الباحثة: هوازن خداج
جهة النشر: الحوار المتمدن
أدّت التجارب الإيجابية لمنظمات المجتمع المدني، منذ الحرب العالمية الأولى، إلى تعزيز سيناريوهات المساهمة المدنية للمنظمات والتكتلات الاجتماعية للحدّ من الآثار الجانبية للحروب، ومع فشل جهود التدخل الدولي في عدة دول منتصف التسعينيات، تم الاعتراف بأهمية مبادرات المجتمع المدني وتعزيزها كمسار من مسارات المشاركة الدولية في المجتمعات الخاضعة لضغط الحرب والمتأثرة بها. وفي سوريا التي شهدت تكاثراً ملحوظاً في عدد “المنظمات المدنية” خلال عشر أعوام من الصراع، يحاول البحث إلقاء الضوء على واقع هذه المنظمات ومشكلاتها المختلفة، التي جعلتها إحدى بُنى الحرب واقتصادياتها، وكيف يمكن التعويل عليها في عقلنة سياسات الدولة والمجتمع معاً، لبناء طريق آمنة لتصور مجتمعي مدني مواطني يساهم في إنهاء حالة الصراع ؟.
يعتمد البحث المنهج الوصفي والدراسة المكتبية، في استخلاص النتائج وتحليلها، وسيجري التركيز على فترة الحرب حصراً حيث يناقش البحث:
مقدمة: حول المجتمع المدني والحروب
سوريا: مخاض تجربة المجتمع المدني في الحرب
إشكالية المنظمات السورية
من وهم الفعل إلى التفعيل.
مقدمة: حول المجتمع المدني والحروب
لم تنفصل مجالات بناء وتطور المجتمع المدني القديم والمألوف في الفكر السياسي الأوروبي منذ العهد الروماني (CIVILIS SOCIETAS ) وأفكار أرسطو عن “المجتمع السياسي”، عن مسارات الأزمات الحادة ” الحروب والصراعات وأنظمة الهيمنة والقسر السلطوي والمجتمعي..” التي تعيشها المجتمعات، حيث أخذت كل منها مدلولاً معيناً حسب الظرف التاريخي والحاجة الاجتماعية والعملية السياسية لكل مرحلة. وساهم العديد من المفكرين والفلاسفة “جون لوك، إيمانويل كانط، توماس هوبز، جان جاك روسو، مونتسكيو، هيجل، ألكسيس دي توكفيل، وصولاً إلى ماركس وغرامشي” باختلاف توصيفاتهم للدولة وللمجتمع المدني، من تحليل الواقع وفحص العلاقة بين المجتمع والدولة، لتقديم تأصيل فكري ومعرفي في الدفاع عن فكرة تنظيم العلاقات الإنسانية واستقلاليتها عن أي سلطة غير السلطة النابعة من هذا المجتمع الذي يراد تنظيمه، ضمن أشكال وقواعد يستقلّ بها، ويمارس مهامه بين طرفي الفعل السياسي(الحاكم والمحكوم) وتنظيم العلاقة بينهما اعتماداً على بُعدين أيديولوجي وتنموي، للتأثير في مجريات الأمور، في “حالة السلم” وفي “حالة الحروب” مهما اتسع مسرحها وتأثيرها الملموس في المجالات الحيوية للدولة وأنماط التعبئة الشاملة.
ففي الحرب العالمية الأولى قادت رؤية عواقب الحروب والعنف “الرجال والنساء” إلى البحث عن نماذج بديلة لإدارة الصراع التي ولّدت درجة أقل من الضرر والمعاناة في مجتمعاتها، واستمرت في فترة ما بين الحربين جهود إضفاء الطابع المؤسسي على آلية عمل المنظمات في التحول السلمي، وإعادة بناء الدول بقيادة الكتلة الضخمة للمجتمع المدني. ومنذ منتصف التسعينيات، تم الاعتراف بشكل متزايد بأهمية مبادرات المجتمع المدني في حالات الصراع وما بعده، رغم عدم نجاح تجاربه في بعض البلدان كالبوسنة، واتباع طرق مختلفة لتعزيز السلام في اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب في البوسنة عام 1995، إلا أن تجاهل هذه التجربة لم يؤدي إلى استقرار مستدام، الأمر الذي أعاد الثقة بالمبادرات الشعبية، ونشأت العديد من المنظمات غير الحكومية التي تعنى بحقوق الإنسان وحفظ السلم والأمن وصل عددها في العقدين الأخيرين بين 37 ألف إلى 50 ألف منظمة بحسب تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الامم المتحدة. ( )
سوريا: مخاض تجربة المجتمع المدني
ساهم نجاح تجربة المجتمع المدني ومنظماته في انتقال المفهوم نحو دول الهامش البعيدة عن التنمية ولم تمتلك مجتمعاتها نفس الرصيد الثقافي الهائل أو التحولات التي عرفها الغرب، والمحتكرة لمنظومة السلطة السياسية، كالدول العربية، التي شهدت منذ فترة مبكرة تجارب مختلفة للمنظمات المدنية، إلا أن عدم قدرتها شغل مساحتها الحقيقية بين المجتمع الأهلي والدولة، والحفاظ على توازن الطرفين، جعل الانتقال لتحقيق المجتمع المدني مطلباً -غير متحقق حتى الآن- لتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، فهذه المنظمات تمتدّ من شبكات المساعدة للمحتاجين في كلّ بلد إلى المنظّمات الدوليّة العابرة للحدود، لم تستطع في “حالة السلم” العمل بشكل موّسع وتحقيق الانتشار والغايات المطلوبة في غالبية البلدان، ولم يكن تأثيرها ملموساً على صعيد المجتمعات التي تعاني من أزمات مختلفة في غياب التنمية الفعلية لها، وهذا ينطبق على المنظمات التي كانت بديلاً للحكومات في ظل أحوال سياسية غير مستقرة (مثل فلسطين ولبنان ومن ثم العراق)، بحيث لا يمكن الحديث عن نجاح كبير في تجارب البلدان على صعيد العمل المنظماتي، دون أن تلغى إمكانية تحفيزها لتحقيق التوازن المطلوب.
وفي سوريا بقيت دعوات قيام المجتمع المدني محكومة في إطار تأسيس الجمهورية العربية السورية ونظم الاستقلال، وما شهدته من متغيرات جعلت حدود هذا المفهوم تضيق وتتسع حسب الواقع السياسي، فمسألة طرح شعارات الديمقراطية من باب التعددية السياسية وتأسيس البرلمانات لم تتحول إلى مطلب اجتماعي، ولم تعش طويلاً بسبب الانقلابات العسكرية، وتم تحييدها والقضاء عليها، لصالح توجهات قومية وعربية. ثم رسّخت عملية التهميش والاحتواء للمجتمع في إطار السلطة غياب التمييز بين “السلطة والدولة”، بقيت سوريا بعيدة عن دعوات تفعيل دور المجتمع المدني، والصعود بالمنظمات من مجالها الأهلي الرعائي الخيري “الديني”، للفعل في الفضاء الاجتماعي العام، مكتفية بالمنظمات الأهلية، العاجزة عن التمدد باتجاه تقليص البيروقراطيات الحكومية، أو باتجاه المجتمع في فتح المشاركة والتعددية والحوار الاجتماعي في قضايا الشأن العام. فقد نُظّمت الجمعيّات الخيريّة السوريّة في المقام الأوّل حول ما تسمّيه إليزابيث بيكارد Elizabeth Picard “الارتباطات الأساسيّة”، وهي في هذه الحالة الروابط الدينيّة والإثنيّة، حيث توجد مثلاً جمعيّات سنيّة، وشيعيّة، وشركسيّة، وأرمنيّة لم يستطع النظام إضعافها، حتى وإن رغب في ذلك.( )
أما ما أنتج في رؤى القوى الليبرالية واليسارية وتيارات الإسلام السياسي، فإنها أدت إلى مراكمة الأخطاء الإستعمالية لمفهوم المنظمات وانحشارها بالانحيازات الأيديولوجية لدعاتها، كالجمعيات التي أسسها “الإخوان المسلمون”، التي يمكن إدراجها ضمن المروحة الواسعة لتعريف البنك الدولي للمجتمع المدني باعتباره “مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجود في الحياة العامة، وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو غيرهم من أبناء المجتمع إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية، أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية”. ( ) وكذلك ضمن حق حرية التجمع وتشكيل الجمعيات (كما هو مذكور في المادة رقم 20 من الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وفي المواثيق الدولية الأخرى) .
بعيداً عن التفاصيل التي شهدتها تجربة المنظمات في كافة مراحلها، وعدم إثمارها وتطورها كتجربة نامية للمجتمع المدني، وخيار اجتماعي أولاً، يمكن تحديد مسألتين أساسيتين تتحكمان بوضع المنظمات المدنية، والتكوين لبذور المجتمع المدني، الأولى: تطال النظام الحاكم باعتباره من الأنظمة الأكثر استبداداً وتحكماً بالمجتمع بكافة مناحيه، وكذلك من الأنظمة الأكثر فساداً. والثانية: تطال المجتمع السوري باعتباره من المجتمعات الأكثر تنوعاً دينياً وإثنياً ويعاني من سوء إدارة التعددية على صعيد الدولة والمجتمع، ولكلاهما أثر بالغ في بناء المجتمع المدني بصيغته العامة أو باختزاله لمنظمات مدنية. وستمتد آثارهما إلى ما بعد الحراك عام 2011، وانتقاله من الاحتجاجات الاجتماعية المشروعة في مواجهة التفاوت الاقتصادي والسياسي الساحق، إلى التسلح والأسلمة، وتدويل الصراع تدريجياً، إلى الدخول في أكثر الحروب تعقيداً واستعصاء على صعيد إيجاد الحلول.( ) حيث صار تحقيق المجتمع المدني أكثر صعوبة نتيجة لتشابك المعطيات وكثرة إشكالياتها. بدءاً من:
أولاً: واقع المجتمع السوري: منذ بداية الحراك آذار 2011 انتقل السوريون إلى مرحلة مختلفة كلياً من النشاط غير المنظم في تحركاته ودون قيادة ولا أيديولوجية محددة، فنظرية الحركات الاجتماعية والكيانات المنظمة التي تتسم بالاستدامة وتمتلك التوجيه في نشاطها وأهدافها، وممارسة الضغط على السلطة لتلبية مطالبها، هي نظرية غائبة عن المجتمع السوري، نتيجة التهميش والاستلاب لعقود من الزمن. الأمر الذي جعل بداية الحراك ينطبق عليها تصنيف “اللاحركات الاجتماعية” الذي قدمه “آصف بيات” وهي حسب تعريفه: الأنشطة الجماعية التي يقوم بها فاعلون غير جمعيين non-collective actors وتعتمد على اشتراك أعداد من البشر في القيام بممارسات محددة دون اتفاق بينهم، إنما اعتماداً على إدراك ضمني لوجود قواسم مشتركة أو هوية مشتركة تجمعهم، ويتم التواصل الفوري بينهم في الأعداد الصغيرة، أو بشكل غير مباشر عبر الأماكن العامة ووسائل التواصل والإعلام، وأنه عادة لا تكون هناك قيادات أو منظمات معروفة، فهؤلاء الفاعلون يعملون بصورة تلقائية، ويبدأ تحركهم برد فعل فردي يتسم بالعفوية في تعاطيه مع متغيرات الواقع.( )
وهذا ما تم في بداية الحراك حيث بدأ أبناء كل منطقة يديرون حركتهم أو شؤون الثورة “التنسيقيات” بصورة ارتجالية -وصلت لاحقاً في ظل غياب الدولة إلى مجالس محلية مؤقتة – وبقدر ما اتسمت فكرة “التنسيقيات” بالابداع والشجاعة، غاب عنها الاستفادة مما هو متاح في اكتشاف مساحات جديدة تمكنها من كسب التأييد الواسع والتضامن الفعال من كل الأطياف والتحول إلى فعل جمعي منظم، وتأكيد إرادة المجتمع في مواجهة السلطة، ففترة الحراك السلمي وديناميكيته القصيرة، لم تكن كافية لزرع فكرة المجتمع المدني وتعزيزها، كبديل لسقوط النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي غير العادل والمترسخ منذ عقود في سوريا.
وبدل هذا بدأت الانتفاضة تفقد حالة التضامن معها، فارتفاع الدعوات الإسلامية، وبداية التسلح والعنف، من قبل طرفي الصراع “النظام والمعارضة”، ساهمت في نفي “السياسي” و”الشعبي الجامع” عن الحراك. واتجهت البروبوغندا بعمومها نحو ترسيخ فكرة أنّ الانقسامات الطائفيّة هي ما يقف وراء الانتفاضة، لتعيد تنشيط تمثّلات الخوف لدى الأقليات. ( ) وتساهم في تفجير الأزمة الحادة الكامنة في عمق المجتمع السوري وغياب عملية الاندماج الوطني، وكذلك أزمة غياب المجتمع المدني وهياكله الضاغطة.
ورغم أن الانشقاقات الطائفية والمذهبية والإثنية، والاصطفافات السياسية، لم تشعل حرب أهلية “ساخنة، أو باردة”، كما حدث في لبنان مثلاً، لكن حسابات التوازن السياسي وغياب السلم الأهلي، ساهمت في تكوين بنية مانعة لهيكلية “مجتمع مدني” سليم، فمثل هذا المجتمع لا يقوم على أنقاض الدولة أو يكون نتاج هدم أو تراجع الدولة أو زعزعتها، وإنما هو نتاج تحديد العلاقة بينها وبين المجتمع كونه مصدر شرعيتها. والتأكيد على الصناعة الجمعوية وتثبيت التطلعات المتعلقة بالديمقراطية والحريات وترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان، المؤدية لخلق مجتمع مدني، ومن ثم الدولة المعبرة عنه، ستكون صعبة التحقق. فخلال سنوات الحرب وصل التشظي السوري إلى تقسيمات جيوسياسية أربعة متباينة في إدراتها وفي حَوكمتها: المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشمال الغربي وحلب الريف الغربي، المناطق الخاضعة للسيطرة التركية عقب العمليات العسكرية ( درع الفرات، غصن الزيتون) والمناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الديمقراطية (المناطق التي حُرّرت من داعش ومناطق الشمال السوري).
ثانياً: المنظمات السورية في الحرب: انطلاقاً من تعريف البنك الدولي الواسع للمجتمع المدني ولمنظماته – المشار إليه سابقاً- ساهمت الانتفاضة في تكون شبكة واسعة من الاتحادات الطوعية (CSOs) التي تشير إلى المدنية والأهلية ” الخيرية، والدينية” والتجمعات الشبابية والمجتمعية وغيرها من التعابير عن هذا الحيّز المستقل عن الدولة والجماعات الأولية، التي انتشرت خلال فترة قصيرة بمسميات وأدوار وأهداف مختلفة، على جانبي الصراع “السلطة والمعارضة”، في حالة تنافسية لكسب القواعد الشعبية وتعبئتها، حيث سارع النظام لتكوين شبكة من الفعاليات الداعمة له تحت مسمّى الفاعليات الشبابيّة الوطنية غير الحكومية التي تدعم مفهوم العمل التطوّعي والنشاط الاجتماعي، مثل “فريق دمشق التطوّعي، وبصمة شباب سورية، وغيرها”، اقتصر عملها في بداية الثورة على تثبيت مسيرة النظام، وتجلّى نشاطها لاحقاً في عام 2012 في حملات شرح الدستور الجديد، أو التظاهر أمام السفارات الغربية والعربية، كالاحتجاج على تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية، أو التوقيع على رسالة “المجلس الوطني لا يمثلني” لتسليمها إلى بعثة مراقبي الجامعة العربية، ثم انحصر نشاطها في مجالات محددة من العمل الصحي والبيئي والخيري، فهي لم تخرج عن دعم السلطة ومؤازرتها على الرغم مما تمتعت به هذه الجمعيات من دعم مالي وعلاقات عامة، وتعيين كبار رجال الأعمال في إدارات هذه الجمعيات.
أما لجهة المناطق الثائرة، فرغم الظهور الجيد والجديد للمنظمات على مستوى تعزيز أشكال التحرك المدني وطرح المشاريع المدنية، التي برزت في بعض التجارب الشبابية مثل “هيئة الحراك السلمي” إلا أن انعدام “القدرة” على الحراك السلمي في مواجهة عنف السلطة، وغياب شروط الحماية للأفراد والجماعات المختلفة، لم يعطها الوقت الكافي لترسيخ البنية التنظيمية داخل المجتمع، أو تحويلها لمحور التفاف شعبي، والمساعدة على خلق مجتمع مدني كخيار اجتماعي أكثر منه خياراً سياسياً لبناء دولة، حيث يصعب ضمن البيئة غير المستقرة، والعنف تشكيل منطقة عازلة بين الدولة والمجتمع. ليقف الأفراد في “المناطق الثائرة” دون وسيط في مواجهة تصاعد حدّة العنف واستخدام “القوة العارية” للسلطة، الذي فرض على الهيئات المتأسسة في حينها لعب دور مختلف يتعلق باستراتيجيات البقاء للأفراد.
دفعت الأوضاع الإنسانية المتدهورة والازدياد الكبير في أرقام المتضررين وحجم الانتهاكات اليومية وغياب الدولة “الهيئات المسؤولة حكومياً”، عن أداء دورها، لتأسيس الكثير من المنظمات تحت عناوين إنسانية وإغاثية مختلفة، كتقديم العون للنازحين وتأمين الخدمات الأساسية في الإيواء والتعليم للأطفال، وقد بلغ ارتفاع عدد المنظمات والهيئات والمبادرات والاتحادات المدنية الحاصلة على تراخيص رسمية خارج سوريا، من 18 منظمة “فقط” جرى تأسيسها قبل عام 2011 غالبيتها “جمعيات خيرية، خدمات إجتماعية أو صحية” إلى 375 منظمة مرخصة و139 منظمة أخرى تعمل دون تراخيص رسمية، حتى عام 2018 . وهناك سعي متزايد للحصول على الترخيص خصوصاً في مناطق المعارضة. ( )
كانت غالبية هذه المنظمات مبادرات شعبية في مجالات مختلفة تفرضها الحاجة المتزايدة لدى السوريون لوسائل البقاء، والاستجابة للاحتياجات الاجتماعية والسياسية والإنسانية المتزايدة والناجمة عن الصراع، وبفضل تدفق التمويل الدولي، تحولت هذه المبادرات الشعبية إلى منظمات تقوم حتى يومنا هذا بمشاريع عديدة وذات ميزانية عالية. ( )
إلا أنها ما تزال تعاني الكثير من الإشكاليات وتخضع لعدد من العوامل المؤثرة التي تحدّ من قدرتها على ممارسة دورها وتحديد أهدافها في المساعدة في تعزيز الإجراءات المؤدية لمنع العنف وحماية الشعب، وبناء السلام. ويمكن تعقبها من خلال:
دور وأهداف المنظمات في الحروب:
يشكل توصيف المنظمات مهما اختلفت مهامها أو بنيتها” فردية أو تنسيقة”، عاملاً هاماً في كيفية النظر إليها وإلى دورها، فهذه المنظمات غير الحكومية يجب أن تتحلى بصفتين، صفة (الاستقلال السياسي والعسكري)، ويضاف لهم إنها منظمات غير ربحية وتقوم على العمل التطوعي. أما دورها في الشأن الإنساني أو التنموي، فيتسم بتحقق أحد المعايير التي تشكل استجابة لواقع الحرب (المناصرة وحشد الرأي والتمثيل، التقييم والمتابعة والرصد، المُساءلة والدروس المستفادة وإدارة المعلومات،القدرات التشغيلية،الأمن والسلامة، التوعية بالوضع العام، صنع القرارات الاستراتيجية، التدريب وتطوير القدرات) حسب الوظائف التي تُقرّها منصة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية (OCHA). ( )
وأن هذه الوظائف تُبنى على قاعدة أساسية المساهمة في جهود بناء السلام؛ التي بدأت تحظى بازدياد التوجهات العالمية نحوها منذ الثمانينات، وجرى ربطها مع دور المنظمات المدنية التي طورها العديد من صانعي السياسات والممارسين الميدانيين بتحديد الجداول الزمنية والأولويات وكذلك المهام الخاصة بها، وذكرها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي في عام 1992 ، في تقريره “أجندة للسلام” مصطلح بناء السلام – بين الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ السلام – كأداة حاسمة أساسية للحماية وتدبير موجّه لتعزيز وتطوير الهياكل التي تمنع تكرار العنف. ( )
ونظراً لتعقد واقع الصراع السوري، والتدخلات الدولية والإقليمية، وصراع الأجندات المختلفة وتأثيرها على واقع المنظمات، فإن مراقبة المعايير والوظائف السبع المحددة بـ (الحماية، المراقبة، المناصرة والاتصال العام داخل المجموعة، التنشئة الاجتماعية، والتماسك الاجتماعي، والوساطة والتيسير، وتقديم الخدمات) ليست مجرد مصطلحات، كونها تضعنا أمام إشكاليات مختلفة أهمها:
أولاً: وجود العديد من المنظمات لا تحوز على التوصيفات الأساسية “الاستقلال السياسي والعسكري”، فالمنظمات التي تكونت في مناطق النظام خاضعة للسلطة السياسية له وتتماشى مع أهدافه، وفي المناطق الخاضعة للجماعات العسكرية “الإسلامية”؛ فرضتْ على المنظمات العاملة في المجال المدني (الذي تعتبره “بدعة”) الكثيرَ من القيود، تحت مسمى تطبيق الشريعة والتمسك بالقيم والأعراف الطائفية. عدا عن قدرتها على تمكين أو عرقلة منظمات المجتمع المدني في سعيها للقيام بمهامها، وبما يخدم مصالحها الخاصة. ( )
ثانياً: ساهمت زيادة التدخلات المحلية والإقليمية والدولية في تحديد آليات العمل للمنظمات والهيئات المدنية المتعددة ووضعها تحت أجندات سياسية متنافسة ومتعارضة، فالأنظمة المشاركة، بشكل مباشر أو غير مباشر، حاولت النفوذ إلى الهياكل المدنية، من خلال الدعم والتسيير، كالمنظمات المرتبطة بتركيا، أو بدول الخليج، أو الهيئات المرتبطة بإيران ومشروعها الديني، وكذلك بدول الغرب، وازداد أثر هذا الجانب مع حاجة المنظمات للتمويل وشروط الممولين، الأمر الذي حولها إلى كتل ارتزاق تعتمد التنافس فيما بينها للحصول على التمويل بمليارات الدولارات من الدعم الذي تعهدت به الدول المانحة، وحسب تعبير “مارتينا فيشر” تحولت المنظمات إلى سوق عمل جديد، والعاملين فيها مجرد مقدمي خدمات تجاريين. وهذا شيء بعيد عن المجتمع المدني ومضُاف إليه.( ) كما أخذت بجانب ما مهمة الترويج لسياسات الجهات المانحة الخارجية والدفاع عنها، ما أدّى إلى مجتمع مدني أقل استنادًا إلى الجذور التاريخية والثقافية وأكثر تأثراً بما يُقدم له من مهام وأعمال؛ فتطبيق النسخ التكنوقراطية لحلّ النزاعات، ونقل المفاهيم الغربية للمجتمع المدني إلى سياقات أخرى وفرض تطبيقها في بلدان التنمية يؤدي إلى مأسسة بعيدة عن تقوية مؤسسات الدولة. والإفادة من تدفّق الأموال الإنسانية أدى إلى تنفير بعض المجتمعات المحلية، إذ باتت المساعدات لهذه المجتمعات التي تشكّلت أساساً من عائلات محلية نافذة يحرّكها الجشع أو السياسيات أو الإيديولوجيا مرتبطة على نحو متزايد بمدى الولاء لأجندات المساعدات. ( )
ثالثاً: وضّح تقرير ( IMPACT في July 2019 بعنوان التغيرات في السياقات والتوجهات في المجتمع المدني السوري) والمسح الذي أجراه على 514 منظمة مجتمع مدني، متوزعة بين سوريا وتركيا وعدد قليل في لبنان، وتحليل هيكلية المنظمات المدنية والوظائف والأدوار، خلص إلى نتائج أهمها: الاعتماد المفرط على التمويل القائم على المشاريع المؤقتة وعدم وجود رؤية طويلة الأمد. الحجم الصغير لهذه المنظمات فيما يتعلق بمواردها البشرية. افتقار العديد من المنظمات المدنية إلى وضع قانوني ” التراخيص وتصاريح العمل في مناطق مختلفة. الافتقار إلى التخصص والتركيز في المهام، والأنشطة القائمة على ردود الفعل تجاه الأحداث والاحتياجات. النقص في الكوادر المتخصصة وضعف الموارد البشرية، فغالبية العاملين بدوام جزئي أو موظفون متعاقدون لتنفيذ مشاريع. التواجد المتزايد على الساحة السياسية الدولية، والمترافق مع صلاتٍ أضعف بهياكل الحكم المحلية ودون الوطنية. ( )
رابعاً: حسب تقرير (مواطنون لأجل سوريا. بعنوان : منظمات المجتمع المدني السوري الواقع والتحديات) ونتائج مسح تقييم الكفاءة لـ 748 للجهات المصنفة تحت بند المنظمات سواء حكومية أو شبه حكومية أشار حول نوع التوظيف أن هناك 60% من منظمات المجتمع المدني في العينة المدروسة لا توظف موظفين من خلفيات عرقية أو دينية مختلفة، وانهم ينتمون إلى نفس الطائفة، وأحيل السبب إلى أن الحرب أفرغت مناطق كاملة من السكان المنتمين إلى طوائف معينة، وهو ما ينعكس بدوره في تكوين منظمات المجتمع المدني الموجودة في تلك المناطق. أما بخصوص تمثيل المرأة في مجلس الإدارة فإن 42% من المنظمات التي تسيطر عليها المعارضة لا تضم مرشحات في مجالس إدارتها، و13% من المنظمات العاملة في الخارج ، و5% من منظمات الاكراد لا يوجد لها تمثيل نسائي في مجالس إدارتها. ( )
إلا أن الأمر لا يخلو من بعض النقاط البيضاء التي يمكن تعزيزها والاستفادة منها:
أولاً: قدرة هذه المنظمات على الصمود رغم المسؤولية الكبيرة ذات الطابع الإغاثي والاجتماعي الملقاة على عاتقها التي مكّنت السكان من مقاومة الانهيار في الحرب.
ثانياً: مرونتها على التكيف مع بيئة محاطة بالمشاكل والضغط من قبل سلطات الأمر الواقع، فالتشريعات بعمومها وفي كافة المناطق، تتسم بمعاداة صريحة لأنشطة المجتمع المدني، والجهات الإدارية المتصلة بالسلطة لها حق المتابعة والمراقبة وتقييد عمل المنظمات الداخلي والخارجي.
ثالثاً: وجود العديد من المنظمات والفاعلين لديهم الرغبة بالعمل المدني والتمسك بروابط فوق المجتمع الأهلي مثل: منظمات المجال الإنساني، الدفاع عن حقوق الإنسان، والإفراج عن المعتقلين، ومنظمات النساء، التي تركز على القضايا الأساسية في الحقوق والتنمية بغض النظر عن الاختلاف الديني والطائفي والإثني، فهناك عشرات من المنظمات الرائدة في مجال التوثيق وحقوق الإنسان والمناصرة العاملة في قضايا العدالة الانتقالية.
رابعاً: في الحروب عموماً لا يمكن إهمال تجربة المنظمات، فعدم تحقيقها نجاحاً كبيراً في بعض المناطق التي تتسم غالباً بعدم وجود تقليد قوي للمجتمع المدني، لا يلغي جهودها الجانبية في الحرب وما بعدها. كتجربة البوسنة، حيث أدى عدم نجاحها واعتماد تجاهلها، والتوجه نحو اتفاقية دايتون عام 1995، وإحلال السلام من خلال إجراء انتخابات مبكرة وإنشاء نظام لتقاسم السلطة، والتحرير الاقتصادي، بما في ذلك الخصخصة السريعة للملكية الاجتماعية سابقاً، إلا أن خيار “السلام الليبرالي” الهشّ في البوسنة، ومؤسسات الدولة الضعيفة أعادت الاعتبار لاتباع النهج التنازلي لاتفاقية دايتون بنهج السلام من أسفل إلى الأعلى منذ عام 1998 ، تم تقديم المزيد من التمويل للمشاريع التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية على أمل أن يتم كسر الهياكل السياسية الراسخة في البلاد من خلال المبادرات التي تتم على مستوى القاعدة الشعبية للمجتمع. ( )
هذه النقاط لا تبدو كافية نظراً لمشكلات المنظمات التي تضعنا أمام تكتلات اجتماعية واقتصادية وسياسية لديها تصورات مختلفة حول الأهداف وأنشطة المنظمات المدنية، فدورها كمنظمات مدنية لم يتطور بطريقة تمكنها من التعامل مع تداعيات الصراع. وتحقيق أي أهداف طويلة الأجل للتغيير الاجتماعي وبالتالي فإن قدرتها على لعب دور في تشكيل المجتمع المدني ومنحه وظيفته أو بنيته المحددة، مازالت غير واضحة، وتستوجب البحث عن آليات لاستعادة التوازن.
الخروج من وهم الفعل إلى التفعيل
رغم أن طرح الحلول على صعيد الواقع السوري ماتزال سابقة لأوانها، كون الصراع مازال مستمراً على صعيد السلطة السياسية والأطراف المتحكمة بالأرض “سلطات الأمر الواقع” والأطراف الداعمة الخارجية، والتهديدات المختلفة مثل: الإرهاب والشبكات الإجرامية العابرة للحدود، ونمو اقتصاديات الظل والفوضى والتشظّي وغيرها من أمور جعلت الصراع السوري يتحول إلى صراع مستعصي على الحلّ، بعد تدويل الحلول والتراخي في العمل عليها، حتى يبدو أن مسألة السلام في سوريا أصبحت منسية.
ولأجل إعادة النظر إليها من قبل السوريين جميعاً وليس من قبل المنظمات التي تولدت ضمن إطار الحرب فقط، ينبغي عدم وضع الحلول وآلياتها بالتركيز على المنظمات كما يجري غالباً، واعتبارها حلّ للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي المبالغة في تقدير نطاق الفاعلين الاجتماعيين المدنيين وتحميلهم مسؤوليات أكبر من طاقتهم على الفعل، خصوصاً أن هناك مسائل لا يمكن تجاوزها مثل: انعدام وجود تقليد قوي للمجتمع المدني وتاريخ طويل لم يسمح لثقافة المجتمع المدني بالتطور، وأن الشبكات النشطة للمنظمات تعمل في مناطق جغرافية منفصلة وتحت سيطرة أطراف مختلفة، جعلت الزيادة الهائلة في عدد الجمعيات غير الحكومية لا تعني مزيداً من التماسك المجتمعي، أو إعطاء تعبير أكمل للإرادة الشعبية لجعل المواطنين يتمتعون باستقلالية ذاتية أكثر وجعل الحكومات – وسلطات الامر الواقع- أكثر استجابة للرأي السائد. ( ) فالمنظمات نفسها سارت في اتجاهات متعارضة ذات سمات سياسية اجتماعية دينية أو إثنية تحثّ على بدائل تناسبها، وتحدّ من عملها على الحدّ من الانقسامات، وأن المنظمات لديها وجهات نظر مختلفة حول المجتمع المدني نفسه وبالتالي تصورات مختلفة حول أهداف وأنشطة المنظمة المختلفة. الأمر الذي يستدعي:
أولاً: تحديد مفهوم المجتمع المدني وضبطه والتمييز بينه وبين المجتمع الأهلي، للانتقال مما صنعته سنوات الحرب، فالأعمال العدائية والقتال وخطوط الترسيم والقصف والخطف، والتشريد والاضطرابات قد طورت بشكل مفرط هويات مجتمعية، وغيّبت مشاعر الهوية والولاء المدني أو الوطني. وهذا يحتاج إلى إعادة بناء بنيته التحتية ورأس المال الاجتماعي من أجل عودة السلام الأهلي المُستدام، بالتعاون بين المجتمعين الأهلي والمدني، كجزء مهم من إعادة بناء النظام الاجتماعي للانتقال إلى نظام مستقر ومستقبل ديمقراطي.
والأخذ بعين الاعتبار بعض التجارب مثل لبنان الذي لم يستطع الخروج من البنى ما تحت مدنية رغم وجود العديد من المنظمات التي بقيت محكومة بالتوجه السياسي الطائفي، وبالتالي يتوجب فرض مزيد من الجهد للخروج من قيود الروابط المجتمعية، فالطوائف الدينية وإن اشتركت في سيادة الدولة وسيادة القانون، لكنها أنتجت قانوناً وسيادة تقدم تنازلاً لكيانات المجتمع (الدينية) دون الدولة، وكي لا تتكرر التجربة، فإن على المنظمات المدنية التخلص من تبني العنف الهيكلي الثقافي الذي يُحفّز الجهات الفاعلة تحت مسمى منظمات مدنية إما على ارتكاب أعمال عنف مباشرة أو غير مباشرة، من خلال عدم خروجها عن الانحيازات الطبيعية الاجتماعية في مسأل هامة مثل: النظرة للآخر المختلف دينياً وإثنياً، والنظر إلى المرأة بمراكز القرار، وعدم حماية الحريات الشخصية في المجتمع المدني، فالغرض الرئيسي لبناء منظمات المجتمع المدني التطوعية قائم على جمع الناس معاً لأنهم يريدون احترام قيمهم ومعتقداتهم أو المشاركة في المصالح المشتركة.
ثانياً: تحديد بنية المنظمة وأهدافها الاستراتيجية على صعيد بناء المجتمع المدني خصوصاً المنظمات التي ستستمر بشكل أو بآخر بعد نهاية الحرب، ويمكنها العمل بوسائل وطرق مختلفة بحيث سيتنوع هذا القطاع ويمتدّ ليشمل العديد من قطاعات النشاط ، منتقلاً من أولوية المساعدة الإنسانية إلى التنمية، وهذه الظاهرة ليست سورية بحتة، فالعديد من المنظمات التي تُشكّلها الأزمات تستمر بعدها، ويمكن للمنظمات غير الحكومية القيام بأشياء لا تستطيع الحكومات القيام بها في “تسهيل تطوير الأفكار الجديدة والإبداعية ، وتوفير قناة اتصال موثوقة “غير رسمية”، وتوسيع شبكات الاتصالات، خاصة للمجموعات أو الأفراد الذين قد تمنع الحكومات من الاجتماع معهم، بسبب مخاوف سياسية أو قانونية”. ( )
كما تلعب دوراً مهماً في الأنشطة التي تهدف إلى ضمان الانتقال السلمي إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً. مثلاً: في ليبيريا وسيراليون ساهمت المنظمات المتخصصة في تعزيز المصالحة ومبادرات بناء السلام المحلية والمشاركة في عمليات التحول الديمقراطي. ولعب المجتمع المدني دوراً رئيسياً في عمليات العدالة الانتقالية ولعبت منظمات المجتمع المدني دوراً حاسماً في إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة في هذين البلدين والعدالة الجزائية للمحكمة الخاصة لسيراليون. ( ) أما في أفغانستان مثلت العدالة الانتقالية نموذجاً جديداً للتنفيذ أثناء الحرب وتأثرت بانعدام الأمن والعنف حيث كان التنفيذ جهداً من جهات خارجية.
وفي الوضع السوري ينبغي تحديد آلية المصالحات ومعنى العدالة الانتقالية، ففي المفهوم العام تشبه نظرية العدالة الانتقالية إلى حدّ ما مجموعة أدوات تتراوح بين سيادة القانون والعدالة الجنائية ولجنة الحقيقة والعفو والمحاكم الدولية وتثبيت المسارات على المستوى المحلي وتعويض الضحايا والمصالحة، وجميعها تطورت كاستجابة رئيسية لمجتمعات ما بعد الصراع، وانبثقت عن محاولات إعطاء معنى نظري لسياسات المساءلة المخصصة التي تم تبنيها كجزء من عملية أوسع لإرساء الديمقراطية السياسية في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. بمعنى أن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم على “السلام الليبرالي” ويجعلها “مترابطة مع تصورات الأمن والاستقرار” أو على تصورات “الحقيقة مقابل العدالة”. ( ) بدل بناءه على معايير مشاركة المدنيين في منع العنف أو منع تكراره، بناء على قواعد توافق الإرادة الشعبية.
فموارد بناء المصالحات في المجتمع التقليدي يرتبط إلى حدّ كبير بكيفية فهم المجتمع، والاستفادة من كافة الآليات المتبعة لحلّ النزاعات الموجودة بالفعل خارج هياكل الدولة، وتوسعة النشاط بحيث لا تكون المساحة ” المحلية” مساحة للتدخل إنما للمعرفة. ( )
ويمكن العمل على أكثر من إطار في دراسة تصورات الأمن والاستقرار وألا يتم استبعاد أحد الأطياف التي تحتاج إلى الاعتراف كالأكراد، حيث باتت قضيتهم تحظى بمزيد من الاعتراف في إطار حقوق الأقليات، واعتماد التحرك من قبل كافة الجهات دون ذكر مدني وغير مدني. ( ) فبناء السلام ليس هو الغاية إنما الغاية ترسيخ ثقافة السلام في إطار التعددية السورية من خلال إقامة البنى التي تستطيع تخفيف احتمال نشوب النزاعات وتكرارها عن طريق مشاركة جميع الأطراف التي يمكنها العمل على التوعية المجتمعية والسياسية والحقوقية والقانونية، فما راكمته الحرب من مظلوميات وثارات نتيجة ارتكاب الفظائع من قبل جميع الأطراف يجعل من القدرة على تجاوز المحن دون معالجتها أمر بعيد عن تحقيق السلم والاستقرار.
ثالثاً: التركيز على دور المرأة في منع النزاعات، فالنساء بسبب تأثير الحروب عليهن كفاعلات أو كضحايا ، يمكنهن تبنّي خطط متنوعة لبناء استراتيجية السلام، والحراك النسوي في الصراعات أثبت جدواه منذ الحرب العالمية الأولى مثلاً: كانت رابطة النساء الدولية للسلام والحرية WLPF التي تأسست عام 1915 واحدة من بين الجماعات القليلة التي ضغطت من أجل وضع نهاية للحرب، حيث حشدت أكثر من 1000 امرأة من الدول المتحاربة والمحايدة. وبقيت هذه الرابطة كأقدم حركة سلام نسائية، نشطة وفعالة حتى هذا اليوم.( ) وبالحرب السورية فإن دور النساء كان أكثر غموضاً أو سلبية، فمثلاً: لم يشكلن رادع تجاه استخدام السلاح، فالعديد من النساء انتظمن في الفرق المقاتلة، ولم تمنع العديد من النسوة أولادهن الصغار دون 18 عاماً من الانضمام للفرق المقاتلة ومنها داعش والنصرة.
لقد تبنّت العديد من النسوة القتال والحثّ عليه باعتباره حماية لأسرهن أو لجماعتهن، وهذا يحتاج إلى توضيح أن العنف لا يشكل حماية لأي مجتمع، إنما حماية الأسر تتم بإبعادهم عن العنف، أو تشكيل النساء فرق الحماية من العنف التي نجحت وأثمرت في العديد من البلدان مثل “حركة النساء الليبيريات” الجماهيرية من أجل السلام، التي تحولت للاعب رئيس في عودة السلام في ليبيريا عام 2003، عقب حرب أهلية ودمار وتفكك اقتصادي حيث يعيش حوالي 85% من السكان تحت خط الفقر الدولي، ومازالت النساء فيها تقوم بأدوار مختلفة لتدعيم المجتمع وتنمية البنية التحتية بالتصدي لقضايا الفساد وبطالة الشباب والمصالحة، وكذلك دعم ضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي حيثما وجدت، وتعمل النساء مع الشرطة لإلقاء القبض على الجناة المزعومين. ( )
رغم أن العدالة للضحايا أو للنساء “غالباً” ما يعيقها نظام قانوني ضعيف، أو قوانين تمييزية “شرعية أو مجتمعية”، وهذا يتطلب العمل بمستويات مختلفة من قبل النساء، لسدّ الفجوة التاريخية في تغييب النساء عن الفعل وتهميشهن، وفي فرض شروط مختلفة للتعامل مع المتغيرات التي طالت النساء بدءاً من كسر المحرمات والحصول على تعويضات للنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب أو لأعمال عنف جسدي مختلفة خلال الحرب، وبدء المناقشات العامة حول المسؤولية الفعلية للمرأة ودورها ” حقوقها وواجباتها” في الأسرة والمجتمع والدولة على قاعدة التساوي والعدالة الاجتماعية.
رابعاً: عدم إهمال ظاهرة “العمل الخيري الجماعي”، خلال السنوات الماضية بفضل هذه الحرب، ظهرت مجموعة كبيرة من الفاعلين بعيداً عن الإطار التنظيمي؛ الذين انتقلوا من مجال العمل الخيري المحصور بالرعاة الدينيين والأثرياء، إلى مجال تفاعلي مجتمعي مختلف، ينطلق من كل حسب إمكانياته في تقديم المساعدة للجميع، وهذا أمر يجب التعويل عليه في إنتاج شراكات مختلفة على مستوى المجتمع، بدل الاستمرار بالتعويل على تحويل الأموال والبضائع من قبل الوكالات الإنسانية والإنمائية التي يمكن أن تساعد في إطالة أمد اقتصادات الحرب، وهياكل الارتزاق المدنية، أو تسليم المسؤولية عن الفقراء ومناطق الحرب السابقة إلى الوكالات الدولية، وتأتي أهمية هذا العمل الخيري في تحويل كل الأفراد لرعاة ومسؤولين عن تخفيف حدّة الكارثة، ويمكن أن تكون قواعد عمل تنموية ، ولا سيما بالنسبة لأفقر قطاعات السكان. وهو ما يروّج له في استراتيجية بناء المؤسسات في عملية بناء السلام وتحقيق الاستقرار في الانتقال من الهياكل القائمة على أنظمة التمويل الخارجية، إلى بناء الهياكل الاجتماعية والسياسية المستقرة من خلال استراتيجية مقنعة للتنمية الاقتصادية ومناهج متجهة من القاعدة للقمة في أنشطة بناء المجتمع المدني. ( )
خامساً: الحثّ على التفكير في سياسات “الأمن المدني” للانتقال من السياسة الأمنية القائمة على العسكرة إلى الأساليب السلمية القائمة على المدنيين، فالأنظمة القمعية والعسكرة قد تمنع النزاعات الداخلية، ولكنها تصنع مجتمعات مفخخة وغير متسامحة. ( ) لا تسمح بالتوازن فهذا يحتاج إلى إعادة هيكلة تأخذ في الاعتبار مصالح جميع الأطراف، لم يعد من الممكن التماس الأمن ضد الآخر بل مع الآخر. مثلاً: طورت ألمانيا نماذج مختلفة حول إدارة الصراع المدني، بالتعاون مع المؤسسات التعليمية وتعليم جميع التلاميذ الألمان التواصل اللاعنفي والوساطة وغيرها من طرق إدراك وتحليل وإدارة النزاعات. لقد صارت قوتها السياسية الأمنية ناتجة عن قدرتها الدبلوماسية والمدنية. تتحقق هذه النتيجة من خلال التخطيط الهيكلي للمجتمع ومن خلال تنظيم المقاومة المدنية واستراتيجية الأدوات المحايدة، والدبلوماسية السياسة الثقافية، والتعليم على الحوار بين المختلفين. ( )
ويمكن تصور هذا السيناريو في حال وجود مؤسسات دستورية وسياسية ومجتمعية فاعلة تضمن التوازن والتعايش السلمي بين هذه القوى، وفي حال غياب هذه المؤسسات يجدر توجيه مفهوم الأمن ليأخذ بعداً مشتركاً في تطوير ثقافة السلام ويقوم على مصالح جميع الأفراد في حياتهم الخاصة والعامة ” مشاركاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية” فالأمن الخاص أو السلامة الشخصية تراعي أمن الجيران والمحيط والاختلافات المجتمعية، وفي العديد من المناطق تسوية النزاعات من خلال آليات غير عنيفة (الوقاية ، والإنذار المبكر، واستراتيجيات رد الفعل المبكر) وهذه الآليات موجودة داخل الثقافة الاجتماعية في كافة البنى، وتؤدي إلى القبول المتبادل والتوازن والنتائج العادلة التي تتجاوز العنف المتصاعد.
خاتمة
في عالم إنساني قائم على غياب فرضية إبعاد آفة الصراع والعنف، يتخذ البحث عن وسائل بديلة لتحقيق الأمن من خلال خطوط مختلفة لخلق التوازن، وفي ظروف الدول التي تعاني نزاعات مركبة، أهلية أو قريبة منها في سوء إدارة التعددية، وتدخلات دولية وإقليمية، فإن معالجة الخلل تحتاج نقل النفوذ إلى جمعيات المواطنين وتمكينها على بناء السلام النابع من عقلنة سياسات الدولة والمجتمع معاً، لخلق هوامش المسؤولية الاجتماعية في ردع العنف وإعطاء تعبير أكمل للإرادة الشعبية في تحقيق الأمن بدل تركه للسلطات المتحكمة التي تعمل على قاعدة حفظ أمنها الخاص وليس أمن المواطنين وسلامهم.
أضف تعليق