مشكلة الوعي
بقلم: عاطف عامر
جهة النشر: صدى الجنوب
يعطي فرويد أهمية كبيرة لدراسة التثبيت على الرضّات بوصفها بداية لكل اضطراب نفسي عميق، الرضّة التي هي صدمة لم يسبقها قلق (حصر)، صدمة ذات طاقة تفوق قدرة تحمل الجهاز النفسي، أو بتعبير فرويد “نطلق اسم الرضة على حدث معاش يتسبب في هنيهة من الزمن، في إحداث تنبيه فائق الشدة في الحياة النفسية بحيث يغدو من المستحيل إلغاؤه أو امتصاصه بالطرق السوية” أي أن الحدث الراض فاصل زمني في حياة المرضوض، ما قبله غير ما بعده، ما بعد الرض تتحول الحياة إلى استعادة خاضعة للتكرار للموقف الرضي، أو بلغة التحليل النفسي نقول ان هناك تثبيت على الرض وعدم قدرة على الخلاص من هذا الحدث، تتنوع مواضيع الرض ولكن الاكثرها شيوعاً هو موت شخص مقرب أو حوادث مهددة للحياة أو فقدان حبيب، أو جرح معنوي ناتج عن خيانة الحبيب، أو جرح نرجسي ناتج عن فشل ما قد يكون فشل وظيفي أو غيره وقد يكون فشل بتلبية رغبات المحبوب “إحدى مريضات فرويد” وقد يكون هزيمة تهدد الشعور بالرجولة ،وتعتبر الإصابة بالسويداء “الكآبة” من أخطر الإصابات المرافقة للتثبيت على الرضات، ولا نستهين بالرض فنتائجه هو كما يقول فرويد “التثبت على الماضي ومن غير المستطاع منه فكاكاً، وغربة عن الحاضر والمستقبل” ويتابع فرويد “هو موقف بمنتهى الغرابة كونه موقف خاسر من الحياة، التمسك بالماضي والتضحية بالحاضر “، ويؤكد فرويد أنه ليس من الضرورة أن يفضي التثبيت على الرض لعصاب اي لمرض نفسي، لكن التثبيت نفسه يصفه ب”العصاب الرضي”، قلنا في بداية المقال أن للقلق وظيفة حامية من الرض، وأن شرط الرض هو عدم القلق من حدوثه، الثقة العمياء بأن شيء كهذا لن يحدث، فالقلق له وظيفة هي توقُّع حدوث الخطر والتأهب له ، يقول فرويد أن القلق يقي من الإصابة بعصاب الذعر والذي هو بداية التثبيت… إذا نحن أمام صدمة غير متوقعة، مفاجأة، غير محسوبة ، يفقد المصدوم قدراته، مشلول أمامها، الصدمة وبهذه الحيثية هي وبشكل أدق عملية سلب للارادة، فقدان السيطرة، تمزق الدرع الحامي للشعور على تعبير فرويد، الرضة اخترقت عميقاً الذات، هذا الاختراق أيقظ كل الخبرات الأليمة الماضية، الماضي يستوطن الذات، يحتلها وبشكل مبهم.. قلنا سلب الإرادة، الإرادة المسلوبة، المنفية من الرض تحاول إعادة نفسها باستعادة الحدث الرضي”بالتخيل” على شكل نوبات ومحاولة تعديله، والتعديل هو محاولة استعادة الإرادة المسلوبة ، في الحدث الواقعي كان هناك سلبية من الذات أمامه، في المتخيل تتعدل السلبية لإيجابية، أي أن أحد اهم عوامل التثبيت هو بإرجاع الإرادة والانتقال من سلبية التجربة إلى إيجابية مُتخيَّلة، تثأر لإرادة ألغاها الرض، أو تكون الاستعادة لعقاب الذات وتأنيبها، ورواية “حين تركنا الجسر” لعبد الرحمن منيف من أروع ما كتب عن مونولوج التأنيب ومعاقبة الذات بعد أقوى حدث رضي هو هزيمة العرب غير المتوقعة في حرب 1967.. مونولوج غني بالعجز عن الاستجابة بكيفية سوية لحدث نفسي ذي طابع وجداني جارف..
قد يكون هدف محاولة تعديل الحدث الرضي بالتخيل هو لاستعادة التوازن، ترميم ما تم تخريبه، هي محاولة عقيمة لأن التصدع الداخلي لم يعد له علاقة بالحدث الرضي وكأن الأخير شرارة إيقاظ رغبة قديمة للعيش في الماضي ، الاستجابة للرض تعدَّت الحدث الراض وصار لها استقلالية خارجه.. صدى الرض ونتائجه انفصل عن الحدث الراض لكنه يتغذَّى من “الدافع القهري لتكرار الحدث” ودافع الإقامة في الماضي ومغادرة الحاضر .. غرائبيّ هذا النزوع للانتحار، هذا الميل الفظيع للكآبة وتعذيب الذات، عجيب هذا “الدافع القهري للتكرار”.. وتغذية المزيد من التخريب الداخلي وفقدان السيطرة ..
وقد نستغرب أكثر كيف يمكن للقلق والتوقع أن يحمي من خطر الصدمة، لكن قد يسقط هذا الاستغراب في دراسة عصاب جماعي لمثقفين العرب بعد هزيمة 1967 كما تناولها بشكل أخَّاذ جورج طرابيشي في كتابه”المثقفون والتراث، التحليل النفسي لعصاب جماعي“، فالعرب قبل الهزيمة كانوا واثقين من النصر ثقة عمياء لتشكل الهزيمة ضربة قاضية افقدتهم توازنهم، ليكون ردهم اما نكوص للماضي المجيد أو لعن الذات والتماهي مع الغرب، والاستثناء الوحيد الذي وجده طرابيشي هو ياسين الحافظ وقد يكون هذا الاستثناء أن الحافظ امتلك وعياً جعله متوقعاً للهزيمة، ليكون وقع الصدمة عليه حزناً وليس حداداً على الأمة وتجنيزها، طرابيشي يقول أن الحافظ هو المثقف النادر الذي لم تفقده الهزيمة توازنه.
إذا نحن أمام مقولتين، الوعي الحامي للجهاز النفسي، ونتائج خطر سلب الإرادة.. سنحاول في هذا المقال البحث في المقولة الأولى وهي الوعي وسنترك موضوع الإرادة للمقال التالي..
الوعي :
الوعي محمول على الروح الإنساني، الوعي صفة الإنسان بخلاف الطبيعة التي هي “عقل أصيب بالتحجر” كما يقول هيجل، الوعي هو المحدد انني مفصول عما هو إزائي، أنني أدرك نفسي مفصولاً عن محيطي، أن كل الكون في جهة والرأس البشري في جهة أخرى ، “الوعي” هو المقابل ل”المادة” في الثنائية الفلسفية (مادة/وعي)، الوعي ليس مُعطى ناجز، بل هو رحلة ولها مسار، مع هيجل، هيجل الكبير ، المعلم على قول ماركس، مع هيجل في كتابه “فينومينولوجيا الروح” أن مسار الوعي ينتقل من اليقين الحسي إلى الإدراك ثم الفهم وأخيراً العقل..
1 اليقين الحسي : اللحظة الأولى للوعي، الوعي غاطس في الطبيعة، هو قطعة منها، الحس يُوحي باليقين كونه بسيط وغير مُوسَّط بالفكر ربما الأقرب لهذه الحالة هو جبران خليل جبران، مع جبران ليس هناك وعي طبيعة بل طبيعة فقط، ليس هناك تعارض بين الوعي والطبيعة مع ان التعارض هو شرط المعرفة، إذا يتسم الحس بالمباشرة والتي هي بالضبط معرفة الموضوع بدون وساطة، لكن الوساطة تفرض نفسها يقول هيجل “حين أسدد بصري إلى نقطة من المكان معلناً ان هذا الموضوع كائن، فإني أعتبر بذلك أنه موجود بصورة مستقلة عن المعرفة التي لي عنه، فإذا انتقلت إلى مكان آخر، عندئذ لا يصيب تسديدي هذا الموضوع بل موضوع آخر، لكن ذلك لا يغير تأكيدي لوجود الموضوع الأول، أعتبر أنه باقٍ، هذا اليقين وهو أبسط يقين يتجاوز المحسوس والمباشر : انه يفترض أننا نحفظ الموضوع” هنا لم يعد اليقين مباشرا، إن حفظ الموضوع تم عبر نقله إلى مقولة كلية، تجريد ونزع كل صفاته والابقاء على وحدته كأن نقول” شجرة ” هي ليست لا طويلة ولا قصيرة لا يهم ان كانت زيتون أو بلوط أو تفاح، خضراء أو صفراء، نزع كل هذه الخصائص والاحتفاظ بكلمة تجمعها، هذه الكلمة هي كلّي هي عام، هي الوساطة الأولى بين الوعي والموضوع، لا يمكن معرفة الموضوع بدون هذه الوساطة الأولى، بدون ملئ هذا الكون بالكلمات، اليقين الحسي في الفينومينولوجيا يقابله نظرية الكينونة(الوجود) في كتاب هيجل الكبير “علم المنطق”، هي مقولات الكينونة، هي كينونة بارمنيد في تاريخ الفلسفة، هي الأفقر بالمعرفة وكأن الوجود يعرض نفسه علينا كمجموعة اشياء معزولة، فلا يمكن فهم العالم كجمع حسي لأشياء معزولة،.. الملخص ان تجاوز الحسي اوصلنا إلى الكلي.. الكلي هو مملكة الإدراك..
2 تناقضات الإدراك، الشيء واحد لكن خصائصه متعددة، إذا قلصت الشيء إلى خصائصه المتعددة عدت بوعيي إلى اليقين الحسي، وإذا احتفظت بوحدته فقط انتقلت الى المعرفة الافقر أو التجريد الفارغ كما يصفه هيجل، وبالمقابل ما هي الخصائص التي تأتي مني وما هي الخصائص التي تأتي من الشيء ذاته، ومن الطبيعي أن هناك خصائص تأتي من علاقة الشىء مع حواسي وهناك خصائص هي فيه بغض النظر عني، هنا انقسم الشيء للشيء لي وللشيء بذاته، أو بمعنى آخر الكينونة بذاتها والكينونة لآخر ، الإدراك يسقط بأول تناقض عندما قسم الكينونة، هو لا يستطع القبض على الموضوع بلحظتيه، وحدته من جهة وتنوعه الهائل من جهة أخرى، الهوية التي تلغي الاختلاف وحقيقة الوجود التي هي اختلاف، استحالة تطابق أي ورقتي شجر “لايبنتز”، استحالة تطابق بصمتين، ان الاعتقاد بأن الهوية “حذف الاختلاف” هو تطاول الوعي على الوجود، وأن الهوية هي سمة الوعي وليست سمة الوجود ينسى أن الحقيقة هي في لامباشرية الأشياء، وأن الأسماء هي الكلّي الذي هو نبض الوجود الداخلي لكنها فقيرة بدون عظمة الاختلاف، ان تناقضات الإدراك تنقلنا من الشيء الذي اعتقدنا أنه الجوهر إلى العلاقة التي هي الجوهر، العلاقة بين الوحدة والتعدد، بين الكلي والجزئي لندخل مملكة الفهم..
الفهم
تلخيص سريع لماسبق، اعتقدنا ان الحس وأن المباشر يضعنا في اليقين لنكتشف ان الحقيقة في ماوراء المباشر، وأن هذا المباشر لا يُعرف بدون كلّيته، الكُلّيّة انتقلت الى الوعي عبر تسمية، اسم، “شجرة، طاولة،حجر، شعب، استعمار ، وطن… الخ” الكلي هو تجاوز الحسي والمباشر، هو الإدراك، الإدراك عاشق للكلمات، يُصنِّمها، يجعلها بديل للعالم وللوجود، “ثورة، مجتمع مدني، اهلي، حرية،… الخ” يستعملها الإدراك بدون فحصها بدون تعيّنها، التعين والفحص هو إعادة الحق للوجود بحقيقة تنوعه الهائل ، عدم التطابق بالوجود، الاختلاف الهائل، الإدراك يقع في تناقض لعدم قدرته على التقاط لحظتي الوحدة والتعدد لأنه رأى ومن الأساس ان الشيء الساكن الجامد هو الجوهر، هذا الشيء الكينونة عندما أطلقه بارمنيد (جعل الكينونة هي المطلق) وصل إلى نتائج غير معقولة “السلحفاة سبقت أخيل”، مع هيجل صار الجوهر والمطلق هو الحركة والتغير والصيرورة التي حدّاها الوجود والعدم (وجود مُعيَّن وعدم مُعيَّن) (ظهور لجديد عبر تلاشي قديم) ..
وبالعودة للفهم هيجل ينتقل من الشيء إلى العلاقة، أن الجوهر ليس الشيء بل العلاقة، العلاقة بين الوحدة والتعدد، بين الكلي والجزئي، الوعي الذي يبحث عن ضالته بإيجاد العلاقة يظن أن القانون هو التعبير عن العلاقة..
مملكة الفهم هي القوانين والبحث عن قوانين ومحاولة تجميعها في قانون واحد “أشبه بعملية نيوتن، نيوتن بحث عن قانون يلخص كل القوانين” قانون يُفسَّر من خلاله الواقع والوجود والبشر،ولكن إشكالية القانون أنه خارجيِّ الأشياء، يتعامل مع وجه وحيد من وجوهها ، هذا القانون الذي هو ميت لأنه يُحوِّل كل واقع إلى عناصر متماثلة، القانون هو تجريد ميت يحاول تفسير واقع حي، هو بالتعبير الهيجلي الرائع” الهيكل العظمي الكمي للطبيعة، إطلاق القانون، جعله الوعي المنتهي والخاتم كما هو حال المناخ الوضعي الذي نعيش يقصر عن فهم واقع غني بتعقيده ..”على سبيل المثال كان الصراع الطبقي هو القانون الحاكم للمجتمعات من وجهة نظر الماركسية الستالينية، قانون يُفسِّر كل شيء حتى أن مهدي عامل قرأ الحرب الأهلية اللبنانية انها صراع طبقي، وهي تظهر لنا كحرب طائفية!!، حقيقتها الداخلية هي صراع طبقي!! وهذا تضليل مقيت في قراءة المشهد اللبناني ، هنا صار القانون معبود كإيديولوجيا تُعمي، هنا بالضبط تعبير هيجل العظيم أن تجريد ميت يحاول تفسير واقع حي، وأن القانون يُفسِّر وجه وقد يكون هو الوجه الأقل أهمية، تعظيمه وتجاوز الحد فيه يتحول إلى حد على الوعي “.. هذا الحد على الوعي وبالتالي على الفرد وعلى ثقافة شعب هو نافي للوعي، الحد ينفي الوعي، ينفي الفرد، يجعل الاخير محدود، على الوعي أن ينفي نفيه، ينفي الحاجز والحد، حركة نفي النفي هذه تنقلنا للامحدود والذي هو المفهوم..
العقل
العقل، الحسي ثم الكلي ثم القانون ثلاث لحظات في مسار الوعي ذات أهمية بالغة في رحلته لكنها فيما بعد هي حد على الوعي تحتاج لنفي، الوعي في مساره خلق معطلاته، والروح هنا هو الروح المستلب لما خلقه وعيه ، الروح الذي كان غاطس في الطبيعة اتسم بالمباشرة، انتقل فيما بعد إلى الروح المستلب، عبر وضع الوعي حدوداً على نفسه.. آسراً نفسه بكلمات وقوانين يظنها معرفة.. وهنا بالضبط عظمة ديالكتيك هيجل، هيجل اعتبر ان العلاقة بين الواحد والمتعدد هي الجوهر، ونتابع العلاقة بين المطلق والنسبي، بين الكلي والجزئي، بين اللامنتهي والمنتهي، وبين العام والخاص ، هذه العلاقة هي الجوهر، وأن الشيء لا يوجد فيه اي شيء شبحي، بل ما هو داخله هو كلّي قد تعيّن فيه، أي داخله هو فكر ، وهذا التعين للفكر هو تعدد واختلاف، أن هذا التعين بوصفه اختلاف هو حد على الوحدة ، على الكلية، حد على اللامحدود، والمفهوم الذي هو المجرى الداخلي للأشياء ، المفهوم هو وحدة الكينونة والجوهر.. المفهوم ليس تجريداً خارجياً إزاء الأشياء بل هو حياتها، العام في الخاص، الكلي في الجزئي، اللامحدود في المحدود، مُثل أفلاطون والتي هي مقولات الكينونة مع هيجل صارت داخل الكينونة، ملازمة ومحايثة وليست خارجية.. المُطلق يشرح نفسه في النسبي عبر تعيينات لانهاية لها، هنا ندخل مملكة العقل عبر علاقة اللامحدود بالمحدود..
إذا كل محدود وكل منتهٍ هو لم يدخل بعد مملكة العقل، ان تدمير كل حد على الوعي ليس من أجل إيجاد حدود جديدة،وهذه اللانهاية السيئة، ان تدمير المنتهي يعلن ولادة اللامنتهي، موت المفرد هو ولادة العام، موت الجزئي هو ولادة الكلي، هنا وعي الذات أنها كلي، وبشكل أدق هي وحدة الكلي والجزئي، وحدة العام والمفرد، الكلي بدون تعيين يصبح تجريد فارغ، والجزئي بدون الكلي هو عدم ولامعنى ولا معرفة أيضاً، هنا انتقلنا من الأنا إلى النحن، والنحن ليس مجموع جبري لأنوات، هو العام والمطلق واللامنتهي والذي كان يعمل منذ البداية بدون دراية المحدود، كان قلق هذا المحدود.. هيجل يرفض كل تعالٍ للامنتهي كما هو الدين التوراتي، اللامنتهي محايث وهو في قلب الوعي منذ البداية، رمزه الكبير هو المسيح كتجسيد “اللامتبدل ارتدى وجهاً حسياً”، في وحدة الكلي والجزئي وحدة المطلق والنسبي نصل إلى الكلي مُتعيِّن والذي هو المفهوم، المفهوم الذي صار هو القلب النابض للوجود ،في المفهوم الأنا = الآخر لكن بتعين مختلف، المفهوم ليس خارجي الأشياء بل هو قلبها النابض، حقيقتها، هو ذات لها حياة، وأن (الطبيعة الحقيقية لكل جزئي هي الكلي فيه).. ماركس ولينين متابعين على هذا اللحن..
يقول هيجل ( ما سيأتي فيما بعد بالنسبة للوعي هو تجربة ما هي الروح. هذه الماهية المطلقة تؤلف وحدة الروح ، تؤلف انا هو نحن ونحن هو أنا ).. هي خاتمة الفينومينولوجيا.. من الروح المباشر إلى الروح المستلب إلى الروح الواثق من نفسه..
التحليل النفسي ومشكلة الحد على الوعي
في الفقرة السابقة كل محدودية هي نافية للوعي، هي وعي مبتور، مُقلَّص،.. هذا استناد أساسي..
ليست طبوغرافيا الجهاز النفسي وفق المذهب الفرويدي هي حالة إنشائية، هناك تكوُّن ونشوء وانوجاد.. هذا النشوء هو ناتج أن الاجتماعي يحكم وجود الإنسان ، الاجتماعي ليس طارئ ولا عرض في حياة البشر، هي شرط وجود، الاجتماعي الذي يحمل الكثير من تحديد على الأنا، هو نفسه نشوء وتشكل، ان حالة روبنسون كروزر ليست إلا محض خيال.. في النشوء وفق المذهب الفرويدي يتمايز ثلاث هيئات نفسية هي وجود موحد عند البشر، الاجتماعي الجبري هو فارض هذا التكوُّن :
أ– الهو وفق الترجمة المصرية، أو الهذا بترجمة جورج طرابيشي، أول الهيئات النفسية، تحمل كل الاستعدادات الغريزية الخاصة بالكائن الحي، هي البذرة الأولى الحاملة لصفات النوع الأولى قبل تخلقه فيما بعد.. هي ماضي النوع.
ب الأنا التي هي النسق الشعوري / الإدراكي تتمايز عن جزء من الهو بسبب العالم الخارجي، بداية تمايز الوعي وانفصاله عن الطبيعة ، فيما بعد هي المسؤولة عن عمليات التفكير، المحاكمة العقلية.. الخ، الوعي محمول على الأنا..
ج الأنا الأعلى، أو مثال الأنا، التي هي سلطة الوالدين (النواهي والمحاذير، وما يجب أن يكون، وبالتالي ثقافة المجتمع) المُستبطنة داخل الذات بوصفها ضمير.. هذه الثقافة لم تعد خارجية بل أدمجت في الأنا وتمايزت عنه متخذة موقف ضد هذا الأنا عندما يخالفها..
الأنا هو الحاضر بينما الهو والأنا الأعلى هما الماضي، الأنا محدود بهما في تعامله مع الواقع الخارجي، هما حاجزاه وحداه في محاولة انطلاقه نحو الحرية، الهو عالم الضرورة القاسي، والانا الأعلى هو أرضية الشعور الدائم بالإثم، إرضاء الأنا الأعلى هو جعل الموروث الثقافي لسان حال الأنا وصناعة قواعد التفكير، الأنا الذي يتحاشى أي صراع مع الأنا الأعلى لشدة إيلام هذا الأخير له يُجبر على أن يكون محدد به، مثال الأنا حد على الأنا، الموروث الثقافي حد على ملكة التفكير، الموروث الثقافي نافٍ للتفكير وبالتالي نافٍ لسيرورة الوعي كما رأيناها عند هيجل، انطلاق الأنا نحو النحن والعام الذي يسكنها عليه منع. خسارة العام فيها هي خسارتها واستلابها وضياعها.. الأنا مستلب لمثاله والوعي مستلب للموروث.. الأنا يعيش في الماضي، يستعيده، يُشرق هذا الأنا مع رموز الماضي ومحاولة محاكاتها، تقليدها، إعادة إنتاجها،.. وتتفيه لنفسه اذا فشل في محاكاتها.
ما يهمنا هو الحد الداخلي النفسي على الأنا حاملة الوعي، لاغياً اياها كأنا مفكرة، مُعطِّلاً ملكة التفكير فيها ومُبقيها ثابتة، عاجزة وقابلة للرض، ثباتها هو على الضد من المقولة العظيمة ان الحقيقة الوحيدة هي الصيرورة، وأن الوجود والعدم حدي الصيرورة، الوجود الثابت يتحول لعدم، التغير هو الحياة، والثبات هو الموت.. في مقولته الرائعة فرويد يستنتج غريزة الموت من “الدافع القهري للتكرار”.. إن الأنا الثابتة والقابلة بحدودها ليس أمامها سوى عقوبة وحيدة يمارسها عليها جهازها النفسي أن تكون أسيرة التكرار..
الصيرورة حداها الوجود والعدم، ظهور الجديد هذا وجود وانوجاد، جديد اي لم يكن ، وزوال القديم هذا عدم، الانوجاد هو الانتقال من النفس الراكدة المتصارعة بمكوناتها إلى الروح القادرة على النمو، نموها باتجاه ان تعي حقيقتها أنها كل وعام.. أن الأنا هي النحن..
أضف تعليق