بقلم: مازن كم الماز
جهة النشر: الحوار المتمدن
بالنسبة للناس الذين يعيشون في دول تقوم على العنف ، يبدو إلغاء سلطة الحكومة عملًا ينطوي بالضرورة على أعظم المصائب . لكن التأكيد على أن أمان و ازدهار حياة البشر تضمنه سلطة الدولة هو زعم لا يصمد أمام الواقع . إننا نعرف عن الكوارث و المصائب و درجة الرفاهية التي يتمتع بها البشر تحت سلطة الدولة لكننا لا نعرف أي شيء عنها فيم لو أن البشر كانوا يعيشون بدون دولة . إذا أخذنا بالاعتبار حياة البشر في مجتمعات صغيرة التي عاشت و تعيش خارج الدول الكبيرة ، فإن هذه المجتمعات بينما تحصل على كل الفوائد المتأتية من التنظيم الاجتماعي للبشر ، لكن و لأنها في نفس الوقت متحررة من قهر و إكراه الدولة ، فإنها لا تعرف و لا حتى واحد بالمئة من المصائب التي يعانيها البشر الذين يحتكمون و يطيعون سلطة الدولة . يتحدث أفراد الطبقات الحاكمة المستفيدون من وجود الدولة ، يتحدثون غالبًا عن استحالة العيش من دون دولة . لكنك إذا سألت أولئك الذين يحملون على كاهلهم أعباء وجود هذه الدولة ، لو سألت العمال الزراعيين ، المائة مليون فلاح في روسيا ، ستجد أنهم يشعرون فقط بعبء هذا الوجود أكثر من أنهم يعتبرون أنفسهم أكثر أمانًا بوجود تلك الدولة ، و أنه يشعرون أنه يمكنهم تدبر أمورهم جيدًا من دونها . في كثير من كتاباتي حاولت مرارًا أن أوضح أن أكثر ما يخيف البشر – الخوف من أن أسوأ أنواع البشر بدون سلطة الحكومة ، سينتصرون حتمًا بينما سيتعرض أفضلهم للقمع و القهر – أن هذا هو بالضبط ما حدث و يحدث منذ وقت طويل و ما يزال ، في كل الدول ، بما أن السلطة في كل مكان هي بأيدي الأكثر سوءًا ، لأن الأمور لا يمكن إلا آن تكون كذلك ، لأن الأكثر سوءًا فقط هم من يمكنهم ارتكاب كل تلك الأفعال المراوغة و الشريرة و الهمجية الضرورية للوصول و البقاء في الحكم . لقد حاولت كثيرًا أن أوضح بأن كل المصائب و الكوارث الكبرى التي يعاني منها البشر مثل تراكم الثروة الهائل بأيدي أقلية محدودة و الفقر المدقع الذي ترزح تحته الغالبية العظمى ، الاستيلاء على الأرض ممن لا يعمل بها ، التسلح و الحروب التي لا تنتهي ، و حرمان البشر ، كل ذلك يأتي فقط من الاعتراف و الإقرار بعنف الدولة و قسرها و إكراهها غير القانونيين . حاولت ان أبين انه قبل الإجابة على سؤال ما إذا كان البشر سيكونون بحال أفضل أو أسوأ إذا ما عاشوا بدون حكومة ، على المرء أن يجيب على سؤال : من يشكل تلك الحكومات . هل من يشكلونها أفضل أم أسوأ من مستوى الشخص العادي ؟ إذا كانوا أفضل من مستوى الإنسان العادي عندها يكون وجود حكومتهم مفيدًا ، أما إذا كانوا أكثر سوءًا يكون وجودها و وجودهم ضارًا . لكن كون هؤلاء الأشخاص – أمثال إيفان الرابع ( أو إيفان الرهيب ) ، هنري الثامن ، مارات ، نابليون ، أراكشييف ، مترنيخ ، تاليراند و نيقولا ، أكثر سوءًا من الآخرين هو أمر يؤكده التاريخ . في كل مجتمع بشري سيوجد دائمًا أشخاص طموحين ، عديمي الضمير ، قساة القلوب ، الذين حاولت مرارًا أن أبين كم هو مستعدون لارتكاب أي فعل من أفعال العنف و السرقة و القتل إذا كان في مصلحتهم ، و أن هؤلاء الأشخاص سيكونون أيضًا في مجتمع بلا حكومة لصوصًا ( و نصابين و قتلة ) لكن سيمكن وقتها الحد من أفعالهم تلك جزئيًا في هذا المجتمع من خلال دفاع و تصدي ضحاياهم لهم ( العدالة و العقاب اللذين يمارسهما البشر مباشرة ) ، لكن جزئيًا و بشكل أساسي أيضًا عبر السلاح الأكثر قوة و الأبعد تأثيرًا على البشر – أعني الرأي العام . بينما في مجتمع تحكمه قوة السلطة القهرية سيستولي نفس هؤلاء الرجال على السلطة و سيستخدمونها ، ليس فقط من دون أية معارضة محتملة من الرأي العام ، بل على العكس تمامًا ، بدعم صريح من “رأي عام” مصطنع و مزيف و مشكل باستخدام الرشوة ( و القمع ) . لقد قيل سابقًا : “كيف يمكن أن يعيش شعب ما بدون حكومة ، بدون قهر و إكراه” . على العكس ، يجب أن يقال “كيف يمكن لشعب يتألف من كائنات عاقلة ، أن يعيش و ينظم حياته على أساس العنف لا على أساس الإتفاق القائم على العقل كرابطة داخلية لحياتهم المشتركة” . هناك واحد فقط من احتمالين : إما أن البشر كائنات عقلانية أو غير عقلانية . لو أن البشر كائنات لا عقلانية ، عندها ستسوى كل المسائل بينهم بالعنف فقط ، و عندها لا يوجد سبب لأن يمتلك بعضهم الحق في استخدام العنف بينما يحرم آخرون من هذا الحق . أما إذا كان البشر مخلوقات عقلانية أو عاقلة ، عندها يجب أن تؤسس العلاقات بينهم على أساس العقل لا العنف . قد يعتقد المرء أن هذا الكلام يجب أن يقتصر على البشر الذين يعرفون أنفسهم ككائنات عاقلة أو عقلانية . لكن أولئك الذين يدافعون عن سلطة و وجود الدولة لا ينطلقون من ملكات الإنسان و إمكانياته و طبيعته العقلانية ، إنهم يتحدثون عن خلطة خاصة من البشر يمنحونهم خصائص و أهمية خاصة ، فوق الطبيعة أو خاصيات مبهمة عصية على الشرح و الفهم ( عن قصد ) . السؤال الذي يطرحونه هو : ماذا سيحدث لروسيا ، فرنسا ، بريطانيا ، ألمانيا ، إذا توقف الناس عن إطاعة الحكومات ؟ ما الذي سيحدث لروسيا ؟ روسيا ؟ لكن ما هي روسيا ؟ أين تبدأ و أين تنتهي ؟ بولندا ؟ مقاطعات البلطيق ؟ القوقاز بكل قومياته ؟ تتار قازان ؟ وادي فرغانة ؟ كل هذه المناطق لا تمت لروسيا بصلة ، لكن ليس هذا فحسب ، بل إنها قوميات أجنبية ترغب بالتحرر من هذا الخليط الذي يسمى روسيا . الظرف الذي أدى إلى اعتبار هذه القوميات جزءً من روسيا هو ظرف عابر و مؤقت ، نشأ في الماضي على سلسلة كاملة من الأحداث التاريخية ، خاصة التي قامت و تقوم على العنف و انعدام العدالة و الهمجية ، بينما يتم الحفاظ اليوم على هذا الظرف الجديد فقط باستخدام القوة التي تفرض و تمارس على هذه القوميات . حسبما نذكر ، كانت نيس جزءً من إيطاليا ثم أصبحت فرنسية فجأة ، الألزاس كانت فرنسية ثم غدت بروسية . مقاطعة آمور كانت جزءً من الصين ثم أصبحت جزءً من روسيا ، ساخالين كانت روسية و أصبحت يابانية . اليوم تمتد سلطة النمسا فوق المجر و بوهيميا و غاليسيا ، و سلطة الحكومة البريطانية على آيرلندا ، كندا ، أوستراليا ، مصر و الهند ، و سلطة الحكومة الروسية على بولندا و غوريا ( مقاطعة في جورجيا ) . لكن أيًا من هذه الحكومات قد تختفي غدًا . إن القوة الوحيدة التي توحد كل هؤلاء “الروس” , “النمساويين” , “البريطانيين” , و “الفرنسيين” هي القوة القهرية ، القوة القائمة على الإكراه و القسر ، التي هي من اختراع أشخاص ، و على الضد من طبيعتهم العقلانية و من قانون الحرية كما كشف عنه يسوع قبل سنين بعيدة ، يطيعون أولئك الذين يأمرونهم بارتكاب أفعال العنف الشريرة و الفظيعة . يحتاج البشر فقط أن يدركوا حريتهم ( أنهم أحرار) ، الشيء المنطقي و الطبيعي جدًا بالنسبة لأي كائن عاقل ، و أن يتوقفوا عن القيام بأي عمل يتناقض مع وعيهم و ضميرهم و مع هذا القانون ، عندها ستختفي كل تلك الخلطات المصطنعة المسماة روسيا ، بريطانيا ، ألمانيا ، فرنسا ، من الوجود ، على الرغم من كل “الروعة” التي قد تبدو عليها اليوم ، و معها مسألتها و قضاياها ( الوطنية ) التي يضحي الناس في سبيلها ، ليس فقط بحياتهم ، بل أيضًا بحريتهم الجديرة بكل كائن عاقل . لقد اعتدنا أن نسمع أن إقامة دول كبيرة من دول أصغر تحارب بعضها البعض بشكلٍ دائم و إحلال جبهة واحدة كبيرة مكان حدود أصغر ، يحد من النزاعات و سفك الدماء و ما يرافقها من شرور . لكن هذا الزعم أيضًا لا يصمد كثيرًا أمام الواقع و النقاش السليم ، لأن أحدًا لم يحدد بالفعل مزايا و فوائد كل من هاتين الحالتين . من الصعب تصديق أن كل حروب فترة الكونفيدرالية في روسيا أو في بورغوندي أو الفلاندر أو نورماندي في فرنسا قد أوقعت عددًا أكبر من الضحايا من حروب الكسندر أو نابليون أو مما أوقعته الحرب الأخيرة مع اليابان . التبرير الوحيد ( المعقول ) لتوسع أية دولة هو إقامة مملكة شاملة واحدة ستؤدي إقامتها إلى إلغاء احتمال نشوب أية حروب جديدة . لكن محاولات إقامة مثل هذه المملكة الوحيدة التي تشمل العالم سواء على يد الاسكندر الأكبر المقدوني أو الامبراطورية الرومانية أو على يد نابليون لم تحقق أبدًا هذا السلام المنشود . بل على العكس ، لقد تسببت بمصائب أعظم بكثير لجميع الشعوب . إن تحقيق السلام للجميع لا يمكن الا عن طريقة أخرى مناقضة تمامًا : هي إلغاء كل الدول و سلطتها القهرية . طالما وجدت خرافات قاسية و ضارة بالنسبة للإنسانية : القرابين البشرية ، مطاردة الساحرات و إحراقهن ، الحروب “الدينية” ، التعذيب … لكن البشر تمكنوا من تحرير أنفسهم تدريجيًا منها ، بينما ما تزال خرافة أن الدولة هي شيء مقدس ، مسيطرة على عقول البشر ، و يقدم على مذبح هذه الخرافة أكثر الضحايا و القرابين وحشية و كارثية ، ربما من أية خرافة أخرى . إن جوهر هذه الخرافة هو التالي : أنه يجري إقناع البشر الذين ينتمون لمناطق معينة أو يشتركون ببعض العادات أو المصالح ، أنهم يشكلون كلًا واحدًا لأن نفس العنف ( و القسر و الإكراه ) يمارس عليهم جميعًا ، أن يصدق هؤلاء البشر ذلك و يصبحوا فخورين “بانتمائهم” إلى “نفس” الخليط من البشر . لقد استمرت هذه الخرافة لفترة طويلة جدًا و يتم تغذيتها و المحافظة عليها بمنتهى العنف و القسوة بحيث أنه ليس فقط أولئك المستفيدون من وجود و بقاء و استمرار هذه الخلطات المصطنعة – أي الملوك ، الوزراء ، الجنرالات أو القادة العسكريين و كبار الموظفين ، يؤكدون أن وجود و بقاء و توسع نطاق هذه الخلطات المصطنعة هو أمر جيد ، بل حتى المجموعات التي تشكل هذه الخلطات قد اعتادت وجود و تكرار تلك الخرافة لدرجة أنها أصبحت تفتخر بالانتماء إلى روسيا ، فرنسا ، بريطانيا ، ألمانيا ، على الرغم من أن تبعيتها لهذه التشكيلات المصطنعة ليست ضرورية لها بأي حال من الأحوال و لا تجلب لها سوى الشرور و المصائب . لذلك ، إذا قام الناس بالتخلص من ، و إلغاء هذه الخلطات المصطنعة المتجسدة في دول كبيرة و التوقف عن الاستسلام دون مقاومة لكل أشكال العنف الممارس عليهم و توقفوا عن السمع و الطاعة للحكومات ، عندها يمكن أن يؤدي هذا إلى قهر أقل بين البشر بعضهم لبعض ، معاناة أقل و شرور أقل ، و سيصبح من الأسهل على هؤلاء البشر أن يعيشوا و ينظموا حياتهم وفق القانون الأسمى للتعاون المتبادل ، الذي تم كشفه للبشر قبل ألفي و خمسمائة عام و الذي يتغلغل أكثر فأكثر في وعيهم و إدراكهم . بالنسبة للشعب الروسي ، سواءً في المدن أو الأرياف ، و في وقت حرج كالذي نمر فيه الآن ، هو أن نعيش ، لا وفق تجارب و خبرة الآخرين و لا أفكارهم ، كلماتهم ، ليس وفقًا لديمقراطيات هؤلاء الاجتماعية أو دساتيرهم أو استيلائهم على ملكيات الآخرين أو مكاتبهم أو مندوبيهم أو مرشحيهم أو مفوضيهم ، بل أن نفكر لأنفسنا بأنفسنا ، أن نعيش حياتنا ، ان نستنبط من ماضينا ، من أصولنا الروحية ، أنماطًا جديدة من الحياة تتناسب مع ذلك الماضي و تلك الأصول.
Add Comment