Add Listing Sign In

عن الحزن إذ يصير ترفاً سوريّاً

أريد أن أهرول. تجتاحني رغبة جامحة بالجري، فالسكون الذي أعيشه الآن مليء بالقلق، وحين أركض لا أجد مستقراً آمناً أتمنى الوقوف عنده، فأنا الذي تعبت من السفر، تعبت كذلك من المحطات، وما زلت أرغب بالجري..

أفكر كثيراً: إلى أين؟ وما هو المشتهى؟ فأتذكر من أنا، من أين أتيت، وكيف خلصت حكايتي إلى ما أنا فيه…أختار أجمل المآسي وأقربها إلى قلبي، أفتش في تفاصيلها، وأستمتع بحزني الذي يزينها ببعض البهاء.

أفهم أن هذا قد يبدو غريباً، وأن مديح الحزن ليس شائعاً، لكنني لا أمدحه بسبب حبي له، بل لاصطفائي له من بين الذكريات التي يبدو أن الحزن أبهاها..

أردت أن أوثق علاقتي معه، هي ليست علاقة بين شخص والحزن، بل بين «مواطن» وهويته وتاريخه، وتجربته، والحزن.

في درب التوثيق ما زلت أكتب ثم أمحو كما لو أنني لم أجرب الكتابة من قبل، إنها رغبة كبرى بالاستسلام، وبرغم ذلك أقول لنفسي: هذه ليست المرة الأولى التي نعاند فيها رغباتنا، لا بأس من المحاولة مجدداً.. ولكن حزناً فائضاً يدور حولي، لا يطرق الباب، ولا يطل من النوافذ عليّ، بل يطل من نوافذ منزلي إلى الخارج، فهو جزء من عائلتي، ليس غريباً ولا مريباً.

أذكر أنني قلت بحماس لصديق: «سأكتب عن علاقة السوري بالحزن». 

ثم أسهبت: «فلنقل إن السوري يحب ذاكرة مرتبطة بسوريا، أليست معظم ذكرياته القريبة مع سوريا حزينة؟ إذا وافقنا على هذه الفرضية سنجده الآن أمام خيارين: إما أن يخونها وينساها فيتخلص من حزنه المرتبط بها، أو أن يتذكرها فيحزن، وبالتالي فهو يحن إلى الحزن لأنه ذاكرته التي يحب، وهكذا سيتمنى لو كان يعرف مكانه الآن ليهرول إليه، ويفهم ما عناه مظفر النواب جيداً:
«يا حزن يا ريت اعرفك وين تسكن / كنت أقلك لا تجيني وتمشي كل هاي المسافة.. أنا وحدي كنت اجيتك»..

هي ذكرياتنا التي لا نريد أن نتخلى عنها، هي حزننا الذي نبكيه، معظم ما أتذكره من تلك البلاد يدفعني إلى الحزن، ومع ذلك ليست لدي رغبة بالنسيان. أحب تلك البقعة! فهل يكون هذا سبباً مقنعاً لأقول إن السوري يحب الحزن، ويمتدحه؟».

فاجأني الصديق عندما قال: «أليس ترفاً أن يكون السوري حزيناً؟ الحزن ترف عند السوريين، قتل، وتشريد، وإذلال، وقهر، وموت، وبعد هذا تقول: حزن؟!».

شعرة تفصل بين الحزن بوصفه دافعاً، والحزن بوصفه قاتلاً – الرسم: Cesare Davolio – فليكر

لقد اتضحت الصورة أكثر الآن، نعم يحن السوري إلى هذا الترف!  يشتاق إلى الحزن لأنه أسمى ما وصل إليه! فقد فقدنا مشاعرنا تماماً، تخدرنا أمام الحياة، فلا فرحنا ولا بكينا، وحدها أغنية من هنا، أو قصيدة من هناك تذكرنا بآدميتنا، لذلك فالحزن الذي كنا نكرهه يوماً ما، ونسترخصه، صار ثروتنا التي نريد أن نعيدها، ونسترد ملكيتها، ونبكي عليها…

بعد هذا الحوار قلت لنفسي: «ها هي الفكرة قد اكتملت، اكتب عنها بعد كل هذا الوضوح»، صارت يدي ترتجف، ورحت أتردد وأسأل: ولماذا سأكتب؟ أليس الحري بي أن أهرول نحو لحظة حزن بدلاً من صرف الوقت في الكتابة عنه؟ 

منذ ذلك الحين بدأت أحاول الركض نحو بقعة حزن ما، فلا أجد ذلك الحزن المرجو، كل الأحزان التي أجدها تبدو كعتبات لانهيار ليست شبيهة بتلك التي حلَّف بها نزار حبيبته عندما قال «بحق ذكرياتنا وحزننا الجميل»، وليست تلك التي تنتج الأفكار التي نقاتل بها الحياة، ثمة شعرة تفصل بين الحزن بوصفه دافعاً، والحزن بوصفه قاتلاً.. أما أنا وبعد أن استنفدت كل العلاقات مع الأول، لم أعد أخطو إلا بحثاً عنه، أعيش حنيناً بائساً للحظة لا تضيع فيها الأقلام والأفكار. أما حزني الثاني الذي ربت على كتفي مرة، ووقف إلى جانبي لحظة النظر من النافذة، فلم يدعُني إلى الاستمتاع، فقط طلب مني أن أمسك يده كي يساعدني في وثبة تنهي الحزن والفرح والذاكرة! همس في أذني: «أنا الحزن المخلص، ها أنت اختبرت كل شيء، هات يدك، واقفز معي من النافذة…بعدها ستنهي كل شيء. سيقولون: قتله حزنه قبل أن يكتب له، قتله حزنه البائس قبل أن يهرول إلى حزنه القديم الذي صار صورة على جدار، ذاكرة ليس إلا». شد صديقي على يدي حينها، همس في أذني، صار يوبخني إذا ما اختلست عيني لحظة للبكاء ويصرخ: «ليس هذا وقت المشاعر»، اقفز فحسب…

قلت لنفسي: «كم تكبرت على حزني القديم؟ كم رفضته حتى صار حلماً أهرول إليه؟ كيف لي ألا أستفيد من التجربة؟ كيف لي أن أسمح لحزني الجديد القاسي أن يهرب أيضاً؟ لن أخذله، لن أخسر الأحزان كلها». نظرت إلى عينيه كي آخذ وعداً منه بأنه لن يغادرني إذا ما قفزت من النافذة، بأنه لن يتركني وحيداً، فاختفى…

بحثت في المكان، نظرت من النافذة، هرولت في الشوارع، ولا يزال البحث يؤرقني، وما زالت رغبة الجري تزداد قوة بحثاً عن آخر حزن خسرته….
لقد زارتنا أحزان كثيرة، حاولت أن تدفعنا إلى إيجاد حل، أن تطهرنا، أن تنجينا، وخسرناها واحداً تلو الآخر. 

أما أنا فما زلت أجري، وإن كنت أخشى، فإنني أخشى أن أخسر حزناً جديداً قبل أن أطيعه فأغتسل..

هامش 
«أيها الحُـزنُ الذي يغشى بِـلادي أنا من أجلِكَ يغشاني الحَـزَن
أنتَ في كُلِّ مكـانٍ أنتَ في كل زَمن 
دائـرٌ تخْـدِمُ كلّ الناسِ مِـنْ غيرِ ثَمـَن
عَجَبـاً منكَ ألا تشكو الوَهَـن؟
أيُّ قلـب لم يُكلفكَ بشُغلٍ؟ أيُّ عيـنٍ لم تُحملكَ الوَسـن؟
ذاكَ يدعـوكَ إلى استقبالِ قيـدٍ، تلكَ تحـدوكَ لتوديـعِ كَفَـنْ
تلكَ تدعـوكَ إلى تطريـزِ رُوحٍ، ذاكَ يحـدوكَ إلى حرثِ بَـدَنْ
مَـن سترضي أيها الحـزنُ؟ ومَـن؟ 
وَمتى تأنفُ من سُكنى بـلادٍ أنتَ فيهـا ممتهَن؟
إنّني أرغـبُ أن أرحَـلَ عنهـا، إنّمـا يمنعُني حُـبُّ الوَطـن» *

*الشاعر أحمد مطر

لقراءة المقال كاملا :

https://www.sot-sy.com/article/899?fbclid=IwAR2_Guo-mwXtWPqyTBs7iCuyPqpvfD8JlMct4f2A0FgzGLNuFyt9JjnV1JE

Prev Post
الحرب والعنف والمنفى
Next Post
نداء تقديم طلبات تمويل (المشاريع البحثية) 2022

Add Comment

Your email is safe with us.

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

Application for registration on Rawabet

X