تركت الحرب ندوباً عميقة في السوريين والسوريات عامة وسكان الشمال خاصة، لحقت الأمراض النفسية كثراً نتيجة الضغوط المعيشية، ودخل كثرٌ مجبرين في نفق الإدمان على المهدئات والعقاقير المخدرة للهرب من الواقع المعيشي الصعب.
غادر ياسر المستشفى محملاً بكومة من الأدوية النفسية بعد دخوله في حالة إغماء أعقبت إصابته بنوبة قلبية ترافقت بضيق في التنفس وهبوط في الضغط.
«انسَ مشاكلك ولا تفكر في وضعك»، قال الطبيب الذي عاين حالته، ليرد الشاب الثلاثيني متعجباً: «كيف ممكن أتجاهل الديون وخسارة العمل والولد والمنزل، والسكن في خيمة!».
يسكن ياسر وأفراد عائلته الستة في خيمة تتبع لمخيم «دير حسان» شمالي مدينة الدانا في محافظة إدلب، إذ أضحت الخيمة مأواه الأخير بعد قصف منزله الذي قضى داخله أصغر أبنائه خلال المعارك التي استعاد فيها الجيش السوري السيطرة على بلدته حاس.
حالة ياسر جزء من مشهد عام، إذ تؤكد مصادر طبية في الشمال السوري أن الأدوية النفسية تصدرت معظم الوصفات العلاجية، بعدما انعكست ظروف الحرب وآثارها على السكان ولا سيما النازحين، على شكل أمراض مثل الاكتئاب والضغط النفسي والوسواس القهري.
يتشارك كثير من المرضى أعراضاً واحدة وفق ما يوضحه طبيب القلب محمد المنصور الذي يقول: «معظم المرضى يعانون من ضيق تنفس، أو أعراض قلبية غير منتظمة، ثم يتبين أنهم مصابون بحالات اكتئاب». في النتيجة، تُصرف لهم أصناف مختلفة من الأدوية مثل زولوسير (ZOLOSYR ) وسيروسات ألترا (cirosat ultra) التي تعمل على تعديل المزاج، أو يحال المرضى إلى مراكز الاستشارة النفسية في حال كان الوضع مستعصياً.
الهرب إلى الإدمان
وقع عمار الشيخ في «وحل الإدمان» عقب إصابته الجسدية أثناء الحرب، إذ خضع لثلاث عمليات جراحية ضاعفت آلامه الجسدية، ما دفعه إلى استخدام أدوية شديدة التأثير من مثل تيغريتول، وبيغوبالين، وترامادول.
يقول شقيقه: «بعد اشتداد الألم وعدم فعالية المسكنات، وصف له الأطباء حقن الترامادول، على أن تعطى له بنطاق محدود جداً عند الضرورة، ومع مرور الأيام بدأ يتعاطها بإفراط دون علمنا، وفي حال منعناها عنه، يصاب بنوبات اختلاج وألم شديد تضطرنا إلى نقله إلى إحدى مصحات بلدة سرمدا للعلاج».
أما محمود، فوجد في ترامادول «بساط الريح» الذي ينقله من خيمة النزوح إلى «فضاءات الأحلام». يقول الشاب العشريني: «تعرفت إلى الترامادول مصادفة عندما أعطاني صديقي أول حبة، وفي البداية كنت آخذه من باب الفضول ورغبةً في الاسترخاء، لكن انتهت بي الحال إلى إدمانه».
يتكفل طبيب نفسي واحد، ومركز بإمكانات محدودة متابعة المرضى في محافظة إدلب التي يتجاوز سكانها 4 ملايين نسمة
أمام تحول الأدوية النفسية إلى ظاهرة، فرضت مديرية الصحة في إدلب مجموعة من القيود على بيعها، وهنا تقول الصيدلانية في مدينة سلقين مها عثمان: «يشترط للحصول على أي من تلك الأدوية تقديم وصفة مختومة بخط واضح وتاريخ محدد من الطبيب، ويُشترط احتفاظ الصيدلاني/ة بالوصفة لمنع المريض من إعادة صرفها، وفي حال تطلّب الأمر استمرار المريض في تناول الدواء بعد نفاد الكمية المصروفة، يتوجب عليه الحصول على وصفة جديدة من طبيبه، فيما تجري وزارة الصحة تفتيشاً وجرداً دورياً على الصيدليات».
الحرب أساس الداء
تعقيباً على ذلك يُرجع المرشد النفسي عبد المنعم الوجيه الإدمان على تعاطي الأدوية النفسية إلى ما تركته الحرب من آثار وضغوط، فقد «عايشت فئات المجتمع ظروف النزوح واستبدال الخيمة بالبيت، والتأزم المادي والعجز عن تأمين متطلبات الحياة».
ويضيف الوجيه: «نتحدث عن تطور الأمراض النفسية خصوصاً عند سكان المخيمات حيث وصلت الحالات إلى انفصام في الشخصية، ودفعت بعضهم إلى محاولة الانتحار».
مما يعقد الوضع أن طريق معالجة المدمنين طويل، وتبدأ وفق ما يوضحه فارس الشيخ، وهو أحد مشرفي «مركز كنصفرة لعلاج الإدمان»، بحجر المريض المدمن، ثم سحب تدريجي لأنواع الأدوية التي أدمن عليها، وتترافق تلك الإجراءات مع نشاطات ترفيهية ونظام غذائي مدروس.
يقول الشيخ: «يتابع المرشد النفسي المرضى، وتتفاوت مدة العلاج بين مريض وآخر، إذ تتحكم الدافعية النفسية والإدارة التي يمتلكها المريض في طول العلاج».
أيضاً مما يزيد الطين بِلة افتقار مناطق الشمال للأطباء النفسيين، ففي حين يُقدر عدد سكان المدن والبلدات الشمالية بما يتجاوز 4 ملايين نسمة، يتكفل طبيب نفسي واحد علاج كل المرضى، فيما ينفرد «مركز سرمدا لمتابعة الأمراض النفسية»، بكونه المركز اليتيم المخصص لهذا النوع من الأمراض، لكنه رغم ذلك. غير متخصص في علاج الأمراض العقلية المزمنة، فيما يحتاج إنشاء وحدة كهذه إلى تمويل كبير، بجانب تأهيل الكوادر المتخصصة، ما يجعل السفر إلى تركيا للعلاج الباب الوحيد أمام الأهالي المحتاجين إلى ذلك.
لقراءة المقالا كاملاً:
أضف تعليق