ذكرى مجزرة سورية
مئات البشر ماتوا قبل عشر سنوات في مجزرة ارتكبتها حكومة الأسد في بلدة داريا. بعض الناجين وصلوا ألمانيا. لا زال الرعب يرافقهم حتى اليوم.
مونيكا بيرغر
حنان اللكود لا تزال تكافح بأسئلة لن تجد لها على الأرجح إجابة قط. لماذا يقتل البشر بعضهم؟ لماذا تتحول جريمة قتل لمذبحة يقتل فيها المئات أو الآلاف بشكل منظم أو مقصود؟
إنه يوم مشمس بلون أزرق في شهر أب عندما كنا نتجول في مدينة هادامار الصغيرة في ولاية هيسن الألمانية. اخترنا السير على جسر حجري فوق نهر إلباخ. مررنا في طريقنا على منازل خشبية يظهر فوقها قصر. الرعب الذي تركته حنان اللكود خلفها في بلدها سوريا يبدو في تلك اللحظة بعيدا جدا. لكن رعباً آخر لا يزال حاضراً هنا في هادامار. وسط المدينة يُذّكر نصب تذكاري كيف قام النازيون مرة بقتل أناس معاقين ومرضى نفسيين. اللكود قرأت كل ما استطاعت الوصول إليه. تعلمت أيضاً حول الإبادة الجماعية. أرادت معرفة كل شي عن سريبرينيتسا والأرمن و البرامج المعادية لليهود في بلدها سوريا والهولوكوست.
البحث عن إجابات
بحثت حنان اللكود عن تفسير لشيء لا يمكن تفسيره. لم تعثر حتى اليوم على شيء. تقول: “أكثر ما عجزت عن استيعابه هو الأطفال القتلى”. فتحت الحرب الأوكرانية جراحها مرة أخرى. جملة واحدة تكفي. أحدهم قال: “قُتل 300 شخص في مجزرة في أوكرانيا. هنا عادت كل الذكريات. “رأيت صورة أم أوكرانية مع أطفالها في باص وتذكرت حينها قصة هروبي.”
في هذا الأسبوع تمر ذكرى مجزرة داريا للمرة العاشرة. ضاحية داريا قرب دمشق كانت مشهورة عام 2011 بحركتها الاحتجاجية السلمية عام 2011. أثناء الربيع العربي في سوريا نزل حينها الآلاف إلى الشوارع ضد نظام الأسد. تم إطلاق النار عليهم بسرعة بذخيرة حية ومع هذا استمرت الاحتجاجات سلمية. المتظاهرون وزعوا عبوات ماء وورود على الجنود مرفقة برسالة بسيطة: “نحن سوريون مثلكم، لماذا تقتلونا؟.”
تصاعدت وحشية النظام السوري لتصل إلى مجزرة جماعية. مات المئات وانتهت الحركة الاحتجاجية السلمية في داريا. المجلس البريطاني السوري وهو منظمة تم تأسيسها في بريطانيا من قبل سورين في المنفى نشر تقريراً مفصلاً في الذكرى العاشرة للمجزرة يعتمد على شهادات 23 من الناجين. حنان اللكود وعمرها اليوم 48 عاماً كانت منهم. نجت لأنها اختبأت في قبو ثم هربت فيما بعد من داريا.
قصف المشافي
في العشرين من شهر آب عام 2012 وبعد بداية شهر رمضان بوقت قصير حاصرت الجيش السوري داريا وقطع التيار الكهربائي و شبكة الاتصالات الخليوية. بعدها بدؤوا بقصف داريا بالمدفعية وطائرات الهليكوبتر والطيران الحربي. حتى المشافي تم قصفها. في ال 24 من آب اقتحم الجنود البلدة وفتشوا ونهبوا المنازل لمدة ثلاثة أيام. اعتقلوا وأعدموا سكاناً في مجموعات. تم إطلاق النار على نساء وأطفال. في المجمل قُتل المئات.
يشغل محمد زردا جهاز الكومبيوتر ويفتح مجلداً فيه صور. تُظهر رجالاً فرحين: أصدقاء ورفقاء النضال. معظم من في الصورة قُتلوا أو اختفوا في السجون، بعضهم في المنفى مثله. محمد زردا عمره 32 عاماً نجا كحنان اللكود من مجزرة داريا ووجد ملجأً في ألمانيا. مهندس المعلوماتية يعيش في منزل صغير في برلين ويتحدث الألمانية بطلاقة. حصل بعد ستة سنوات على الجنسية الألمانية.
يهز زردا قدمه بشكل عصبي عندما يتذكر كيف فقد في أول يوم من القصف شقيقه وابن عمه. مزقهم صاروخ حرفياً أمام عينيه. وعند الدفن قصفت قوات الأسد المقبرة. كان على زردا أن يهرب. فيما بعد عرض له صديق صوراً للجثث. كانت في نفس المكان ولكنها كانت متفحمة بسبب الهجوم. عندما كانت قوات النظام تجوب داريا في ال 24 من شهر آب، اختبأ زردا مع قريبه الذي كان قد أُصيب في القصف. يقول: “لو شاهده الجنود لكانوا اعتقلوه على الفور.” فالجرحى كانوا وفق منطق النظام الشاذ مشتبهاً بهم بشكل خاص.
ومن مخبئه في منزل قريبه شاهد زردا كيف اقتحم الجنود مشفى ميداني اقتادوا السكان في مجموعات ونهبوا البيوت. كان مخبأ زردا في الطابق الرابع وكان المنزل تحتهم فارغا وغير صالح للسكن. يعتقد أن الجنود لم يصعدوا إليهم لهذا السبب. اعتقدوا أنه لا أحد يسكن في المبنى. علم زردا فيما بعد أن الكثير مما تم اقتيادهم تم إعدامهم عبر إطلاق النار عليهم. أحد الرجال ممن تمكنوا من الهرب لأن الطلقة لم تصبه، روى هذا. كان الناجي الوحيد من الإعدامات ضمن مجموعة من 60 رجل تم اقتيادهم من الحي كما يشرح زردا. في المجمل تم قتل 700 شخص بحسب تقديرات بين ال 20 وحتى ال26 من شهر آب عام 2012 إما عبر القصف أو عبر إطلاق النار المتعمد. منهم 500 شخص موثقين بالاسم.
بروباغندا غريبة على التلفزيون
كانت حنان اللكود محظوظة وسط الكارثة. نجحت في الهرب إلى دمشق قبل اقتحام قوات الأسد لداريا. على الرغم من القناصين والحواجز. هناك شاهدت على التلفزيون كيف يعرض النظام صورته الخاصة للواقع. تم الإعلان عن قيام الإرهابيين بارتكاب مجزرة في داريا. والآن تمت تصفيتهم من قبل النظام.
قناة الدنيا المقربة من النظام صورت جثثاً بلا خجل وعقدت لقاءات مع جرحى لم يتلقوا حتى مساعدة طبية. وأثناء المقابلات وقف جنود حولهم، بالنسبة للناس كان من المستحيل الحديث بحرية تحت هذا الضغط. حتى أن المذيعة أعطت الميكروفون لطفلة عمرها أربع سنوات كانت جالسة في الشارع قرب أمها المقتولة ومصابة بصدمة. بالنسبة لحنان اللكود كانت رسالة النظام واضحة: أظهروا كيف انتقموا من المتظاهرين.”
بعد المجزرة عادت اللكود إلى المدينة مرة أخرى. “هل شاهدت من قبل فيلم رعب حيث تمر لحظة لا يسمع فيها المرء صوتاً ولا ضجة؟ هكذا كانت داريا بعد المجزرة. كانت مدينة أشباح.” اللكود هي مع هذا مؤيدة للمقاومة اللاعنفية. ولكن بعد المجزرة اصطدمت برفض كبير بين المتظاهرين. “لا أحد أنصت لنا. وصفونا بالجبناء.” بعد كل هذا العنف بدأ الناس في داريا بجمع المال لشراء السلاح. متمردون مسلحون ممن كان حضورهم هامشياً في السابق، تولوا السيطرة. لم تكن اللكود تستطيع الوقوف في وجههم.
حنان اللكود ومحمد زردا يتمنيان لو تتم محاكمة المجرمين والمسؤولين عن هذه المجزرة أمام محكمة دولية. محاكمة كهذه فقط ستجلب لهم العدالة. ولكنهم لا زالوا ينتظرون مع آخرين منذ عشر سنوات بعد المجزرة. بدون عدالة لن يرتاح أناس كزردا واللكود. زردا يرسم صوراً للريف الجميل عندما لا تمنعه ذكرياته. اللكود وهي أم لخمسة أطفال تذهب في نزهة. تتلقى أيضا أدوية ومنذ ذلك الوقت اختفت الكوابيس.
الدروس حول المجازر الجماعية لم توفر لها أجوبة. ولكن كتاباً ساعدها: “بالرغم من كل شيء قل نعم للحياة” كتاب يروي قصة الطبيب النفسي والناجي من معسكر اعتقال نازي “فيكتور فرانكل.” في الكتاب يشرح كيف نجح على الرغم من تجربته الفظيعة في العثور على معنى للحياة. تقول اللكود: “قصته أثرت في بشكل كبير. أهم ما تعلمته منه كان أن الإنسان بحاجة لهدف يعطي المرء طاقة تمكنه من الاستمرار في الحياة.”
قلق على الأطفال
ما عايشته في داريا ترك جروحاً. الغضب القادم من آخرين يؤثر عليها. عندما بدأت المهندسة المدنية بعمل كان رب العمل فيه يصرخ عليها بشكل دائم، وجدت نفسها في قسم الإسعاف بعد أن انهارت. تخشى أن الهلع الذي يصيبها قد يؤثر على أطفالها.
ابنة لها وابن يدرسان اليوم الهندسة المعلوماتية في جامعة كاسل. ابنة ثانية تدرس الثانوية التخصصية في علوم البناء، ابنة ثالثة ستبدأ الدراسة قريبا. أصغر أولادها لا زال طالباً في المدرسة في هادامار. أولادها الأربعة حصلوا على الجنسية الألمانية.
في بعض اللحظات تشعر حنان اللكود بالقوة أحيانا على الرغم أو بسبب ما جرى لها. عندما يثير زملاؤها الألمان غضبها حول أمور صغيرة تحتفظ بهدوئها. تقول: “من شاهد الموت لن تكون المشاكل اليومية بالنسبة له سيئة لهذه الدرجة. فأنا لا زلت على قيد الحياة.” تقول ذلك على سبيل تأكيد الذات وتضحك بدموع في عينيها.
لقراءة المقال كاملا:
Add Comment