لم يكن عالم الاجتماع الشهير ثيودور هرتزل يعلم بأنّ حلمه الشجاع بإجراء تجربة عالمية حول النسبية الأخلاقية سيرى النور في العام ١٩٤٨ ويمتد لأكثر من سبعين عاماً.
لتصبح أطول تجربة في التاريخ تثبت أنّ الحق والباطل والأخلاق والإرهاب والسلام والتعايش والديمقراطية والقانون والأعراف والدول والكيانات والساميّة ومعاداة الساميّة مسائل نسبية يختلف تعريفها باختلاف الزمان والمكان..ومقدار البلطجة الدولية ومعدّل رشق الدول للأموال سنوياً.
البداية: ثورة الفلسفة على المنطق
بدأت التجربة الفريدة التي أُطلق عليها اسم “إسرائيل” بفرضية مثيرة مُفادها أنّ القتل والذبح والحرق واستهداف البشر بناءً على الدين – الذي اعتبرته عِرقاً – فعل لا أخلاقي.. طالما يحدث داخل أوروبا من قِبل جماعات مُتعطشة للدماء يقودها رجل نحيل يُربي شارباً مضحكاً.
لكنّه فعل ثوري أخلاقي خارج حدود القارة العجوز، خاصة إن كان القائد مُمتلئاً قليلاً ويدخّر ما تبقى لديه من شعر ليوزّعه بشكل عشوائي على رأسه.. إذ يشكّل المظهر عاملاً رئيسياً للحكم الأخلاقي.
خلافاً للتعطّش للدماء الذي يعدّ فعلاً محايداً أخلاقياً، مستهلمة هذا الافتراض من الأخلاقية النسبية الأوروبية التي بدأت مع استعمار الدول العربية.
الألوان تنعش التجربة
تطوّر الإطار النظري للتجربة لاحقاً ليعتمد اللون أساساً لتحديد أخلاقية الفعل – مُستلهمة من النسبية النازية هذه المرة – إذ إنّ قتل الرجل الأبيض غير أخلاقي سواء وُجد في أوروبا أو سوريا أو فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو أي بقعة جغرافية بالعالم.
خلافاً لقتل الرجل الملوّن والأسود تحت أي أرض وفوق أي سماء، وهو ما قاد لنظرية النسبية الأخلاقية المُطلقة، والتي تؤكد أنّ الأخلاق نسبية (بالنسبة للجماعة التي تُمارس عليها وتلك التي تُمارسها) وأن النسب مُطلقة حتى تتغير الظروف.
اعتراف عالمي
بما أنّ القانون في النهاية هو التعبير الأسمى عن أخلاق المُجتمع الذي يضعه، أفضت النسبية الأخلاقية إلى النسبية القانونية – وهي ليست مفهوماً جديداً – .. لكنّ التجربة الإسرائيلية نجحت في تعميمها بشكل أوسع وأكثر منهجية، لتشمل القانون الدولي والعقوبات الاقتصادية القائمة على النسبية الإرهابية والنسبية النووية.
كما أظهرت التجربة نتائج مُبشّرة في مُختلف الأقطار، ابتداءً من المجمع الأخلاقي الدولي العام الذي أقرّ بتقسيم فلسطين إلى منطقتين لتسهيل عملية التقسيم الأخلاقي لاحقاً على المجتمع الدولي، الذي بدأ بدوره عملية فرز مُمنهجة للأخلاق النسبية، مُعتبراً بناء جدران فصل عنصري وسرقة المياه والموارد والأراضي من الطرف الآخر من الجدار وأي جزء مُحيط بالمنطقة المحاذية له فعلاً أخلاقياً داخل حدود التجربة، وغير أخلاقي خارجها. وقد حازت إسرائيل على عدد من جوائز السلام تقديراً لتثبيتها مبدأ النسبية الأخلاقية المُطلقة واستعدادها للتصالح مع من هم أدنى منها في نفس الوقت، كان آخرها جائزتي القدس والجولان وبضع جوائز معنوية على هيئة سفارات في القدس.
إفرازات على الهامش
أفرزت هذه التجربة مفاهيم إضافية في النسبية، على رأسها نسبية معاداة الساميّة، التي تؤكد أنّ معاداة السامية فعل لا أخلاقي تجاه الساميين اليهود وأخلاقي تجاه العرب، بالإضافة إلى النسبية الدينية، حيث تُحدّد أخلاقية التطرّف الديني وفق نوع الديانة، ونسبية دو بوفوار وسارتر الثورية الداعمة للعنف الثوري ضد الاحتلال والسلطوية في الجزائر وكوبا وفرنسا وأمريكا، وفي فلسطين أيضاً من خلال دعم الثورة الصهيونية على السكان الأصليين، إلى جانب النسبية العدمية ورائديْها البارزين ميلان كونديرا وألبير كامو اللذين يؤمنان بانعدام معنى الحياة والوجود والقيم والأخلاق أصلاً ما لم تكن لغاية مدح إسرائيل.
المقاومة: الصمود والتصدي العربيين
رغم تبنّي دول العالم كافة للنسبية الأخلاقية، إلّا أنّ الدول العربية رفضت معايير إسرائيل، واعتبرت “الموضوع” المنطلق الأسلم لفهمها وممارستها؛ فأقرّت الإمارات على سبيل المثال التجسّس بوصفه القيمة الأخلاقية العليا للدولة، فيما جعل الأردن من المساعدات وعلاقته مع أمريكا أهم مُثله الأخلاقية، وكذلك الحال في السودان والبحرين ومصر والسعودية، وهذا طبعاً إلى جانب تبنيها مفهوم الانبطاح الأخلاقي. وقد قادت جميع هذه المفاهيم في نهاية الأمر للتطبيع مع مفهوم إسرائيل حول النسبية الأخلاقية.
المصدر باللغة العربية: https://www.alhudood.net/43921
Add Comment