Add Listing Sign In

لماذا يشارك النشطاء والمنظمات الإنسانية مشاهد قاسية للضحايا؟ ولماذا تتوجب علينا مشاهدتها؟

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان

بقلم: مها الحسيني

الناشر: المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان

إحدى أكبر “المعضلات” التي يواجهها مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي خلال وعقب كل أزمة إنسانية وكارثة طبيعية هي حجم المنشورات والمشاهد التي تُصنّف في معظمها قاسية، وينشرها ناشطون محليون ودوليون ومنظمات إغاثية وحقوقية على صفحاتهم.

وفي الحقيقة، منذ أن ظهر الإنترنت في حياتنا وبدأنا صغارًا نكتب في مواضيع التعبير الجملة “الكليشيه” التي تقول بأن “الإنترنت حوَّل العالم إلى قرية صغيرة”، لم يعد بإمكاننا امتلاك رفاهية الاختيار بين ما إذا كنا نود فعلًا مشاهدة بعض المنشورات أم لا؛ الخيار فقط متعلق بما إذا أردنا التوقف عندها أو الاستمرار بتمرير إبهامنا على الشاشة (scroll down). ثم إذا توقفنا عندها، هل سنفعل شيئًا حيالها؟ إن كان الجواب لا، إذن لنستمر بتمرير إبهامنا على الشاشة.

وأمام الشعور بالذنب تجاه عجزنا عن فعل شيء حيالها، وعدم رغبتنا في تكدير يومنا بمشاهد حزينة وسلبية، نجد المخرج الأكثر راحةً لضمائرنا؛ “هل تجب أصلًا مشاركة مشاهد كهذه لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أو الكوارث الطبيعية في المناطق المنكوبة؟” أو “هل واجب علينا نحن مشاهدتها؟”

من منطقة منكوبة، وكناجية من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان أقول لك “نعم”، من المهم أن يشارك الأفراد والمنظمات هذه المشاهد، ومن الواجب عليك أن تقف عند بعضها.

معضلة مشاركة الصدمة

تحت أي منشور يتضمن مشاهد مؤثرة لأثر انتهاكٍ لحقوق الإنسان أو كارثة طبيعية حلّت بمنطقة ما تُكتب عشرات التعليقات المنتقدة لفكرة مشاركة مشاهد مؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إما -أولًا- من منطلق الأذى النفسي الذي يمكن أن تسببه تلك المشاهد للمتابع لها، أو -ثانيًا- لتشكيكٍ في دوافع الناشر الذي يُحتمل أنه يهدف لزيادة التفاعل وأعداد المتابعين، أو -ثالثًا- لاعتقاد خاطئ بأن مشاركة صور ومنشورات مؤثرة لا يمكن أن تكون جزءًا من الحل، وبالتالي لا جدوى من نشرها وتداولها.  

“من الضروري على الصحافيين والنشطاء والمنظمات التأكد من أن المشاهد التي تتم مشاركتها للضحايا لا تعرضهم للخطر أو تنتهك خصوصيتهم وكرامتهم ” 

والحقيقة أن السبب الأول مبرر بالفعل، وقد ثبت علميًّا أثر مشاهدة مقاطع وصور صادمة على الصحة النفسية؛ حيث يمكن أن يترتب على ذلك صدمة نفسية غير مباشرة (Vicarious traumatisation)، أو القلق أو الاكتئاب أو التوتر المزمن أو الأرق. وفي أفضل الأحوال، يمكن أن يبدأ المتابع باختبار مشاعر متعلقة بحالة نفسية تسمى بـ “عقدة الناجي” (Survivor’s guilt)، وهي نوع من الشعور بالذنب يختبره أشخاص نجوا من أحداث كارثية وشهدوا وقوع أشخاصٍ آخرين ضحايا لها. وبينما طُور هذا المصطلح في بداياته في أربعينيات القرن الماضي عقب المحرقة الجماعية (الهولوكوست) بناءً على تشخيص حالاتٍ لأشخاصٍ عايشوا فعليًّا هذه الأحداث بأنفسهم ونجوا منها، فإن هذه الحالة لم تعد مقتصرة على أولئك الذين يعايشون أحداثًا صادمة بأنفسهم، فبفضل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكاننا تطوير مشاعر عقدة الناجي لمجرد متابعة مشاهد صادمة من خلف شاشات صغيرة، والشعور بالذنب كوننا نمضي في حياتنا بشكلٍ طبيعي بينما يعاني آخرون تحت القصف أو الأنقاض أو في السجون.

أما بالنسبة للناجين من تجارب صادمة سابقًا، فمن المحتمل أن تسبب لهم متابعة تلك المشاهد استرجاع ذاكرتهم للتجارب المؤلمة التي عايشوها (Flashbacks)، الأمر الذي يمكن أن يعيدهم خطوات للوراء في مرحلة التشافي.

ويمكن تمامًا تفهم محاولات الأشخاص الذين يمرون بالحالتين سابقتي الذكر الابتعاد عن متابعة الأحداث والمنشورات المؤلمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار، بل إنه من الواجب عليهم لحماية صحتهم النفسية الابتعاد لمدة محددة عن مصادر المشاهد التي تسبب لهم مضاعفات.

أما فيما يتعلق بدوافع الناشرين، فهناك بالفعل جزء من الصواب في اعتقاد البعض أن الكثير من الحسابات التي تتعمد مشاركة مشاهد صادمة ومؤثرة بشكل مستمر تهدف في الحقيقة لزيادة التفاعل وأعداد المتابعين، لا نشر الوعي بشأن معاناة الضحايا أو الدعوة إلى دعمهم. بل إن كثيرًا من الحسابات – والتي غالبًا ما تكون تابعة لصحافيين أو وكالات إعلامية- ترتكب خطأً لدى محاولتها الحصول على السبق الصحافي، من خلال بث الأخبار الصادمة وغير الدقيقة، أو من خلال انتهاك خصوصية الضحايا ممن يعبرون عن رفض واضح (شفهيًّا أو إيمائيًّا) لأن يتم تصويرهم أو إجراء مقابلات معهم.

حاجة الضحية لأن تُسمع وتُرى

مع أهمية أخذ الحالات المذكورة بعين الاعتبار، إلا أن التجارب السابقة والواقع على الأرض يحتمان التعامل معها ومعالجتها كحالات فردية، لا كقاعدة عامة في الاستجابة للكوارث والأزمات الإنسانية. فمعالجة معضلات مثل التأثر العميق وبعيد المدى لبعض الأشخاص بالمشاهد المحزنة يمكن أن يُحل بابتعاد هؤلاء عن مصادر تلك المشاهد، لا بتوقف تلك المصادر عن بثها ومشاركتها على نطاق واسع.

فخلال وعقب الأزمات الإنسانية، يحتاج الضحايا للشعور بأنهم غير منعزلين عن العالم، وأن الجميع يعي ويفهم مدى الألم الذي يمرون به من خلال إدراكهم لواقع الأزمة.

في مقابلات ميدانية أجراها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان مع عشرات الناجين الفلسطينيين من الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة صيف عام 2014، سُئل عدد من سكان المناطق المستهدفة عن أكثر ما آلمهم وسبب لهم الصدمة خلال وبعد الهجوم، فكان جواب عدد كبير منهم أنهم شعروا بأنهم منعزلون ومنسيّون، وأن العالم تركهم وحيدين يواجهون “ظلمًا ومعاناة لا يمكن تخيلها”.

والحقيقة أن أضعف درجات الدعم والمؤازرة يمكن أن يقدمها الآخر من خلال “تخيل” حجم المعاناة وحسب. دون أن يفعل شيئًا آخر في بعض الحالات، كل ما في الأمر أن يتخيل فقط! أن يبدي للشخص الواقع عليه الظلم أنه يشعر بما يمر به، ويمكنه تصور الألم المهول الذي يمر به، ونقل شعوره بالحزن لأجل ما يختبره من ألم.

وفي القرن الواحد والعشرين، لا شيء يمكن أن يوصل حجم معاناة فرد أو جماعة بقدر توظيف التكنولوجيا في نقل الصوت والصورة، وفي إيصال صوت الضحايا بدلًا من الإخبار عنهم.

ولا عجب في أن أغلب الصحافيين الذين يذهبون إلى المناطق المنكوبة بهدف التغطية الصحافية يجدون أنفسهم محاطين -لدى إجرائهم مقابلة صحافية أو تلفزيونية مع شخص واحد- بعشرات الأشخاص الآخرين الذين يلتفون حول الكاميرا أو الطاقم الإعلامي، محاولين الحديث كلٌّ منهم عن معاناته الخاصة، ليجدوا بذلك فرصة لكسر شعورهم بالعزلة، وعرض واقعهم المؤلم للعالم، وهو جزء من محاولة التفريغ وطلب التعاطف والإسناد.

مع ذلك، فإنه من الضروري على الصحافيين والنشطاء والمنظمات مراعاة أخلاقيات المهنة حتى في أصعب الأوقات، من خلال بذل جهود التحقق، والتأكد من أن الصور والمشاهد والأخبار التي تتم مشاركتها للضحايا لا تعرضهم للخطر أو تنتهك خصوصيتهم وكرامتهم أو تسبب لهم الوصمة أو تعرضهم للاستغلال بأي شكل من الأشكال. في جميع الأحوال، تبقى السلامة النفسية والجسدية للضحية أعلى سلم الأولويات.

الفعل المترتب على التعاطف

في تجربة علمية أجراها الأستاذ المشارك في قسم علم النفس والعلوم السلوكية بجامعة آرهوس في الدنمارك “ستيفان فاثايكر”(Stefan Pfattheicher) مع باحثين آخرين عام 2019، قُدمت للمشاركين قصة رجل سبعيني يدعى “جورج”، لديه إصابة في كتفه تسبب له ألمًا كبيرًا. خلال مدة التجربة، قُسم المشاركون إلى مجموعتين، إحداهما أُخبر أعضاؤها بأن عليهم أن يفكروا بعمق ويتخيلوا حجم الألم الذي يعانيه “جورج”، وتم توجيههم ومساعدتهم ليطوروا مشاعر تعاطف تجاه “جورج” خلال قراءتهم قصته، فيما أُخبر أعضاء المجموعة الثانية أن يقرأوا القصة بشكل موضوعي دون تكوين مشاعر، وتم توجيههم ومساعدتهم ليبقوا منفصلين عنها عاطفيًّا.

بعد تأكد الباحثين من أن أعضاء المجموعة الأولى طوّروا مشاعر تعاطف عميقة تجاه “جورج” فيما بقي أعضاء المجموعة الثانية غير متأثرين بمعاناته، وجه الباحثون أعضاء المجموعتين لقراءة بقية القصة، والتي تتضمن تفاصيل عن أن كتفه تعرض للإصابة بعد أن اصطدم به شاب بشكل متعمد ليوقعه أرضًا ويتسبب له بالأذى.

المشاركون في المجموعة الأولى (الذين طوروا مشاعر تعاطف) قالوا إنهم شعروا بالغضب تجاه الشاب، الأمر الذي دفعهم ليؤيدوا عبارات مثل “أريد أن ألقّن هذا الشاب درسًا” و “أريد أن يُعاقب هذا الشاب بشدة”، فيما لم يُبدِ أعضاء المجموعة الثانية (الذين بقوا منفصلين عاطفيًّا) اهتمامًا مشابهًا بضرورة معاقبة أو محاسبة الشاب المتسبب بالإصابة. وقد أجرى الباحثون تجارب مشابهة لقصص متعلقة بالهجمات الإرهابية والاعتداء الجنسي واغتصاب الأطفال والحرب، وخلصوا إلى النتيجة ذاتها في كل تجربة؛ أن التعاطف يحفز عمليًّا رغبة الطرف الثالث (المتابع للحدث) بمعاقبة مرتكب الجريمة.

وعلى غرار “فاثايكر”، فإن عالمة الأعصاب “إيميليانا سايمون توماس” (Emiliana Simon-Thomas) ترى أن “التعاطف مع معاناة الضحايا يقود إلى الرغبة في تصحيح الأخطاء ]الواقعة بحقهم[، الأمر الذي يلعب دورًا مهمًا في ]تحقيق[ العدالة”

والتعاطف الذي تحدث عنه الباحثون هو ذلك الذي يتضمن الرغبة بالمساعدة (Compassion) وهو درجة أعلى من التعاطف الذي يقتصر على الدراية بألم الآخر (Empathy)، ولا يُمكن الوصول إلى الدرجة الأعلى من التعاطف دون إحداث “هزّة عاطفية” لدى الطرف الثالث، الذي يجب أن يعي ويفهم ويشعر بمدى الألم الذي يشعر به الآخر، حتى وإن سبب له ذلك ألمًا نفسيًّا قصير المدى.

في العمل الحقوقي والإغاثي والصحافي، يفعل النشطاء والصحافيون شيئًا مشابهًا لما فعله الباحثون في تجربتهم عن تفاعل المشاركين مع قصة “جورج”. فإحدى أولى مراحل تحقيق العدالة للضحايا تبدأ من توثيق الانتهاك/الظلم الواقع بحقهم، ثم التعبئة والضغط والمناصرة الموجهين إلى الطرف الثالث (المتابع أو صانع القرار)، لتحريكه عاطفيًّا بهدف التمهيد لتحفيز رغبته بفعل شيء ما حيال الأمر. وكون الضغط والمناصرة عملية تراكمية تعتمد على توظيف كافة الأدوات المتاحة والمعطيات لإحداث أكبر تأثير، وللتحفيز باتجاه اتخاذ إجراءات تجاه الظلم الواقع، فإنها تستفيد من إحدى أكثر الحقائق بساطة وبدائيّة؛ أن الإنسان مخلوق عاطفي بطبعه.

على سبيل المثال، بعد كارثة زلزال تركيا وسوريا قبل أيام، والذي تسبب بوقوع عشرات الآلاف من الضحايا، عمدت المجموعات الإغاثية إلى جانب الصحافيين والنشطاء الميدانيين إلى توثيق ونشر مئات المقاطع التي صورت حجم الخسائر في الأرواح البشرية، ومدى الألم الذي مرّ به الضحايا وذووهم، الأمر الذي دفع بمئات آلاف الأشخاص حول العالم للمساندة (عمليًّا) من خلال إرسال عشرات الملايين من الدولارات للمناطق المنكوبة، والتبرع فرديًّا وجماعيًّا عبر نداءات الطوارئ التي أطلقتها فرق البحث والإنقاذ هناك.

لم تكن الغالبية العظمى من هؤلاء ليتخذوا قرارًا بإخراج بطاقاتهم البنكية من جيوبهم وتعبئة بياناتها في صفحات التبرع لإرسال مبالغ مالية ومساعدة الضحايا لولا أن حصلت لديهم “هزة عاطفية” ناتجة عن متابعتهم للمشاهد والصور المؤثرة التي نُشرت عن هؤلاء. ورغم أن تلك “الهزة” سببت لهم ألمًا نفسيًّا قصير المدى (بعض الحالات ستتأثر على المدى الأبعد)، إلا أنه ترتب عليها مساعدة ودعمًا لأشخاص يعيشون كارثة حقيقية ويختبرون معاناة أعمق تأثيرًا على الصعيد الجسدي والنفسي والمادي.

لذلك، فإن جزءًا مهمًا وأوليًّا من العملية المؤدية لمساعدة وإنصاف الضحايا هو رفع الوعي (والإحساس) بشأن ألمهم ومعاناتهم، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بمعايشة هذا الألم.

والشعور بمعاناة الآخر دون القدرة على مساعدته ماديًّا أو معنويًّا بشكلٍ مباشر لا يجب أن يشكل ثقلًا أو عبئًا على المتابع فيدفعه للهرب من الاطلاع على واقع معاناته. من الطبيعي ألا يمتلك الجميع القدرة على المساعدة، ومن المقبول أن يكون أحيانًا كل ما يمكن تقديمه هو التعاطف مع الضحية وحسب، أو كما قال “نكوسي جونسون” (Nkosi Johnson)، (طفل جنوب أفريقي توفي بعمر 12 عامًا بسبب فيروس العوز المناعي البشري وفقد المناعة المكتسبة)، المهم أن “تفعل ما تستطيع، بالإمكانات المتوفرة لديك، في المكان الذي أنت فيه، وفي الوقت الذي تملكه”

للاطلاع على المقال كاملاً

Prev Post
دعوة للتقديم: برنامج “ع الأرض”
Next Post
توريث المرأة في سورية ما بين القانون والتقاليد والواقع

Add Comment

Your email is safe with us.

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

Application for registration on Rawabet

X