فبراير الجاري، مشيرةً إلى أن السبب وراء هذا القرار هو فقدان الطاقة المطلوبة للقيام بالمهام المنوطة بها كرئيسة للحكومة، وذلك بعد ست سنوات تعاقبت خلالها الأزمات، التي كان أبرزها الهجوم الإرهابي على مسجدين في مدينة كرايستشيرش وجائحة فيروس كورونا.
ما قصدته رئيسة الوزراء النيوزلندية المستقيلة ولم تسمّه باسمه هو الاحتراق الوظيفي (Occupational Burnout) أو الاحتراق النفسي (Psychological Burnout)؛ الحالة التي تؤدي بالأفراد إلى الشعور بنفاد الطاقة والافتقار إلى القدرة الجسدية والنفسية على العمل، بعد تعرضهم لضغوط متلاحقة على مدار فترة زمنية ليست قصيرة، ويعرّف التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض (ICD) الذي تصدره منظمة الصحة العالمية (WHO) الاحتراق بأنه متلازمة نفسية تنتج عن ضغوط مزمنة في مكان العمل لم يجري معالجتها بنجاح.
الاحتراق (Burnout) ليس حالةً تختص بها النساء، إلا أنهن يتعرضنّ لها بمعدلات أكبر من الرجال وفقًا للعديد من الدراسات والأبحاث، ومنها استطلاع النساء في العمل (Women @ Work) الذي تصدره سنويًا مؤسسة ديلويت (Deloitte)، وكان قد كشف في نسخته الأخيرة أن ما يقرب من نصف النساء (في عشر دول حول العالم) عانين من هذه الحالة خلال العام 2022.
أنظمة العمل كمحفزٍ رئيس للاحتراق
يشير استطلاع النساء في العمل إلى أنه في كثير من الأحيان، لا تكون معاناة العاملات من الاحتراق ناجمةً عن الأزمات الصحية أو الاقتصادية أو السياسية الطارئة التي تلقي بظلالها على ظروف العمل أو على قدرتهن على أداء مهامه، وإنما يكون سببها هو نظام العمل الذي يساهم بشكل غير مباشر في رزوحهن تحت ضغوط وأعباء أكبر من تلك التي يواجهها الرجال الذين يعملون تحت مظلة النظام ذاته، نتيجة غياب المرونة وممانعة المزج بين تنفيذ المهام من داخل المؤسسة وخارجها، وهو الأمر الذي يمثل احتياجًا أساسيًا لقطاع واسع من النساء نظرًا لتحمّلهن مسؤولية الجانب الأكبر من الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر التي تشمل الطهي، والتنظيف، وشراء الأغراض المنزلية، ورعاية الأطفال والمتقدمين في العمر، فالمرأة في الدول المتقدمة تخصص نحو أربع ساعات وعشرين دقيقة يوميًا للعمل المنزلي غير المأجور مقارنةً بساعتين وست عشرة دقيقة للرجل. وفي الدول النامية، تمضي المرأة أربع ساعات وثلاثين دقيقة في أداء العمل المنزلي غير المأجور بينما يقضي الرجل ساعة واحدة وعشرين دقيقة فقط.
يؤكد تقرير النساء في مكان العمل للعام 2022 (Women in the Workplace)، الذي أجرته مؤسسة أبحاث معهد ماكنزي (McKinsey) بالتعاون مع منظمة لين إن (Lean IN)، العلاقة بين المرونة في العمل وخفض معدلات الاحتراق النفسي بين النساء، إذ توضح نتائجه أن الاعتماد على نظام عمل مرن يجعل العاملات يشعرن بالرضا أكثر تجاه وظائفهنّ، ويقلل من احتمالية إصابتهنّ بالاحتراق النفسي. كما يجلي استطلاع نفذته منصة فليكس جوبز الأمريكية (Flex Jobs)خلال النصف الأول من العام 2021، أن 62 في المئة من النساء العاملات عن بُعد استطعن الموازنة بين العمل وحياتهنّ الخاصة.
استنادًا لهذه الاستطلاعات، تبدو إتاحة العمل عن بُعد سواء بشكل جزئي أو كامل عاملًا مساعدًا في إبعاد النساء عن خطر الإصابة بالاحتراق النفسي، لأنها تسمح لهن بالتحكم في جداول أعمالهنّ وتوزيع وقتهن تبعًا لالتزاماتهن واحتياجاتهن.
في المنحى نفسه، يُظهِر تقرير مؤسسة المحفز الدولية (Catalyst) أن النساء اللائي يتحملن مسؤولية رعاية الأطفال ولديهن القدرة على العمل عن بُعد، أقل ميلًا بنسبة 32 في المئة للإبلاغ عن نيتهن ترك العمل، من النساء الاتي يعكفن على رعاية أطفال ولا يتمتعن بإمكانية العمل عن بُعد جزئيًا أو كاملًا.
تبرز هذه الاستطلاعات محورية الدور الذي تعلبه المرونة من جانب أرباب الأعمال تجاه العاملات، خاصة في ضوء واقع اجتماعي يضع على عاتقهن أعباءً هائلة، من جراء تقسيم غير عادل للأعمال غير المأجورة داخل السياق الأسري، إلا أن الاتكال على هذه الاستطلاعات فقط والاحتكام إلى نتائجها بوصفها دليلًا على نجاعة العمل عن بُعد يغفل حقيقة تعددية أبعاد تجارب النساء في العمل، بسبب تقاطعات الجنس، والحالة الاجتماعية، والقدرات الجسدية (الإعاقة)، والطبقة، والعرق، وهي التشابكات التي تجعل الأنسب والأفضل متغيرًا وليس ثابتًا.
العمل عن بُعد.. قد لا يكون مثبطًا للاحتراق
رغم وجود تقارير ودراسات تثبت أن إتاحة العمل عن بُعد ومرونة ساعات العمل هي عناصر مهمة للحد من انتشار الاحتراق النفسي بين العاملات، هناك في المقابل ما يثبت وقوع آثار سلبية على النساء حين تعتمد المؤسسات على أنظمة تسمح بالعمل داخل مقراتها أو العمل عن بُعد أو كليهما معًا، ومن بينها الشعور بالإقصاء من المشاركة في صناعة القرار، حيث تبين نتائج استطلاع النساء في العمل (Women @ Work) المشار إليه سابقًا، أن 58 في المئة من النساء اللاتي يعملن في بيئات عمل هجينة (Hybrid Working Environment) يشعرن باستبعادهن من الاجتماعات والنقاشات.
وعطفًا على ذلك، فإن 42 في المئة من النساء، تبعًا للاستطلاع ذاته، يشعرن بالقلق والخوف من أن يتأثر تقدمهن وترقيهن الوظيفي إذا لم يكن متاحات باستمرار، مما يترتب عليه معاناتهن من مستويات مرتفعة من التوتر والضغط وتأثر صحتهن النفسية بشكل سلبي. وقد توصلت دراسة أجراها المركز الوطني للمعلومات التقنية الحيوية (NCBI)، التابع للمكتبة الوطنية للطب في الولايات المتحدة، إلى أن العمل من المنزل تربطه علاقة طردية بإجهاد النساء نفسيًا على عكس ما هو متصور حول دوره في تقليل احتمالات السقوط في فخ الاحتراق. ووفقًا للدراسة تظهر على النساء اللاتي يعملن من المنزل أعراض الاكتئاب أكثر من نظيراتهنّ اللائي يذهبن إلى مكان العمل المعتاد، ويرجع ذلك إلى أن العمل عن بُعد يطمس الحدود بين مكان العمل والمنزل، ومع انحسـار الاتصال والتواصل الاجتماعي ترتفع مستويات الاكتئاب لدى العاملات من المنزل سواء كان لديهن أطفال أم لا.
في كلا الاتجاهين تجد الفجوة بين الجنسين مسلكها
تؤدي إصابة النساء بالاحتراق الوظيفي ومحدودية فرص الترقي في العمل إلى ابتعادهن عن العمل بحسب مؤسسة ديلويت (Deloitte)، وهو الأمر الذي ينذر إما ببقاء الفجوة بين الجنسين في سوق العمل على حالها والتي تبلغ حاليًا 25 في المئة طبقًا لمنظمة العمل الدولية (ILO)، وإما زيادة اتساعها.
لا يُعمّق الاحتراق الوظيفي الفجوة على صعيد المشاركة فقط، بل يسفر كذلك عن زيادتها في الأجور بين الجنسين، بسبب لجوء العاملات إلى الإجازات غير المدفوعة في محاولة للحد من إهدار الطاقة واستعادة التوازن النفسي، ومن ثم تلقي الفجوة الجندرية في الاحتراق بظلالها على مثيلتها في الأجور.
ومع ذلك، فإن التوجه صوب أنظمة العمل الهجينة التي توصي بها العديد من المؤسسات البحثية كترياق مضاد لانتشار الاحتراق الوظيفي بين العاملات واتساع الفجوة الجندرية في العمل، لن يكون سوى معضدٍ لكليهما طالما لم يعتدل تقسيم المهام المنزلية غير المدفوعة الأجر، لأن تحمل النساء للجزء الأكبر منها سيبقيهن في مواجهة خطر الإصابة بالاحتراق أكثر من الرجال الذين يقومون بأقل القليل منها. وما دامت الأعباء تتكالب عليهن سيضطر بعضهن إلى تفضيل وظائف وأعمال عن أخرى لانعدام القدرة على توفير الوقت والجهد المطلوبين لها، مما يعني استمرار الفجوة الجندرية في هذه المجالات، وسيواصل أصحاب القناعات الذكورية التذرع بعملهنّ عن بُعد حتى إذا كان جزئيًا، لتنحيتهنّ عن صناعة القرار وتقويض فرصهن في الترقي.
لكن مؤسسات العمل إذا أرادت أن تدعم النساء بالفعل بإمكانها القيام بذلك، من خلال اتخاذ إجراءات محاذية للأنظمة الهجينة لتكون إيجابية الأثر حقًا، كإقرار الإجازة الوالدية مدفوعة الأجر للعاملات والعاملين على حد سواء ليتشاركوا في رعاية أطفالهم، بغية الحد من وقوع أعباء العمل المنزلي بشكل غير عادل على عاتق النساء. كما تستطيع أماكن العمل أن تُسهّل وصول الأسر إلى مراكز رعاية الأطفال من خلال التعاقد مع بعضها لتوفير عضويات مدفوعة أو ومنخفضة التكلفة للعاملات والعاملين، أو إلحاقها بمقرات العمل.
علاوة على ذلك، يتعين على المؤسسات أو الشركات التي مكّنت العاملات والعاملين من العمل عن بٌعد، التأكد من الفصل بين فرص الترقيات والتواجد المستمر داخل المقر وربطها فقط بالإنتاجية وجودة العمل، بما يحافظ على حق العاملات والعاملين في المكافآت المادية والعينية دون تمييز على أساس الجنس.
أضف تعليق