بقلم: أسعد العشي
جهة النشر: مركز مالكوم كير-كارنيغي
مقدّمة
أدّت انتفاضة العام 2011 ضد النظام السوري وما تلاها من انزلاق البلاد إلى أتون حرب أهلية، إلى بروز ظاهرة كانت غير معروفة نسبياً في سورية. إذ بعد نصف قرن تقريباً من الحكم السلطوي لآل الأسد ومعه مروحة من أجهزة الأمن، سُمِحَ للعديد من اللاعبين السوريين السياسيين والعسكريين والمدنيين بتحدّي الدولة.
وهكذا، لعبت مجموعات من المجتمع المدني السوري دوراً رئيساً في تغيير الأمر الواقع. ومن خلال تبنّيها لرؤية مختلفة لسورية وتقلّدها مسؤوليات في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة التي كانت تخضع عادة إلى سلطة الدولة، كقطاع الخدمات، استطاعت هذه المجموعات طرح نفسها كبديل مُستقل عن الحكم الذي عاشته سورية في ظل حزب البعث.
لكن، وبعد أن أجبر النزاع المعارضة على السعي إلى الحصول على دعم خارجي ضد نظام الأسد للحفاظ على الأراضي التي يُسيطر عليها المتمردون، جرى استتباعها بالتدريج للقوى الإقليمية والدولية. برز هذا التطور أولاً لدى الأطراف السياسية والعسكرية في المعارضة، فيما بقي ناشطو المجتمع المدني مُستقلين لبرهة أطول. بيد أن هذا تبدّل حين بدأ الناشطون يصبحون بالتدريج مُزودين للخدمات عبر منظمات غير حكومية تموّلها بلدان أجنبية، وأضحوا أداة تنفيذ لأجندات هذه الدول، فخسروا استقلاليتهم. لذا، بات المجتمع المدني في موضع أكثر ضعفاً بكثير مما كان عليه في المرحلة المبكرّة من الانتفاضة. والأهم أنه لم يعد يُعتبر تجسيداً للهوية الوطنية السورية.
تدويل المعارضة العسكرية والسياسية
برزت الحركات الاجتماعية المُطالبة بالحريات المدنية كطليعة للانتفاضة في آذار/مارس 2011. وحين نضع في الاعتبار مدى القمع الذي تعرّض له المجتمع المدني قبل 2011، لن يكون مفاجئاً أن نجد العديد من المجموعات والناشطين يُقاربون الانتفاضة بكونها فرصة جُلّى لممارسة حقهم الذي لطالما انتظروه، وهو تشكيل مستقبل سورية. بيد أن الحملة الوحشية للحكومة السورية ضد الاحتجاجات خلال العام 2011، أسفرت عن تحويل حركة المعارضة التي كانت سلمية في غالبيتها إلى حركة مسلّحة. ومع انزلاق الانتفاضة إلى لجج الحرب، باتت هيئات المجتمع المدني في المقاعدالخلفية قياساً بالأوجه العسكرية والسياسية لحملة المعارضة التي سقطت سريعاً في حضن النفوذ الأجنبي.
حينها، ظهرت مئات الشبكات والروابط والمنظمات. بعضها كان ذا هياكل فضفاضة، في طول سورية وعرضها إبّان المرحلة الأولّية من الانتفاضة، فيما البعض الأخر كان بقيادة ناشطين معارضين مُخضرمين. إلا أن الغالبية منها تأسّست على أيدي ناشطين شبان غير حائزين على أي خبرة تنظيمية. قبل ذلك، كانت هذه المجموعات تركّز أساساً على تنظيم حركة الاحتجاج، ومحاولة جذب الاهتمام الدولي لما يحدث داخل سورية.
ظهرت مئات الشبكات والروابط والمنظمات، بعضها كان ذا هياكل فضفاضة، في طول سورية وعرضها إبّان المرحلة الأولّية من الانتفاضة، فيما البعض الآخر كان بقيادة ناشطين معارضين مُخضرمين. إلا أن الغالبية منها تأسّست على أيدي ناشطين شبان غير حائزين على أي خبرة تنظيمية.
مع تعزّز مواقع هذه الحركة المعقّدة إبان الأشهر الأربعة الأولى من الانتفاضة، بدأت تتبلور أكثر فأكثر في ثلاث مجموعات رئيسة: لجان التنسيق المحلية في سورية بقيادة رزان زيتونة ومازن درويش؛ والهيئة العامة لقيادة الثورة، بقيادة سهير أتاسي ونضال درويش؛ والمجلس الأعلى لقيادة الثورة، بقيادة عماد الدين رشيد وواصل الشمالي. وقد انضمّ أعضاء هذه المجموعات، أو دعموا بشكل غير مباشر، الهيئة الجامعة للمعارضة السوريةوهي المجلس الوطني السوري.
توضح حالتا الهيئة العامة لقيادة الثورة والمجلس الأعلى لقيادة الثورة بالاستقلالية قصة الاستقلالية قصيرة العمر للمعارضة المسلحة في سورية. ففي العام 2012، دعمت الهيئة العامة الجماعة المسلّحة الأولى في سورية: كتائب الفاروق التي نشطت أساساً في مدينة حمص وضواحيها. ثم ألقت الهيئة بثقلها وراء فصائل أخرى مسلحة محلية كانت مهمتها في المراحل الأولى من النزاع حماية المناطق المرتبطة بالمعارضة ضد الجيش السوري. أما المجلس الأعلى لقيادة الثورة، فقد اعتمد أساساً على المُنشقّين عن الجيش السوري بهدف تشكيل مجالس عسكرية عبر سورية. كان مطيع البطين هو الذي يقوم بتنسيق الجهود العسكرية للمجلس الأعلى، وكان أهم هذه المجالس، المجلس العسكري في درعا، والمجلس العسكري لدمشق وريفها.
بيد أن الهيئة العامة والمجلس الأعلى أدركا العام 2012 أنهما في حاجة إلى رعاة لمواصلة جهودهما العسكرية.1 فقد بدأت الذخائر بالتناقص، وكانت الأسلحة إما قليلة أو فاسدة. كما تفاقمت الفواتير الطبية، ولم تكن التبرعات من المجتمعات المحلية كافية لتمويل المشتريات العسكرية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2012، انتقل نضال درويش، المنسّق العسكري في الهيئة العامة لقيادة الثورة إلى الدوحة لتمثيل الهيئة في تشكيل الائتلاف الوطني السوري المعارض ولحشد الدعم القطري لكتائب الفاروق والفصائل المحلية الأخرى العاملة في محافظتي إدلب وحماه. ونظراً إلى روابطه مع عناصر الجيش السوري السابقين الذين انشقّوا وأخذوا معهم الذخائر والأسلحة، تمتع المجلس الأعلى بوضعية أفضل قليلاً لمعالجة نقص الإمدادات. كان البطين قد انضم إلى المجلس الوطني السوري في كانون الأول/ديسمبر 2011 وأصبح عضواً في المكتب التنفيذي فيه. لكن في العام 2013، كان المجلس الأعلى يجهد لجمع مايكفي من الأموال عبر المجلس الوطني للحفاظ على نشاطاته العسكرية. وهذا دفعه إلى الاتصال برعاة أجانب، كانوا أساساً الشبكات السلفية في منطقة الخليج، لسد الثغرات في التمويل.
في هذه الأثناء، كان المجتمع الدولي (وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وبلدان الخليج) يحاول تنظيم الدعم العسكري للمتمردين، خاصة بعد أن استولوا على نصف مدينة حلب العام 2012. وقد أُقيمت غرفتا عمليات أساسيتان لتنسيق الجهود العسكرية هما: مركز العمليات العسكرية، ومقرّه في تركيا، وكان مسؤولاً عن شمال سورية، ومركز العمليات العسكرية في الأردن، الذي كان يركّز على جنوب سورية. أما المجلس العسكري في درعا فقد مضى قُدُماً ليكون عنصراً من عناصر الجبهة الجنوبية، وهي تحالف من الجماعات المتمردة التي تنشط في محافظات درعا والسويداء والقنيطرة.
على الرغم من دعم البلدان الغربية، بدأ توجّه الجماعات المسلحة نحو تبنّي الإيديولوجيات الإسلامية يتّضح للعيان على نحو مطّرد. ففي خضم تنافسها على التمويل، أعادت الجماعات ربط نفسها بمراجع إسلامية أكثر إيديولوجية، تماشياً مع النزعة الإسلامية المُتشددة في قطر والسعودية والإمارات. وهذا مكّن الفصائل الإسلامية الأكثر تطرّفاً في المعارضة من البروز أكثر على حساب نظرائها الأقل دوغماتية. على سبيل المثال، كانت الجماعات الإسلامية العاملة حول العاصمة، على غرار جيش الإسلام وحركة أحرار الشام، تستوعب ببطء وبالتدريج المجلس العسكري لمحافظة دمشق.
قاوم الجناح السياسي في حركة المعارضة الاصطفاف مباشرةً مع الداعمين الدوليين لفترة أطول قليلاً من المعارضة العسكرية، أساساً بسبب تنوّع مصادر تمويله وموازناته الصغيرة عموماً، لكنه أصبح في خاتمة المطاف متأثرّاً بنفوذ القوى الأجنبية. وهكذا، بدأ المجلس الوطني، الذي كان حامل شعلة المعارضة، يخسر نفوذه مع المجتمع الدولي، بعد أن تبنّى مواقف قصوى، رافضاً بيان جنيف الأول في حزيران/يونيو 2012 الذي كان مُحصّلة المؤتمر الذي رعته الأمم المتحدة لإطلاق عملية انتقالية في سورية. وهذا أدى إلى تناقص التمويل الذي كان متدفقاً من داعمي المعارضة السعودية والإمارات.2 لاحقاً، أدى صعود الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي أصبح يدعى الائتلاف الوطني السوري، إلى كسوف نجم المجلس الوطني.
سرعان ما اتضح لاحقاً أن الائتلاف الوطني خاضعٌ أيضاً للدعم، وبالتالي للنفوذ، الدولي. وقد اعترفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ومعظم دول الخليج وعشرات الدول الأخرى بالائتلاف بكونه الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري في كانون الاول/ديسمبر 2012 خلال المؤتمر الرابع لأصدقاء الشعب السوري في مراكش، وأسبغت بعض البلدان وضعية البعثة الأجنبية على المكاتب التمثيلية لهذه الهيئة. وعلى رغم أن تنوّع عضوية الائتلاف ضمنت شكلاً من أشكال الاستقلالية في البداية، إلا أنه تحوّل لاحقاً إلى أطراف متباينة بسبب ارتباط العديد من أعضائه بمختلف الدول الداعمة للمعارضة السياسية. هذه الأطراف أصبحت مُمثّلة للمصالح والاجندات المتضاربة للداعمين. ففي الجمعيات العامة للائتلاف، كان الموفدون الدوليون يتشاورون في الكواليس مع وكلائهم السوريين ويستخدمونهم للتأثير على نتائج الاجتماعات. وهكذا، تم التنازل للقوى الخارجية عن القرارات الكبرى المتعلّقة بحضور أو مقاطعة المفاوضات.
بعدها، تكرّس البعد الدولي في المعارضة السياسية السورية خلال مؤتمري الرياض 1 (كانون الأول/ديسمبر 2015) والرياض 2 (تشرين الأول/نوفمبر 2017). كانت هذه المداولات تسعى إلى توحيد المعارضة السورية وزيادة شموليتها للجميع، من خلال إضافة مُستقلين ومُمثلين للجماعات المسلّحة ومنصات معارضة مختلفة إلى الائتلاف. شهد مؤتمر الرياض 1 أيضاً تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات السورية التي كان الهدف منها العمل كمفاوض رئيس مع النظام السوري خلال محادثات السلام. بيد أن القرار بضم مجموعات المعارضة التي تتخذ من القاهرة وموسكو مقراً لها (والتي شُكّلت لتمثيل أجندات داعميها المصريين والروس)، أدى إلى ضعضعة الاستقلالية السورية على نحو مطّرد.
تمثّلت حصيلة كل ذلك في تحوّل القوى العالمية والإقليمية إلى الصانعة النهائية للقرارات في سورية على حساب المعارضة السورية. إذ اجتذب النزاع تدخلات العديد من الدول والأطراف غير الدُولتية في مجالات التمويل والدعم المادي لكلٍ من الحكومة والمعارضة على حد سواء. كان التدخّل العسكري الروسي في البلاد لصالح نظام الأسد في أيلول/سبتمبر 2015 هو الذي كرّس هذا المنحى. ومع تقدّم روسيا الصفوف نحو تسنّم صنع القرار الرئيس على الصعيد الحكومي، تحرّكت الأطراف المنافسة للتفاوض باسم المعارضة السورية، وتُوّج هذا الاستتباع الدولي بما جرى في مؤتمري الأستانة (كانون الثاني/يناير 2017) وسوتشي (شباط/فبراير 2018) حيث أصبحت تركيا وإيران وروسيا ضامنة الاتفاقات المحلية “لوقف إطلاق النار”. كما عيّنت أو رفضت هذه البلدان، بمساعدة الأمم المتحدة، أعضاء اللجنة الدستورية السورية التي شُكِّلت في أيلول/سبتمبر 2019 وضمّت ممثلين عن كل من المعارضة والحكومة السورية والمجتمع المدني.
من الحراك الاجتماعي وتعبئة المجتمعات المحلية، إلى المنظمات غير الحكومية
ركّز المجتمع المدني في بداية الانتفاضة على ترقية الحقوق المدنية والإنسانية في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، وكذلك الحلول مكان الدولة السورية الغائبة لضمان توفير الخدمات الضرورية. بيد أن الأحداث تطوّرت إلى صراع عسكري أساساً، وتجنّبت لجان التنسيق المحلية الانخراط في معمعة الصراع المسلح والسياسات العليا للمعارضة، وهذا على عكس ما فعلت الهيئة العامة لقيادة الثورة والمجلس الأعلى لقيادة الثورة. وهكذا، أظهر المجتمع المدني في البدء ممانعة أكثر ضد النفوذ والتدخلات الأجنبية. بيد أن استقلاليته أضحت بالتدريج موضع شك بعد أن تحوّل الناشطون والشبكات إلى دور مُوفّري خدمات، من خلال المنظمات غير الحكومية التي تمولّها بلدان خارجية. ومثل هذا الاعتماد جعلها تصبح في نهاية المطاف مجرد أداة تنفيذية لخدمة أجندات المُمولين.
في مطالع النزاع، وفيما كانت سورية تتشظى إلى أراضٍ تسيطر عليها الحكومة وأخرى تحت هيمنة المعارضة، أطلق المجتمع المدني مبادرات تستهدف ترقية حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، تراوحت بين توثيق الخروقات لهذه الحقوق وبين إدارة ورش لنشر مُثُلْ تحقيق السلام والعدالة الانتقالية. وفي وقت لاحق، ستصبح منظمات حقوق إنسان- على غرار الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومركز توثيق الانتهاكات في سورية والمركز السوري للعدالة والمساءلة- شريكة مع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ولجنة التحقيق حول سورية، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة حول سورية، وذلك في مسعى لكشف الخروقات التي ارتكبت خلال النزاع ومساءلة مرتكبيها. وفي هذه الأثناء، أدى تركيز عمل المنظمات على تمكين المرأة إلى تكاثر المراكز النسوية في كل أنحاء سورية. وهذا سمح للنساء بأن يكنّ أكثر اطلاعاًوحصولاً على الخدمات، وأيضاً أكثر انخراطاً في المجتمع، وتسنّمت بعض النسوة في هذه المراكز أدواراً عامة في مختلف مستويات الحوكمة المحلية. على سبيل المثال، أصبحت رئيسة مركز المرأة في حاس، بمحافظة إدلب، عضواً في المجلس المحلي للبلدة.
علاوةً على ذلك، عملت منظمات المجتمع المحلي مع مجالس الإدارة المحلية وهيئات شبه حكومية أخرى على توفير الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. ومن خلال تعزيز صمود السكان، أصبحت لجان التنسيق المحلية لاعباً رئيساً في مشاريع الاستقرار والتعافي المبكّرة. فحتى أواسط 2012، كانت هذه اللجان إما مموّلة ذاتياً أو مدعومة مالياً من مواطنين في سورية. كما شملت مصادر أخرى لتمويل جهود الإغاثة هذه الجمعيات الخيرية الاسلامية المحلية التي كانت تجمع المال في المساجد خلال صلاة الجمعة.
بدأت معالم استتباع اللاعبين الدوليين للمجتمع المحلي بالظهور مع تدفق الأموال على جهود الإغاثة، جنباً إلى جنب مع الدعم الخارجي لجهود المعارضة العسكرية. ففي صيف 2012، جمعت الحكومة القطرية 350 مليون دولار في داخل بلادها في حملة “كلنا الشام”. وقد حاولت لجان التنسيق والهيئة العامة لقيادة الثورة والمجلس الأعلى لقيادة الثورة الحصول على جزء من هذه الكعكة، على رغم أن اللجان تراجعت في اللحظة الأخيرة لتجنّب تسييس المساعدات. خلال هذه الفترة، أصبحت الهيئة العامة لقيادة الثورة والمنتدى السوري (وهو صندوق أسسّه رجل الأعمال السوري مصطفى صباغ لدعم الانتفاضة) الطرف المحلي المولَج به توزيع المساعدات القطرية في داخل سورية.
في هذه الأثناء، أضافت عسكرة الانتفاضة عامل الإلحاح على قضايا الإغاثة والمسائل الإنسانية، ما شكّل تحدّياً للمهمة التأسيسية للمجتمع المدني المُتمثلّة بترقية الحرية والعدالة. فمع التشظي المتزايد للمعارضة العسكرية السورية وغرقها في لجج الفوضى وسيطرة التطرّف عليها، بات من الصعب على المجتمع المدني مواصلة العمل وفقاً لرؤية إقامة دولة ديمقراطية مستقبلية شاملة للجميع. ورداً على تقلّص فضاء العمل العام المُستقل، وكذلك تفاقم تدهور الأوضاع الإنسانية، تحوّلت اللجان على نحو متزايد نحو صب جهودها على قضايا الخدمات غير السياسية.
عزّز المانحون الدوليون توجّه الناشطين لتشكيل المنظمات غير الحكومية أو الانضمام إليها. فبعد أن فشلت الدول على نحو متزايد في توفير الدعم المؤسسي الدولي الموعود لائتلاف المعارضة السورية، قرر العديد من الحكومات بدلاً من ذلك التركيز على الإغاثة الإنسانية. في الغالب، كانت الحكومات تبحث عن شركاء محليين تنفيذيين، ووجدتهم في مبادرات ومنظمات المجتمع المدني. وعلى الرغم من أن هذه الجهود كانت بلا ريب مفيدة في العديد من المجالات خلال بعض المراحل الأصعب من النزاع، إلا أنها عزّزت التوجّه الخيري والإنساني لمنظمات المجتمع المدني بعيداً عن دورها الأوّلي كمعبّئ للمجتمع وكقائد لحركة المعارضة.
بعد أن فشلت الدول على نحو متزايد في توفير الدعم المؤسسي الدولي الموعود لائتلاف المعارضة السورية، قرّر العديد من الحكومات بدلاً من ذلك التركيز على الإغاثة الإنسانية.
وبالتالي، أصبحت المنظمات غير الحكومية السورية مزوّد الخدمات العامة في كل ماكانت الحكومة تقدّمه في حقبة ماقبل الحرب. وهذا شمل الصحة، والتعليم، وتوزيع المواد الغذائية، وأيضاً الماء، والمرافق الصحية، والنظافة والملاذات للنازحين. وأسّست وأدارت منظمات طبية غير حكومية، مثل الجمعية الطبية السورية الأميركية، والاتحاد الفرنسي لمنظمات الإغاثة، مستشفيات ونظّمت النظام الصحي. وسعت منظمات أخرى، كمنظمة “القلب الكبير”، مقرها في الولايات المتحدة، أو المنظمة المدعومة قطرياً “احسان للإغاثة والتنمية”، إلى توفير المواد الغذائية عبر افتتاح المخابز وإدارتها. كما تطوّرت هياكل دعم واسعة للمنظمات غير الحكومية السورية والدولية في تركيا والأردن ولبنان لتعزيز عمليات الإغاثة، وأصبحت هذه المنظمات أرباب عمل رئيسة في مناطق خارج سيطرة النظام، وبالتالي ساهمت بشكل مباشر في توفير الأوضاع المعيشية المحلية.3
وفّر اعتماد المنظمات غير الحكومية السورية على المانحين الأجانب لتمويل عملياتها الفرصة للدول الخارجية لزيادة نفوذها في السياسات التي يتم تبنّيها. وقد حالت فوضى الأدوار واندفاعة مزودي الخدمات المحلية دون تمكّن المجالس المحلية من فرض سلطتها التامة على الحوكمة. وهذا أفرز تحدّياً لسلطة وشرعية السلطات المحلية السياسية والعسكرية، وأسفر عن نشوب صراع بينهما وبين المنظمات غير الحكومية. والواقع أن هذه الأخيرة كانت دوماً أفضل تمويلاً وأكثر استقرارا من المجالس المحلية. إضافة إلى ذلك، أصبحت المنظمات غير الحكومية، بوصفها المُتلقّية والموزّعة للمساعدات، قوى سياسية على الصعيد المحلي. ففي القطاع التعليمي، مثلاً، تعاطى المانحون مباشرة مع منظمات تستند إلى المجتمعات المحلية لإدارة المدارس، ما قوّض شرعية مديريات التعليم التي شكّلتها سلطات المعارضة وحدّت من قدرتها على فرض المعايير والتنظيمات التعليمية.
أصبحت المنظمات غير الحكومية السورية، بفعل فقدان المنظمات الدولية المداخل على الأرض، هي قنوات الأجندات المحلية المتنافسة. وقد أدى تشكيل مافيات المساعدات التي أفادت من تدفّق الأموال الإنسانية إلى تنفير بعض المجتمعات المحلية. إذ باتت المساعدات لهذه المجتمعات مرتبطة على نحو متزايد بمدى الولاء لأجندات مافيات المساعدات التي تشكّلت أساساً من عائلات محلية نافذة يحرّكها الجشع او السياسيات أو الإيديولوجيا. على سبيل المثال، كان للمجموعات التي تموّلها دول أو منظمات خليجية أجندات أكثر إسلامية، فيما المنظمات التي تحظى بتمويل بلدان او هيئات غربية تبنّت توجهاً أكثر علمانية. وقد بدأت المنظمات المدعومة خليجياً بوضع التعاليم والمراجع الإسلامية في سلال المواد الغذائية، فيما كانت المنظمات الأكثر علمانية تنشر أفكارها من خلال حملات المناصرة غير المباشرة أو عبر الرسوم والنقوش. وهكذا، شهدت المنظمات غير الحكومية السورية عملية تسييس واضحة لا جدال فيها انبثقت من مصادر وأجندات المُمولين.
خاتمة
يتعيّن أن يكون الهدف الرئيس للمجتمع المدني تبنّي ونصرة أعلى مراتب الالتزام بحقوق الإنسان. وهذه المهمة وازنة على وجه الخصوص خلال النزاع، لأن الالتزام بهذه المُثُل يمكن أن يساعد على منع تمزّق النسيج الاجتماعي. بيد أن تغيّر التركيز الذي طرأ على المساعدات الإنسانية وتوفير الخدمات أدى إلى تآكل قدرة المجتمع المدني على انتهاج توجّه له تأثيرات طويلة الأمد على المجتمعات المحلية. وهذا ربما لن يكون مفاجئاً حين نضع في الاعتبار صعوبة تعبئة الناس حول قضايا مثل الديمقراطية، والحوكمة الحميدة، وحقوق الإنسان، فيما يفتقد هؤلاء إلى الحاجيات الأساسية كالماء والمواد الغذائية والمأوى والأمن. وعلى أي حال، تقلّص الدعم المالي لهذه الجهود حين أصبحت الجماعات المسلحة في مساحات شاسعة من الأراضي السورية أكثر راديكالية.
بعد أن تحوّل الناشطون إلى موظفين لدى المنظمات غير الحكومية، باتوا لا يظهرون أو يتكلمون سوى لماما، وبالتالي خسرت المجتمعات المحلية نقاط مرجعيتها داخل حركة المجتمع المدني. كما أثّر صعود نجم قادة جدد سلباً على المجتمع المدني، بسبب الافتقاد إلى المُرشدين والناصحين الذين إما لم يعودوا داخل البلاد أو استسلموا لإغراء العمل المرُبح في المنظمات غير الحكومية. علاوة على ذلك، عملت أجندات المانحين على ترسيخ الانقسامات الطائفية والإثنية، في الوقت نفسه الذي كان تسييس المساعدات يساهم في بروز التظلمات المحلية ويولّد ثقافة الاتكالية. وفي هذه الأثناء، كانت القدرة السابقة للمجتمع المدني على بناء الجسور والروابط بين المجتمعات المحلية تتبدّد هباء منثورا.
والآن، فيما يُعزّز نظام الأسد سلطته وسيطرته على الأراضي، يحُتمل أن يتواصل تدهور نفوذ المجتمع المدني. لكن، يمكن عكس هذا المنحى من خلال جهود منسّقة ومؤسساتية ومتواصلة على مستوى القواعد، بهدف إعادة تعريف المجتمع المدني واستئناف التركيز على دوره في إطار أولويات يقودها سوريون.
أضف تعليق