فقد الاقتصاد السوري خلال عشر سنوات من أزمة مستمرة وحرب طاحنة متعددة ثلثي مقدراته. وبفعل تبعات الحرب والعقوبات أضحت غالبية السوريين تحت خط الفقر. أين يقف اقتصاد سوريا اليوم بعد حرمانه من أهم موارده وهجرة غالبية كفاءاته؟
بعد عشر سنوات على بدء الاحتجاجات الشعبية والأزمة السورية والحرب الطاحنة المتعددة الجنسيات التي رافقتها مني الاقتصاد السوري بخسائر فادحة استنزفت ودمرت أكثر من ثلثي موارده. وبنتيجة هذه الخسائر تراجع الناتج المحلي لهذا الاقتصاد الذي كان من بين أكثر اقتصاديات الدول النامية تنوعا إلى أقل من 20 مليار دولار بحلول عام 2019 بعدما زاد على 60 مليار دولار عام 2010.
ومع استمرار الأزمة واستفحال الفساد والمحسوبيات في الإدارات الحكومية ونفوذ مجموعات أمراء الحرب وتشديد العقوبات الغربية وتبعات كورونا والجفاف وخروج الثروات الأساسية من سيطرة الدولة السورية يستمر الوضع بالتراجع. ويدل على ذلك التضخم شبه المنفلت وتدهور سعر الليرة السورية إلى نحو 4000 ليرة في السوق الحرة أمام الدولار الأمريكي مقابل أقل من 50 ليرة قبل الأزمة.
وفي الوقت الذي كان فيه معدل الأجر الشهري يتراوح بين 300 إلى 600 دولار قبل الأزمة، أضحى بحدود 20 إلى 50 دولارا في الوقت الحاضر. وحسب برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة فإن 67 بالمائة منهم أضحوا بحاجة إلى مساعدات شهرية لمواجهة الجوع. ويقدم البرنامج الذي تُعد ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي من أكبر الداعمين له مساعدات غذائية لملايين السوريين على ضوء تدهور قوتهم الشرائية. ومن الأمثلة على هذا التدهورارتفاع سعر البيضة من 3 ليرات قبل الحرب إلى 300 ليرة حاليا. وارتفعت أسعار الخبر 60 ضعفا،بينما ارتفعت أسعار الأغذية الأساسية 33 مرة.
الاقتصاد السوري عشية الأزمة
من الصعب على العارفين بقضايا الاقتصاد السوري الذي كان قبل الأزمة من أكثر اقتصاديات الدول النامية تنوعا، استيعاب هذا التدهور في بلد كان قبيل اندلاع الاحتجاجات الشعبية في مارس/ آذار 2011 ضد الحكومة السورية والرئيس بشار الأسد ينتج بين 75 إلى 85 بالمائة من أغذيته وأدويته وألبسته وأحذيته ويصدر الفائض منها إلى أكثر من 60 دولة حسب معطيات الصندوق العربي للانماء الاقتتصادي والاجتماعي والمكتب المركزي السوري للاحصاء. وكان الإنتاج السوري من النفط بحدود 450 ألف برميل يوميا يزيد عن حاجة السوق المحلية ويصدر الفائض منه بنحو 150 ألف برميل يوميا إلى ألمانيا بالدرجة الأولى. وكانت سوريا بين البلدان الخمسة الأولى في العالم بإنتاج القطن وتربية الأغنام والأبقار. أما إنتاجها من الحبوب فتراوح بين 3.5 إلى 6 ملايين طن سنويا،أي ما زاد على حاجة السوق المحلية في معظم السنوات.
ورغم التبعات الكارثية للجفاف في مناطق عدة شرق سوريا آنذاك وأخطبوط الفساد وضعف أداء الحكومة والفساد في مؤسساتها وقيودها المقيتة على المبادرات الخاصة، فإن سلعا وخدمات أساسية كالخبز والسكر والرز والأدوية ومصادر الطاقة والطبابة والتعليم كانت قبل الأزمة متوفرة بكميات كافية وبأسعار رمزية أو دون مقابل، رغم ضعف جودة قسم منها. وكانت سوريا بسبب رخص منتجاتها وجودة صناعاتها الاستهلاكية وعراقة تاريخها قبلة لملايين السياح سنويا والذين زاد عددهم على 8 ملايين في عام 2010.
بعض المؤشرات الحالية
أما اليوم فقد أضحت السلع الأساسية نادرة يصطف الناس طوابير يومية طويلة للحصول على القليل المتوفر منها بسبب تدمير المصانع والزراعة ووطأة العقوبات الغربية على التجارة السورية.
ففي حلب عاصمة سوريا الاقتصادية على سبيل المثال تم حسب تقرير من بي بي سي البريطانية تدمير 18 من أصل 20 مدينة صناعية خلال الحرب. وفي هذه المدن تم حرق أو تفكيك الآلاف المصانع الحديثة ونقل تجهيزاتها إلى تركيا تحت مرأى حكومة الرئيس أردوغان في سابقة لم تحصل منذ الحرب العالمية الثانية. وكانت المدينة بعدد مصانعها ومشاغلها الذي وصل إلى نحو 35 ألفا أهم مركز لصناعة الأنسجة والأقمشة والألبسة والأحذية في الشرق الأوسط.
وإلى جانب الصناعة تم أيضا تخريب قسم حيوي من الجسور والطرق وتفكيك الخطوط الحديدية وبيعها كخردة. كما لحق الدمار بنحو 70 بالمائة من محطات الكهرباء وخطوط الغاز والنفط. وتسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” المعارضة وقوات أمريكية على النفط والغاز في شرق البلاد. وهنا لا بد من التذكير بكلام الرئيس الأمريكي السابق ترامب عندما قال أن “هذه القوات موجودة لحماية المنشآت النفطية وأنه يتوقع جني ملايين الدولارات” من الاستيلاء على النفط السوري والحبوب المخزنة في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة. ونتيجة لمصرع حوالي 400 ألف شخص في الحرب وإعاقة أكثر من هذا العدد، وبسبب اللجوء والهجرة إلى الخارج والتي طالت أكثر من 5.6 مليون شخص حسب تقديرات أممية من أصل 21 مليون شخص، فقد الاقتصاد السوري غالبية كفاءاته وعمالته الماهرة ورجال أعماله الذين توجهوا بالدرجة الأولى إلى تركيا وألمانيا ودول الخليج ومصر.
غياب فرص التحسن
باستثناء بعض التحسن في الإنتاج الزراعي جنوب وغرب البلاد وشرق الفرات، وإعادة تأهيل بعض الصناعات الخفيفة في مجالات الأغذية والأدوية في دمشق وحلب وحمص بمبادرات خاصة أو بدعم روسي وصيني، يواجه الاقتصاد السوري اليوم خطر المزيد من التدهور بسبب غياب أفق حل سياسي للأزمة المستمرة.
ويقف في وجه هذا الحل عوامل كثيرة أبرزها الخلافات بين الحكومة السورية وداعميها من جهة وقوى المعارضة وداعميها من جهة أخرى حول الدستور الجديد وطبيعة مرحلة الانتقال السياسي. ومن المعروف أن مجموعات أمراء الحرب والفاسدين في مناطق الحكومة والمعارضة لا تريد إنهاء النزاع لأن استمراره يخدم مصالحها.
في هذه الأثناء جاء تشديد العقوبات الأمريكية عبر “قانون قيصر” ليزيد الطين بلة بسبب حظره التعامل مع جميع المصارف السورية. وينص القانون أيضا على معاقبة أي شركة أجنبية تتعامل مع سوريا. ورغم أنه يتحدث عن استثناء الأغذية والأدوية من الحظر، فإن الواقع يفيد بأن منع التحويلات المالية يعيق أو يمنع وصول أية سلعة إلى سوريا بغض النظر عن طبيعة استخدامها. وهو الأمر الذي دفع بالكثيرين مؤخرا بمن فيهم أصدقاء الولايات المتحدة إلى انتقاد القانون كونه يعيق “العمل مع سوريا ويعقد عودتها إلى محيطها العربي” حسب وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان.
في هذا السياق تفيد تجارب الكثير من الدول ومن بينها العراق خلال حكم صدام حسين أن الناس العاديين هم من يدفع ثمن العقوبات بالدرجة الأولى وليس الحكام أو الأنظمة التي تريد واشنطن إسقاطها. وفي الوقت الذي تتزايد فيه الانتقادات للقانون والعقوبات فإن الإدارة الأمريكية مصرة على أنه يهدف إلى إجبار “الرئيس بشار الأسد وحكومته على الحوار السياسي وفتح المجال أمام المساعدات الإنسانية”. وكلما طال هذا الجدل وراوح مكانه، كلما دفع السوريون المزيد من الثمن الباهظ لحرب دمرت اقتصادهم ومقومات عيشهم.
Add Comment